مقدمة كتاب “محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال”

نزلت إلى سوق الكتب مؤخرا الترجمة العربية لكتاب المؤرخة الاسبانية المقتدرة ماريا روسا ذي مادارياڭا حول نضال محمد بن عبد الكريم الخطابي بعنوان :”محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال”.

بالنظر لأهمية الكتاب، قياسا بالصادر قبله عربيا، نقدم لقراء/ات المناضل-ة نص مقدمة الكتاب . نتمنى أن تكون الإفادة بقدر جهد البحث.

– محمد بن عبد الكريم الخطابي و الكفاح من أجل الاستقلال

ترجمة وتقديم:

محمد أونيا-عبد المجيد عزوزي- عبد الحميد الرايس

منشورات تيفراز .

المقدمة

ترسخت لدينا دائما قناعة مفادها أن أي بحث أو مؤرخ قرر إنجاز ترجمة حول شخصية تاريخية فيجب أن يحس هذا الباحث بارتباط من نوع ما بينه وبين المترجم له حيث يشاطره نفس الرؤى. وإلا فستصبح مهمته صعبة، إن لم نقل مستحيلة. أما إذا توفر نوع من التعاطف والانجذاب نحو الشخصية، كما هو الحال بالنسبة إلينا تجاه عبد الكريم، فإن المؤرخ سيباشر عمله بحماس أكبر. ولا يعود اهتمامنا بهذه الشخصية إلى الماضي القريب، بل إلى سنوات عديدة خلت، وبالتحديد إلى اليوم السادس من شباط/فبراير من سنة 1963، تاريخ وفاته في القاهرة. ورد بالطبع خبر هذه الوفاة في الصحافة الإسبانية وقد اطلعنا عليه بدورنا في جريدة أ ب س ABC ضمن مقال نشر في اليوم السابع من نفس الشهر، نقرا في هذا المقال من بين معطيات أخرى ما يلي:

«يمكن اعتبار هذا الرجل القصير القامة الذي صقلته نوائب الدهر رائدا وقدوة بالنسبة لنوع من الساسة الذين تتميز بهم بعض الشعوب المستقلة حديثا… يبدو أن السبب الرئيسي لتمرده وثورته ضد إسبانيا وفرنسا ربما نشأ خلال فترة الحرب ما بين 1914 و1918، حيث اشتبهت السلطات الفرنسية في تعاونه مع الألمان. وبإيعاز من فرنسا قامت السلطات المحلية في مليلية باعتقاله وحبسه في قلعة روسترو ڭوردو التي حاول الهرب منها بالقفز من إحدى النوافذ، محاولةُ لم تكن ذات عواقب خطيرة باستثناء كسر في إحدى رجليه [!!]. ويبدو أن هذه الاتهامات لا تخلو من الصحة، أما علاقته مع الأخوين المشهورين الملقبين بمانسمان اللذين أبديا رغبتهما في استغلال المناجم الريفية فهي مؤكدة.

دفعت مثل هذه المناورات الملتبسة والمتشابكة عبد الكريم إلى الاتصال بأعداء إسبانيا وفرنسا الذين ربما عززوا طموحه الناشئ، وهو الأمر الذي شكل إضافة حاسمة وسمت شخصيته لاحقا… أما بعد أنوال فقد أصبح عبد الكريم قوة حقيقية حيث شكل حكومة وتلقى مساعدات كبيرة من الخارج. فقد ربط الاتحاد السوفياتي مثلا علاقاته مع هذا الزعيم ودعم طموحه ومطلبه الخيالي المتمثل في إنشاء جمهورية الريف [!!] […] »

وردت، مع ذلك، في خضم هذا السيل من المغالطات التاريخية بعض المعلومات الصحيحة، فعبد الكريم قد ولد بالفعل في مدشر أجذير المتواجد قبالة جزيرة الحسيمة [حجرة النكور] سنة 1882، وقد اعتقل في مليلية حيث حاول الفرار مع ما ترتب عن هذا الأمر من عواقب نعرفها جميعا. وبعد انهزامه أمام القوات الإسبانية والفرنسية واستسلامه للفرنسيين تم نفيه إلى جزيرة لارييونيون. غير أن السلطات الفرنسية سمحت له لاحقا بمغادرة منفاه والإقامة في جنوب فرنسا. وفي ميناء بورسعيد الذي وصلت إليه السفينة التي كانت تقله إلى أوروبا، استغل عبد الكريم فترة الرسو به لمغادرتها وطلب اللجوء السياسي في مصر، هذا البلد الذي استقر فيه إلى أن وافته المنية. تضيف الصحيفة أن الحكومة المغربية فشلت في إقناع عبد الكريم بالعودة إلى المغرب بعد استقلاله سنة 1956، رغم محاولاتها العديدة في السنوات الأخيرة. جدير بالإشارة أيضا أن موقف عبد الكريم تجاه الحكومة المغربية لم يكن دائما وديا، ربما باستثناء فترة حكومة عبد الله إبراهيم، هذا الأخير الذي كانت تربطه علاقة مودة بالزعيم الريفي، والمنتمي إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحزب الذي أسسه [المهدي] بن بركة بعد انشقاقه عن حزب الاستقلال. وقد وجه عبد الكريم بالفعل انتقادات عديدة لحكومة الرباط، نتيجة اختلافه معها حول نقاط عدة تشير الصحيفة إلى إحداها: «[…] إذ أبدى دائما موقفا متشددا من مسألة الاستقلال وأكد مبدئيا على أن عودته إلى بلاده رهينة بمغادرة آخر جندي أجنبي.»

لم تجانب صحيفة أ ب س ABC الصواب عندما أكدت على أن شخصية عبد الكريم لم تكن تعني شيئا بالنسبة «للجيل الحالي» أي جيل الستينات. إذ لم ينتبه، بدون شك، العديد منهم لحدث وفاته، في حين لم يكترث به الآخرون. ونكاد نجزم أن دور جريدة أ ب س ABC هنا اقتصر بالنسبة للجيل القديم الذي لفته خبر الوفاة على تأكيد المعلومات «المعروفة» أصلا لديهم حول عبد الكريم. أما بالنسبة لجيل الستينات الحديث العهد، فأية أهمية قد يحظى بها ذلك الزعيم المغربي الذي حارب الإسبان ذات يوم؟ ومن المحتمل جدا أن أغلبية الشباب في تلك الفترة لم يسمعوا قط أحدا من أفراد عائلاتهم يتحدث عن عبد الكريم، باستثناء أولئك الذي يتذكرون بشكل مبهم حكايات آبائهم عن كل تلك الفظائع في الناظور وسلوان وعروي، وعن «قسوة» و«وحشية» و«همجية» الريفيين.

تجب الإشارة بالمقابل، على أن صورة «المورو» المتداولَة وسط العائلات ذات التراث الليبرالي التقدمي، كما هو الشأن بالنسبة إلينا، تمتزج فيها في نفس الوقت، الصورة الليبرالية الرومانسية «للمورو» كما نتصوره، وصِفَةُ الأندلسي كما أشاعتها الكتابات التاريخية الليبرالية في القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى صورة «للمورو» «المتوحش» و«المتوحش» و«القاسي» المرتبطة بالخصوص بآلاف المحاربين المغاربة الذين شاركوا ضمن قوات فرانكو في الحرب الأهلية الاسبانية ما بين 1936 و1939. ورغم مرور وقت لا يستهان به فإن «حرس فرانكو المغاربة»، هذه المجموعة التي تشكل البقايا الفكلورية لتلك القوات، لازالت تُذكرنا بصورة المغاربة «القساة المتوحشين». وبما أننا ألِفنا منذ الصبى في وسطنا العائلي، سماع رواية مختلفة عن الأخرى الرمية التي كان يُشيعها النظام الفرانكاوي، فإن شخصية عبد الكريم كانت بمثابة اكتشاف بالنسبة إلينا. ومقابل «المغاربة الأصدقاء» أو «المغاربة الطيبين» الذين كان يمتدحهم الإعلام الفرنكاوي، كان هناك دائما «المغاربة الأعداء» أو «المغاربة الأشرار». هكذا كان المغاربة «الأخيار» حسب المنظور الفرنكاوي، هم «أشرار» من وجهة نظر عائلات كالتي نشأنا في كنفها، والعكس صحيح. شخصية عبد الكريم إذن، كانت تندرج بالنسبة إلينا ضمن فئة «الطيبين». ومع توالي الأيام بدأت بالفعل تثير فضولنا واهتمامنا، لذا وانطلاقا من رغبتنا في الحصول على معلومات أكثر دقة حوله، سألنا والدتنا التي قدمت لنا رواية جد مختلفة بالطبع عن التي وردت في جريدة أ ب س ABC حيث قالت بالحرف: «كان عبد الكريم زعيما مغربيا ألحق هزيمة نكراء بالعسكريين الإسبان في أنوال سنة 1921، لكنه انهزم لاحقا في سنة 1926 خلال مرحلة الحكم الديكتاتوري لـﭙريمو ذي ريبيرا Primo de Rivra . ولو انتصر عبد الكريم لما تحكم فرانكو في مصائرنا» وقد علق ﭙيير ﭭيلار Pierre Vilar على هذه القولة معتبرا إياها نوعا من «الاختزال التاريخي» «raccourci historique»، نظرا لكون من قاد انقلاب 1936 ضد الحكومة الشرعية للجمهورية الإسبانية هم، في آخر المطاف، العسكريون الأفريقانيون الذين استمدوا هيمنتهم وقوتهم من هزيمة عبد الكريم. ورغم سردنا لهذه الحكاية الطريفة في أكثر من مناسبة، إلا أننا نعتبر العودة إليها مرة أخرى أمرا ضروريا في هذا السياق، مادامت توضح احد الأسباب الكامنة وراء اهتمامنا بشخصية هذا الزعيم. وكل هذا انطلاقا من مسألة لا تحتمل الشك بالنسبة إلينا مفادها أن الأعداء الذين واجههم عبد الكريم كانوا أيضا أعداءنا. وإن كان هؤلاء قد نشروا الموت والخراب في الريف في العشرينات، فإنهم سيقومون بالمثل في إسبانيا عشر سنوات بعد ذلك.

تجب الإشارة أيضا إلى أن الشباب المنتمي إلى جيلنا والملتزم بالنضال ضد النظام الفرنكاوي كان، نتيجة هذا التوجه، ملتزما أيضا بمناصرة حركات التحرير لكل الشعوب المستعمرة، كما كان الشأن آنذاك بالنسبة لفيتنام. من المؤكد أن حركة عبد الكريم كانت رائدة ومحفزا للحركات المناهضة للاستعمار التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، كما سيقر بذلك هوشي منه نفسه. لكن القول بأن عبد الكريم هو من استعمل لأول مرة حرب العصابات هو زعم غير سليم تاريخيا، ما دامت هذه التقنية كانت معروفة بالطبع قبل ذلك، وموجودة بالفعل منذ أمد بعيد، كما أنها نفس الطريقة التقليدية للمقاومة التي استعملت في حرب الريف. غير أن المصطلحات من قبيل «حرب العصابات» «guerrilla» و«عضو من أعضاء المقاومة guerrillero» قد اشتهرت وانتقلت إلى لغات أخرى بعد استعمالها خلال الحرب الإسبانية من أجل الاستقلال، حيث قدمت للعالم مجموعات المحاربين غير النظاميين، أي أعضاء المقاومة، من أمثال مينا Mina أو الإمـﭙيثيناذو El Empecinado نموذجا يحتذى به حول طريقة استنزاف وهزم جيوش قوية مجهزة ومدربة بشكل جيد كجيوش نابوليون مثلا. إن ما أبرزه هوشي منه بالفعل كمساهمة انفرد بها عبد الكرم خلال حرب الريف، هي تلك المخابئ أو الأنفاق الأرضية المنتشرة في جميع أنحاء منطقة الريف المستعملة كوسيلة دفاعية لتجنب قنابل المدافع والاحتماء من القصف الجوي بالخصوص، بالإضافة إلى استعمالها كمخازن لحفظ القوت والمؤن وكمخابئ للذخائر الحربية. وهي الفكرة التي ستلهم هوشي منه والوطنيين الفيتناميين وسيعملون على اقتباسها وتطبيقها خلال حربهم التحريرية، وستمكنهم بالتالي من الاستفادة من مخابئ مثالية تحت غطاء ترابي ونباتي، تماما كما فعل الريفيون قبل ذلك بما يربو عن ربع قرن.

كان من الطبيعي أن يثير شخص كعبد الكريم اهتمام الكثيرين سواء في عهده أو في العهود اللاحقة. فقد زاره خلال حرب الريف العديد من الصحافيين الذين أفردوا كتابات حوله وأخرى عن بعض مظاهر حركة المقاومة الريفية. وكمثال عن هذه الكتابات نذكر كتيبا هاما صدر سنة 1922 تحت عنوان: Abd-el-Krim y los prisioneros، أي: عبد الكريم والأسرى، ألَّفه الصحافي لويس ذي أوتييْثا Luis de Oteyza مدير جريدة لا ليبيرتاذ La Libertad وضمّنه تحقيقات صحيفة أنجزها في أجذير خلال صيف نفس السنة، بالإضافة إلى مضمون مقابلاته مع عبد الكريم وأخيه امحمَد وقادة ريفيين آخرين. هذا علاوة على نتائج لقاءاته مع المسؤولين والضباط والجنود الإسبان المتواجدين قيد الأسر في الريف بعد كارثة أنوال. ومن الصحافيين الآخرين الذين قابلوا عبد الكريم، نذكر الأمريكي ﭭينسينت شين Vincent Sheean مؤلف كتاب: An American Among the Riffi، أي: أمريكي بين ظهراني الريفيين، الصادر في نيويورك سنة 1926. هذا الصحافي الذي أجرى مقابلات مع الزعيم الريفي وأخيه امْحمَد، كما أورد معلومات هامة عن طرق وتقنيات المقاومة المستعملة من طرف الريفيين، وإن لم تكن جديدة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بالإضافة إلى معطيات أخرى حول الانسحاب الدامي للقوات الإسبانية من مدينة اشاون خلال خريف 1924. قام، مع ذلك، هؤلاء الصحافيون، من قبيل سكوت مورر Scott Mowrer أو وارد ﭘرايس Ward Price، وبمن فيهم ﭭينسينت شين Vincent Sheean، بإرسال مضامين تحقيقاتهم إلى الصحف التي كانوا يشتغلون بها، وإن لم يؤلفوا كتبا خاصة حول هذا الموضوع. وقد عملوا على تعويض النقص الذي كانوا يعانون منه فيما يخص المعلومات الموثوق بها بأخرى من وحي خيالهم أو بالاعتماد على أخبار مبنية في العديد من الحالات على الإشاعات.

من الصحافيين الذين كتبوا عن عبد الكريم والريف، نذكر أيضا المراسل المشهور لصحيفة التايمز في طنجة والتر ب. هاريس Walter B.Harris الذي أنجز مقالات عدة أرسلها بانتظام إلى الصحيفة التي كان يشتغل لحسابها، كما ألف كتابا صدر في لندن سنة 1927 تحت عنوانا: France, Spain and the Riff ، أي فرنسا وإسبانيا والريف. كان هاريس مصابا بجنون العظمة القهري مما جعله يخال نفسه عنصرا ضروريا ولا غنى عنه كوسيط في أي نزاع تكون أطرافه شخصيات وازنة أم حكومات. وقد قدم نفسه لعبد الكريم كصديق يريد له الخير، في حين كان يخدم في الواقع مصالح الامبريالية الفرنسية، عندما لا تتعارض بالطبع مع مصالح التاج البريطاني.

صدر سنة 1927 كتاب حمل اسم: Mémoires d’Abd-el-Krim، أي: مذكرات عبد الكريم، من تأليف روجي ماثيو Roger Mathieu المراسل الحربي لجريدة لو ماتان Le Matin الفرنسية. وقد أنجز هذا الصحافي سلسلة من اللقاءات مع عبد الكريم وأخيه امْحمَد بعد ما تمكن من التسلل إلى سفينة عبدة التي كانت تقلهما إلى المنفى. ينطوي عنوان هذا الكتاب على نوع من العسف والتضليل في نفس الوقت، إذ يصعب التصديق بأن تلك «المذكرات» المزعومة تعكس الأفكار والأحاسيس الحقيقية لزعيم المقاومة الريفية الذي يغلب الاعتقاد بأنه صرح بما أراد الصحافي أن يدلي به، أو بالأحرى بما كانت السلطات الفرنسية تود أن تسمعه. إذ ما الذي كان سيصرح به في تلك الظروف عبد الكريم وهو المنهزم المستسلم لرحمة المنتصر والمتواجد على متن باخرة تقله إلى المنفى البعيد عن وطنه بآلاف الأميال؟ لقد شكلت على أية حال، هذه المذكرات المزيفة المشهورة ولمدة طويلة، مرجعا أساسيا عن عبد الكريم، دون أن يشكك أحد في مصداقيتها، وذلك منذ أن شهد عبد الكريم نفسه، عبر توقيعه عليها، بصحة الأقوال المنسوبة إليه. لكن اعتماد حد أدنى من الصرامة التاريخية يقتضي التفحص الحذر والنظرة النقدية لوثائق من هذا النوع التي تمتزج فيها معلومات صحيحة إلى حد ما بأخرى عكسها تماما تعمل على نشر الغموض والالتباس والتشويش على الحقيقة. وهو الأمر الذي يؤدي إلى خلاصات مغلوطة. يمكننا إصدار نفس الحكم على أعمال أخرى صدرت في ذلك العهد، ونقتصر هنا على ذكر نماذج منها فقط. صدر النموذج الأول الذي ألفه جاك لادريت لاشاريير Jacques Ladreit de Lacharrière في باريس سنة 1925 تحت عنوان: Le rêve d’Abd-el-Krim، أي حلم عبد الكريم، وقد شغل هذا الصحافي منصب مدير النشرة المسماة: Bulletin du Comité de l’Afrique Française، هذه الهيئة التي لا تعدو أن تكون أداة للاستعمار الفرنسي. النموذج الثاني كتاب صدر أيضا في باريس سنة 1927 لصاحبه كزاڨييه هوبر-جاك Xavier Hubert-Jacques، بعنوان: L’aventure rifaine et ses dessous politiques أي المغامرة الريفية وخلفياتها السياسية. والنموذج الثالث الصادر في مدريد سنة 1925 يحمل عنوان: Abd-el-Krim contra Francia: impresiones de un cronista de guerra (1)، أي: عبد الكريم ضد فرنسا: انطباعات مراسل حربي. وبعد ذلك بسنوات، أصدر فرنسيان عايشا عن قرب الأحداث المرتبطة بعبد الكريم والحرب الريفية كتابا لكل منهما. الأول هو ليون ڭابرييلي León Gabrielli الذي كان يشغل منصب مراقب مدني «contrôleur civil»في توريرت، الذي يوازي أيضا منصب المراقب المدني الإسباني «interventor civil» في منطقة الحماية الإسبانية. وقد عنون عمله الصادر بالدار البيضاء سنة 1953: Abd-el-Krim et les événements du Rif, 1924-1926. Notes et souvenirs recueillis et présentés par Roger Coindreau ، أي: عبد الكريم وأحداث الريف 1924-1926 ملاحظات وذكريات جمعها وقدمها روجي كواندرو. والثاني هو پيير فونتين Pierre Fontaine الذي ألف كتابا صدر في باريس سنة 1958 تحت عنوان: Abd-el-Krim et la rébellion nord-africaine أي: عبد الكريم والثورة في الشمال الإفريقي. وقد عالج الاثنان، بالإضافة إلى حرب الريف، مواضيع تتعلق بالمراحل اللاحقة، كفترة المنفى في جزيرة لارييونيون ورحلة العودة المجهضة إلى أوروبا بالنسبة لڭابرييلي، ومرحلتي المنفى والإقامة في مصر بالنسبة لفونتين.

ظهر في أواخر الستينيات من القرن الماضي كتابان باللغة الانجليزية حول عبد الكريم وحرب الريف. صدر الأول في لندن سنة 1967 تحت عنوان : Abd-el-Krim, Emir of the Rif ، أي عبد الكريم أمير الريف، لصاحبه الصحافي البريطاني روپيرت فورنو Rupert Furneaux. وصدر الثاني في ستانفورد بكالفورنيا سنة 1968 وعنوانه: Rebels in Rif، أي ثوار في الريف، (2) لمؤلفه الصحافي الأمريكي دايڤيد س. وولمان David S.Woolman. إن عمل فورنو واعتبارا لغزارة وتنوع إصدارته فهو منتوج صحافي سيان عنده الكتابة حول عبد الكريم أو عن عجائب الدنيا الأكثر غرابة أو خنّاقي ساحة ريلينغتون أو بركان كراكاتوا. سافر إلى الريف محاولا التعرف في أرض الميدان على الأحداث التي وصفها ومعتبرا كل المعلومات التي استقاها هنا وهناك سليمة دون تكليف نفسه عناء التأكد من صحتها. سيعود مثلا سبب قطع عبد الكريم لعلاقته مع الإسبان إلى الصفعة التي يفترض أنه تلقاها من الجنرال فيرنانديث سيلبيستري Fernández Silvestre دون أن يتساءل ولو لحظة إن كانت صفعة بسيطة كافية لتفسير هذا الأمر. يجب أن نشير بهذا الصدد إلى أن حكاية صفعة سيلبيستري لعبد الكريم شائعة في الريف كما تمكنا من المعاينة بأنفسنا خلال جولة دراسية في صيف سنة 1969. إذ كان من الصعب جدا إقناع الناس بأن ذلك لا يعدو أن يكون خرافة لا أساس لها من الصحة. وفي الواقع، وبعد التأمل في الأمر، يمكن تأويل تلك الصفعة كتعبير مجازي، إذ رغم أن الصفعة الحقيقية لم يكن لها وجود أبدا في الواقع إلا أننا يمكن أن نتحدث عن صفعات معنوية عديدة. لم يتلق عبد الكريم أي صفعة حقيقية سيلبيستري لأنهما لم يتواجدا في نفس الوقت في مليلية، غير أن الأمر مختلف بالنسبة لقواد عسكريين آخرين كان أقل ما يمكن أن يقال عن تصرفهم تجاه الريفيين انه كان سيئا.

سرد فورنو للأحداث والوقائع تتخلله أخطاء عديدة من قبيل التواريخ المغلوطة والأسماء الخاطئة أو المحرّفة. هكذا يحدد تاريخ انتقال عبد الكريم إلى فاس للدراسة في سنة 1905، في حين أن مرحلة دراسته بالقرويين امتدت في الحقيقة ما بين 1902 و1904. يضيف فورنو أن الزعيم الريفي تخرج من هذه الجامعة سنة 1909 ليعود إلى أجذير حيث شارك مع والده في «الحلف القبلي» الذي تشكل لمحاربة الروڭي بوحمارة. وأن أباه قد أرسله بعد ذلك إلى مليلية «ليتمرس في مجال القانون». إن كل هذه المعطيات مغلوطة، فثورة القبائل ضد الروڭي تمت خلال صيف وخريف سنة 1908، وقد غادر الدعي بصفة نهائية معقله في قصبة سلوان بالريف الشرقي يوم 4 كانون الأول/ديسمبر من نفس السنة. أما عن تاريخ التحاق عبد الكريم بمليلية فقد كان قبل ذلك بكثير، أي سنة 1907، وليس بهدف «التمرس في مجال القانون» كما ذهب إلى ذلك فورنو، بل للعمل كمدرس مساعد في المدرسة التي سبق أن أنشأها الإسبان لفائدة أبناء المغاربة المستقرين بالمدينة. لن يتم تعيينه لتولي خطة القضاء إلا سنوات بعد ذلك وبالتحديد سنة 1913. يجب أن نشير، بالإضافة إلى الأخطاء في التواريخ، إلى أخرى متعلقة بأسماء الأعلام. فاسم الجنرال ألفاو Alfau مثلا، يتحول إلى الجنرال Afrau، وهو نفس الاسم الذي يحمله موقع على الشاطئ المتوسطي. ولا يمكن اعتبار هذه الهفوة خطأ مطبعيا يقع مرة فقط بل تحريفا قارا تكرر في الكتاب كله كلما ذُكر هذا الاسم بما في ذلك فهرس الأعلام في آخر الكتاب. ولو كان ألفاو جنرالا عاديا ذا قيمة محدودة لعذرنا المؤلف على هذه الهفوة، لكن المعني كان أول مندوب سام إسباني في المغرب. شخص آخر لم يسلم اسمه من هذا التحريف وإن كان الخطأ قد مس اسمه الشخصي بدل لقبه، ويتعلق الأمر بالجنرال بيرينڭر الذي تحول بفضل فورنو إلى داماسكو Damasco في حين أن اسمه هو داماو Dámaso. ولا تقتصر أخطاء فورنو بالنسبة لأعلام على أسماء الأشخاص، بل طالت حتى أسماء أخرى نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، اسم جريدة لا ليبيرتاذ La Libertad الذي تغير إلى إيل ليبيرتاذو El Libertado، ووادي أمْقران الذي صار وادي أقْرموس (3). تبقى هذه الأخطاء صغيرة مقارنة مع أخرى أكثر فداحة، فالمقدم في الجيش فيرناندو پريمو دي ريبيرا Fernando Primo de Rivera الذي توفي في أعروي سنة 1921 بسبب مرض الغنغرينة الذي أصيب به بعد بتر أحد ذراعيه، سيصبح بفضل فورنو نجل الديكتاتور الجنرال پريمو دي ريبيرا Primo de Rivera في حين أنه شقيقه في الواقع. وحسب فورنو دائما فقد نفى الفرنسيون السلطان محمد الخامس سنة 1947، في حين أن الأصح أنه عزل ثم نفي إلى مدغشقر في آب/أغسطس من سنة 1952 (4). لكن بالنسبة لفورنو الأمر عنده سيان. والمشكل المرتبط بهذا النوع من الكتابات هو أنه حتى وإن تحدثت عن أمور سليمة فلا أحد يصدقهم.

أما الكتاب الثاني الذي نحن بصدد تقييمه هنا، أي ثوار في الريف، الذي صدر باللغة الإسبانية في ڤيلاسار ديل مار Vilassar del Mar سنة 1971 تحت عنوان:

Abd-el-Krim y la guerra del Rif، أي: عبد الكريم وحرب الريف، فرغم أنه أيضا عمل من إنجاز صحافي إلا انه يختلف عن أعمال الصحافيين الآخرين أو يحاول أن يكون مغايرا. أقام وولمان لفترة من الزمن في طنجة واهتمامه بالمغرب وتاريخ الريف ليس ظرفيا، ووليد أهداف تجارية خالصة كما هو الحال بالنسبة لفورنو، بل يبدو هذا الاهتمام حقيقيا. ظل كتاب وولمان لمدة لا يستهان بها مرجعا أساسيا حول الموضوع، تماما كما كان الأمر بالنسبة لمذكرات روجي ماثيو. ويشكو هذا العمل أيضا من نفس النواقص التي سجلناها لدى فورنو، وإن كان لوولمان الفضل والسبق في إحياء الموضوع والعودة إليه بعدما طاله النسيان لمدة طويلة. وقد استند وولمان بالفعل، فيما يخص بعض المعطيات الواردة في مؤلَّفه، إلى كتاب غير موثوق به كليا كفورنو في هذه الحالة. هكذا يتحدث عن إرسال عبد الكريم الأب لولدَيه إلى مليلية لمتابعة تعليمهم في إحدى المدارس الإسبانية. وإذا كان هذا الأمر صحيحا بالنسبة للابن الأصغر امحمد، فهو غير ذلك على الإطلاق فيما يخص محمد بن عبد الكريم الذي لم يلج أبدا في مرحلة الطفولة أية مدرسة اسبانية. يستقي وولمان أيضا معلوماته عن روجي ماثيو الذي تعتبر مصداقيته جد مشكوك فيها كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فكتاب وولمان يتضمن أخطاء عديدة، بعضها هفوات فادحة كإرجاع تاريخ حبس عبد الكريم إلى آب/أغسطس من سنة 1917، في حين أنه اعتقل وأودع السجن في أوائل أيلول/سبتمبر من سنة 1915 وأطلق سراحه في أوائل آب/أغسطس من سنة 1916. ستترتب عن هذا الخطأ سلسلة من الأخطاء الكرونولوجية الأخرى، إذ أن تاريخ إرجاع عبد الكريم إلى منصبه كقاض لا يعود إلى أواخر 1918 كما يقول وولمان بل إلى شهر نيسان/أبريل من سنة 1917، حيث أن أواخر 1918 وشهر كانون الأول/ديسمبر بالتحدد هو التاريخ الذي غادر فيه عبد الكريم مليلية [بصفة نهائية] بعد حصوله على ترخيص للعودة إلى قبيلته خلال العطلة، ولم يلتحق بعمله بعد ذلك. ارتكب وولمان أخطاء أخرى تتعلق بجوانب من حياة عبد الكريم الشخصية، كقوله مثلا بأنه «اقترن بأربع زوجات فقط كما يسمح بذلك الشرع الإسلامي»، في الوقت الذي كانت له طيلة حياته زوجتان فقط. وأن عدد أطفاله في بداية الثورة، أي سنة 1921 هو ثلاثة أبناء ذكور، مع العلم أن التاريخ الذي ولد فيه ابنه البكر يعود إلى مرحلة سقوط مركز أنوال تقريبا. وعندما غادر الريف إلى منفاه في أواخر آب/أغسطس سنة 1926، فقد كان له بالفعل ثلاثة أبناء ذكور بالإضافة إلى بنت في شهرها الثاني. أما عدد أخواته فهو أربع وليس واحدة كما ورد لدى وولمان. ويمكن اعتبار هذه الأخطاء هفوات ثانوية لأنها لا تمس الوقائع التي يتم سردها، لكنها تكشف عن غياب الروية عندما يتعلق الأمر بمعالجة تفاصيل حياة الأشخاص، دونت تكليف النفس عناء التحقق من صحة المعلومات المدرجة. يعتبر كتاب وولمان بشكل من الأشكال إعادة نشر محينة لمجموع ما كتب إلى حدود ذلك التاريخ عن عبد الكريم وحرب الريف، حيث أخذ بعين الاعتبار بالخصوص كتبا كالذي ألفه الصحافي الأمريكي المشار إليه أعلاه ونعني به، أمريكي بين ظهراني الريفيين، ومضامين مقابلات أجريت مع عبد الكريم من طرف صحفيين من قبيل الأمريكي پول سكوت مووْرر Paul Scott Mowrer من صحيفة Daily Chicago News والبريطاني وارد پرايس Ward Price عن جريدة London Daily Mail ، بالإضافة إلى مقالات والتر ب. هاريس Walter B.Harris في مجلة التايمز The Times. ولا داعي للقول إذن، أن الأخطاء التاريخية والتأويلات المغلوطة والآراء المنحازة والمجحفة التي تجدها في كل تلك المصادر ستنتقل وتعاد في كتاب وولمان. إن هذا الأخير وفورنو بالطبع لم يعودوا إلى أي مصدر أرشيفي، وإن كان علينا أن نقر حتى نعفيهم من مسؤولية هذتا التقصير، بأن مثل هذه الوثائق حول عبد الكريم وحرب الريف لم تكن متاحة بعد في الستينيات من القرن الماضي، ولم تكن في متناول الدارسين إلا بعد مرور بضع سنوات أخرى، ومن المشكوك فيه على أي حال، أن يكونا قد عملا على تفحص هذه الوثائق حتى ولو توفرت هذه الإمكانية. الأمر الذي ينطبق حتى وولمان الذي يعتبر عمله أكثر جدية ولا مجال لمقارنته مع ما أنجزه فورنو، وذلك لأننا في الحالتين معا أمام عمل صحافيين وليس مؤرخين، مع كل احترامنا للصحفيين الذين نعتبر عملهم على العموم جديرا بالتكريم، ولا نود على الإطلاق الانتقاص من قيمته.

انعقدت بباري سنة 1973 بمناسبة الذكرى الخمسين لإعلان الجمهورية الريفية ندوة دولية وصدرت لاحقا، أي سنة 1976 عن دار النشر ماسپيرو مضامين المداخلات المقدمة خلالها ضمن كتاب حمل عنوان: Abd-el- krim et la République du Rif ، أي عبد الكريم وجمهورية الريف. وقُدمت خلال هذه الندوة التي كان لنا شرف المشاركة فيها بدعوة من السيد عبد الرحمان اليوسفي الذي سيصبح عدة سنوات بعد ذلك وزيرا أولا في الحكومة المغربية، وإن كان آنذاك لاجئا سياسيا في باريس، مداخلات هامة من طرف باحثين من مستوى جاك بيرك Jacques Berque وريجي بلاشير Régis Balchère وشارل أندري جوليان Charles-André Julien وڤانسان مونطيل وVincent Monteil روني ڭاليسوRené Gallissot. وكل هؤلاء متخصصين كبار في المواضيع المرتبطة بالعالم العربي عموما وشمال افريقيا على وجه الخصوص. بالإضافة إلى أنثروبولوجيين متخصصين في دراسة المجتمع القبلي الريفي كالأمريكي دايڤيد مونتڭومري هارت David Montgomery Hart وعلماء الاجتماع كالمغربي عبد الله العروي (5). تميزت هذه الندوة بإلقاء الضوء لأول مرة على جوانب من حركة المقاومة الريفية التي تزعمها عبد الكريم وتداعياتها ليس فقط في دول كإسبانيا وفرنسا بل أيضا على المستوى العالمي. تضمنت العديد من العروض المقدمة خلال هذه الندوة، وإن تباينت مستوياتها، معطيات هامة، وساهمت في توضيح قضايا محددة لم يشملها التحليل المفصل سابقا. تشكو هذه العروض، من وجهة نظرنا، من نقص يتمثل في عدم اعتماد أي منها على مادة أرشيفية والاكتفاء عموما بالمراجع المكتوبة الصادرة حول الموضوع، مع غياب الحس النقدي الكافي لتمحيص مصداقية ما يرد فيها، أو اللجوء إلى مضامين مناقشات البرلمانيين أو المادة الإعلامية في تلك الفترة. يبقى بالطبع الاعتماد على هذين المصدرين الأخيرين أمرا له ما يبره عندما يكون الهدف منه الاطلاع على موقف الرأي العام.

لكن يبقى العمل الذي مثل بحق قفزة نوعية فيما يخص البحث والدراسة حول عبد الكريم وحرب الريف هو الذي أنجزه جيرمان عياش Germain Ayache الصادر في باريس والرباط سنة 1981 والمعنون: Les origines de la guerre du Rif، أي: أصول حرب الريف. ويتميز هذا الكتاب أساسا بتسليط الضوء من جديد وإعادة التركيز على شخص عبد الكريم واضعا إياه في إطاره التاريخي الحقيقي، مع إعادة البناء الدقيقة لماضيه اعتمادا على وثائق لا يرقى إليها الشك، وهي مصادر أرشيفية استقاها بالخصوص من: el Archivo General Militar de Madrid، أي الأرشيف العام العسكري في مدريد. وهو إجراء ضروري، إن لم نقل لا غنى عنه، إذا كان الهدف هو فهم مسار حياة الرجل الذي سيصبح زعيم المقاومة الريفية. يتعلق الأمر بعمل رفيع المستوى فيما يخص توضيح وإزالة الغموض وتصحيح الوقائع التاريخية، ضدا على الاختلاف والافتراء، والأفدح من ذلك، أنصاف الحقائق التي رواها كتاب بالخصوص أثناء وبعد حرب الريف، والتي استمرت مع ذلك، كمراجع جعلت المستفيدين منها يكررون نفس أخطائهم أو يبتدعون أكاذيب جديدة. أزعج بالتأكيد كتاب أصول حرب الريف العديد من المتتبعين سواء منهم الذي كانت صورة عبد الكريم بمثابة تجسيد للزعيم «القاسي» و«المستبد» أو الذين جعلوا من عبد الكريم، نتيجة رد فعلهم ضد الكتاب المتشبعين بالأفكار الاستعمارية المتحاملة، أسطورة عملوا بشكل ممنهج على طمس أو تبرير الجزء المتعلق فيها بماضيه كمتعاون مع الإسبان. يجب أن نتحلى بالنزاهة الفكرية لنقر بالوقائع التاريخية التي تم التحقق من صحتها علميا اعتمادا على مادة وثائقية أصلية لا تدحض، بدل أن نخفيها أو نتجاهلها لأنها لا تروقنا أو نتعارض مع تاريخ «على المقاس» صيغ وفق إيديولوجيا معينة. إن التعاون السابق لعبد الكريم مع الإسبان لا ينقص في شيء من قيمته كزعيم للمقاومة الريفية. وهذا اعتقادنا ما توفق في توضيحه جيرمان عياش. لذا نتفق معه كليا فيما يخص دحض الأفكار الغربية لأولئك الذين يتبنون الفكرة القائلة بان تعاون عبد الكريم ووالده مع الإسبان في تلك الفترة كان متعمدا نوعا ما، بهدف واحد هو التعرف على نواياهم والاطلاع على طرق القتال التي سيستعملونها يوما ما ضد الريفيين. وإذا كان عدد أولئك الذين يتمادون في تكرار مثل هذه الأفكار في الوقت الراهن محدودا، نظرا لاذعان الأغلبية لقبول الحقائق التاريخية التي كشفت عنها المادة الوثائقية، فإن بعض الهواة في مجال التاريخ الذين يرفضون قبول مرحلة تعاون عبد الكريم مع إسبانيا، تبنوا مؤخرا نظرية لا تقل غرابة وتستند في الواقع إلى نفس المبادئ المؤسِّسة للفكرة السابقة، تتحدث عن منظمة سرية ريفية مزعومة نجد من بين أعضائها عبد الكريم الأب وابنه ومحمد أزرقان الذين تظاهروا بكونهم أصدقاء للإسبان بهدف وحيد هو التعرف بشكل أفضل على خططهم والتمكن بالتالي من محاربتهم على نحو فعال عندما يحين الوقت لذلك. وكل هذا باتفاق مسبق مع الشريف أمزيان زعيم المقاومة الريفية سنة 1909 والسنوات اللاحقة حتى تاريخ استشهاده سنة 1912. وتفتقر هذه النظرية بالطبع لأي أساس نظرا لعدم وجود أي مادة وثائقية تدعمها.

سيصدر سنة 1986 عمل ريتشارد پينيل باللغة الانجليزية المعنون:

A country with a Government and a Flag: The Rif War in Morocco, 1921-1926

أي: دولة بحكومة وراية: الحرب الريفية في المغرب (1921-1926). وسينشر لاحقا في نة 2001 نف العمل باللغة الإسبانية تحت عنوان:

La guerra del Rif: Abd-el-Krim El Jattabi y su Rifeño

أي: حرب الريف: عبد الكريم ودولته الريفية. يتطرق پينيل بشكل سريع للمراحل السابقة للحرب ليركز بالخصوص على الفترة الممتدة ما بين 1921 وتاريخ انهزام عبد الكريم سنة 1926. ويشير في مقدمة كتابه (في النسخة الإسبانية) إلى أن عمله لا يتطرق إلى الحملات العسكرية أو التداعيات السياسية لهذه الحرب في أوروبا، مادام هذا الموضوع قد عولج من طرف باحثين آخرين، بل إلى الريف خلال هذه الفترة وكيفية نشوء البنيات السياسية والاجتماعية الجديدة. لكن للوصول إلى هذه النقطة وتفسير كيفية تمكن عبد الكريم من أخذ زمام قيادة المقاومة وإقرار سلسلة من الإصلاحات، كان يجب على المؤلف، حسب اعتقادي، أن يخصص حيزا أكبر للمرحلة السابقة للمواجهة بينه وبين الإبان أولا ثم الفرنسيين لاحقا. أما مسألة دراسة جيرمان عياش لهذه المرحلة بشكل مفصل اعتمادا على وثائق الأرشيف العام العسكري في مدريد، فلا يجب أن تعتبر سببا كافيا يعفي الآخرين من التطرق إليها. إذ يمكن دائما العثور على وثائق جديدة ضمن الربائد المذكورة، خصوصا وأن التوثيق بهذا الأرشيف كان يتسم في مرحلة السبعينيات من القرن الماضي التي عاين فيها جيرمان عياش هذه الوثائق، بالفوضى وانعدام الترتيب والنظام. اعتمد پينيل بالأساس فيما يخص الفترة المعينة بالدراسة على أعمال الأنثروبولوجي الأمريكي دايڤيد مونتڭومري هارت، وتقارير المخبرين الريفيين العاملين لصالح اسبانيا التي توجد بالأرشيف العام العسكري في مدريد، ووثائق الأرشيف العسكري في ڤانسين Vincennes، وما يعرف بـ«مذكرات» محمد أزرقان، وزير الخارجية في حكومة عبد الكريم، التي كان قد أملاها على أحمد سكيرج، والعمل الذي أنجزه حول حرب الريف أحمد البوعيشاي نجل أحد القادة العسكريين الريفيين [حرب الريف التحريرية ومراحل النضال، في جزأين]. يحيل پينيل أيضا إلى الوثائق الموجودة في أرشيف وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية «المصادرة من الريفيين». وتشكل هذه الوثائق في الواقع، وإن لم يفصح عن ذلك پينيل، أرشيف عبد الكريم، أي مجموع الوثائق التي استولى عليها الفرنسيون غداة استسلام الزعيم الريفي يوم 27 أيار/مايو من سنة 1926، التي توجد ضمن ربائد كي دورسي Quai d’Orsay، بدورها جزءا من محافظ عديدة تحمل اسم: «Papiers d-Abd-el-Krim»، أي «وثائق عبد الكريم». والغريب في الأمر أن پينيل لم يستغل بشكل جيد هذه المادة، رغم اعتباره لها، وهو محق في ذلك، بالغة الأهمية. نشير أخيرا إلى الأرشيف العام للإدارة el Archivo General de la Adminstración المعروف اختصارا بـ(AGA) الذي أصبح يحتضن منذ عقد الثمانينيات الربائد القديمة للحماية الإسبانية في المغرب، ويحتوي على وثائق قيمة جدا حول عبد الكريم وحركة المقاومة الريفية، هذه الوثائق التي يقول پينيل أن لم يتمكن من معاينتها نظرا لكونها غير متاحة للعموم.

صدر سنة 1999 للصحافية المغربية زكية داود كتاب باللغة الفرنسية يحمل عنوان: Abd-el-Krim. Une épopée d’or et de sang. أي: عبد الكريم ملحمة الذهب والدم. ويستند هذا العمل المتميز بسهولة ومتعة القراءة لكونه موجها للجمهور العريض، إلى الكتابات الصادرة في تلك الفترة بالإضافة إلى المصادر الحديثة. كما لا يحمل بالنسبة للمطلع العارف للموضوع أي جديد لم يتطرق إليه الكتاب السابقون، بما في ذلك أخطاءهم. علاوة على أن المؤلفة في اعتمادها على كتاب تتباين جودة أعمالهم، لم تميز بين من يتصف منهم بالصرامة العلمية نظير جيرمان عياش، ومن يفتقد كليا للجدية كروجي ماثيو، مما أفقد عملها المصداقية المطلوبة. ارتكبت المؤلفة، من جهة أخرى، أخطاء فادحة عندما نسبت كتبا لغير مؤلفيها الحقيقيين كما هو الشأن بالنسبة لحالتنا، حيث نسبت إلينا كتاب: Les Espagnoles devant les campagnes du Maroc de 1909 à 1914

أي: الإسبان أمام الحملات العسكرية في المغرب ما بين 1909 و1914، واعتبرته أطروحتنا لنيل الدكتوراه في حين أنه عمل الفرنسية أندري باشو André Bachoud. هذا في الوقت الذي لم تذكر فيه عنوان أطروحتنا، الأمر الذي ينهض دليلا على عدم اطلاعها على عملنا هذا أصلا. ولو فعلت لربما تفادت العديد من الهفوات، نذكر منها الإشارة إلى البريطاني جون أرنال Jhon Arnall باسم أزنيل Aznell الذي لا نعلم من أين أتت به. وهذا ليس مرة واحدة حتى نفسره بالخطأ المطبعي، بل كلما ذُكر في المتن. أخطاء من هذا النوع تدفعنا إلى الظن بأن الكاتبة لم تطلع بشكل مباشر على المراجع التي أوردتها بل عهدت بهذه المهمة إلى باحثين آخرين قد تنقصهم الدقة أو الأمانة العلمية، أو بصيغة أخرى استغلت مجهود شخص أو أكثر عملوا في الخفاء لتنسب نتائج كدهم لنفسها.

وعلاقة بجوانب أخرى كتعاون عبد الكريم مع الإسبان تستند زكية داود إلى جيرمان عياش الذي حسب قولها «يقدم معطيات مدققة وفيرة حول الموضوع»، لتضيف «أن هذه الأطروحة تبقى مثار جدال، بل ومرفوضة في المغرب. رغم أنها تنبني على التفحص الدقيق لوثائق الأرشيف الاسباني التي يبدو من الصعب تفنيدها. كما أن هذه الأطروحة تدعمها في جزء منها أعمال أخرى صدرت حول عبد الكريم خلال الفترة الممتدة من 1925 إلى 1929، وكذا تصريحات الزعيم الريفي نفسه التي ضمنها روجي ماثيو في “مذكراته”». لا نعتقد من وجهة نظرنا أن بالإمكان أن نضع على قدم المساواة وثائق الأرشيف التي اطلع عليها عياش، وما ترويه الكتابات الأخرى حول عبد الكريم ما بين 1925 و1929، وبالخصوص تلك «المذكرات» المشهورة. وغني عن القول أن الأولى بالخصوص، أي وثائق الأرشيف، هي التي نعتقد بوجوب أخذها بعين الاعتبار كحجج لا تدحض للدلالة على تعاون عبد الكريم مع إسبانيا. هذه الفكرة التي يرفض العديد من المغاربة الإقرار بها، كما أسلفنا الذكر. وقد أبانت زكية داود عن جهلها للأرشيف الاسباني عندما كتبت: «أن الفظائع التي اقترفها الإسبان والتي تعرضوا لها بدورهم دفعتهم، حسب بعض الشهود، إلى منع غير الإسبان من الاطلاع على أرشيف بلادهم الذي أودعوه في موضع جبلي يبعد عن مدريد بحوالي مائة وخمسين كيلومترا، هو سلسلة جبال وادي الحجارة La sierra de Guadalajara» [!!]. إننا لا ندري من أين استقت زكية داود هذه الحكاية الغريبة التي تفتقر كليا لأي أساس وقمينة بأن تصنف خرافة محض. والحقيقة أن كل الوثائق المرتبطة بحرب الريف محفوظة بالأرشيف العام العسكري بمدريد الذي كان يسمى سابقا مصلحة التاريخ العسكري Servicio Histórico Militar، والتي بإمكان الإسبان والأجانب الاطلاع عليها بحرية دون قيد أو شرط. وهذا ما نشهد عليه ونؤكده شخصيا. وإذا كان جيرمان عياش قد تمكن من الاطلاع عليها في السبعينيات من القرن الماضي دونما عراقيل، فإن الاطلاع عليها في التسعينيات حينما كانت زكية داود بصدد تأليف كتباها الذي صدر سنة 1999، سيكون منطقيا أمرا هينا ومتاحا. التمست اللجنة الخاصة بالحملات العسكرية في المغرب La Comision de las Campañas de Marruecos التي تأسست بموجب المرسوم الملكي سنة 1927 الحصول على هذه الوثائق التي كانت بحوزة القيادة العامة بمليلية La Comandancia General de Melilla. وعلى إثره نُقلت من وزارة الدفاع إلى المقر الذي حمل نفس اسم اللجنة المذكورة. وقد أنيطت مهمة تدبير هذا الأرشيف لتلك اللجنة إلى مصلحة التاريخ العسكري (SHM) التي تأسست سنة 1939 لتحل محل مصلحة أرشيف الحربية السابقة، فأدمجته ضمن جناح إفريقيا. يتعلق الأمر بجناح أصبح في وقتنا الراهن جزء كبير من وثائقه مصورا على أشرطة ميكروفيلم. وإن بقيت وثائق عديدة أخرى مودعة في الصناديق. ومما يؤسف له أن عملية التصوير هذه أنجزت قبل تنظيف الأرشيف، الأمر الذي جعل هذا الكم الوثائقي في وضعية فوضى وسوء الترتيب. وابتداء من سنة 1998 أصبحت مصلحة التاريخ العسكري تحمل اسم الأرشيف العام العسكري بمدريد الذي وجد مقره داخل المعهد العسكري للتاريخ والثقافة El Instituto de Hitoria y Cultura Militar. ومنذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي أصبحت الربائد العسكرية تتوفر على طاقم تقني مكون من قيمي المكتبات ومحافظي الأرشيف تابعين للوظيفة العمومية.

يتضمن عمل زكية داود، من جهة أخرى، كثيرا من الأخطاء، سواء منها المتعلقة بالجانب الإسباني أو الريفي. إذ تؤكد على سبيل المثال، أن الجنرال پريمو ذي ريبيرا Primo de Rivera خلف الجنرال بيرينڭر Berenguer إثر استقالته في تموز/يوليو من سنة 1922، في حين أن هذا المنصب قد تناوب عليه، قبل أن يتقلده پريمو ذي ريبيرا سنة 1924، كل من الجنرال بورڭيتي Burguete ولويس سيلبيلا Luis Silvela والجنرال أيثپورو Aizpuru. أما في يخص الجانب الريفي، وعلى سبيل الذكر فقط مرة أخرى، نقتصر على الخطإ المتكرر المتمثل في اعتبار بوجيبار زوجا لإحدى أخوات عبد الكريم. لقد كان بوجيبار فعلا صهرا لعبد الكريم، لكن ليس نتيجة الاقتران بأخته بل لأن شقيقته هي إحدى زوجتي الزعيم الريفي. ويتكرر هذا الخطأ الذي ربما يعود إلى دايڤيد مونتڭومري هارت، لدى كتاب آخرين مثل پينيل.

توجد بالإضافة إلى الأعمال المذكورة المنجزة بالخصوص عن عبد الكريم، أخرى تحتل فيها شخصيته مكانا بارزا. فقد أفردنا بدورنا جزءا هاما حول شخصيته وحركة المقاومة الريفية التي تزعمها في أطروحتنا لنيل الدكتوراه المقدمة بجامعة باريس I (پانتيون-السوربون) المعنونة: L’Espagne et le rif. Pénétration coloniale et résistances locales (1909-1926) أي: إسبانيا والريف، التغلغل الاستعماري والمقاومة المحلية (1909-1026)، التي ستصدر لاحقا في كتاب باللغة الإسبانية بعد التعديلات والتغييرات العديدة، حمل عنوان: España y el Rif. Cróncia d una hitoria casi olvidada أي: إسبانيا والريف، أحداث تاريخ شبه منسي (الطبعة الأولى سنة 1999 والثانية سنة 2000 والثالثة سنة 2008). وقد اعتمدنا بالأساس في كل ما يتعلق بعبد الكريم على المادة الوثائقية المسماة «وثائق عبد الكريم» التي سبقت الإشارة إليها، والموجودة في كي دورسي. هذه الوثائق التي يمكن اعتبارها مكملة لمثيلتها بالأرشيف العام العسكري في مدريد، والتي ذكرها عياش لكنه لم يتمكن من الاطلاع عليها في تلك الفترة لأنها لم تكن في عقد السبعينيات متاحة بعد للعموم. وقد خصصنا لاحقا فصلا كاملا لعبد الكريم وحركة المقاومة الريفية في كتابنا: En el Barranco del Lobo. Las Guerras de Marruecos

أي: في خندق الذئب، معارك المغرب (الطبعة الأولى سنة 2005 والثانية سنة 2006)، فضلا عن مساهمتها الأخرى في العديد من المناسبات، قدمناها في شكل مقالات أو مداخلات خلال مشاركتنا في المؤتمرات أو المنتديات المنظمة حول شخصيته. خلاصة القول أن هذه الشخصية احتلت دائما ومنذ عدة سنوات مركز اهتمامنا فيما يخص الدراسات التي أنجزناها حول الريف. لهذا الاعتبارات نعتقد أنه قد حان الوقت لتخصيص مؤلَّف كامل لهذا الزعيم. لا يمكننا الجزم أن هذا العمل هو بالضبط ترجمة حياة، على الأقل ليس بالطريقة التقليدية المعهودة. هذا في الوقت الذي شكلت فيه حياة عبد الكريم جزءا مكملا لتاريخ الريف في الربع الأول من القرن العشرين، بالإضافة إلى حياة أشخاص عديدين آخرين ساهموا أيضا في صناعة هذا التاريخ. لذا فضلنا أن يكون هذا العمل حول تاريخ مجموعة، وإن برز ضمنها عبد الكريم كبطل رئيسي. من المؤكد أنه لا يمكن اختزال المقاومة الريفية في شخص عبد الكريم وحده، لكن صحيح أيضا أنه لا يمكن تصور هذه المقاومة التي عرفها الريف في العشرينيات من القرن الماضي بدونه. تجب الإشارة، مع ذلك إلى أن نضال عبد الكريم من أجل الحرية والاستقلال لم ينته في شهر أيار/مايو من سنة 1926، تاريخ استسلامه للسلطات الفرنسية إثر الهجوم العسكري الكاسح للقوات الفرنسية الإسبانية المشتركة الذي ابتدأ مع عملية إنزال الحسيمة في أيلول/سبتمبر من سنة 1925، بل يمتد إلى فترَتي نفيه إلى جزيرة لاريينيون ثم لاحقا إقامته في مصر حتى وفاته في شباط/فبراير من سنة 1963، هاتين الفترتين اللتين خصصنا لهما الفصل الأخير من هذا المؤلَّف. استفدنا بالنسبة لهذه المرحلة التي لم نعالجها بنفس التروي والتفصيل مقارنة مع سابقاتها من مراجع غريبة بالإضافة إلى أخرى عربية، نذكر منها بالخصوص كتاب محمد أمزيان نجل محمد سلام أمزيان قائد انتفاضة الريف في 1958-1959، المعنون: محمد عبد الكريم الخطابي: آراء ومواقف، 1926-1963، الصادر في الرباط سنة 2002، والذي يشكل خلاصة أبحاثه لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الحديث من جامعة بغداد سنة 1988.

استعنا بالطبع خلال إعداد هذا المؤلف بأعمالنا السابقة التي كنا قد خصصنا عدة صفحات منها لشخصية عبد الكريم، كما سبق الذكر. وحسب تصورنا لهذا العمل كان ضروريا العودة إلى مرحلة تعاون عبد الكريم مع إسبانيا رغم أنها كانت قد حظيت بالدراسة من قبل، وإن كنا في حالتنا هذه قد اطلعنا بشكل مباشر ومستفيض على المادة الوثائقية المحفوظة في الأرشيف العام العسكري في مدريد بهدف إضافة معطيات ومعلومات جديدة إلى الموضوع. وعلاقة بأبحاثنا في هذا الأرشيف نود أن نتقدم بالشكر هنا للعاملين بهذه المؤسسة وماريا خيسوس فرانكو دوران María Jesús Franco Durán رئيسة قسم المستندات ولويس ماتييو Luis Mateo على اهتمامه ولطفه ومساعدته القيمة خلال البحث عن المادة الوثائقية. وتجدر الإشارة بهذا الصدد أن إحالات المراجع في الأرشيف العام العسكري في مدريد لا تتطابق مع التي أوردها عياش، نظرا لتغير ترقيم الفهرسة والتسميات التي كانت تحملها تلك المراجع آنذاك. وبالإضافة إلى المادة الوثائقية في الأرشيف العام العسكري في مدريد وأرشيف كي دورسي Quai d’Orsay، فقد استعنا بأخرى في ربائد المؤسسات التالية: مكتب الجل العام التابع لوزارة الخارجية في لندن Foreign Office/Public Record Office، والأرشيف العسكري بڤانسين في باريس (القوات البرية)، ووزارة الشؤون الخارجية الإسبانية (وزارة الدولة سابقا)، وعصبة الأمم في جينيف، والأرشيف العام للإدارة في ألكالا دي إيناريس (قلعة إيناريس)، هذا الأرشيف الأخير الذي يتوفر على مادة جد قيمة حول الموضوع الذي نحن بصدد معالجته.

إن اعتبارنا للمادة الوثائقية كمصدر أساسي في أي بحث لا يمنعنا، مع ذلك، من استحضار مصادر أخرى للمعلومات كالصحافة وأعمال كتاب تطرقوا لتلك المرحلة، بمن فيهم بعض الكتاب العرب، والمصريين منهم على وجه الخصوص الذين نشير إليهم في البيبليوغرافيا، وإن استند هؤلاء أساسا إلى المصادر الغربية لاستقاء معلوماتهم واعتمدوا على المادة الصحفية عمما. تحظى بالأهمية أيضا الشهادات الشفوية للأشخاص الذين عايشوا عن قرب تلك الأحداث والذين كانت لنا فرصة لقائهم خلال زيارتنا الدراسية في المغرب صيف سنة 1969. ويوجد من بين هؤلاء أفراد ذوي أهمية بالغة كمحمد بوجيبار، الوزير السابق في حكومة عبد الكريم الذي زرناه في منزله في الدار البيضاء، والذي نحتفظ بشهادته مسجلة على شريط. أما بالنسبة لمرحلة إقامة عبد الكريم في القاهرة، فتكتسي أهمية أيضا المقابلة التي أجريناها في نفس هذه الفترة في الرباط مع علال الفاسي الذي لا تختفى على أحد خلافاته مع عبد الكريم. ونتذكر بالخصوص بالنسبة لهذه الرحلة الدراسية الراسخة في أذهاننا التي جلنا خلالها في مجموع الريف، والتي تميزت بالزيارة الضرورية إلى الحسيمة والإقامة في طنجة وتطوان والدار البيضاء، هذه المدينة الأخيرة التي عرجنا منها على الرباط والقنيطرة، نتذكر المقابلتين اللتين كانتا لنا في الدار البيضاء مع محمد بوجيبار وفي القنيطرة مع الدكتور عمر الخطابي نجل عبد السلام الذي هو عم عبد الكريم.

نشير أخيرا، وإن لم تكن بالضرورة الأقل أهمية، إلى المساعدة التي قدمتها لنا عائشة الخطابي، البنت الصغرى لعبد الكريم، التي كانت بالنسبة لنا ذات قيمة لا تقدر بثمن، لذا نود هنا التعبير لها عن شكرنا وامتنانا. تعرفنا على عائشة منذ سنوات عدة تمتد إلى تاريخ إجراء مقابلتنا مع محمد بوجيبار الذي اقترنت بابنه مصطفى، حيث كانت حاضرة أثناءها. كان الزوجان الشابان آنذاك يقيمان بالدار البيضاء، وكان محمد بوجيبار حماها وخالها في نفس الوقت لكونه شقيقا لأمها يقيم معهما. قابلنا عائشة وزوجها مرة أخرى في التسعينات من القرن الماضي في باريس، وعندما ربطنا الاتصال بها سنة 2006 بهدف الإعداد لهذا الكتاب عربت دائما عن استعدادها الكامل لتوفير كل المعلومات التي باستطاعتها الإدلاء بها حول والدها. وقد أرسلنا إليها بالتالي استمارة تتضمن مجموعة من الأسئلة أجابت عنها مشكورة، سواء عن البريد الالكتروني بمساعدة ابنها منير، أو من خلال محادثتنا المتكررة عبر الهاتف أو في منزلها في الدار البيضاء. كانت أغلب الأسئلة مرتبطة بالأساس بمعطيات أو معلومات عن عائلة الخطابي وطبيعة القرابة العائلية بين أفرادها، بالإضافة إلى الجوانب الإنسانية في شخصية عبد الكريم. وهذا لأن هدفنا كان بالفعل تقديم هذه الشخصية ليس فقط في بعدها التقليدي كزعيم سياسي، بل أيضا في بعدها الإنساني، كالحديث مثلا، عن صفته كأب لأحد عشر طفلا من ضمنهم خمس بنات. ويلاحظ بهذا الصدد أن بعض الصور المدرجة في هذا الكتاب هي لنساء، ومنها بالخصوص واحدة لثايمونث زوجة عبد الكريم التي تنشر لأول مرة، وأخرى لكريماته الخمس. ندين بالفضل فيما يخص حصولنا على هذه الصور لعائشة الخطابي التي نود بالمناسبة شكرها مرة أخرى. كما أن نشرنا لها هو أيضا بهدف تكريم المرأة الريفية والإشادة بها.

لا يسعنا في هذه المقدمة إلا أن نشير أيضا إلى العمل الأخير، حسب علمنا، الصادر حول هذا الموضوع الذي وإن لم يخصص لشخصية عبد الكريم بالتحديد، إلا أنه يتطرق إليها ضمن السياق العام لحرب الريف. ويتعلق الأمر بالكتاب المعنون: La Guerre du Rif. Maroc. 1921-1926 أي: حرب الريف. المغرب. 1921-1926، لصاحبيه الفرنسيين المحامي ڤانسان كورسيل-لابروس Vincent Courcelles-Labrousse والصحافي نيكولاس مارميي Nicolas Marmié والصادر في نيسان/ابريل من سنة 2008. ونظرا لصدوره في فترة كان فيها تحرير محتويات عملنا في مراحله المتقدمة، وإن كان علينا أن ننهي أشواطا أخرى متبقية، فقد كان يحدونا الأمل أن نجد فيه إضافات جديدة إلى الموضوع الذي نحن بصدد معالجته. لكن للأسف يبقى الانطباع الذي نستخلصه من قراءتنا لهذا العمل هو أنه مجرد تكرار لما سبق. يفتقر أيضا إلى الهوامش الأمر الذي يسهل معه اقتباس أجزاء من أعمال مؤلفين آخرين دون محاسبة، نظرا لغياب أية إحالة إلى المراجع الأصلية للمعلومات المدرجة. ونقدم هنا مثالا يمسنا بشكل مباشر، فقد اشرنا في كتابنا، في خندق الذئب، معارك المغرب، إلى رسائل التضامن مع عبد الكريم التي تم التوصل بها في عصبة الأمم، ليس فقط الواردة من دول العالم الإسلامي بل أيضا من مناطق أخرى كالتي أرسلتها فدرالية نساء السود في شيكاغو نيابة عن خمس مائة هيئة قدمت التماسا لصالح الريفيين. يورد كورسيل لابروس وزميله مارميي هذه الرسالة، لكن دون الإشارة إلى المرجع الذي هو كتابنا، والذي أدرجنا به هذه المعلومة التي استقيناها بدورنا من أرشيف عصبة الأمم في جنيف. ولدينا القناعة أن لا أحد منهما زار يوما هذه المؤسسة أو أي أرشيف آخر تمت الإحالة إليه كأرشيف الجيش في ڤانسين أو أرشيف نانت، الخ. هذه المصادر التي تم إدراجها ضمن باقي البيبليوغرافيا دون أي تمييز بين الصنفين، خلافا لما هو متعارف عليه بين المؤرخين، حيث يعتبر الصنف الأول «مصادر في شكل مخطوطات». يخامرنا الشك أيضا فيما إذا كانا قد اطلعا بالفعل على أغلبية الأعمال المتضمنة في البيبليوغرافيا ونظن أنهما اقتصرا على نقل عناوينها من مصادر أخرى. هذا دون إغفال بعض الأخطاء الفادحة كالقول بأن عبد الكريم الأب قد أرسل ابنه الأصغر امحمد للدراسة في فاس سنة 1902 صحبة أخيه الأكبر محمد. لقد اتجه هذا الأخير، الذي نعرفه باسم عبد الكريم والذي كان عمره عشرين عاما، فعلا في هذا التاريخ إلى فاس، لكن لا يعقل أن يقوم أخوه الأصغر الذي ولد سنة 1897 بنفس الشيء مادام عمره لم يكن قد تجاوز آنذاك الخمس سنوات! وقد أرسله أبوه للدراسة ليس في فاس، بل في مليلية وفي نفس المدرسة التي اشتغل فيها أخوه الأكبر كمدرس، وكان ذلك سنة 1907 عندما كان عمر امحمد عشر سنوات. ويمكننا ذكر أخطاء عديدة من هذا النوع لكن من الأفضل صرف النظر عن الأمر.

وأخيرا ونحن بصدد وضع اللمسات الأخيرة على عملنا هذا كان من حسن الصدف أن تقع بين يدينا نسخة من «مذكرات» غير منشورة لعبد الكريم، ليست مزيفة «كمذكرات» روجي ماثو بل حقيقية حررها الزعيم الريفي نفسه. لكن لسوء الحظ لا يتعلق الآمر بالنسخة الأصلية باللغة العربية التي لم تجد بعد طريقها إلى النشر لتأخذ موقعها الطبيعي، بل بترجمتها إلى اللغة الفرنسية التي أنجزها منذ عدة سنوات الفقيد التهامي الزموري، الباحث المغربي الذي وافته المنية قبل الأوان وهو لا يزال في ريعان شبابه. ترجمة لدينا الثقة الكاملة في نزاهتها، وإن كان من غير المستطاع مقارنتها مع النسخة الأصلية بالعربية. لقد كتبت هذه «المذكرات» التي سنسميها «مذكرات جزيرة لاريينيون» اقتداء بجيرمان عياش وإن أوردها بصيغة المفرد، بالفعل من طرف عبد الكريم بُعَيد وصوله إلى الجزيرة المذكورة، أي ما بين شهري تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر من سنة 1926، على افتراض أن صاني Sagnes الضابط المكلف بمهام الترجمة الذي رافق عائلة الخطابي في الباخرة التي أقلتهم إلى المنفى قد عاد إلى أوروبا في أواخر نفس السنة واحضر معه بالتالي تلك «المذكرات». ويتسم هذا العمل بالاقتضاب والإيجاز، الأمر الذي يمكن تفسيره بقصر مدة انجازه التي لم تتجاوز الثلاثة أشهر، لكنه يتميز بالمقابل بالمعالجة الطرية للأحداث التي كانت حيثياتها لا تزال حية في الذاكرة. ورغم عدم تدقيق الزعيم الريفي في بعض المواضيع واقتصاره على الإشارة العرضية إلى بعض النقط، إلا أن ملاحظاته تكتسي أهمية خاصة لكونها تكشف عن آرائه فيما يخص مختلف القضايا. كما أن العديد من المعلومات الواردة في هذه «المذكرات» تتطابق مع مضمون الوثائق التي تمكن من الاطلاع عليها في مختلف الربائد. غير أنها لا تكشف في المقابل، عن أي تصريحات مثيرة. إذ علينا أن نأخذ بالحسبان أيضا أن عبد الكريم لم تكن له إمكانية التعبير بكل حرية فيما يخص بعض القضايا المحددة. فلا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن وضعه كمنفي تحت الحماية الفرنسية لا يسمح له بهذا النوع من المخاطرة، بل سيتجنبها بدوره لان ما كان يهمه بشكل أساسي في ذلك الوقت هو التفكير في طريقة تنهي بأسرع وقت ممكن فترة المنفى.

وعلى سبيل الختم، نود الإشارة إلى أن هذا العمل يهدف إلى الوصول إلى جمهور واسع، أو إذا شئنا، إلى اكبر شريحة ممكنة، بمعنى أنه موجه للجمهور المتعلم غير المتخصص. لكن هذا الهدف لا يمنع من أن يكون في نفس الوقت موثقا على أحسن وجه، دون الغلو في إيراد المعطيات، الأمر الذي سيجعله غير مستساغ بالنسبة للقارئ العادي. نود أن نكون قد حققنا، ولو جزئيا، هذا الهدف المنشود.

**********************

ماريا روسا ذي مادارياغا:

حصلت على الإجازة في الفلسفة والآداب من جامعة كومبلوتينسي بمدريد. نالت دبلوم اللغة والأدب العربي من المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس. حصلت على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة باريس I (بانتيون- السربون). عملت مدرسة للغة والحضارة الاسبانيتين بجامعة باريس IV ، ثم اشتغلت عدة سنوات موظفة دولية باليونسكو.

من بين مؤلفاتها، إضافة إلى المقالات المتعددة، خصوصا منها المتطرقة إلى العلاقات المغربية الاسبانية، والصادرة في مختلف الدوريات والمجلات الاسبانية والأجنبية :

– اسبانيا و الريف، أحداث تاريخ شبه منسي (الطبعة الثانية ؛2000)

– مغاربة في خدمة فرانكو، الحرب الأهلية الاسبانية (2002)

– في خندق الذئب، حروب المغرب (2005)

– محمد بن عبد الكريم الخطابي و الكفاح من أجل الاستقلال (2009)

– المغرب هذا البلد المجهول لدينا إلى حد بعيد. تاريخ موجز عن هذه المحمية الاسبانية (2013).

———–

هوامش

(1)- لم تذكر المؤلفة اسم صاحب هذا الكتاب، ويتعلق الأمر برافائيل لوبيث رييندا Rafael Lopez Rienda، العسكري برتبة رقيب ضمن الجنود النظاميين في العرائش والمراسل الحربي للعديد من الجرائد منها El Sol وEl Telegrama del Rif وEl Defensor de Granada (2)- الاسم الكامل للكاتب هو: Rebels in the Rif: Abd el-Krim and the Rif rebellion، أي ثورا الريف في الريف: عبد الكريم والثورة الريفية. (المترجمون)

(3)- قد يُعذر هنا فورنو إذ أن وادي أمقران يسمى أيضا عند منابعه وادي إڠار مارواسْ، الاسم الذي سيتحول بعد التحريف الذي يمس عادة جل الأسماء الأمازيغية إلى أقرموس. (المترجمون)

(4)- يعود تاريخ نفي محمد الخامس بالضبط إلى 20 آب/أغسطس من سنة 1953. (المترجمون)

(5)- يعتبر عبد الله العروي بالأحرى مفكرا ومؤرخا وروائيا أكثر منه عالما اجتماعيا. (المترجمون)

شارك المقالة

اقرأ أيضا