حقيقة الأحزاب السياسية في ضوء بركان الريف

سياسة16 أغسطس، 2017

بقلم: مجيد الأحمر

النضَالاتُ الشعبية معيارٌ رئيسٌ لكشف طبيعة الأحزاب السياسية، بنَاء عَلى ما تفعلهُ تجاهها، وليسَ ما تصرح به، أو ما تتزين به من أوصاف ديمقراطية، وشعبية، وحتى ثورية. وقد زَاد النضال الشعبي المُستمر مُنذ ثمانية أشهر بمنطقة الريف من إسقاط الأقنعة عن الأحزاب المغربية.

تُعبر كل الأحزاب، المشاركة منها في حكومة الواجهة، أو المُصطفة في المعارضة الزائفة، عن القلق مما يعتمل في الريف، وما قد يسببه من تداعيات إذا ما امتد النضال بوتيرة ريفية إلى باقي مناطق المغرب. وثمة من يرى في الدينامية النضالية وضعا مُنذرا بعواقب سيئة، وليس مبشرا بثورة شعبية ستكنس إلى الأبد مجمل النظام القائم على الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي.
أحزاب حكومة الواجهة: ظلال النظام
طيلة ست سنوات بعد تراجع نضال حركة 20 فبراير، والتنازلات الوهمية لدستور 2011 التي اعتبرتها هذه الأحزاب أرقى ما يمكن أن يمنحه نظام حكم الفرد لـ”شعبه”، ظلت الأحزاب غارقة في التدبير اليومي الروتيني لحياتها الداخلية ولمشاركتها في هامش السلطة الذي تركته لها الملكية.
فجأة انقلب كل شيء على عقب، لقد انتهى عهد الروتين وفرضت الجماهير مرة أخرى السياسة الحقيقية، عندما تدفقت بالآلاف ولمدة طويلة محررة الشوارع، رافضة كل مبادرات النظام وأحزابه ولجان وساطته، لأنها تعلمت أن لا تلدغ من الجحر مرات عديدة.
أصبحت الحياة الداخلية لهذه الأحزاب مرهونة بالجواب على حالة “انتفاضة دائمة” تَجر وراءها حركة تضامُن وتُحفز النضال ضد التهميش في المدن والقرى المغربية الأخرى.
تتغير تصريحات هذه الأحزاب كلما ارتفعت حرارة النضال الشعبي، و أيضا مع تغير تكتيك النظام تجاهه، ففي البداية كان سكوتها موازيا لصمت النظام وتجاهله للمطالب لعل الحراك يَخفت. وبعد أن احتاج لتزكية القمع قام بتحريك أحزاب الأغلبية “الحكومية” لتقف ضد حراك الريف بتهم “الانفصال” “ا”لعمالة للخارج”، مُطالبة بالضرب بيد من حديد.
لما خفض النظام حدة القمع، بعد أن ارتعب من نتائج هذه المغامرة، وراحت وسائل إعلامه تحكي عن عدالة مطالب الريف الإقتصادية والإجتماعية، مُنددة بتسييسها، سارعت تلك الأحزاب مرة أخرى لمسايرة الموجة بالحديث عن دعمها لمطالب السكان الإقتصادية والإجتماعية.
أشادت مَواقفُ تلك الأحزاب بجهود الدولة في تسريع إنجاز برامج التنمية بالمنطقة، وبتجاوبها الإيجابي مع مطالب السكان، دون نسيان التأكيد على إتاحة الفرصة “للحكومة” لتنفيذ “أوراش الإصلاح”، وبالتالي الدعوة إلى التهدئة. ولا يعني هذا في لغة البشر إلا دعوة جماهير الريف إلى الرجوع إلى “حظائر الطاعة” وإعادة سيناريو 2011.
ولا بديل تقترحه هذه الأحزاب لتلبية “المطالب الاقتصادية والاجتماعية العادلة” سوى مواصلة السياسات الاقتصادية التي كانت أصل البلاء: تعزيز جاذبية الاستثمار بالجهة، وتشجيع مبادرات القطاع الخاص.
هذه الأحزاب أسماء متعددة لحزب واحد، حزب الملكية، مهما اختلفت أُصولها التاريخية وتصارع زعمائها على خشبة مسرح برلمان النظام. حزب الملكية هذا مؤيد لنظام الإستغلال الرأسمالي التابع، وسياساته النيوليبرالية المُملاة من المؤسسات المالية للامبريالية، إنه القسم المهيمن من الرأسمالية المحلية وحليفها الرأسمال الأجنبي.
استعمال الحراك لتصفية الحسابات
عَادة مَا تَكونُ الثورات والنضالات الشعبية فُرصة للأحزاب السياسية البرجوازية لتصفية حساباتها، وفي الآن ذاته البحثُ عن جهة تُلقي عليها المسؤولية بدلا من تحميلها للنظام القائم.
تكاثرت تصريحات تحمل حزب العدالة والتنمية وفترته “الحكومية” مسؤولية ما يقع في الريف، وكأن الأسباب الجوهرية لنضال ساكنة الريف ولدت فقط في تلك الفترة.
ما يتحمل حزب العدالة والتنمية مسؤوليته هو الإسهام، إلى جانب أحزاب أخرى، في مد النظام بطوق نجاة في محيط هزته أمواج الثورات في تونس ومصر وسوريا.. أوهم الحزب الجماهير بإمكانية “الإصلاح في ظل الاستقرار”، وما النضال الشعبي بالريف إلا تعبير عن تخلص الجماهير من هذا الوهم.
تمد انتفاضة الريفيين جذورها في التاريخ السياسي لمغرب ما بعد الاستقلال، مذ القمع الدموي لانتفاضة 1958 وسياسة التهميش الانتقامية في عهد الحسن الثاني، مرورا بمساحيق المصالحة مع الريف التي أبقت على التهميش والفقر وبدائل المخدرات والهجرة والتهريب كماهي.
ويرد العدالة والتنمية الصفعة، ويحمل المسؤولية لحزب الأصالة والمعاصرة، وجهود الدولة لجعله “مهيمنا على المجالس المنتخبة الحضرية والقروية ثم المجلس الإقليمي والجهة، إضافة إلى توفره على أغلب البرلمانيين عن الجهة، يعتبر جزءا من الأسباب التي أدت إلى تطور الأوضاع في الريف”. [موقع العدالة والتنمية، 9. يونيو 2017].
لا حزب يسائل سياسة الدولة الاقتصادية والاجتماعية، الكل يرد ذلك إلى عدم التنزيل، وفشل في تنفيذ المشاريع وتأخير الأوراش، موفرين بهذا للنظام مشاجب لتعليق المسؤولية على الأحزاب، وهو ما لم يتردد الملك في استعماله في المجلس الوزاري الأخير[25 يونيو 2017].
معارضة ناصحة للسلطان
أ. المعارضة الليبرالية:
في الجانب الآخر من الطيف الحزبي، هناك الأحزاب “المعارضة”، مشاركة كانت في مؤسسات النظام أم لا زالت مقصية منها.
تركز أحزاب فيدرالية اليسار الديمقراطي نيرانها على ما تراه أساس المشكل، أي استفراد الملكية بالحكم وغياب ملكية برلمانية؛ “كلّ هذه المظاهر يمكن إرجاعُها إلى طبيعة النظام السياسيّ المغربيّ المعتمِد على “المَلَكيّة التنفيذيّة” التي تتمنّع ــــ بطبيعتها ــــ عن القبول باللعبة السياسيّة المفتوحة، ولا تتلاءم مع هويّتها التحكّميّة”. [المغرب: حراك الحسيمة وتفاعلاته، حوار مع عبد السلام العزيز أمين عامّ حزب المؤتمر الوطنيّ الاتّحادي، ومنسّق فيدراليّة اليسار الديمقراطيّ.، موقع الآداب، 21 يونيو 2017].
وتدعو أحزاب الفيدرالية، بخاصة الحزب الاشتراكي الموحد، الدولة للاستجابة لمطالب الريفيين قصد فش الاحتقان وتفادي تطور الأوضاع نحو الأسوأ، بدل أن تخاطب نحو كادحي الريف والمغرب وتسعى إلى تنظيمهم وتقوية نضالاتهم وتصليبها. ولا أهم أن أثقل الحجج بهذا الصدد هو أن أحزاب الفيدرالية ماسكة بزمام أمر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ممتنعة عن خرطها في النضال والتضامن الفعليين، باستثناء مبادرة يتيمة (مسيرة الشموع 20 يونيو 2017)، و الأرجح أنها خطوة رمزية لإبعاد اللوم عن النقابة ليس إلا.
ب. المعارضة الرجعية الدينية:
لم تخرج جماعة العدل والإحسان عن معهود استنكافها عن الانخراط في النضالات الاقتصادية والاجتماعية، ما عدا مشاركة رمزية تبعد عنها وزر المسؤولية.
لم يختلف سلوك جماعة العدل والإحسان السياسي عن مثيله لدى أحزاب المعارضة الليبرالية، أي التوجه بنصائح إلى العقلاء داخل جهاز الدولة لدفعهم إلى الاستجابة للمطالب بقصد تنفيس الأوضاع، بدل النفخ في النار وزيادة الاحتقان؛ “الذي في صالح الدولة والشعب والمجتمع هو أن تنفس الأوضاع، الآن الكل يعيش على أعصابه لماذا؟ لأن الدولة تمسك الموارد. المطلوب أن يأخذ عقلاء البلد الأمر بهذه الروح، كفى من الفساد والاستبداد والريع”. [حوار فتح الله أرسلان، الناطق الرسمي لجماعة العدل والإحسان بموقع هسبرس، 15 يونيو 2017].
التنظيمات الأمازيغية: والتعبير المعتاد عن القلق
استطاع النظام ترويض تنظيمات الحركة الأمازيغية، بإشراكها في تنفيذ سياسته تجاه القضية الأمازيغية (المعهد الأمازيغي) أو بغض الطرف عن أنشطة ممولة وانخراط في عمل تنموي مُغر.
تقلصت قاعدة التنظيمات الأمازيغية، وباتت محض ذكرى لما كانت عليه في عقد تسعينيات القرن العشرين. وقد ظهر عجزها عن الانخراط بنضال كادحي الريف أو حتى التقدم بمقترحات لحفز الحراك وتطويره.
واقتصرت بيانات الجمعيات الأمازيغية على التعبير عن متابعة تطورات الوضع بـ”قلق شديد التطورات الأخيرة التي عرفتها مدينة الحسيمة وباقي منطقة الريف”. [بيان ازطا أمازيغ 27 ماي 2017]، وهو نفس القلق الوارد في بيان وقعته مجموعة من الإطارات والجمعيات والكنفدراليات والتنسيقات الأمازيغية [28 ماي 2017]. وقد تجلى بأسطع ما يمكن قصور المنظور الامازيغي المحض الذي يختزل هوية البشر في بعدها الثقافي، متجاهلا (عن سذاجة او عن قصد) أبعادها الأخرى: الطبقي وبعد النوع الاجتماعي. فجواب الحركة الامازيغية على تحديات حراك الريف يضعها وجها لوجه مع جوهر منظورها الطبقي الذي يسعى معظمها الى حجب طابع البرجوازي [أي غير المعادي للرأسمالية] بالإغراق في عموميات البعد الثقافي.
ما تفسير سلوك هذه الأحزاب على ضوء حراك الريف؟
كل الأحزاب المذكورة أعلاه، مهما اختلفت توصيفاتها الشكلية؛ قانونية أو محرومة من هذه الصفة، مشاركة في المؤسسات أو مقاطعة، “حكومية” أم “معارضة”، كلها أحزب تقف على أرضية الدفاع عن المجتمع البرجوازي القائم، واختلافها مع نظام الحكم يقوم على طريقة الحكم وليس على مضمونه ولا على المصالح الطبقية التي يحميها ويدافع عنها.
لن تفوت هذه الأحزاب فرصة مأزق النظام أمام صمود كادحي الريف، لتلوح له بمطالبها السياسية، توخيا مزيدا من التنازلات السياسية وتوسيعا لهامش إشراكها في الحكم، من خلال “فتح ورش حقيقية للإصلاحات السياسية” [المجلس الجهوي، لجهة طنجة، تطوان، الحسيمة، لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المنعقد في طنجة، يوم 4 يونيو 2017]، أو المطالبة بـ”تطوير نموذجنا الديمقراطي يقتضي تكريس الممارسة السياسية والحزبية والمؤسساتية السوية والسليمة” [المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية يوم الاثنين 05 يونيو 2017]، دون أن ننسى مطالبة أحزاب الفيدرالية بملكية برلمانية كمدخل لحل جميع مشاكل البلد، اجتماعية واقتصادية وسياسية.
ضريبة ضعف البديل اليساري الثوري
يعيد حراك الريف درس كل الانتفاضات الشعبية التي عرفها تاريخ المغرب؛ هناك بخار [طاقة نضال جماهيري] يستدعي مكبسا يوجه الطاقة، كي لا تتبخر في اندفاعات لا وجهة واعية لها.
لم يكتسب اليسار الجذري بالمغرب بعدُ القوة اللازمة للنهوض بمهامه، جزء منه بلا بوصلة طبقية ويكتفي بالشجب والتنديد والدعوة إلى التضامن، بلا انخراط فعلي في هذه الكفاحات، ولا استثمار لوجوده التنظيمي في إطارات جماهيرية، نقابات عمالية وجمعيات، لحفز التضامن وتعميم الاحتجاج في باقي مناطق المغرب.
يظهر واقع الحركة النقابية استنكاف قيادتها البيروقراطية عن تنظيم تضامن حقيقي، فعال، مع نضال كادحي الريف، ما يضعها في موقع خذلان. وهذا ثمن فادح تؤديه الطبقة العاملة، ومعها حركة النضال الشعبي، بسبب المآل الذي شهدته تجربة التوجه النقابي الديمقراطي داخل الاتحاد المغربي للشغل، هذه التجربة التي أتاحت لليسار فرصة (أضاعها) للبرهنة العملية على إمكان نضال نقابي ديمقراطي وكفاحي وثيق الصلة بالنضال الشعبي.
باقي أقطاب اليسار الجذري إما لا رأي لها فيما يجري، وتفضل الصمت وانتظار مصير النضال لتشحذ أقلامها لنقد المنخرطين حاليا في الحراك، تماما كما وقع في 20 فبراير، أما القسم الآخر فضعيف جدا ولا وجود في المناطق المهتزة بالنضال.
قد يتكرر ما جرى إبان حراك 20 فبراير ما لم يتدخل اليسار الجذري في الحراك تدخلا مناصرا لنضال كادحي الريف، تدخلا يظهر هويته الطبقية المستقلة عن الدولة ولكن أيضا عن باقي أحزاب المعارضة الليبرالية منها والرجعية الدينية.
لا ثقة في حلفاء سياسيين مهما بلغت جذريتهم ومعارضتهم وحاجتهم إلى الديمقراطية، لا ثقة في وعود الدولة وفي لجان وساطاتها ونصاحي سلطانها.
ثقتنا الوحيدة في عمال المغرب ومقهوريه، وواجبنا الاسهام في استنهاض النائم من قواهم. وأول شرط هو العمل لحفز كل بادرة تنظيم تأتي منهم وتوسيعها على صعيد وطني، والسعي بجد لخرط الحركة النقابية في التضامن مع نضالات الريف وفي بناء حركة عمالية وشعبية قادرة على انتزاع مطالب تحسين الوضع على طريق التحرر الشامل من الاستبداد السياسي ومن الرأسمالية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا