المركزية الديموقراطية من لينين الى ستالين
بقلم فيليب روبريو
1 – التقرير والتنفيذ
(…) خلافا للأفكار المسبقة، فإن الفضل في التدشين التاريخي للمركزية الديمقراطية لا يمكن نسبه إلى لينين وحده أو إلى البلاشفة وحدهم.
فلا الصيغة ولا حتى الفكرة العامة كانتا موجودتين سنة 1902 في مؤلف لينين الشهير ” ما العمل ؟ “. ولم تتسبب الأولى ولا الثانية سنة 1903 في الانشقاق الأول بين بلاشفة ومناشفة. وهي سيرورة انشقاق، نقولها بالمناسبة، انطلقت حول مشكلة محددة هي مشكلة الانتساب إلى الحزب العمالي الاشتراكي – الديموقراطي في روسيا (ح). ع. ا. د. ر. ). فقد دعا لينين، في شروط قاسية هي شروط الحكم القيصري المطلق وبالرغم من إعجابه العظيم بالاشتراكية الديموقراطية الألمانية – إن وجد في التاريخ حزب جماهيري ضم اتجاهات وتكتلات فهو الحزب الالماني – دعا الى مركزة استثنائية في حزب غير علني، منضبط وسري، يتألف حصرا من مناضلين نشطين مجتمعين حول شبكة نخبوية، متينة ومرنة، من الثوريين المحترفين، المتنقلين والمتفرغين مئة بالمئة للنضال ضد الشرطة السياسية الرهيبة. وقد واجهه المناشفة بمفهوم واسع، أقل مركزة وأكثر رخاء، قضى بقبول جميع الانتسابات. وكما أثبتته إحدى دراسات المؤرخ رخ برانكو لازيتش الممتازة، ظهرت صيغة المركزية الديموقراطية ذاتها إلى العلن، للمرة الأولى، في مؤتمر التوحيد بين البلاشفة والمناشفة الذي انعقد سنة 1906 في ستوكهولم (وهو رابع مؤتمرات تلك الصيغة ح. ع. ا. د. ر. . ان مؤتمر 1906 هذا، بأكثريته المنشفية، هو الذي سجل في نظام ح. ع. ا. د. ر. الداخلي.
بعد ثورة 1905 اضطرت القيصرية الى القبول ببعض التنازلات، وأصبحت إمكانيات النضال المتاحة للثوريين أوسع. لذا عدل لينين وجهة نظره، وهو ينظر الى الحزب كأداة ينبغي تكييفها مع الوسط الذي تعمل فيه. فذهب إلى حد الاعتراف بانه بالغ في مرحلة 1902 – 1903 بنتيجة رد فعل ضد المناشفة. مذاك وحتى سنة 1917، لم يحدث أي تغيير جدير بالذكر في مفهوم الحزب أو في ممارسته. فإن الاشارات الى المركزية الديموقراطية نادرة جدا في تلك المرحلة التي شهدت صراعات حادة بين الاتجاهات او التكتلات وفي عام 1917 جرى الانتقال من البلشفية الشللية إلى البلشفية الثورية دون تعديل ما في حياة التنظيم الداخلية. بل ان علنية المناقشات بين الآراء المتعارضة وفقدان الاجماع يعكسان بصورة باهرة جدا وجود تيارات فكرية مختلفة في ما بينها. وغالبا ما وجد لينين نفسه في وضع حرج، بل في أقلية.
وقد بقيت البلشفية الثورية حتى في أسوأ الظروف، حزب اتجاهات وتكتلات. تشهد على ذلك السجالات الحادة التي ميزت الطريقة التي جرى بها اتخاذ جميع القرارات الهامة في مرحلة 1917 – 1921 : ثورة اكتوبر، مسألة حكومة الاتحاد مع الاتجاهات الكبرى في الاشتراكية غير البلشفية، صلح برس ليتوفسك المنفرد، المشكلة العسكرية في المؤتمر الثامن للحزب برست. سنة 1919 في ذروة الحرب الاهلية، عندما تبنى المؤتمر سياسة لينين وتروتسكي العسكرية بـ 174 صوتا في مقابل 75.
وفي عام 1921، بعد الحرب الأهلية، عندما حصل المنعطف الكبير المتمثل بالمؤتمر العاشر الذي تبنى النيب السياسة الاقتصادية الجديدة والغي التكتلات، انتصرت أطروحات لينين، خلال النقاش حول المسألة النقابية، بأكثرية 336 صوتا في مقابل 50 صوتا لأطروحات تروتسكي وبوخارين و 18 صوتا لأطروحات ” المعارضة العمالية “. بيد أن تلاحم الحزب لم يمس، رغم التوتر البالغ الذي ميز وضع روسيا والمجابهة داخل الحزب في آن واحد. وقد صوت 25 مندوباً فقط ضد القرار حول وحدة الحزب الذي قدمه لينين.
هذا القرار انتقد على الأخص ” ظهور كتل لها مناهجها الخاصة وميل إلى الانكماش في نفسها الى حد ما والى انشاء انضباطها الكتلوي الخاص ” ومنع البند الرابع من هذا القرار ان تجري النقاشات حول الحزب ” في تكتلات ” غير ان البند ذاته أكد على ان هذه النقاشات يجب ان تخاض في هيئات الحزب النظامية، قبل أن يضيف التحديد التالي : “ولهذا الغرض، يقرر المؤتمر اصدار نشرة المناقشة ” والمجموعات الخاصة بمزيد من الانتظام “. وأخيرا، نص البند السابع على تخويل اللجنة المركزية سلطة طرد أحد اعضائها، لفرض احترام ما جاء في القرار، شرط موافقة أكثرية الثلثين. وكما ذكر المؤرخ بيا بروويه في مؤلفه عن ( الحزب البلشفي »، كان هذا القرار مفتاح التحول اللاحق للحزب وتواري الديموقراطية العمالية بينما كانت الغاية منه فقط تحديد اطار لهذه الاخيرة ).
تمثيل الأقلية
أثناء تحضير المؤتمر العاشر وبمناسبة خطاب القاه يوم 21 نوفمبر 1920 في كونفرنس اقليم موسكو، دعا لينين بوضوح إلى تمثيل الأقلية في لجنة موسكو، وقال :” عندما تتعارض كتلتان أو تياران او تكتلان في انتخابات من أجل انتخاب كونفرنس للحزب، وهي هيئة تقريرية، لا غنى عن التمثيل النسبي ». لكن ” عندما يتعلق الأمر بتشكيل هيئة تنفيذية مسؤولة عن ادارة النشاط العملي، لم يسبق قط أن طبق التمثيل النسبي ولا يمكن اعتباره صحيحا ».
نلاحظ في تلك المرحلة أن :
(1) صراع الاتجاهات والتجمعات، بل التكتلات، لا زال يعتبر ظاهرة طبيعية.
(ب) الاقلية ينبغي تمثيلها في القيادات التنفيذية، لكن ليس على اساس التمثيل النسبي.
(ج) المندوبين وأعضاء المؤتمر ينبغي، في ما يخصهم، انتخابهم وفقا لتمثيل الاتجاهات النسبي.
وفي الواقع، في مارس 1921، ورغم معارضة تروتسكي – الذي هزم حول هذه النقطة بأكثرية 8 أصوات في مقابل 7، في اجتماع اللجنة المركزية المنعقد في 12 يناير 1921 – قام المؤتمر العاشر بانتخاب اللجنة المركزية على اساس البرامج المختلفة التي عرضت على التصويت خلال المناقشة حول المسألة النقابية. وقد التقى بين أعضاء اللجنة المركزية تلك، تروتسكي وثلاثة من أنصاره و بوخارين و … شليا بنيكوف، زعيم المعارضة العمالية. لا بل أكثر من ذلك : فقد اقترح ريازانوف على المؤتمر تعديلا للقرار حول الوحدة ينص على أن يمنع في المستقبل انتخاب اللجنة المركزية على اساس لوائح من المرشحين المؤيدين لبرامج سياسية مختلفة … أي أن ريازانوف اقترح أن يمتد منع التكتلات الى الاتجاهات ايضا وهو بذلك، كان يقترح أن يطبق في الحزب النظام الداخلي الذي فرضه ستالين بعد بضع سنين دون تدوينه في النصوص : تصويت المؤتمرات على برنامج سياسي واحد تعرضه القيادة السابقة على الحزب، وانتخاب اللجنة المركزية على أساس لائحة واحدة من المرشحين الموافقين كليا على المشروع السياسي. وقد رد لينين بحيوية على اقتراح ريازانوف : « لا نستطيع ان نحرم الحزب واعضاء اللجنة المركزية من حق الاحتكام الى الحزب اذا اثارت مسألة اساسية خلافات “. ويوضح فكرته قائلا : “اذا اثارت الظروف خلافات اساسية، هل يمكن منع عرضها على الحزب بالحملة ليحكم فيها ؟ كلا ! انها امنية مغالية، غير قابلة للتحقيق، واقترح رفضها ». وقد رفضها المؤتمر فعلا الوحيد.
بعد ذلك بقليل، تقرر إجراء حملة تطهير في الحزب. وقد شرحت اللجنة المركزية في تعليماتها اسباب الحملة وحددت أهدافها. فاتهمت عناصر الأوساط الاجتماعية الغريبة عنا »، لكن ايضا « العمال الذين افسدتهم ممارسة السلطة والذين فقدوا جميع مزايا البروليتاري ليحتازوا عيوب البيروقراطي ». واضافت اللجنة المركزية تقول ان هؤلاء العمال “لا يجوز ان يجدوا في أصلهم البروليتاري أي عذر لهم »، لأنهم ” يشكلون بالنسبة للحزب أسوأ ثقل معيق ». وأوضحت رسالة اللجنة المركزية، اخيرا، أن الاجراءات الانتقامية ازاء اعضاء الحزب الذين يحملون آراء الاكثرية (مثلا الاعضاء السابقون في المعارضة العمالية لا يمكن القبول بها في أي حال ».
2 نموذج تنظيمي جديد
بعد المؤتمر العاشر وحتى اصابته بمرضه الرهيب، ظل لينين يزاول أعماله طيلة أربعة عشر شهرا. فماذا حل بحق الاتجاه خلال تلك الفترة ؟ اي مصير ملموس عرفته الاقليات وأعضاؤها حينذاك ؟ هاكم أولا نكتة بليغة في هذا المجال. فبينما كان لينين، أثناء المؤتمر العاشر، ينهي تقريرا عن شلل المصانع وتفتت الطبقة العاملة التي توزعت بين ضحايا ساحات القتال والمجندين في جهاز الدولة الجديد واللاجئين إلى الارياف لتأمين عيشهم، قاطعه بلشفي قديم من مقعده قائلا : ” دعوني أهنئكم، فلاديمير اليتش، لممارستكم الديكتاتورية باسم طبقة لم تعد موجودة ». لم يكن صاحب هذه المزحة الثاقبة سوى شليابنيكوف نفسه، وهو الوحيد بين القادة الهامين الذي أصله عامل معدن حقيقي، بالإضافة إلى كونه زعيم ” المعارضة العمالية “. وقد أعيد انتخابه الى اللجنة المركزية من قبل المؤتمر العاشر بناء على إصرار … لينين. بعد ذلك بقليل، في اغسطس 1921 اتهمه هذا الأخير بارتكاب خرق خطير للقرار حول الحزب وطلب من اللجنة المركزية أن تطرده. لكن « برلمان الحزب » رفض الطلب. وقد كرر لينين طلبه في المؤتمر اللاحق، الحادي عشر، سنة 1922( كانت المؤتمرات سنوية آنذاك ) وهو اخر مؤتمر شارك فيه لينين وسقط مرة أخرى.
هكذا كان لينين، بعيدا عن أن يكون ديكتاتورا مطلق السلطات، لم يكن أبدا في الواقع أكثر من ” الأول بين متساوين ” على رأس حزب كان وحده يمارس آنذاك الديكتاتورية باسم البروليتاريا. وكان أمرا طبيعيا جدا بالنسبة لشيوعيي ذلك الزمان أن يشاهدوا، في اللجنة المركزية أو في المؤتمر السنوي، أقلية، أو حتى أكثرية في بعض الأحيان، تنتقد أو تشجب الأول بين زعمائهم. وبقي الأمر على هذه الحال حتى آخر لحظات حياة لينين السياسية، بل حتى بعد ذلك بقليل، بالرغم من بدء ظهور معارضين اشتكوا من نظام الحزب الداخلي خلال الاشهر الأخيرة من نشاط الثوري الكبير، في نهاية عام 1921 وبداية 1922. فقد تسلط على لينين آنذاك الخوف من التفكك الذي هدد روسيا الثورية. وهذا ما دفع بالمؤتمر العاشر إلى تعيين رجل حازم لمنصب الأمانة العامة. بدأ ستالين العمل وكان بوسعه أن يغالي، حيث كانت الأذهان متوفرة ومعبأة إلى أقصى حد بضرورة الانضباط الملحة.
بعد المؤتمر الحادي عشر بأقل من شهرين، يوم 26 مايو 1922 بالتحديد، أصيب لينين إصابة قاسية بالمرض الذي أودى لاحقا بحياته. بعد ذلك التاريخ، لم يعد إلى مزاولة أعماله واكتفى ببعض المداخلات بإيجاز ويأس متزايدين.
اقرأ أيضا