الدولة والنضال
بقلم: أزنزار
حين يهُبُّ الناس إلى النضال يرفعون مطالبهم عادةً إلى الدولة، معتقدين وآملين أن تقوم الدولة بتحقيق تلك المطالب، وفي اعتقادهم ذلك تنتعش الآمال والأوهام بأن الدولة تبحث فعلا عن حلٍّ، وأن هناك إمكانية لوجود أرضية تلاقٍ بين الدولة والمطالب الشعبية.
ولأن الناس يتفادون، في المراحل الأولية من النضال، أي تصادم مع الدولة، بحكم كُلفة ذلك التصادم، فإنهم يبحثون عن أرضية التلاقي تلك، وينقبِّون عن مشروعية لمطالبهم، في قوانين الدولة ودستورها. هذا ما كُتب في وثيقة صادرة عن حركة جيل- زد المغرب، التي كانت تحت عنوان: “ملف مطلبي لشباب المغرب: من أجل تفعيل العقد الدستوري وتحقيق طموح النموذج التنموي الجديد”.
إن تفادي التصادم مع الدولة (الملكية) واضح جدا في عنوان الوثيقة: “تفعيل العقد الدستوري” و”تحقيق طموح النموذج التنموي الجديد”، رغم أن هذين هما سبب البلاء الذي هبَّ شباب جيل- زد للنضال ضده. وتفصل الوثيقة أكثر بقول: “إن مطالبنا لا تنبع من فراغ، بل تستمد شرعيتها وقوتها من أسمى مرجعيتين في البلاد: دستور المملكة الذي يمثل العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين، والرؤية المَلكية السامية التي ترسم معالم المستقبل. نحن لا نطالب بما هو خارج عن القانون أو متعارض مع التوجهات العليا للدولة، بل نطالب بالتفعيل الكامل والجاد لما هو مكفول وموعود به”.
إن مضمون هذه الفقرات واضح جدا: الحكومة والمؤسسات هي التي “تقف خارجا عن القانون وتتعارض مع التوجهات العليا للدولة”، لذلك طالبت رسالة شباب جيل- زد الملكَ بـ”التدخل من أجل إصلاح عميق وعادل، يعيد الحقوق ويعاقب الفاسدين، ويجدد عهد المسؤولية والشفافية”. لقد ألقى موقف الشباب من المَلكية الفرح في قلوب الليبراليين المعارضين، وأثنى أحدهم (رضى بنشمسي) في لقاء مع الشباب على منصة ديسكورد على ذلك، مسمّيا إياه بـ”الاحترام الواجب للمَلك”.
سواء كان التمسك بالمَلكية إيمانا عميقا من طرف هؤلاء الشباب، أو “مقاومة بالحيلة”، رغم أن هاتين لا تتعارضان، إذ الثانية تنبثق من الأولى، فإن ما يهم هنا ليس موقف حراك جيل- زد من الدولة/ المَلكية، بل موقف هذه الأخيرة من حَراك جيل- زد. وهو ما عبَّر عنه خطاب الملك أمام البرلمان يوم 10 أكتوبر 2025، وأثار سخط هذه الشبيبة، التي اعتبرت صمت الملك انحيازا ضد الشعب.
ما يجب الانتباه له أن المَلكية تعامل حركات النضال التي تُعلن ولاءها للمَلكية بنفس القمع الذي تعامل به تلك التي تعلن معارَضتها للمَلكية، وإلا فبماذا نفسر كل ذلك الجهد الدعائي لشيطنة حراكات تُعلن ولاءها للمَلكية واتهامها تارة بالعمالة للأجنبي وتارة بخدمة أجندات سياسية ضد الوطن… إلخ. فالمعارضات الجمهورية لا تحتاج المَلكيةُ لوصمها وشيطنتها، إذ في لحظات الجزر السياسي لا تحظى المعارضات الجمهورية بأي تعاطف شعبي ما يسهل قمعَها. أما حركات النضال التي لا تعلن معارضتها للمَلكية، بل ولاءً لها، فيصعب شيطنتها كما هو الحال مع المعارضات الجمهورية. لذلك فإنها تشكِّل خطرا أكبر على المَلكية، لأنها أكثر قدرة على اكتساب تعاطف شرائح شعبية أوسع لا تحظى به المعارضات الجمهورية، هذه الأخيرة تصبح أكثر قدرة على الفعل حين تحوز التعاطف والدعم الشعبيين.
يتيح الانخراط في النضال، حتى وإن كان مؤطَّرا بشعارات الولاء للمَلكية، لهذه الشرائح الشعبية اكتساب تجربة نضالية وخبرة سياسية، وهذا ما عملت المَلكية على تفاديه منذ الاستقلال السياسي؛ عبَّر الحسن الثاني عن احتقار الشعب هذا، في خطاب شهر ديسمبر 1962، بقول: “لا يمكنني أن أجعل ممارسة الحكم أقل مباشرة. لماذا؟ لأن شعبي غير مستعد ليُعبَّأَ حول برنامج أو مذهب، إنه في حاجة إلى المشي خلف رجل أو فريق..”.
قد يؤدي رفضُ المَلكية الاستجابةَ لمطالبها إلى تجذرها سياسيا، والانتقال من مرحلة الولاء للمَلكية إلى مرحلة المطالبة بإصلاحها، ومع تجذر النضال المطالبة حتى بإسقاطها… ليس هناك من وضع ثابت إلى الأبد، وكم من حركة ثورية انطلقت من توجُّه صادق إلى المَلكية كي تتدخل لإنقاذها من الموظفين الفاسدين. لذلك لا يعني إعلان الولاء للمَلكية أن هذه الأخيرة ستستجيب للمطالب، فهذا يستدعي شروطا أخرى، وضمنها قوة الضغط النضالي بالدرجة الأولى.
لنتذكر أثناء حَراك جرادة سنة 2018، كان السكان قد استنتجوا درسا من حَراك الريف: تفادي التصادم مع المَلكية كما فعل حَراك الريف حينما أصر على رفع راية الثورة الريفية عِوض العَلم الرسمي، وكان هذا الأخير إلى جانب صور الملك يتصدران تظاهرات جرادة. ولكن حينما اتخذت الدولة قرار القمع، انهالت العصي على المحتجين والأعلام الوطنية وصور الملك في أيديهم.
عندما يندلع النضال يكون الهدف الأولوي والحصري للدولة هو: كيفية هزم ذلك النضال. ويكون أمام الدولة خيارات عديدة، تختار أيها أقل كلفة من الناحية الاجتماعية والسياسية لهزم النضال ذاك. قد تختار القمع الانتقائي أو الشامل، أو التنازل عن الجزئيات والفتات الذي يسهل استرداده بعد خفوت النضال… لكن مهما تعددت الخيارات فإن الهدف يظل واحدا: هزم حركات النضال والانتقام من الطلائع التي تقوده أو التي ظهرت إبانه.
وعندما تقتنع الدولة بضرورة الاستجابة للمطالب، فإنها تسبِّق مهمة تكسير وهزم الحراك الرافع لتلك المطالب، ثم بعد ذلك تستجيب لها. وتفعل ذلك لمنع استعمال تلك الاستجابة كراوفع لتعبئة المزيد من شرائح الشعب التي تلحظ تجريبيا جدوى النضال. وهذا ما حدث مؤخرا، فبعد قمع حراك جيل- زد والحكم بالسجن سنوات طوال على المعتقَلين، أقر المجلس الوزاري تخصيص مبلغ 140 مليار درهم لقطاعي الصحة والتعليم، مع الحفاظ على نفس التوجهات الاقتصادية التي أدت إلى الأوضاع التي هب الشعب وجيل- زد للنضال ضدها: “تحفيز الاستثمارات الخاصة، سواء منها الوطنية أو الأجنبية، والإسراع بالتنزيل الفعال لميثاق الاستثمار، وتفعيل عرض المغرب للهيدروجين الأخضر، والتحسين المستمر لجاذبية مناخ الأعمال، وتقوية الشراكة المبتكرة بين القطاعين العام والخاص”.
هذا هو الدرس الأكبر المستقى من النضالات طيلة تاريخ البلد، وخصوصا في العقدين الأخيرين، منذ نضالات طاطا من أجل الصحة العمومية (2005) ونضالات سيدي إفني (2005- 2008)، وحراك الريف (2016- 2017) وحراك جرادة (2018)… لنصل حاليا إلى حراك شباب جيل- زد.
إن الأحكام القاسية الصادرة في حق الشباب المشاركين في احتجاجات الأيام الخمس الأولى، التي هزت المغرب، دالةٌ بما لا يدع مجالا للشك، بأن هدف الدولة هو هزم النضال الجاري. ولن يتأتى لها هزم هذا النضال إلى بدقِّ إسفين كبير بين حراك شباب جيل- زد وبين من كان يمكن أن يشكلوا القاعدة الاجتماعية الأكثر قتالية وكفاحية، وهم شباب الأحياء الشعبية والعمالية؛ وفي هذه الحالة شباب القليعة بأكادير، وشباب سلا… إلخ.
بعد عزل الحَراك عن تلك القاعدة الاجتماعية، ستطمئن الدولة إلى أن الحراك، وإن استمر فلن يكون بالخطورة التي كان يمكن أن يشكلها لو استمر في الأحياء العمالية والشعبية. عادة ما تتمكن الدولة من حصر تأثير النضالات عبر “تنطيقها”، أي حصرها في نطاقات (ساحات عامة، أحياء إدارية وأمام المقرات الرسمية…)، وهناك تخضع النضالات للمراقبة والضبط. وما دامت تلك النضالات لا تتعدى تلك النطاقات المضبوطة، لتصل إلى أماكن العمل والسكن، فإن الدولة “تتسامح” معها. لكن ما أن تؤثر النضالات على آلَتيْ الإنتاج والتبادل؛ ما أن يجري احتلال أماكن العمل وتتوقف طرق تبادل المنتجات، حتى تتخلى الدولة عن ذلك “التسامح”، وتكشر عن أنياب القمع.
لا تهتم الدولة بـ”عدالة المطلب ومشروعيته”، كما لا تعير كثيرَ اهتمامٍ لمواقف من يشاركون في النضالات من الدولة… ما يهم الدولة أكثر هو قوة وقدرة النضالات. لذلك تسعى دوما إلى حرمانها مما يشكل عِماد تلك القوة والقدرة؛ وعلى رأسها التعاطف الشعبي. وكل استجابة للمطلب تحت الضغط سيشجع شرائحا اجتماعية أخرى على الاستيقاظ، لأن المكاسب السابقة تُبدي لها أن للنضال جدوى. وهكذا ستكبُر كرة الثلج وتتكاثر المطالب وتتدفق النضالات مثل مسيلات تتجمع في نهر واحد. هذا ما تخاف منه الدولة وتعمل على تفاديه، ولا يهمها إن كانت الشرائح الشعبية، التي تبادر بالمطالبة والنضال، تُبدي ولاء للمَلكية أو لا. فالولاء في آخر المطاف شعور وإحساس، وهذان يتغيَّران بسرعة في لحظات النضال، أما الثابت الذي لا يتغير هو أن تحسين الوضع المعيشي للشعب يتناقض دوما مع الدولة كحامية لمصالح المستفيدين من النظام القائم؛ أي الرأسماليين الذين يشكل المَلك أغناهم والحاكم نيابة عنهم وحاميهم من الشعب… وعاجلا أو آحلا يحدث تصادم بين المتغير (الولاء للمَلكية) والثابت التناقض بين ما يريده الشعب وما تحافظ عليه المَلكية.
لذلك فالضامن الوحيد لانتصار الشعب، بما فيه أن يكون ذلك الانتصار بكلفة سياسية واجتماعية أقل، هو التحاق من يحتل قلب النظام الاقتصادي والاجتماعي بالنضال؛ الطبقة العاملة بكل شرائحها، العاملة في الإنتاج ودائرة التبادل والجهاز الإداري والخدماتي.
سيسير التحاق الطبقة العاملة في طريق النصر الناجز في حالة تمكَّن اليسار من أداء مهمته؛ الإسهام في تنظيم هذه القوة النضالية (في نقابات وأشكال التنظيم الذاتي التي تظهر في عز النضالات)، وفي بسط الأفق السياسي أمام النضالات؛ أفق سياسي لا يكتفي بإضفاء تحسينات سياسية واجتماعية على نفس النظام الاقتصادي- الاجتماعي القائم، بل اجتثاث أصل البلاء؛ وهو الرأسمالية التابعة وخادمها الاستبداد السياسي… لكن هذا يبدأ دوما باستيقاظ الشعب ومطالبته بإضفاء تلك “التحسينات”، أو ما يُطلَق عليه الإصلاحات، ودور اليسار هو التدخُّل بفعالية وبوحدة فعلٍ في هذه النضالات من أجل التحسينات والإصلاحات، لأن هذا التدخل وحده هو ما يتيح أن يفتح آفاقا أرحب وأوسع أمامها.
اقرأ أيضا