صرخة القرى: احتجاجات تكشف حقيقة التنمية في المغرب
شهدت عدة مناطق قروية في المغرب في الأشهر الأخيرة موجة متصاعدة من الاحتجاجات، رفع فيها السكان مطالب أولية تُعدّ من أبسط شروط الحياة اليومية: طريق، ماء، صرف صحي، نقل، خدمات اجتماعية أساسية بمقدمتها الصحة والتعليم. ورغم أن هذه المطالب تبدو تقنية في ظاهرها، إلا أنها تكشف في العمق خللًا بنيويًا في النموذج التنموي القائم، وتُظهر الهوّة بين الخطاب الرسمي حول “تنمية مجالية عادلة” والواقع الذي يعيد إنتاج الهشاشة نفسها.
بقلم؛ العاصي
احتجاجات تكشف عمق الأزمة
في 13 نونبر 2025 خرج سكان دوار تاعبيث بخنيفرة في مسيرة نحو العمالة للمطالبة بشبكة للصرف الصحي، مطلب بديهي ظل معلّقًا لسنوات. المحتجون أكدوا أن معاناتهم لا تقف عند غياب الواد الحار، بل تشمل تدهور الطرق، وانعدام المرافق العمومية، وضعف الماء والإنارة، رافعين شعار: “بغينا الواد الحار… بغينا نعيشو بكرامة”.
وفي 14 نونبر 2025 خرج سكان حي أغندرة بدمنات (إقليم أزيلال) احتجاجًا على الانقطاعات المتكررة للماء الصالح للشرب رغم ربط الحي بالشبكة. السكان اعتبروا أن ما يحدث “إهانة”، خصوصًا وأن الماء حق أساسي لا يُفترض المساس به.
أما في 23 شتنبر 2025 فقد نظم سكان دوار بوعروس بإقليم تاونات مسيرة طويلة نحو فاس احتجاجًا على العطش وتردّي أوضاعهم المعيشية. ورغم توقيف المسيرة، ظل صداها قويًا؛ إذ طالب السكان بالأساسيات: ماء، طريق، نقل، وتعليم.
وفي 17 نونبر 2025 سار سكان دوار أيت عزوز بجماعة أجلموس (إقليم خنيفرة) نحو العمالة، مردّدين الشعار المتكرر في القرى المغربية: “لا طريق، لا ماء… أوضاعنا مزرية”.
هذه الاحتجاجات ليست سوى صرخة من آلاف الصرخات التي تتعالى من «المغرب المنسي»، حيث تحولت مطالب بسيطة إلى أحلام بعيدة بفعل سياسات متراكمة عمّقت الفقر والهشاشة. ورغم محاولات الدولة منع وقمع هذه الاحتجاجات، فإن إرادة العيش الكريم تُعيد نفسها بقوة أكبر كلما طالت سياسة التجاهل.
القرى كمرآة لحقيقة النموذج التنموي
تكشف القرى المغربية بشكل فاضح حقيقة النموذج التنموي. فكل احتجاج يسلط الضوء على حقيقة أننا أمام اختيارات سياسية واقتصادية تعمل على إدامة الفوارق الطبقية والمجالية بدل الحد منها، بعكس ما تروّجه الخطابات الرسمية التي تُحيل المشكلات إلى اختلالات محلية أو أعطاب تقنية.
قرى مثل تاعبيث وبوعروس وأغندرة وأيت عزوز ليست حالات استثنائية، بل نماذج لواقع تعيشه مئات القرى: غياب طرق، ضعف المستشفيات، نقص المدارس، وانعدام الخدمات الأساسية التي تُعدّ من بديهيات الحياة في أبسط دول العالم. لذلك فإن الاحتجاجات الاجتماعية ليست طارئة، بل نتيجة مباشرة لعقود من التهميش واللامساواة الناجمة عن اختيارات طبقية، اولويتها تعظيم أرباح رأسمال وفتح مساحات استثمارية إضافية أمامه.
تنمية تخدم المستثمرين… وتعمّق فقر القرى
تواصل الدولة تقديم “الحلول” عبر مساعدات ظرفية، لكنها لا تمسّ جوهر المشكلة. فالنموذج التنموي المطبَّق اليوم ينتج الفقر بدل تقليصه. وقد كشفت المندوبية السامية للتخطيط في مذكرتها الصادرة في شتنبر الأخير أن عدد الفقراء في الوسط القروي ارتفع من 513 ألفًا إلى 906 آلاف، أي بزيادة سنوية تُقدّر بـ 22.2%.
ورغم الترويج لمفهوم «التنمية المجالية»، فإن المشاريع المنفذة تتركّز عمليًا حول الاستثمار الموجه للمستثمرين المحليين والأجانب، بينما يُطلب من الفئات الشعبية انتظار «أثر التنمية» الذي لا يأتي. وتُعدّ شركات التنمية المحلية مثالًا صارخًا لهذه الفلسفة؛ إذ تحولت إلى أذرع تنفذ مشاريع كبرى تهيمن عليها مصالح خاصة دون رقابة تذكر، وتستنزف الموارد الطبيعية والمائية والمعدنية، مع ترك البنية التحتية المتقادمة تنهار أمام السكان.
هذه المشاريع، التي تخدم نخبة اقتصادية ضيقة، تدفع آلاف القرويين إلى الهجرة نحو المدن، بحثًا عن حدّ أدنى من شروط الحياة، لينتقلوا من هامش إلى هامش أشد قسوة.
الشراكات التنموية… أداة لتدجين المجتمع المدني
لا تكمن أسباب الاحتجاجات في «اختلالات تقنية» يمكن تصحيحها بميزانيات صغيرة، بل في سياسات نيوليبرالية تُدير البلاد بمنطق السوق بدل منطق الحاجات الاجتماعية. وفي محاولة لاحتواء الغضب، توسّع الدولة من فكرة “الشراكات التنموية” مع الجمعيات، التي تُستعمل في كثير من الأحيان كواجهة لتلميع السياسات بدل تعزيز المشاركة الحقيقية.
ومع مرور الوقت، يكتشف سكان القرى أن هذه الشراكات ليست سوى مسار يعيد إنتاج الفقر بدل الحد منه.
التنظيم من أسفل… الطريق إلى التغيير الحقيقي
من المؤكد أن احتجاجات القرى ستستمر، لكن الاحتجاج وحده غير كافٍ. المطلوب هو دعم النضالات المحلية وربطها ببعضها، لأنها تعبر عن مطالب مشتركة وتواجه أسبابًا مشتركة. ويُعدّ بناء فضاءات للتنظيم الشعبي – جمعيات، نقابات، لجان أحياء ودواوير، تنسيقيات – شرطًا أساسيًا لاستعادة الناس لحقهم في الفعل السياسي المباشر.
فمن خلال تنظيم ديمقراطي من أسفل، يمكن تحويل المطالب المحلية إلى قوة وطنية قادرة على فرض نموذج تنموي بديل يقوم على خدمات عمومية قوية، وشغل يضمن الكرامة، وتعليم مجاني جيد، وصحة للجميع، وسيادة على الموارد.
ذلك أن الأسئلة الجوهرية تظل مطروحة: من يقرر؟ ولصالح من؟ ودون الإجابة عنها، ستبقى “التنمية” مجرد شعار يغطي واقع القهر الطبقي بدل تغييره.
إحالات:
التنمية المجالية هي مقاربة تنموية ترتكز على تجاوز الفوارق بين المناطق (كالجهات والأقاليم والجماعات) من خلال تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة لكل مجال، مع الأخذ في الاعتبار خصوصياته وإمكانياته. إنها تهدف إلى تحقيق العدالة المجالية عبر دمج الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية لضمان توزيع عادل لثمار التنمية والخدمات على جميع المواطنين دون إقصاء.
اقرأ أيضا


