الدولة الاسبانية: حزب بوديموس إزاء التحدي الأوربي

بلا حدود6 أكتوبر، 2016

 

 

 

 

مقابلة مع خوسيب ماريا انتونتاس Josep Maria Antentas

يواصل حزب بوديموس،على الرغم من نجاحه،  رفضه التناول الجدي لمسألة الاتحاد الأوربي، ولما يجب فعله  من أجل  تغيير حقيقي في إسبانيا.

أتاح الرد الشعبي على التقشف في اسبانيا،المنطلق مع حركة الساخطين المعروفة بحركة 15-M، في إحالة إلى  يوم 15 مايو ، يوم بدء المظاهرات في العام 2011 ، بزوغ تشكيلات سياسية جديدة تحظى بمساندة عريضة . ويمثل حزب بوديموس المنبثق من حركة 15M فاعلا كبيرا جديدا في الساحة السياسية الوطنية.

 في ديسمبر 2015، و أول مرة منذ نهاية ديكتاتورية فرانكو في العام 1977، لم تفلح الانتخابات الاسبانية في  انتاج أغلبية برلمانية. حصل حزب بوديموس  على زهاء 20 %  من الأصوات، مباشرة خلف اليمين المتمثل في الحزب الشعبي، و الحزب الاشتراكي.  ولم يمكن تكوين أي تحالف، وأُعلن عن انتخابات جديدة في  يونيو 2016.

قبل تنظيم الاقتراع الثاني، أبرم حزب بوديموس تحالفا مع حزب اليسار الموحد IU، وهو إئتلاف متحدر من الأحزاب التاريخية لليسار الاسباني. لكن هذا التحالف الجديد، المسمى يونيدوسبودسموس UnidosPodemos  لم ينجح  في تعبئة قاعدته، ما مكن الحزب الشعبي من الفوز بعد هذا الاقتراع الثاني.

خوسيب ماريا انتونتاس، استاذ علم الاجتماع بجامعة برشلونة المستقلة، وأحد القادة الرئيسيين لمنظمة Anticapitalistas  (مناهضو الرأسمالية)، القوة المحركة ليسار بوديموس، حاوره جورج سوفليس لحساب  موقع جاكوبينJacobin,  متناولا جذوره وحركة 15M و مسار بوديموس الملتبس مند العام 2014 و مسألة استقلال إقليم كاتالونيا.

  • على سبيل التقديم، ما هي التجارب التي أثرت عليكم بقوة، على الصعد السياسية والأكاديمية؟

أنا من جيل تكوّن سياسيا في سنوات 1990، في سياق مطبوع بالهزيمة التاريخية، عندما اكتمل ” القرن العشرين الوجيز”. تلك كانت الحقبة الزاهية للنيوليبرالية، لحظة هيمنة ما سماه اينياسيو رامونيه “الفكر الوحيد”.

بزغت، في منتصف ذلك العقد، أولى التحديات الكبرى بوجه  النيوليبرالية، من الانتفاضة الزباتية في يناير 1994، وإضرابات  العام 1995 في فرنسا.  لكن في نهاية الالفية فقط دخلنا طورا جديدا – بفضل بزوغ حركة العدالة العالمية  بعد قمة المنظمة العالمية للتجارة في نوفمبر 1999.

شاركت بنشاط في هذه الحركة الجديدة – التي غيرت في أثناء وجودها الوجيز المناخ السياسي الدولي وأبانت أن التاريخ لم ينته قط.

في العقد الأول من سنوات 2000، أسهمتُ في بناء ما سيصبح منظمة Anticapitalistas– مناهضو الرأسمالية- التي ستشارك في تكوين حزب بوديموس.  أسسنا  Anticapitalistasلشعورنا أننا كنا بحاجة، فضلا عن مشاركتنا في النضالات الاجتماعية، إلى بناء بديل سياسي حقيقي، كنا نتصوره ثمرة لتجميع تعددي لمختلف المنظمات والأفراد.

كان ذلك رهاننا الاستراتيجي- وكان معظم  المناضلين المتمسكين بالاستراتيجية المركزة على الحركة الاجتماعية، يرفضونه بشدة. لم تكن فرضيتنا متمثلة في بناء توسط سياسي قد يصبح أكثرويا في المجتمع – سيأتي ذلك مع الأزمة- بل توسطا قد يحظى بصيت وتأثير مهمين.

على الصعيد الفكري، كان انشغالي الرئيسي في سنوات 1990 و 2000  دراسة سيرورة العولمة وحركات المقاومة.  كما انصب اهتمامي على النقاشات الاستراتيجية التي بزغت داخل حركة العدالة العالمية، وكذا تلك  التي تخص  التجارب “البوليفارية” بأمريكا اللاتينية ، وتلك التي ظهرت بين أحزاب  اليسار الاوربية.  وكان التأثير الحاسم علي هو دانييل بنسعيد الذي كان يدمج في الآن ذاته التقليد الثوري للحركة العمالية  بمروحة مسالك نظرية متنوعة.

بعد أزمة العام 2008، وكل ما حصل لاحقا، عدت للغطس في مؤلفات كاتبين كنت دوما اُجلّهما – والتر بنيامين وأنتونيو غرامشي، المفيدين للغاية لفهم العالم المعاصر.

 

  • حدثنا عن أصول حركة 15M وعواقبها على السياسة الاسبانية. كيف أثرت الحركة في صعود بوديموس؟

كانت حركة 15M انعطافا في الحياة السياسية والاجتماعية الاسبانية. رغم أن حركة 15 M انحلت بسرعة، وانتفت كحركة اجتماعية متمفصلة، فقد تحولت إلى ما لا يحصى من المبادرات تمثل، مجتمعة،  ضربا من “مجرة 15M” تستوحي الحركة.

جعل تمرد الساخطين النخبة المالية والسياسية هدفا رئيسا لانتقاداته– واختار “الديمقراطية” شعارا مضيفا اليها، على نحو دال نعت “الحقيقية”. كان ذلك يعبر عن رد فعل على إخضاع المجتمع برمته لمصلحة زمرة مالية ضئيلة جدا – وفي المقدمة  الطبقة الوسطى  التي عصفت بها الأزمة.

وكان الوجه الرمزي للحركة هو الشباب، وبوجه خاص الشباب خريج المؤسسة التعليمية الذي يبدو مستقبله المهني محصورا ومشدودا إلى أسفل.  لكن الحركة تجاوزت قاعدة الطبقة الوسطى الشابة تلك، ووصلت الأحياء العمالية، وغدا تركيبها الطبقي و الجيلي أقل تجانسا.  انبثقت الحركة خارج الوسط  المناضل التقليدي، في سياق  عجز حقيقي لدى اليسار وفشل بوجه الديكتاتورية المالية.  لم تعارض حركة 15M سلطات النظام السياسي والمالي وحسب، بل تصدت أيضا ليسار متواطئ مع المشروع النيوليبرالي أو عاجز عن محاربته.

وفي الآن ذاته، انتشرت حركة 15M على قاعدة القيم المرتبطة تاريخيا باليسار- قيم كانت مع ذلك في توتر دائم ، وأحيانا في تناقض،  مع ممارسة اليسار ذاته. بهذا المعنى، غير “حدث 15M ” مضمون النقاش والمشهد السياسيين بدفع النخب إلى موقع دفاعي. ما كان سائدا من سلبية وخمول وخضوع حتئذ تلته حقبة تسيس عظيم، مع أنه جزئي ومتناقض.  بعبارة أخرى،  ساعدت حركة 15M على تغيير “الحس المشترك” المهيمن بالمعنى الغرامشي للعبارة.

طرحت حركة 15M ، دون أن تحلها، مسائل الاستراتيجية التي لم تكن للحركة ذاتها أجوبة عليها. لكن النقاش سار أبعد مما بوسع الحركة إعطاؤه.  ومثل ميلاد بوديموس في يناير 2014 انعطافا استراتيجيا هاما – قفزة نحو  النشاط الانتخابي.

جرى تدريجيا بين العامين 2012 و 2014  تغير للاطار العام المحدد– بفعل تضافر ثلاثة عوامل: تفاقم  الأزمة المالية في أثناء صيف العام 2012 بسبب إفلاس بنك بانكياBankia  ووضع “خطة مساعدة” النظام البنكي، وصعود حزب سيريزا في انتخابات مايو  ويونيو 2012، وإدراك حدود المقاومة الاجتماعية.

كان الفرضيات الاستراتيجية الراجحة في سنوات 1990-2000 – تغيير العالم دون استلاء على السلطةـ وخلق مساحات حرية والانخراط  في النضال الاجتماعي مع تجاهل السياسة الحزبية والانتخابية، والانضمام الى اللوبي المؤسسي للجمعيات غير الحكومية – بدت بكل بساطة متجاوزة. اتضح ان تلك الاستراتيجيات غير كافية لإعطاء جواب للازمة السياسية.  وشيئا فشيئا، بدأت فكرة وجوب النزول الى الساحة الانتخابية تتقوى وإن على نحو مبهم.

 يجب التأكيد أن بوديموس ليس حزب حركة 15M ولم يعلن ذلك قط. فهو ليس انبثاقا عضويا  من الحركة ولا نتيجتها المحتمة. انه بالأحرى ثمرة اختيارات سياسية خاصة بمجموعة من الناس – تيار اليسار المناهض للرأسمالية «IzquierdaAnticapitalista » الذي أصبح لاحقا مناهضي الرأسمالية  Anticapitalistasوحفنة مناضلين ملتفين حول بابلو إغليسياس Pablo Iglesias متأثرين بشدة بالتجارب “البوليفارية” بأمريكا اللاتينية. كلهم كانوا يقترحون شيئا متجاوزا  لمجرد تسيير الأزمة ويرون في الأزمة  الفرصة السانحة من أجل إنجاز قطيعة.

مع ذلك، لم يكن لحزب بوديموس أن يوجد لولا حركة 15M والمعارك ضد التقشف في العامين 2012 و2013التي أتاحت شروط تطور مشروع كبوديموس – مبادرة لم يكن لها ان تتحقق لولا الحس الاستراتيجي السليم لمؤسسيه.

  • رفعت الحركة من أجل استقلال اقليم كاتالونيا تحديا بوجه بوديموس. ما رهان النقاش الدائر حول ما يدعى” المسألة القومية”، داخل الحزب وخارجه على السواء ؟

 

مثل كل من الطبيعة  القومية المتعددة للدولة الاسبانية، وتنامي سيرورة استقلال كاتالونيا،إحدى التحديات الكبرى بوجه مشروع بوديموس الشعبوي.

اضطر هذا الحزب إلى توفيق خطابه الوطني-الشعبي مع الاعتراف بواقع  للدولة الاسبانية القومي المتعدد– هذا الواقع الذي لم يكن قط معترفا بهذا القدر من الجلاء من قبل الاحزاب التقليدية، رمزيا او صراحة، شأنها شأن بوديموس.

بيد أن بوديموس قام بتعرجات عديدة حول المسألة الخاصة باستقلال كاتالونيا. فقبل  الانتخابات الأوربية، في مايو 2014، دافع الحزب عن تنظيم استفتاء حول استقلال كاتالونيا.  وتمايز بقوة على هذا النحو عن الحكومة الاسبانية وباقي قطاعات المجتمع الاسباني القوية المناوئة بقوة لهذه المبادرة.  لكن بوديموس بدأ، بعد نجاحه بالانتخابات، التراجع  في مسألة الدفاع  عن الاستفتاء الكاتالاني.  تلا ذلك طور تيه، مع تغييرات متعددة للموقف زادت اللبس.  وانتهى الأمر بفشل انتخابي في انتخابات كاتالونيا في 27 سبتمبر 2015.

ثم جرى انقلاب جديد، وشارك بوديموس في تحالف  تعددي عريض في كاتالونيا، – En ComúPodem، بقيادة أدا كولو Ada Colau التي تشغل حاليا  عمدة برشلونة بعد ما كانت ناطقة باسم  حركة مناهضة الطرد من السكن.  كان ذلك يعني ان بوديموس سيصطف  من جديد الى جانب  استفتاء حول استقلال كاتالونيا.

وفضلا عن المسألة الوطنية، مثل قرار بوديموس تبني خطاب “وطني” صعوبة إضافية. كانت الرموز الوطنية الاسبانية (حتى العلم ومفهوم “الوطن”، او البلد الأصلي) وقفا على اليمين منذ الحرب الاهلية بالأقل.  ولذا بدت محاولة بوديموس إعادة تضمين معنى لمفهوم الوطن بحمولة ديمقراطية ومتعددة القوميات محاولة مصطنعة بالأحرى.

ما موقف حزب بوديموس من مسألة الديون؟ بلغ دين اسبانيا العمومي نسبة 99,2 % من الناتج الداخلي الاجمالي في العام 2015، وبلغ هذا الدين ذروة تاريخية بنسبة 99,3 % في العام 2014.

 

يلزم أولا قول إن بوديموس صنع تصورا خاصا للسياسة يعتبر مسألة البرنامج ثانوية تماما قياسا بمسألة تعبئة الناخبين.

ففي اثناء كل عملية انتخابات يشارك فيها بوديموس (انتخاب البرلمان الأوربي في مايو 2014، والانتخابات الاقليمية في مايو 2015، والانتخابات التشريعية في ديسمبر 2015 ويونيو 2016)، تغير جوهر برنامجه صوب مقاربة أكثر اعتدالا تتخلى عن كل مقترح جرى اعتباره “جذريا” أكثر من اللزوم.

 تفادي بوديموس تبني تصريحات برنامجية حازمة وعمومية، ولم يبذل أي جهد لأجل تدقيق مشروعه السياسي – وأقل من ذلك لأجل توضيح معالم حكومة مناهضة للتقشف. كما لم يعمل لنشر مطالب جماهيرية على نطاق شعبي، قد تكون رافعة للتعبئة والمعركة السياسيتين.

كان برنامج بوديموس ضعيف الحمولة الجوهرية و”سائلا” حسب تعبير شهير لزغمونت بومان Zygmunt Bauman . وفي الآن ذاته، في غضون السنتين الأخيرتين، بلور قادة بوديموس، مرارا وتكرارا، مقترحات متناقضة.

هذا السياق هو ما يلزم إدراكه لفهم موقف بوديموس من مسألة الديون. في البداية، كان بوديموس  يدافع عن إجراء افتحاص مواطني، لكن جرى ، فيما بعد، إقبار هذا المطلب لصالح موقف اعادة تفاوض وإعادة هيكلة الدين. ومذاك، لم يتقدم بوديموس بأي موقف متماسك بصدد مسألة الديون. مثلا، أعلنت اللجنة الأوربية قبيل انتخابات 26 يوليو  أن الحكومة الاسبانية الجديدة ستكون ملزمة بإجراء اقتطاعات كثيفة من النفقات العامة. لكن ايغليسياس لم يقف صراحة ضد منطق الاقتطاع من الميزانية. اكتفى بإبراز ان إمكان خفض العجز المطلوب دون مس بالخدمات العامة الأساسية  إذا ارتفعت موارد الدولة بفضل نظام ضرائب أشد فعالية.

برغ حزب بوديموس  بفضل حركة احتجاج رافعة راية ايديولوجية أفقية، غائبة مبدئيا لدى أحزاب اليسار التقليدية. هل وضعت مأسسة الحركة المتمثلة في بوديموس حدا لهذا التقليد بتضييق مساحة المعارضة داخل الحزب ؟

تعايش داخل بوديموس منذ تأسيسه مشروعان. الأول يعتبره مناهضو الرأسمالية Anticapitalistas ،وهو مشروع “حزب-حركة”، في تناغم مع إرث حركة 15M وثقافتها، القائمين على  الديمقراطية و المشاركة الداخليين ضمن منطق قطيعة. لكن الاتجاه الذي غلب كان هو المشروع الثاني، مشروع يستوحي “الشعبوية” حول بابلو أيغليسياس واينيغو إريخون حيث لا دور للديمقراطية الداخلية ولمشاركة القاعدة، ومركز حصرا على الفوز الانتخابي في المدى القصير.

وقد أكد  رسميا مؤتمر تأسيس بوديموس في فيستاليغر في اكتوبر 2014 نموذج الحزب هذا. فجرى عندئذ ارساء ما سماه إريخون “آلة حرب انتخابية”، تغلق باب اي سعي إلى تجريب تنظيمي. وتمت هيكلة بوديموس كحزب مركز حصرا  على التنافس الانتخابي والتواصل السياسي, و أهمل كليا  انغراس الحزب على قاعدة نقابية، وعلى منظمات جماعات وعلى حركات اجتماعية.

آلة الحرب الانتخابية تلك  بنية بالغة التراتب وممركزة، لها قيادات محلية واقليمية ضعيفة- وغالبا ما جرت ترقية القادة الاقليميين بناء على ولائهم لقيادة الحزب المركزية التابعين  لها ماديا وسياسيا.  وتم انتخاب هيئات اتخاذ القرار بطرائق غير تناسبية ترمي إلى ابعاد الأقليات.  ترتب عن ذلك تحول هيئات الحزب الداخلية بكل مكان إلى تعبير  عن المجموعة  السائدة بدلا عن المطلوب من هيئات تعددية تؤلف بين وجهات النظر السياسية.

في هذا الاطار، لا تقوم الفروع المحلية (الحلقات) بأي دور، مقتصرة على تنظيم الحملات الانتخابية.  ولم تصبح قط مجالات حقيقية لنقاش سياسي، ولا مجالات تنظيم العمل السياسي اليومي.  اثمر ذلك منظمة يسيطر عليها فريق سياسي وتواصلي ممركز وقوي مستند على بنية تنظيمية بالغة الهشاشة.  لذا تتوالى الأزمات الداخلية في الهيئات الاقليمية والمحلية، و ليس ثمة غير قلة قليلة من الأطر القيمة، والحزب ضعيف الحضور في الحياة الاجتماعية ما خلا  مقدرته على التواصل الجماهيري.

لا بد لكل حزب جرى تنظيمه في برهة وجيزة بهذا القدر،وحقق هكذا نجاحا انتخابيا، أن يشهد هذا النوع من المشاكل، لكن نموذج الحزب المتبنى من قبل بوديموس فاقمها. بفعل قرار إيغليسياس تغيير المسؤول عن التنظيم في شهر مارس، كانت ثمة تحسينات  ملموسة و مناخ عمل أفضل. يبقى ان نموذج الحزب يستدعي تغييرا كليا.

 

  • ما تفسيركم لما حصد بوديموس من نتائج سيئة في الانتخابات الأخيرة، حيث فقد مليون صوت قياسا بالاقتراع الأول؟

 

من منظور تاريخي عريض، يمثل تحالف يونيدوسبوديموس ,UnidosPodemos بين بوديموس وحزب أصغر –اليسار الموحد- نجاحا.  فقد ابرز التحول العميق  للنظام الحزبي التقليدي في الدولة الاسبانية ، إذ لم يسبق قط لقوة سياسية، مثل يونيدوسبوديموس، أن حظيت بدعم انتخابي بهذه القوة.

لكن الانتخابات كانت، على المدى القصير، دون الممكن والمرتقب.  لقد فوت التحالف فرصة الاجهاز النهائي على نظام الثنائية الحزبية الاسبانية.  إذ صدرت عن بوديموس، بين الاقتراع الأول في ديسمبر 2015 و الثاني في يونيو الأخير، الكثير جدا  من الرسائل المتناقضة. فمرارا شهد الناخبون قادة بوديموس يقولون شيئا ويأتون بنقيضه:  رفض تحالف يساري ثم الاقدام عليه مع حزب اليسار الموحد؛ وتأكيد الامتناع عن أي تحالف حكومي مع الحزب الاشتراكي ثم مساندته فور ذلك ؛ و رفض نعث “اليسار” ثم قبول نعث “الاشتراكي الديمقراطي”.

لا يسفر المفعول المتراكم لهذه الرسائل المتناقضة عن  تدويخ قاعدة الحزب الاجتماعية وحسب، بل أيضا عن نشر الانطباع أن بوديموس حزب قليل الجدية يغير سياسته حسب اللحظة. هذا يفقد الحزب الاعتبار.

الأسوأ أن بوديموس نظم حملة انتخابية خجولة، رمت الى استمالة الناخبين المعتدلين أكثر مما سعت إلى تعبئة قاعدتها الاجتماعية الخاصة. عُهدت في بوديموس جرأة في الحقل الانتخابي. لكن الحزب قام هذه المرة بحملة محافظة كي لا يركب أي مخاطرة.  وهذا لم يثمر. فقد يونيدوسبوديموس مليون صوت قياسا بما حقق بوديموس واليسار الموحد ، كل على حدة،  في الاقتراع الأول في ديسمبر.  معظم هؤلاء الناخبين امتنعوا عن التصويت، ولم تستفد بقية الأحزاب. لقد أخفق يونيدوسبوديموس بجلاء في تعبئة قاعدته الانتخابية في الاقتراع الثاني.

يقول إريخون منذ يونيو إن بوديموس مطالب بالتقدم إلى ما هو أكثر من آلة حرب انتخابية وبالتطور كـ”حركة شعبية”. لكنه يقصد بحركة شعبية معنى ثقافيا – كاستراتيجية تروم تحقيق هيمنة ثقافية على المدى البعيد، وكمكمل  مواز للعمل الانتخابي.  هكذا يغيب مرة أخرى النضال الاجتماعي، فضلا عن التنظيم الذاتي.

ومن جانبه، يتمنى إيغليسياس ان ينتقل بوديموس، بعد انتخابات يونيو، من “جيش حزبي” إلى “جيش نظامي”.  النتائج السياسية الملموسة لهذه الصياغة غير واضحة، ومن المرجح ان يغير بوديموس فجأة السرعة كما عُهد فيه منذ تأسيسه. يبدو مع ذلك أن ثمة إرادة مشتركة لدى القيادة في إضفاء مزيد اعتدال على مواقف الحزب بقصد  إنماء مصداقيته الحكومية والمؤسسية، وبوجه خاص إزاء  ناخبين محتملين ما برحوا  يرتابون من بوديموس.

أرى أن على الحزب أن يؤم وجهة أخرى. يجب على بوديموس أن يبرز دوما انه حزب من طراز  مغاير – حزب يتصرف على نحو مغاير، يقول ما لا يقوله الآخرون، حزب يطابق فعله خطابه.

ليس السؤال الانغلاق في الخيار التقليدي بين قوة حكومية و قوة معارضة، بل نقاش اي مصداقية نحتاج وكيفية بلوغها. ليست الاحزاب التقليدية ذات مصداقية وإذا تصرفنا على منوالها لن يجدي ذلك كثيرا.

 

  • ماذا كان تأثير تجربة سيريزا باليونان على بوديموس ؟

 

قامت حكومة تسيبراس بنقيض ما وجب عليها. استسلمت بسرعة وبدون عراك تقريبا. واجهت مصاعب حقيقية، بانتصاب قوى جبارة ضدها.  لكن تسيبراس رفض  أن يكون جريئا ويطبق وعود الحزب الجذرية.

لم يكن ثمة قط خطة ثانية ، سوى تعليق الأمل على تربيع الدائرة، وبدون خطة ثانية  لا وجود لخطة أولى.  لقد بات الآن كاريكاتورا لنفسه. في أقل من عام أقبر آمال التغيير، وركع  للسلطات المالية وطعن مناضليه من خلف.

دل التاريخ مرارا أن حفار قبر المستقبل قد يخرج من صفوف معسكر الشعب.  وعندما يحصل ذلك تكون العواقب كارثية. يكاد يستحيل احتواء الدوخة و التيه الناتجين عن ذلك، ويستغرق النهوض منه وقتا طويلا.  وذلك بوجه الدقة ما كانت تسعى اليه الترويكا (اللجنة الاوربية، البنك المركزي الاوربي، صندوق النقد الدولي).

ارتكب بوديموس غلطة جسيمة إذ ساند تسيبراس، وحرم نفسه  من الحجة لما  أشار  خصومه  الى مثال سيريزا قائلين :” أترون؟  لا يمكن الحكم بطريقة مغايرة”.

ليس سهلا على بوديموس تسيير الوضع اليوناني. الاعتراف باستسلام سيريزا ليس امرا مستطابا، بيد أن ادعاء ان لا شيء حصل وأن كل شيء على ما يرام أمر أسوأ بكثير.

كان على بوديموس إبلاغ رسالتين إستراتيجيتين بصدد اليونان. اولهما ان التغيير ممكن لكنه معقد، ومن ثمة أن التصويت لحزب معارض للتقشف ليس كافيا وانه لابد  من التعبئة والتنظيم.  و الثانية ان لبوديموس التزام  لا يتزعزع إزاء  مصالح أغلبية الشعب الاسباني، ما يجعله لن يتردد عن الابتعاد عن قوى قريبة، مثل سيريزا، إن هي سلكت سبيلا ضالا.

قد لا تتيح مقاربة الوضع اليوناني هذه لبوديموس كسب ناخبين كثر.  لكن قد يساعد ذلك، بالأقل ، على وضع الحزب في موقع أفضل  للنضال على المديين المتوسط والبعيد.  والواقع ان الوضع اليوناني لم يثر أي نقاش في المنظمات التمثيلية لليسار الاسباني – حتى لدى بوديموس أو في حزب اليسار الموحد أو ضمن  القوى التي فازت بانتخابات البلديات يوم 24 مايو 2014  في مدريد وبرشلونة وسراغوسطة وكورونيا ومدن أخرى.

لماذا فُوتت هذه الفرصة؟ أولا، لأن منظمات اليسار الاسباني تعوزها ممارسات أممية ملموسة في نشاطها اليومي، والقيادات غير معنية بما يجري في بلدان أوربية أخرى.

ثاني الأسباب ان الأسبقية التي تمنح للمهام على الصعيد الوطني تعرقل مهارة معالجة المشاكل غير الآنية. حدة الأزمة السياسية  الاسبانية والانتخابات المتتالية دالة على أن المستعجل قائم دوما ويهيمن على الضروري.

ثالثا، كان داخل بوديموس رفض للنظر  الى الواقع اليوناني كما هو. فقد جرى اعتبار انعطاف سيريزا  لقبول إملاءات الترويكا أمرا مؤقتا، في انتظار انعطاف معارض للتقشف يوم يكون توازن القوى ملائما أكثر.  كما اُعتقد ان الأمور ليست في السياق الاسباني ما هي عليه في اليونان بمبرر أن اسبانيا دولة أقوى من اليونان، ما سيجعل حكومة يسارية أقدر على مفاوضة الاتحاد الاوربي في شروط أفضل.

  • لما يواصل هذا القدر من الناخبين التصويت لصالح حزب بالغ الفساد وفاقد للمصداقية مثل الحزب الشعبي الذي فاز مع ذلك بالانتخابات مؤخرا؟

أفلح الحزب الشعبي في استعمال شبح  فوز ممكن لبوديموسيونيدوس بقصد تعبئة الناخب المحافظ حوله، على حساب سيدادانوس، الحزب  النيوليبرالي الجديد الذي رفعته وسائل الاعلام، على نحو مصطنع،  الى مقام  بديل لأحزاب اليمين التقليدية.  ويضاف الى هذا مفعول مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوربي (بريكسيت). جرى استفتاء بريكسيت بالضبط في لحظة حاسمة، في نهاية الحملة الانتخابية، وقدمته وسائل الاعلام كأنه نهاية العالم. اشاع ذلك مناخ خوف دفع ناخبين كُثر إلى مساندة الحزب الشعبي بفعل  التزامه المفترض ببقاء اسبانيا  في الاتحاد الأوربي.

وفضلا عن هذا كله، عند تحليل قوة الحزب الشعبي الانتخابية،  يجب الا ننسى  عامل الأجيال. معظم ناخبي الحزب الشعبي متقدمون في العمر بالأحرى.  وليس هذا مشكلا للحزب الشعبي في المدى القصير، فهم في نهاية المطاف يعملون في بلد به نسبة عالية من استنكاف الشباب عن التصويت. لكن نقص الصلات بالأجيال الجديدة مشكل  قائم لدى كل الأحزاب على المدى البعيد.

  • ما موقفكم من الاحداث الاخيرة بالمملكة المتحدة ومن مغادرة هذه الاتحاد الاوربي؟  هل يمكن لنزعة وطنية يسارية أن تكون حلا اليوم؟

 

الاستفتاء يشير الى مفارقات وتناقضات كثيرة.   يمثل بريكسيت ضربة  للرأسمال  المالي البريطاني ولباقي  الطبقات الحاكمة  في أوربا  التي يواجه مشرعها للاندماج القاري أزمة جديدة اليوم.  وفي الآن ذاته، جرت الحملة المؤيدة لبريكسيت تحت سطوة القوى الرجعية و الكارهة للأجانب التي شعرت بتعزز موقعها بانتصارها وهي قادرة اليوم  على تحديد أجندة الحياة السياسية البريطانية  في المدى القريب. لكن قد ينعش الاستفتاء أيضا  سيرورة استقلال اسكتلندا، ما قد يسهم في إضعاف  الدولة البريطانية مستقبلا.

كان اليسار البريطاني خارج اللعبة ، ُمجبَرا  إما على تنظيم حملة مغادرة يسارية (ليكسيتLexit= Left-Exit) لأجل بريكست لكن دون إمكان موازنة الحملة  الرجعية،أو على بقاء  المملكة المتحدة  في الاتحاد الاوربي وفي الآن ذاته انتقاد النزعة الاوربية الرسمية و الاتحاد الاوربي.

 يتعين على اليسار الاوربي، لاسيما المتوسطي منه، أن  يتناول جديا  المسألة  الاوربية.  يجب عليه تطوير نقد منهجي لمجمل مشروع الاتحاد الاوربي، لكن على أساس  أممي يواجه صراحة  اليمين الكاره للأجانب، بلا أي حنين  الى الدولة الوطنية الكينزية.

الدرس اليوناني واضح جلي: القطع مع إطار الاتحاد الاوربي مسألة جوهرية  لكل حكومة معارضة للتقشف . ومقترحات إصلاح الاتحاد الاوربي، أو التفاوض حول أجندة اكثر مرونة مع السلطات الاوربية، مأزق استراتيجي.

يجب على اليسار أن يتقدم ببديل قائم  على السيادة من أسفل وعلى التضامن الدولي، دون تمسك بأمل واهم في اصلاح الاتحاد الاوربي.

في الحالة الاسبانية، لدى معظم قوى اليسار تحاليل ناقصة  لموضوع الاتحاد الاوربي، ويبدو  انها منزوعة السلاح استراتيجيا. يقوم بوديموس بطمس المشكل و رفض تناول ملموس لمسألة الاتحاد الاوربي.

ويمثل هذا بنظري أهم حدود بوديموس البرنامجية وأكثرها إلحاحا.  إذا حدث يوما وقامت حكومة بقيادة بوديموس، قد يدفع وهم مساومة غير مع الترويكا الحكومة إلى مأزق لا يختلف في شيء عن الذي واجهه حزب سيريزا في اليونان.

أجرى المقابلة : جورج سوفليس George Souvlis، نقلها الى الفرنسية مارلين روزانوغرانج، والى العربية: جريدة المناضل-ة  

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا