الطبقة العاملة المغربية:هيمنة سياسية برجوازية مديدة

سياسة4 يوليو، 2015

نشر هذ النص ضمن مواد جريدة المناضل-ة عدد 60.

بقلم: أحمد أنوار

الطبقة العاملة المغربية فتية الولادة، تشكلت في أوائل القرن العشرين مع بداية توغل الرأسمالية الامبريالية. فبعد استحواذ دولة فرنسا على المغرب في إطار توزيع المستعمرات بين القوى الامبريالية بمؤتمر الجزيرة الخضراء، بدأت بممارسة ضغوط عسكرية ومالية انتهت بتوقيع معاهدة “الحماية” الاستعمارية بموجبها باشرت استعمارا مباشرا للمغرب.

أخمدت بقوة الحديد والنار تمرد القبائل المسلحة باستعمال تقنيات حربية وأسلحة حديثة من دبابات وطائرات، عجز أمامها السلاح التقليدي البسيط عن الصمود رغم شجاعة وبسالة مقاومة القرويين، وانتهت بفرض سيطرتها بعد أن قضت على آخر التمردات المسلحة سنة 1934.
غاية الامبريالية، استغلال ونهب الثروات الطبيعة للبلد وخلق سوق تصريف منتجات مصانعها واستغلال يد عاملة رخيصة لتشغيل ماكينة إنتاجها وتجنيدها في جيوشها (خدمة للاستعمار إبان الحروب الامبريالية)، وغزو شعوب أخرى في آسيا’ تحديدا الهند الصينية. أنشأت مدنا عصرية بأحياء فقيرة للعمال قرب المناجم وموانئ التصدير، وشقت الطرق لنقل المنتجات ومدت السكك الحديدية، واستصلحت الأراضي، ومدت قنوات السقي لنقل المياه، وأسست لجهاز إداري استعماري حديث مركزي ومحلي لضبط مواطني البلد، وأداة لاستغلال فعال ومديد.
غرس الرأسمالية بالبلد نتج عنه خلق طبقة عاملة محلية تتعرض لاستغلال فظيع، محرومة من أي تأمين ومن المكاسب التي تتمتع بها طبقة العمال في مراكز الامبريالية، كحق التنظيم النقابي للدفاع عن حقوقها، وبقيت عرضة للبطش الاستعماري وعنصريته.
بسبب ما خلفته الحرب العالمية الثانية من خراب أوربا ودمار البنية التحتية للإنتاج ودفع الطبقة العاملة نحو المجزرة، نتج عنه إعطاء الأولوية للجبهات العسكرية، لجأت فرنسا الاستعمارية إلى إنشاء صناعة أولية لتلبية حاجياتها فساهم ذلك في ازدياد حجم الطبقة العاملة المغربية .
التنظيم النقابي لتحسين شروط الاستغلال.
اقتصر التنظيم النقابي على العمال والأطر الأجنبية الوافدة من الدول الامبريالية. إذ منعت السلطة الاستعمارية العمال المغاربة من الانتماء النقابي وأجبرتهم على العمل في ظروف استغلال بشعة، وبأجور بئيسة، وانعدام لشروط السلامة وبلا حماية اجتماعية. إن كل البنية التحتية الأساسية المشيدة لتسهيل نهب البلد، أنشأت، على كاهل العمال المغاربة وبكلفة زهيدة.
ونظرا للاستغلال المريع وبفضل جهود الشيوعيين الفرنسيين، جرت عملية دمج عملي للعمال المغاربة في النقابات الفرنسية رغم منعه قانونيا. وقد كلف ذلك الرعيل الأول من النقابيين غاليا أمام سلطة استعمارية شديدة الفتك بالمناضلين الذين يتحدون جبروتها. تلك كانت الخطوة الأولى للطبقة العاملة المغربية لتنظيم نفسها دفاعا عن مصالحها الاقتصادية الأولية التي توجت بتأسيس الاتحاد المغربي للشغل بتاريخ 20 مارس1955، كأول تنظيم نقابي للعمال المغاربة في سياق النضال من أجل استقلال المغرب عن الاستعمار الفرنسي.
نهض المناضلون الشيوعيون الفرنسيون والمغاربة بالدور الرئيسي في بناء أسس التنظيم النقابي العمالي بالمغرب، لكن تبعية الشيوعيين المغاربة لموسكو «الستالينية» وتبنيهم لموقف خاطئ من مسألة التحرر من الاستعمار أدت لتأجيل ذلك البناء، بمبرر أولوية مواجهة الفاشية، تنفيذا لقرارات «ستالين» في إطار سياسة الجبهات الشعبية، الأمر الذي كلف الشيوعيين المغاربة فقدان مكانتهم لدى الطبقة العاملة، استغلتها الحركة الوطنية البرجوازية لتعوضهم، رغم أنها لم تول اهتماما لمعركة العمال، بل كانت حذرة من عدو صاعد. فكان المؤتمر التأسيسي للاتحاد المغربي للشغل سنة 1955 رمزا لتقهقر الشيوعيين المغاربة وبداية بسط البرجوازية الوطنية هيمنتها على القسم المنظم من الطبقة العاملة حيث تم الانقلاب على تولي «الطيب بن بوعزة» منصب الأمانة الوطنية للنقابة الفتية وفرض المحجوب بن الصديق فرضا بقرار من حزب الاستقلال.
اليسار الماركسي اللينيني والطبقة العاملة
بعد أن كشفت الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية البرجوازية حدود ادعاءاتها الديمقراطية وقناعتها الراسخة بتوافقها مع الملكية المطلقة وخيانة مكررة لتطلعات الشعب في التحرر العميق ومساهمتها في إحباط المطامح التي فجرتها المعركة من أجل الاستقلال وتغطيتها على الجرائم العديدة للاستبداد: قبولها بشروط نيل «الاستقلال» وتواطؤها لتصفية جيش التحرير بالجنوب والبطش بتحرك الريفيين، والقمع السياسي لحزب الشورى والاستقلال والحزب الشيوعي وتصفية رجالات المقاومة العازمين على مواصلة معركة النضال. و بالتزامن مع ظرف إقليمي تمخض عن هزيمة 1967 أمام الدولة الصهيونية التي عرت طبيعة الأنظمة الرجعية بالمنطقة وأظهرت عجز التنويعات القومية الصاعدة ( ناصرية وبعثية)، ووجهت لها ضربة في مقتل، وكذا انكشاف حقيقة الأحزاب الستالينية التي توغلت بعيدا في يمينيتها وأضحت مجرد تنويع لأحزاب برجوازية ليبرالية منفرة للشبيبة المتجدرة. دون إغفال الوضع العالمي وصعود حركات ثورية بأمريكا اللاتينية وشرق أسيا وانتفاضة مايو 1968 بفرنسا، وحركات تحرر ثورية في كل القارات الخمس. لقد تشكلت الحركة الماركسية اللينينة المغربية في هكذا سياق.
طبعت الحركة بسياق ولادتها وتبنت شعارات قصوية مبنية على تحليل «الانطلاقة الثورية» وسقطت في استبدالية فجة. سحر خطابها المثقفين، لكن العمال لم يفهموه، فلم تكن مهمة الانغراس وسط الطبقة العاملة انطلاقا من شروط عملها ومطالبها الآنية كقنطرة لربطها ببرنامج ثوري هو تكتيك البناء، بل التدخل بسياسة قصوية لمجموعات – شلل- ثورية (معزولة ) لن تحظى بأي فرصة لكسب الطلائع العمالية. لم تترك الملكية المطلقة تلك الأجنة تستخلص درس قصور منهجية عملها، بل عالجتها بضربات قمعية طالت عصبها التنظيمي في حملات اعتقال واسعة في 1970 و 1972 انتهت بشل الحركة تنظيميا وعزل عقلها القيادي في السجن، الذي تحول إلى مركز للنضال(النضال ضد الاعتقال السياسي) كما الجامعة، بعيدا عن الطبقة العاملة
إن الحركة الماركسية اللينينية حركة شبيبة تعليمية لم تنسج أي صلة حقيقية بالطبقة العاملة، بل ظلت على هامشها وغريبة عنها. انحصر تواجدها في الجامعة التي كانت مركز عملها ومصب اهتمامها، فيما واصلت البرجوازية الليبرالية سطوتها على المنظمات النقابية دون زحزحة، بعد أن ساهم ضيق المنظور العمالي وبطش الاستبداد في بقاء الخميرة الثورية بعيدا عن العمال.
المعارضة الليبرالية: مدع مترام على منظمات العمال
التنظيمات النقابية العمالية جميعها تحت سطوة أحزاب برجوازية ليبرالية. وكل الانقسامات التنظيمية النقابية ما هي إلا انعكاس للانقسامات التي تقع بتلك الأحزاب. ذلك ما حصل خلال مؤتمر تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل يوم 25 نوفمبر 1978. ففي هذا المؤتمر، المحضر بالكامل من طرف الاتحاديين، سيتزود هؤلاء بالأداة النقابية التي سيستعملونها لمناوشة النظام سياسيا في الساحة النقابية، مناوشة محسوبة ومضبوطة لا تروم أكثر من دفعه إلى التفاهم على فتات الحكم، وبناء قاعدة انتخابية لتحسين المكانة في المؤسسات(1)
وقد ساعد في نجاح هذه الآلية أن الساحة النقابية عانت منذ مدة طويلة من عواقب سلبية القيادة البيروقراطية للاتحاد المغربي للشغل، وتوغلها المتزايد عمقا في التعاون مع أرباب العمل والدولة. فكان توق العمال وشغلية قطاعات الدولة إلى النضال لتحسين أوضاعهم يضع بيد القيادة الاتحادية قوى نضال نقابي تتيح الضغط على النظام بتحركات محسوبة لكنها مفزعة للملكية في ظل وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي صعب ومتأزم.
في خضم هذا السياق النقابي، استعاد قسم من الحركة الوطنية البرجوازية-الحركة الاتحادية- قيادة جزء هام من العمال كانت الحركة فقدتها إثر استقلال بيروقراطية النقابة العمالية –الأم- عنها في مطلع سنوات الستينات.
هذا وقد اشترى النظام من بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل السلم الاجتماعي بأموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التي جعل جزء منها تحت تصرف قيادة الاتحاد، في تفاهم سري مع بروز قضية الصحراء.
استقلال العمال سياسيا مهمة الاشتراكيين الثوريين
باستثناء العمل الجبار الذي قام به مناضلو الحزب الشيوعي الذين لعبوا أدوارا رئيسية في تأسيس لبنات بناء الحركة النقابية المغربية الأولية، قبل أن يزاحوا جراء أخطاء نابعة من ستالينيتهم وذيليتهم لموسكو، وتحولهم لاحقا إلى مجرد ظل للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ بداية السبعينيات، في إطار جبهة ليبرالية معارضة، ما عدا ذلك فتاريخ الطبقة العاملة ظل تحت سطوة أحزاب برجوازية ليبرالية تستعمل نضال العمال لمساومة الملكية لحملها على تخفيف قبضتها وتمكين الليبراليين من المشاركة في الحكم فتطلق نضالات في سياق غير ملائم بغاية الضغط على الملكية، وتجهض أخرى آتية من العمق لبعث إشارات الطمأنة للاستبداد. في إقدامها النضالي وإدبارها تدافع تلك الأحزاب عن مصالح البورجوازية كطبقة، في انفصال عن مصالح العمال الحقيقية.
بالتأكيد إن ما تمت مراكمته من تجارب ملموسة للنضال العمالي بحفز من اليسار الماركسي يمثل مكسبا ثمينا بالنظر للرسوخ المديد للمعارضة الليبرالية وسطوتها على المنظمات العمالية وتغول سرطان بيروقراطي بالغ الفساد. إن جنينية المحاولات المراكمة لا يبخس أهميتها البالغة، كبداية لارتباط الخميرة الماركسية بطلائع الطبقة، ولإنهاء تبعية الطبقة العاملة كخادمة لمصلحة القسم المعارض من البرجوازية. إن المدخل لإلحاق الهزيمة بالسياسة البرجوازية(الليبرالية- القومية-الدينية) التي تتنافس على الهيمنة على الطبقة العاملة يوجد في منظمات العمال القائمة في أماكن العمل(النقابات)، وأماكن السكن(جمعيات تثقيف). هناك حيث يجب على الاشتراكيين الثوريين تقديم أجوبتهم الخاصة حول المطالب المناسبة، وأساليب النضال الملائمة لتحسين أوضاع العمال في ارتباط مع كشف دؤوب ذكي لأصل شرور الاستغلال الرأسمالي، وشرح بديلهم الاشتراكي. ذاك هو الطريق لكسب الطلائع المتقدمة من العمال لصف المشروع الاشتراكي للتغيير، والتقدم ببديل سياسي مقنع في وجه الخلطات الليبرالية، والأكاذيب القومية والدينية التي تتغذى من واقع الجهل والبؤس الثقافي، وحصيلة عقود من التخريب الممنهج للوعي العمالي أدته المعارضة الليبرالية على أسوء وجه
لا يمكن إبعاد كل المشعوذين البرجوازيين المعارضين عن تبليد وعي العمال السياسي، وجر الجماهير كطابور ضغط في المنافسة بين شتى أصناف البرجوازيين، إلا بجعل الاستقلال السياسي للعمال أمرا واقعا، لا مجرد أمنية ستتحقق في مستقبل جميل، أي بناء حزب العمال الثوري.
«إن العمل على إنشاء التنظيم الكفاحي وعلى تحقيق التحريض السياسي أمر إلزامي في الظرف «الرمادي،السلمي» أيا كان، في مرحلة « هبوط المعنويات الثورية» أيا كان، ناهيك عن أن هذا العمل ضروري بخاصة في مثل هذا الظرف على وجه الدقة وفي مثل هذه المرحلة على وجه الدقة، لأنه يفوت أوان إنشاء التنظيم في أوقات الانفجارات والغليانات، ينبغي أن يكون التنظيم جاهزا لكي يقوم بنشاطه على الفور» 2
========
هوامش:
(1)- ذاكرة الكفاح العمالي :إضرابات ابريل 1978. محمود جديد
(2) بما نبدأ؟ المجلد 1 ص 515-516. لينين

شارك المقالة

اقرأ أيضا