تمويل التعليم: التنزيل الأخير للرؤية الإستراتيجية لتخريب التعليم العمومي

سياسة4 ديسمبر، 2016

 

 

 

ناقش المجلس الأعلى للتربية والتكوين في دورته العاشرة (22 نوفمبر 2016) مشروع قانون أعدته اللجنة التقنية المؤقتة المكلفة بإعداد مشروع القانون الإطار للرؤية الإستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي الجمعة 29 يناير 2016، وقدم للمجلس الأعلى في يوليوز 2016.

يندرج مشروع هذا القانون في إطار تنزيل ما ورد في “الرؤية الإستراتيجية 2015- 2030 لإصلاح التعليم”، من هجومات نهائية على حق الكادحين في التعليم العمومي المجاني والجيد، لكن ما لفت الانتباه أكثر هو التقدم بنقطة ضمن مشروع القانون الإطار تقضي “بمساهمة الأسر المغربية في تمويل المنظومة، وذلك عبر فرض رسوم دراسية”.

إلغاءا لمجانية ليس جديدا

جرى تصوير هذا الاقتراح كأنه شيء جديد يعطي الضوء الأخضر للحكومة بإلغاء مجانية التعليم وحرمان أبناء الشعب من حق التعليم المجاني.

لكن الأكيد أن الدولة قد قضت على مجانية التعليم منذ زمن بعيد، يعود إلى بداية الثمانينات، حين فرض صندوق النقد الدولي برنامج تقويم هيكلي يفرض تقليص نفقات القطاعات الاجتماعية والعمومية لصالح أداء الديون وحفز القطاع الخاص في هذه القطاعات.

ما جاء في نص المشروع الذي صادق عليه المجلس الأعلى للتربية والتكوين ليس إلا تنفيذا حرفيا لما ورد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين في مواده (173 حتى 176) وأقره بعده المخطط الاستعجالي 2009- 2011، وأخير الرؤية الإستراتيجية 2015- 2030 التي انتقدت “استمرار الدولة في تحمل القسط الأوفر من التمويل مع تنويع مصادره”.

كما يجد هذا الهجوم أساسه الدستوري في الإصلاح الدستوري في يوليو 2011، الذي حصر دور الدولة في تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير استفادة جميع المواطنين من الحق في تعليم عصري… (الفصل 31)، وليس ضمان تعليم مجاني وعمومي وجيد.

ينصاع هذا الهجوم القديم/ الجديد لأوامر البنك الدولي حول “سياسة تمويل التعليم” التي يجب أن تقوم على أساس مبدأ “استرداد التكاليف” من خلال إشراك الأسر في تمويل تعليم أبنائها وتشجيع القطاع الخاص على الحلول محل الدولة في هذا القطاع.

كما أن حصر مجانية التعليم العمومي في السلك الابتدائي وفرض أداء الرسوم على السلكين الثانوي والعالي نفسه وارد في كل تقارير البنك الدولي، ولم تقم مخططات إصلاح التعليم إلى بترجمتها حرفيا إلى اللغة العربية.

الحديث عن مجانية التعليم في المغرب مغلوط من أساسه، فجزء كبير من نفقات التعليم تتحمله الأسر، كما أن نسبة مهمة جدا من التلاميذ هم “زبائن” للتعليم الخاص الذي تناسل بشكل سرطاني في عشرية الميثاق الوطني للتربية والتكوين.

ليس مشروع القانون الإطار الذي صادق عليه المجلس الأعلى للتعليم في المحصلة النهائية إلا إحدى المسامير التي يجري دقها في نعش يضم جثة تعليم عمومي تم تأبينه منذ عقود خلت.

وحتى البلاغ التوضيحي الذي أصدره المجلس الأعلى يؤكد عزم الدولة الاستمرار في رفع يدها عن تمويل التعليم العمومي: تنويع مصادر التمويل، وحصر مجانية التعليم في الأسلاك الثلاثة الأولى، وربط مجانية التعليم بالنسبة للمحتاجين باستيفاء الكفايات والمكتسبات اللازمة. (موقع المجلس على النت، 29 نونبر 2016).

حصيلة عقود من الحرب على حق التعليم

إن عشرية الميثاق كانت حربا غير معلنة ضحاياها ملايين الأطفال المحرومون من مقاعد الدراسة، وهو واقع لم يستطع التقرير التحليلي تغطيته: “بين سنتي 2000 و2012 غادر حوالي 3 ملايين تلميذ مقاعد المدرسة قبل الوصول إلى السنة الأخيرة من التعليم الثانوي الإعدادي، ونصف هؤلاء التلاميذ لم يستوف الدراسات الابتدائية”.

يورد ملخص، التقرير القطري “الأطفال خارج المدرسة” الخاص بالمغرب أرقاما مهولة حول التلاميذ الذين تسربوا من المدرسة، ويخلص إلى أن الأسباب هي بالدرجة الأولى اقتصادية: “الحواجز التي تحول دون التحاق الأطفال بالمدرسة: إن الحواجز الاقتصادية هي الأكثر في مرحلة التعليم قبل الابتدائي، وذلك نظرا لغالبية الطبيعة الخاصة (تعليم مقدم في غالبيته من طرف التعليم الخصوصي- هيئة التحرير) لتوفير التعليم على هذا المستوى”.

المجلس الأعلى للتربية والتكوين: هيئة أركان للهجوم على التعليم

أحدث المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بتاريخ 16 ماي 2014، وذلك تطبيقا لمقتضيات الفصل 168 من الدستور، ليحل محل المجلس الأعلى للتعليم (الذي كان قد أعيد تنظيمه سنة 2006).

المجلس له صفة استشارية يسعى حسب الوارد في موقعه على الانترنت لأن يكون “بوتقة للتفكير الاستراتيجي في قضايا التربية والتكوين والبحث العلمي وفضاء تعدديا للنقاش والتنسيق بشأن مختلف القضايا المتعلقة بهذه المجالات”.. أي مجلس حرب لنقاش جبهات الهجوم على التعليم العمومي وفتحه للرأسمال المحلي والعالمي.

ويتضح من إيلاء رئاسته لمستشار ملكي (عمر عزيمان) مدى الأهمية الكبيرة التي توليها الدولة لهذه الجبهة من جبهات الحرب على حقوق الشعب.

إن من يعتبر المجلس قد “انحاز عن الدور الذي أسس من أجله وتحول إلى مؤسسة تابعة للحكومة”، لا يعبر إلا عن أوهام خدع نفسه بها، خاصة وأنه شارك في صياغة الرؤية الإستراتيجية التي صاغت الخطوط العريضة لإلغاء المجانية: “لقد انخرطت النقابة الوطنية للتعليم العالي في بناء الرؤية الإستراتيجية وكانت فاعلة في محاولة تأسيس تصور جديد للتعليم العالي”. (بلاغ للرأي العام الوطني، انسحاب الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي من المجلس الأعلى).

خطة حرب: التدرج في الهجوم

على خطى نصائح البنك الدولي تقدم المجلس الأعلى للتربية والتكوين إلى الحكومة بنصيحة تنزيل الهجوم بطريقة لا تستثير رد فعل المتضررين من إلغاء المجانية: “مراعاة لعنصري التدرج والنجاعة، لا سيما أن القرار سيكون محط معارضة من لدن الفئات الفقيرة، التي لن تتحمل الأعباء المالية الجديدة لتدريس أبنائها في الجامعات المغربية”. (بلاغ المجلس الأعلى للتعليم).

ولتخفيف وقع القرار أكد المجلس الأعلى للتعليم أن مشروع القرار “يقضي بإلغاء مجانية التعليم في المدرسة العمومية بشروط تستثني الفئات الفقيرة والهشة”.

وهي حجة مردودة فالأسر الفقيرة هي المعنية بالدرجة الأولى بالتعليم العمومي، وحتى جزء منها يلجأ للتعليم الخصوصي حيث يتحمل كامل نفقات تدريس أبنائه، هذا إن استطاع أصلا تحمل تكاليف المعيشة مع غلاء الأسعار المتصاعد.

وفي هذا السياق تشير إحصائيات لمكتب الإحصائيات المغربي للربع الثالث من العام الجاري إلى أن 59% من الأسر المغربية تقول إنها دخلها يغطي مصاريفها، في حين أن 33.4% منها تستنزف من مدخراتها أو تلجأ إلى الاقتراض، ولا يتجاوز معدل الأسر التي تتمكن من ادخار جزء من دخلها 7.6%. (“رفض نقابي بالمغرب لاقتراح بإلغاء مجانية التعليم”/ موقع الجزيرة نت، 24 نونبر 2016).

مبررات قديمة لهجوم جديد

مع كل هجوم على حقوق الكادحين وطفيف مكتسباتهم، يتجند أيديولوجيو البرجوازية ودولتها للدفاع عن هذا الهجوم وحشد المبررات، وفي هذا الإطار صرح محمد يتيم عضو الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب التابعة لحزب العدالة والتنمية وعضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين أن “من يستفيد من تمويل الدولة للتعليم الجامعي ذي الجودة هم أبناء الميسورين… ولذلك فإن الوقوف بإطلاق في وجه فرض رسوم على أبناء الأغنياء من خلال رفع شعار المجانية بإطلاق هو تكريس للتفاوت”، مضيفا أن “إمكانيات الدولة ينبغي أن توجه للرفع من جودة التعليم ودعم الفئات الفقيرة للولوج إلى الحق في التربية والتكوين في جميع المجال”. (الموقع الالكتروني لحزب العدالة والتنمية).

وهو نفس المبرر الذي روجته الدولة لما أرادت إصلاح نظام الدعم الموجه للمواد الأساسية، مؤكدة أن المستفيد الرئيسي من صندوق المقاصة هم الميسورين وأن الدعم يكرس التفاوت، وصرحت بأنها ستوجه اهتمامها لدعم الفئات الفقيرة والمهمشة لكي تكون قادرة على مواكبة الأسعار الحقيقية بعد إلغاء صندوق المقاصة.

وفي البلاغ التوضيحي للمجلس الأعلى ورد أن اقتصار تمويل الدولة على الأسلاك الثلاثة الأولى من التعليم، لن تحرم أحدا من متابعة دراسته بشرط استيفائه للكفايات والمكتسبات اللازمة لذلك، ويذكرنا هذا بحكاية ربط الاستفادة من المنح الجامعية بالاستحقاق والعوز.

بيروقراطيات النقابات: رفض كلامي وقبول فعلي

ادعى جزء من بيروقراطيات النقابات الممثلة في المجلس الأعلى للتربية والتكوين رفضه المصادقة على نص المشروع القاضي تحميل الأسر تمويل تعليم أبنائها من خلال رسوم دراسية، لكنها نفس البيروقراطيات النقابية التي صادقت على الميثاق الوطني للتربية والتكوين وكل المخططات التي جاءت من بعده وواكبت كل الهجومات الليبرالية التي شنتها مختلف الحكومات على الخدمات العمومية والاجتماعية.

إن رفض قيادات النقابات لمشروع القرار داخل دهاليز المجلس الأعلى للتعليم، والاستنكاف على أي تعبئة نضالية في صفوف المعنيين المباشرين بالهجوم (شغيلة تعليمية، أسر، تلاميذ وطلاب)، قبول بالهجوم ومسايرة له مع إدعاء رفضه لحفظ ماء الوجه أمام القواعد النقابية.

إن النقابة هي أداة النضال الطبقي في يد الشغيلة وأبناء العمال، ولا يجب أن تكون شريكا في الهجوم على حق أساسي كحق التعليم، وعلى القيادات النقابية الانسحاب من المجلس الأعلى؛ الذي يشكل هيئة أركان برجوازية لشن الحرب على حق العمال وأبنائهم في التعليم العمومي المجاني والجيد.

وليس الانسحاب المطلوب محض انسحاب عضوي من المجلس، بل انسحاب من منظور الدولة لإصلاح المدرسة العمومية ورفضا للرؤية الإستراتيجية ونضالا ضد كل مخططات تخريب المدرسة العمومية ابتداء بالميثاق الوطني للتربية والتكوين.

لا بديل عن النضال

الوضع الحالي لمنظمات النضال: النقابات (بقرطة وهيمنة ليبرالية) والحركة الطلابية (انعدام التنظيم) وباقي حركات النضال، سيشجع الدولة على تشديد الهجوم على التعليم أو ما تبقى منه مجانيا وعموميا، وهو هجوم يشمل كامل الخدمات العمومية والاجتماعية.

يفرض النضال من أجل حماية النزر اليسير من حق التعليم والصحة والتشغيل نفسه، للحفاظ على حدود الدنيا لحياة تليق بالبشر، ولا يمكن لهذا أن يتم دون إعادة امتلاك تنظيمات النضال ودمقرطتها وبنائها على أسس كفاحية.

يجب الانخراط ودعم كل أشكال النضال ضد تخريب المدرسة العمومية: نضالات الطلاب وضحايا البرنامج الحكومي لتكوين 10 آلاف إطار والأساتذة المتدربين والتلاميذ وكل فئات الشغيلة، مع العمل بكد من أجل توحيد نضالاتهم وتوجيهها ضد أصل الشرور؛ سياسة مملاة من مؤسسات الرأسمال العالمي وموجهة لخدمة القطاع الخاص وأداء الديون بدل خدمة البشر.

لا يمكن لمحض نضال نقابي واجتماعي أن يرد تعديات الدولة البرجوازية على حق الشعب في التعليم (وباقي الحقوق)، فالمعضلة الرئيسية للنضال العمالي والشعبي بالمغرب هو افتقاده للاستقلالية التنظيمية التي لا تعكس في الجوهر إلا افتقادا للاستقلالية السياسية.

كل النقابات تحت هيمنة قوى غير عمالية، تحت سيطرة أحزاب برجوازية. جزء من البيروقراطيات النقابية التي تدعي حاليا رفضها لضرب مجانية التعليم، تابعة للحركة الاتحادية وملحقاتها الحزبية الأخرى التي تشكل تنويعات من اليسار الليبرالي ذي النزعة الإصلاحية الواهمة (إمكانية التوافق مع الملكية)، كان لها وجود مهم وتمثيلية كبيرة في قطاع التعليم، هي نفسها التي شلت طاقة الشغيلة في النضال ضد تدمير المدرسة العمومية وفي نفس الوقت شاركت في صياغة وباركت تمرير التعديات على الحق في التعليم (لجنة صياغة الميثاق الوطني للتربية والتكوين).

إن النضال العمالي والشعبي في حاجة إلى يسار آخر، يسار ذو منظورات ثورية، يسار اشتراكي عمالي حقيقي يذود عن المكاسب ويناضل من اجل الحق في التعليم وباقي الحقوق…

أزنزار، دجنبر 2016

شارك المقالة

اقرأ أيضا