مفهوم الدولة في المغرب

يمكن أن نعتبر، من الناحية الشكلية، أن الأمر يتعلق –دون رأي مسبق عن قيمته- بعمل ذي مطامح محدودة [تنحصر في] دراسة إعداد حوض حوز مراكش المائي، تقوم في جوهرها على وصف الإطار الطبيعي وكشف بالضرورات الجغرافية وتاريخ مشروع إعداد رأى النور حوالي 1160 ميلادية تحت حكم الخليفة الموحدي عبد المومن أحد مؤسسي الإمبراطورية الشريفية بالضبط، وهو مشروع يجتاز ثمانية قرون من التاريخ ليصب في الأزمنة الحديثة عند نقطة اتصال [عهدي] الحماية والاستقلال.

يمكننا أن نتسلى –تحت طائل أن ننسب لـبول باسكون نوايا ربما لم تخطر له ببال –بأن نتخيل أنه قد وقع في مغامرة شبيهة بمغامرة كولومبوس الذي اكتشف القارة الأمريكية عندما كان يبحث عن طريق الهند. نحن نتصور بسهولة أنه من الصعب أن نتصدى لمشروع بهذا الاتساع من زاوية تقنية ضيقة بوضعنا المجتمع القروي الذي يؤسسه ويجسده بين قوسين. لم يكن ذلك ممكنا، يفسر المؤلف هذا في مقدمة الكتاب حين يستنتج: «إن ما نبحث عنه في نهاية الأمر هو كيف تتمازج النماذج الاجتماعية القائمة اليوم في حوز مراكش وتتطابق، و[كيف] تتآزر وتتغالب، بمناسبة تنمية [هذه المنطقة]». لكن هذا الكلام غير كاف. بل إن محور البحث، بعيدا عن الأهداف وفي طفحه عن الإطار الضيق بشكل بدائي، يحرَّف باستمرار عن وجهة قصده الأول، بل ويفجَّر. لكن لا شيء مثل هذا يتجلى طبعا، لو اقتصرنا على قراءة من الدرجة الأولى ودخلنا في لعبة الاحتياطات الجامعية التي تفرضها المدافعة عن أطروحة. لا يهم أن يبدو ذلك، إذن، اعتباطيا وبلا أساس لأننا نحمّل النص ما لم يقله حرفيا، إذ الحقيقة أن ما يرتسم في اللقطة الخلفية للكتاب هو –في انطلاقنا من هذا المجتمع القروي- مشكل العلاقة بين الطبقة الفلاحية المغربية والدولة. أكثر من هذا ، إذ أخذنا بعين الاعتبار أن مراكش والحوز قد شكَّلا مكان ازدياد الدولة الشريفة في أشكالها الأولى كلها وأن السلطة السياسية قد تبلورت هناك في صورها الخصوصية التي لا زالت مجهولة، فهمنا أن مزية الكتاب الرئيسية –وله مزايا أخرى بدون شك- هي أنه يثير الانتباه ويوجهه نحو بؤر اهتمام غنية بكموناتها. لا وجود للدولة، إذن، في المنطلق في شكلها المؤسسي، لكن هناك زمرة اجتماعية ذات بنية محددة مع صلاحيات سلطوية لا تقل عنها تحديدا ولها تمثلات دينية معينة أيضا. إن للوضعية قيمة النموذج بعيدا عن النظام المرجعي المغربي. وهو بالتالي، نموذج مجتمع بدون دولة بل وضد الدولة. ويمكننا بواسطة هذا النموذج أن ندرس سيرورة تشكل دولةٍ وسلطة ممركزتين. إننا نستعمل صيغة النكرة لأنه من غير الممكن في الحالة الراهنة للمسألة أن نصنع لها نظرية من جهة، ولأنه لا وجود لسيرورة وحيدة بالضبط انطلاقا من اللحظة التي يتم بها التحقق من كون واقع مؤسسات الدولة وتطورها لا يخضعان للتصورات النظرية المبلورة قبليا، بل يعاكسانها في معظم الأحيان. إن العنصر الخصوصي الذي يميز هذه السيرورة هو الماء. يحلو لنا اليوم أن نقول إن الإعلام من مهام السلطة ويمكننا أن نؤكد نفس الشيء فيما يتعلق بالماء في الفترة المعينة. يوفر لنا عمل بول باسكون في هذا الموضوع إخبارا شاملا ودقيقا ومدعما بصفة جيدة فنفهم أنه سرعان ما تطفح دراسة مشروع إعداد الحوز المائي عن الإطار التكنولوجي وحده. عن كل المجتمع القروي أو المائي، بالأحرى هو الذي أُخذ بعين الاعتبار بحيث تُساءَل بنيته باستمرار انطلاق من منظور معين.

هكذا يكون الماء، إذن، مؤسَّسة مؤسِّسة، ويمكن التأكد من ذلك بتتبع تاريخ القبائل المحيطة بمنطقة الحوز والمعنية بمشروع الإعداد الذي نحن بصدده. وهو كذلك لأنه يحدد –وسنعرف كيف- أنماط وعلاقات الإنتاج، والمؤسسات السياسية القانونية والقيم الأخلاقية والدينية. ومع ذلك فإن هذه الصياغة خطيرة لأن في إمكانها أن تجعلنا نفكر في أن الماء يعتبر، هنا، بمثابة عامل حاسم تتولد عنه نوعا ما، وبواسطة سببية آلية، أشكال يربطها الاصطلاح الماركسي التقليدي بالبنية الفوقية. لا شيء مثل هذا [يحدث] إذا نظرنا إلى الأشياء عن قرب. فالمسعى الاختزالي للبحث عن عامل قابل للعزل ومجزأ، والتفرعُ الثنائي أيضا بين البنية التحتية والبنية الفوقية هما هنا، عديما التأثير لحسن الحظ وبنفس القدر لأن في إمكاننا أن نقرأ في ذلك أمل أننا لم نتبع سبلا مطروقة. يجب النظر إلى الصورة المعقدة لتشكل الدولة والسلطة المرتبطة بها في كليتها. فالأخبار التي نلتقطها عند قراءة كتاب بول باسكون والتي هي، على نحو خاص، تحريضات على استكشاف أكثر تقدما تسمح في هذا الموضوع بصياغة بعض الاقتراحات التي يجب اعتبارها بمثابة فرضيات علمية. هكذا ومنذ البداية لا يوجد مركز سلطوي مستقل بما فيه الكفاية تجاه قبائل لم يكتمل بعد تكوينها وقالبة لأن تُطوَّق بدقة. إننا نقتنع بذلك عندما نرى كيف يفضل بول باسكون، وهو يسجل صعوبة بلورة تعريف للقبيلة والنزعة القبلية في أفريقيا الشمالية من الناحية النظرية، أن يوقف النقاش ليعود إلى تحليل وقائعي متبعا –قدر المستطاع- تاريخ القبائل المغربية الكبرى المتواجدة على مسرح [الأحداث]. وفي نهاية هذه المغامرة الكبرى يبدو جيدا، من خلط الناس والأرض، أن الماء هو الذي يكتب التاريخ، على الأقل بالنسبة لهذه القبائل، لكن ليس كعامل وحيد قط، أي أننا مهما ابتعدنا في التحليل فإننا لا نصادف الماء قط كعنصر مادي غير متميز جامد وخاضع لإرادة الناس لامتلاكه واستغلاله وبالتالي السيطرة عليه. ولم يصبح عنصرا دالا إلا ابتداء من عتبة تكنولوجية معينة يخبر عنها بالمقابل: الخطَّارة، مثلا، وهي تقنية مكتسبة من الجانب الطبيعي لمياه حوض الحوز وتربته، ولا شك أن أنهارا كبيرة كانت قد استدعت حلولا أخرى وبالتالي تاريخا آخر، مهما ابتعد بنا رسمه إلا وكان هو أيضا مؤسسة نشيطة من داخل نسيج من العلاقات بحيث يمكن للقبيلة ولنواة سلطة دولة مركزية بالضبط أن تدرَكا في ديناميتها المكوِّنة. وإذا كانت لهذا المسار هشاشة الفرضية ووجد نفسه معرضا للشكوك التاريخية، الخطيرة بصفة خاصة عندما يتعلق الأمر ببلدان المغرب العربي، وإذا بدا بعيدا جدا عن نوايا باسكون، فإنه يوفر مع ذلك حظوظ خصوبة معينة. لندقق الأمور.

إننا نوجد، بعد فوات الأوان، أمام كلية تنبثق مثل خلق تاريخي بالمعنى الذي يعنيه كاستورياديس (Castoriadis)، أي غير قابلة للاختزال إلى عناصر سابقة وبالتالي غير متكررة. والحال أننا إذا أمكننا الشك، عن حق، في صلاحية بناءات مُعادة وإذا كانت الذاكرة التاريخية مليئة بالثغرات أو، أخطر من ذلك، منبعا للإستيهامات والتبريرات الإيديولوجية، فهناك أرضية صلبة بكل معنى الكلمة. إن مشروع الإعداد المائي للحوز قد عبر القرون، وإذا كانت القبائل من الناحية السياسية قد فقدت وجودها الفعلي ما دامت خاضعة للسلطة المركزية فإن البنيات المادية تظل قائمة وكذلك أمر المؤسسات، بمعنى من المعاني، وتنفيذ المشروع يتتابع تحت أشكال أخرى.

وانطلاقا من هذا الأصل، مع بعض حظوظ الإفلات من مخاطر زمنية تاريخية، يمكننا أن نضع مخططا لنسابة الدولة والسلطة داخل الحدود المشار إليها سابقا. إنها نسابة بالمعنى النيتشي ستتغذى من عناصر أخرى غير [العناصر] المستودعة حاليا وحدها. سنتذكر مثلا أنه يوجد في الحوز «جغرافية للمقدَّس»، هذه الصياغة الممتازة هي من وضع باسكون وهي تضاعف جغرافية الماء، تحدد رؤية نوعية للبيئة الطبيعية: فالزوايا التي تُبَنْيِنُهَا، والتي لا تزال تحتفظ بحضور هام في حياة البلاد، تفتح سبلا للمرور من الحاضر إلى الماضي. إننا نلمس هناك، إن جاز القول، قلب الإشكالية. لقد سجل كلود لوفور (C.Lefort) في حوار معه نشرته جريدة «لوموند»، بكثير من المواءمة، أن ما يهم، بعيدا عن مسألة الدولة والسلطة نفسها، هو تَمَثُّلُ المجتمع لذاته والطريقة التي يتصور بها نفسه ويعيش بها. إلا أن هذه الرؤية هي، جوهريا وحصرا، دينية إسلامية بالنسبة للجماعات التي تهمنا، [أما] المقولات المرتبطة بأية علمانية فلا علاقة لها بالموضع. وهذه الرؤية ليست اعتقادا مبهما أو فعلا إيمانيا: إنها توجه مشروعا اجتماعيا ينشئ تنافذا نشيطا بين أنواع مبهما محلية وزمنية من الواقع وبين مجموع العقيدة التي أمر بها الكتاب المقدس: القرآن. لنوضح أن الأمر المعرّض للخطر في هذا كله هو تأسيس الدولة الموحدية الذي تم على نفس مستوى حركة الإصلاح الدينية المهدوية الكبرى. وكان «كتاب» ابن خلدون –وهو روح هذه الحركة- يرمي، في نفس الوقت وكما نعرف، إلى إقامة إسلام مطهَّر من بقايا التجسيم التي كانت لا تزال راسخة لدى قبائل الأطلس، و[إقامة] مجموعة من المبادئ الأخلاقية المراد منها تأمين تكوين رجال للحكم وبالتالي تكوين أسس الدولة.

لا نملك هنا سوى إشارة ضعيفة إلى التداخل المعقد للتمثل الديني ومفهوم السلطة، وهي تفتح الآفاق للأبحاث جد هامة. وهذا يسمح باستبعاد الخطاطات البليدة التي تعوَّدنا عليها فيما يخص دور الدين. لقد حصلنا على حجة أننا لا يمكننا مطابقة السياسي على الاقتصادي أو الاجتماعي وبالأحرى اختزاله إليهما: ما دام السياسي يشكل نظاما خصوصيا لا يمكننا أيضا خلطه بالديني حتى وإن تشابك معه كما هو الحال هنا. ومن هذا المنظور في مقدورنا فحص كيف تمكنت بنية اجتماعية ونمط إنتاج وعلاقات إنتاج من أن تظل ثابتة في حين أن تصفية الاستقلال الذاتي القبلي التي قام بها الموحدون قد حولت قطب السلطة السياسية لصالح الدولة الممركزة. ويظل هذا صحيحا في تقدير باسكون حتى وإن كان الاستقلال الذاتي، الاستقلال القبلي، منذ بداياته عابرا يهدده انبثاق سلطة مركزية لا يمكنها أن تتشكل الا ضده. وسيكون الأمر واضحا جدا ضمن محور هذا التفكير فيما يخص الاستقلال الذاتي للقبائل لو تناولنا مشكلة النظام القائدي، أعني نظام السلطة عمليا: أي الرجل –القائد أو أمغار بالأمازيغية- في علاقاته بالجماعة صاحبة السيادة القبلية. نحن نعرف أن هذه المسألة قد أثارت ولا زالت تثير المناقشات الأكثر حدة لهذا السبب بلا شك وهو أن النظام القائدي المفرغ من دلالته الأصلية قد شكل سلاح التغلغل الاستعماري وأحد أعمدة نظام الحماية، وقد كان [القائد] الكَلاوي الشهير، وبشكل مُحزن، النموذج الأمثل لسياسة القواد الكبار.

ليس في نيتنا، هنا، أن نعرض محتوى المناقشات. لنسجل فقط أنه لا يمكن تشبيه القائد بسيد فيودالي مادام وضعه من طبيعة مختلفة بصفة جذرية، وكما سجل كلود كاهن (C.Kahen) الذي استشهد به باسكون فإنه لا يمكننا، بكيفية عامة، تشبيه البنية الاجتماعية الهيمنة حينذاك في المغرب وربما في المغرب العربي كله بفيودالية على النموذج الأوروبي. سنقول كلمة أخرى عن العلاقات بين السياسي والديني. إذ لا يسعنا إلا أن نندهش [أمام] التحولات التي يتحدث في التمثل الديني في موازاة الحركة التي تؤدي إلى انبثاق سلطة ممركزة يجسدها شخص واحد هو الملك. إن السيرورة معقدة وتتطلب دراسة مطولة بدون شك. [لذا] نجد أنفسنا مضطرين للاقتصار على بعض الملاحظات. لنقل ببساطة إن ما يثير الانتباه هو أن فكرة مركز –رجلا كان أو مكانا- هي، منذ البداية، فكرة غريبة عن التمثل الديني ما دام هذا الأخير ينتظم حسب فضاء تعددي يقلّص رسم القبيلة دون أن يعيد النظر بذلك، فعليا، في وحدانية العقيدة الإسلامية. إنها أيضا ظاهرة الزوايا المستفيدة من امتيازات القيادة الروحية والمتصارعة مع السلطة المركزية في غالب الأحيان هي التي تعلمنا الكثير في هذا الموضوع. وإذا بدت فكرة مَرْكَزِ غريبة يمكننا لأن نقول نفس الشيء عن مفهوم بنية مسلسلة حسب نموذج الكنيسة الكاثوليكية. إنها بالأحرى المجمعية التي بدو في بعض الحالات مهيمنة، مثل حالة جمعية العلماء.

ماذا نستخلص من هذه اللمحة التي تبقى عامة ولو اعتمدت على إخبار معين يمكن التقاطه من قراءة كتاب بول باسكون؟ ماذا نستخلص سوى أنه ينبغي الامتناع، بالضبط، عن أية خلاصة خاصة بسبب الطابع الافتراضي للتأكيدات المقدمة هنا، و[بسبب] تقلب البحث الذي شرع فيه بالكاد، وجدَّة وسائل الاستكشاف المتصورة. إن تجربة العالم الثالث توفر حظوظا للانفتاح والقطيعة في التصنيف النظري الذي يشل التفكير السياسي فيما يتعلق بالأسئلة الكبرى عن الدولة والسلطة عندما لا يهمشه داخل بلاغة متحذلقة وغامضة. الأساسي، إذن، هو توسيع الفجوة وتلغيم حقل الأفكار المتلقاة والأرثوذوكسيات القائمة وقُدور الفكر السياسي، هو انتزاع الوضوح النقدي من سبات الغرب. لا يحذونا، هنا، أي إدعاء لإعطاء ولو بداية لتنفيذ مثل هذا البرنامج، وإنما تحذونا نية تسجيل أهميته فحسب انطلاق من مكان [ما] للتفكير.

بقلم: إدمون عمران المليح

نقل النص عن الفرنسية: محمد بولعيش

عن مجلة الأساس (بالفرنسية، الرباط، العدد: 16 يناير/كانون الثاني 1980، ص ص: 22-25، نقلا عن مجلة «شعوب البحر الأبيض المتوسط» («Peuples Méditerranéens») عدد يناير/كانون الثاني-مارس/آذار 1979. (والمقال، في الأصل، عرض لكتاب باسكون عن «الحوز»).

شارك المقالة

اقرأ أيضا