بن بركة: حدود خط النضال الوطني البرجوازي

سياسة5 ديسمبر، 2017

تحل ذكرى اغتيال المهدي بن بركة، ومنفذو الجريمة لا زالوا «أحرارا»، أحرار في اقتراف المزيد من جرائمهم الاقتصادية والسياسية، ويظهر القمع العنيف لانتفاضة كادحي الريف (شهيدين ومئات المعتقلين وعشرات المعطوبين) سلامة جهاز القمع الذي نفذ جريمة اختطاف بن بركة رغم مساحيق عملية الإنصاف والمصالحة.
تحل ذكرى الجريمة، وجثة بن بركة لا زالت متوارية، والمطالب والمهام التي سعى لتحقيقها ما تزال مطروحة على جدول أعمال النضال بالمغرب. لكن ليس فقط جثة المعارض هي الغائبة، بل أيضا تقييم حقيقي وصحيح لمعارضته، وعما كانت تعبر سياسيا وطبقيا.
بعد اختفاء بن بركة استحال إرثه السياسي اتجاهات متنافرة، تغذى منه أغلب الجسم المحسوب على اليسار بالمغرب، الجذري منه والليبرالي، ولا زال ظله، أو ظل أطروحاته، يخيم على النضال من أجل الديمقراطية، سواء في استحضار استشهاده، أو المطالب التي رفعها، أو أساليب النضال من أجلها.
لا بد أن بؤس الحياة السياسية الراهنة يضخم حجم بن بركة وعمله السياسي، دون إنكار رصيده النضالي وتحديده الدقيق لمهام نقل المغرب من بلد متخلف إلى بلد «حديث»، ومساهمته النضالية في النضال العالم الثالثي- إلى جانب جيفارا ورموز أخرى للدول حديثة الاستقلال- ضد الاستعمار والتبعية للإمبريالية.
ليست غاية المقال تحجيم بن بركة ولا نضاله من أجل تحديث البلد و»دمقرطته»، بل إدراك حدود هذا النضال من خلال إدراك ما كان يمثله بن بركة طبقيا وسياسيا في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ مغرب الاستقلال.
بن بركة مناضلا وطنيا
انتمى بن بركة إلى الجيل الشاب للحركة الوطنية، التي مثل «حزب الاستقلال» عمودها الفقري السياسي، الحزب البرجوازي الذي سعى جاهدا للاستئثار بقيادة نضال الشعب المغربي ضد الاستعمار الفرنسي، بعد هزيمة المقاومة المسلحة في الأرياف والجبال، ولكن مع حصره في حدود مصلحتها الطبقية: استقلال سياسي يمنح السلطة للبرجوازية وبالتالي الحفاظ على جهاز الدولة كما بناه نظام الحماية مع تحديثه بطريقة تمنح البرجوازية أكبر قدر من السلطة، والحفاظ على موقع محدد للملكية داخل هذا الجهاز، واقتصاد رأسمالي عصري مستقل يضمن لها حصتها في قسمة عمل دولية محددة إمبرياليا.
كان ممكنا لهذا الجيل الشاب- الميال إلى التجذر- أن ينتمي إلى الحزب الشيوعي، لكن موقف هذا الأخير الرافض لمطلب الاستقلال نفره.
في سياق استئثارا لحركة الوطنية البرجوازية بقيادة نضال المغاربة من أجل الاستقلال، أصبح بن بركة رمزا من رموز حزب ونضال وطنيان يعبران لا عن مصالح «الشعب» عامة في الاستقلال، ولكن عن مصالح طبقة برجوازية ناشئة يزاحمها الاحتكار والقمع الاستعماريين. هذه القاعدة الطبقية هي التي وجهت، ولكن أيضا وضعت حدودا لنضال بن بركة ليس فقط قبل الاستقلال ولكن أيضا بعده في «صراعه» مع الحسن الثاني.
بن بركة: ملكيا دستوريا
حرص حزب الاستقلال، منذ تأسيسه، على محاربة كل التيارات التي تنظر إليها الملكية بعين الشك أو الحذر، الحزب الشيوعي وحتى حزب الشورى والاستقلال الذي كان يضم تنويعات من الجمهوريين إلى الملكيين الدستوريين.
يعود ذلك إلى ضعف الحركة الوطنية البرجوازية، غير القادرة على حكم بلد متخلف ترك الاستعمار بنيته الاقتصادية جد متخلفة ومتفجر سياسيا ومتنوع «اثنيا»، وكانت هذه البرجوازية ترى في الملكية ضامنة الوحدة والاستقرار السياسي.
لعبت الحركة الوطنية دورا كبيرا في بناء شرعية ملكية أصبحت نسيا منسيا بسبب غياب أي دور لها في النضال ضد الاستعمار، إن لم نقل تواطؤها في إخماد المقاومة المسلحة.
لم يكن دعم بن بركة للملكية دون مقابل، بل مقايضة/ صفقة سياسية، تليق برأسمالي حقيقي: «لكننا فعلنا كل ذلك على شرط كان واضحا في أذهان الجميع هو أن ننشئ لأنفسنا ملكية دستورية يكون فيها الملك رمزا لاستمرارية المؤسسات وتمارس فيها السلطة حكومة مسؤولة». [نفس المرجع، ص 85].
لم يكن إيمان بن بركة بدور الملكية رهين النضال ضد الاستعمار، باعتبارها رمزا لوحدة الشعب والتراب، لكنه إيمان متأصل، وقد حافظ عليه حتى بعد الاستقلال: «من حسن طالع المغرب أن له في شخص جلالة محمد الخامس ضمانا لما هو في حاجة إليه من استقرار واستمرار». [نفس المرجع، ص 35].
وإذا تعارض مشروع التوافق مع الديمقراطية قد يضحي بن بركة بالديمقراطية على شأن عيون التوافق مع الملكية، كما حدث مع حل الحزب الشيوعي المغربي، قال بن بركة لقيادة الحزب الشيوعي: «طلب منا القيام بإجراءات منع حزبكم.. وإذا وضعنا أمام الاختيار بين البقاء في الحكومة أو منعكم فاختيارنا تعرفونه»، واقترح عليهم «حل الحزب حتى لا تسجل على حزب تقدمي أنه كان وراء منع حزب حليف». [عبد الله العياشي، عضو بالحزب الشيوعي المغربي والتحرر والاشتراكية والتقدم والاشتراكية، مذكرات منشورة بجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد 5979، 24 دجنبر 1999].
سعى بن بركة عن اقتناع إلى التعاون مع الملكية لانتشال البلد من التخلف بكل ما يحمله «التحديث الرأسمالي» من معنى وما يقتضيه من استقرار وسلم اجتماعي واستمرارية الشرعية: تصنيع البلد، ضمان حدود دنيا من الاستقلالية تجاه المستعمر (القديم أو الجديد)، ديمقراطية برجوازية (مؤسسات لديها ما يكفي من السلطة) في وقت تحتل فيها الملكية دور الحكم (ملكية دستورية).
هذا هو سبب شهر العسل الذي كان بين المهدي بن بركة والملكية في شخص محمد الخامس. انقضى شهر العسل بسرعة بانتهاء الملكية من بناء جهازها السلطوي وتصفية جيش التحرير وكل الانتفاضات الجهوية، وستكون القطيعة مع ما أسماه بن بركة «انقلاب الحسن الثاني».
بن بركة: ضد الاستفراد بالحكم لا ضد الملكية
بدأ توتر علاقة بن بركة مع الملكية بعد الاستقلال مباشرة، وإن كان هذا التوتر لم يصل بعد حد القطيعة، وأسبابه هو أن الملكية أصبحت تظهر أنها ليست قابلة للاستعمال كما سعى إلى ذلك مناضلو الحركة الوطنية الشباب.
بدأ التوتر منذ فجر الاستقلال على شكل تنافس بين الملكية وبن بركة، حول من يملك صلاحية تحديث البلد وحدود هذا التحديث، وتوجست الملكية من مشاريع المهدي وحزب القوات الشعبية وعملت على عرقلتها، وانتهى ذلك بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1960.
أما بالنسبة لبن بركة فقد لاحظ إصرار الملكية للتخلص ممن يريد تحديد صلاحياتها، واعتمادها على خبرة المستعمر القديم والاستعانة بضباط جيشه وهو ما كان بن بركة يمقته.
بدأ ولي العهد- الذي سيصبح الحسن الثاني بعد حين- المواجهة سنة 1960 باعتقالات في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على نطاق واسع، وكان اسم المهدي في قائمة أسماء هؤلاء الذين يجب اصطيادهم.. ثم لم يمر إلا بعض الوقت حتى أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم في 21 ماي 1960، وفي فبراير 1961 توفي الملك محمد الخامس.
حدود معارضة بن بركة للحسن الثاني
اشتدت معارضة بن بركة للحسن الثاني، لأن هذا دمر كل مطامح بن بركة والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في بناء اقتصاد وطني مستقل ونظام «ديمقراطي»، بتوافق بين القوى الحية للشعب والملكية.
هل دفع ذلك المهدي بن بركة لتغيير موقفه من الملكية؟ هل أدت تجريبيته السياسية إلى قطيعته مع أوهام التوافق مع الملكية، وبالتالي التجذر ثوريا؟
بالرغم من الإحالة على صفة الثورية في «اختيار» بن بركة المقدم أمام المؤتمر الثاني الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كتقرير داخلي سنة 1962، إلا أن البرنامج العملي لهذا الاختيار، ليس ثوريا بأي وجه من الوجوه، وهو ما أكده بن بركة؛ «سوف يجد القارئ في تقريري 1962 الشروط التي كنا نعتبرها ضرورية إذ ذاك لتسوية ممكنة مع القصر، على أساس تحقيق ديمقراطية سليمة، وتطبيق إصلاح زراعي جذري… وأن هذه الشروط- التي هي بمثابة التزامات يجب أن يراقب احترامها كل يوم- ما تزال قائمة في الوقت الراهن». [الاختيار الثوري].
توافق مع الملكية حتى الرمق الأخير
رغم القطيعة النهائية، وتأكد المهدي بن بركة من استحالة الحصول على ملكية دستورية وهو يراقب هذه الأخيرة وقد استحالت مطلقة تحت أيدي الحسن الثاني، رغم يقينه من استحالة أي توافق مع الحسن الثاني، إلا أن المهدي بن بركة في السنوات الأخيرة في المنفى لم يتخل عن إيمانه (المستحيل) بهذه الإمكانية، وبقي ملكيا (دستوريا) حتى الرمق الأخير من حياته، حيث قبل بمد يده إلى الحسن الثاني الذي دعاه إلى العودة للمغرب، وصرح أن «الملك، إلى هذه اللحظة، أمل المغرب في تجنب حرب أهلية». [جريدة «الأهرام» المصرية، 12 نونبر 1965، هكذا تكلم المهدي بن بركة… ص 93ـ 94].
ديمقراطية بن بركة: ديمقراطية برجوازية
لم يسع بن بركة لبناء سلطة شعبية حقيقية، بل كرر المعهود في النظريات البرجوازية للحكم، بما فيها أكثرها ديمقراطية وراديكالية: «إقامة مؤسسات سياسية، تمكن الجماهير الشعبية من رقابة ديمقراطية على أجهزة الدولة، وعلى توزيع ثرواتها وإنتاجها الوطني» [الاختيار الثوري].
الرقابة الديمقراطية في مألوف النظريات البرجوازية تمر من خلال ممثلي الشعب في برلمان وسلطة تشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية، أي في آخر المطاف ديمقراطية برجوازية، تعود فيها السلطة لرأس المال وتحد من أي «رقابة ديمقراطية»، ما دام الرأسمال خارج الرقابة، وهي ديمقراطية تستدعي طبقة برجوازية قوية تستطيع الحكم دون الحاجة إلى ملكية، وهو ما كان غائبا في المغرب، باستحضار تقييم بن بركة نفسه لبرجوازية المغرب في وثيقة الاختيار الثوري.
هل كان بن بركة اشتراكيا؟
«إننا لا نستطيع أن نتحرر تحررا كاملا عن طريق إصلاحات جزئية وفي نطاق النظام الرأسمالي. وإننا لن نكون في مستوى مهامنا التاريخية إلا بانتهاج سياسة مقاومة للاستعمار تكون شاملة لمجالات العمل في الداخل والخارج». [الاختيار الثوري]، فهل كان بن بركة يقصد بذلك تدمير المجتمع الرأسمالي وبناء المجتمع الاشتراكي؟
يقول بن بركة في الاختيار الثوري: «إن مضمون الاشتراكية عندنا يقتضي:
ـ أسسا اقتصادية لا تترك أي مظهر من مظاهر سيطرة الاستعمار ولا لسيطرة حليفيه الإقطاع والبرجوازية الكبرى الطفيلية.
– تنظيما سياسيا واجتماعيا للسهر على تأطير الجماهير الشعبية وتربيتها، من أجل التعبئة الشاملة لسائر الموارد الوطنية الضرورية لتراكم وسائل الاستثمار».
إن اشتراكية بن بركة لا تتعدى تصفية مظاهر الاستعمار والقضاء على الإقطاع والبرجوازية الطفيلية والعمل لتراكم وسائل الاستثمار، إنه تدخل القطاع العام، أي الدولة، للإشراف على تراكم الرأسمال وبناء قاعدة اقتصادية وطنية لم تستطع البرجوازية آنذاك الاضطلاع بها.
ينتمي بن بركة إلى تنويعات الاشتراكية ذات النزعة العالمثالثية التي انتشرت على خلفية حركات التحرر الوطني ونزع الاستعمار، وهي بعيدة عن الاشتراكية العلمية المبنية على صراع الطبقة العاملة من أجل مصادرة سلطة الرأسمال الاقتصادية والسياسية وبناء مجتمع اشتراكي.
الحدود الطبقية لمعارضة بن بركة
لماذا لم يستطع بن بركة الذهاب بمعارضته للملكية إلى حدود النضال من أجل إسقاطها ثوريا؟ ما الذي جعل اختياره الثوري مفتقدا لكل أساس ثوري؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون استحضار ما كان يمثله بن بركة ليس سياسيا فحسب، بل طبقيا.
بعيدا الخطاب الشعبوي الذي رسخه المهدي بن بركة، حول كون حزبه، حزب قوات شعبية، ومشروعه مشروعا للشعب كله، فإن المهدي بن بركة كان يجسد آمال ومطامح طبقة برجوازية حديثة العهد بالاستقلال.
لم تتجسد حدود بن بركة وفشل نضاله ضد الملكية، في قوة هذه الأخيرة واستقوائها بالاستعمار الخارجي، ولا في مستوى الوعي الشعبي. كان مشكل المهدي بن بركة في الطبقة التي كان يمثلها، أي الطبقة البرجوازية التي كانت عاجزة عن تحقيق مهام التحديث الرأسمالي بطرق ثورية.
لقد فهم بن بركة الشروط التي من خلالها تستطيع البرجوازية حكم البلد، لكن لم تكن وراءه برجوازية ثورية أو قوية، بل برجوازية جبانة وخانعة، لذلك فمهما بلغت جذرية وتقدمية بن بركة فلا يمكن له أن يتجاوز الأفق التاريخي، أو بالأحرى العجز التاريخي، للطبقة البرجوازية التي كان يمثلها.
لقد كان بن بركة أكثر تقدما من الطبقة التي كان يمثلها، وكان واعيا بحدود هذه الطبقة وعجزها، وقد شرح في وثيقة الاختيار الثوري «استسلامها المطلق للإقطاع والاستعمار الجديد. ونحن نرى نتيجة لذلك الموقف المتخاذل للمتكلمين باسمها في المسألة الدستورية، مع أن مصلحتها الطبقية كانت تفرض عليها الوقوف في وجه سيطرة القوى الحاكمة، وبذلك حكمت على نفسها بالعبودية والتبعية بدون قيد ولا شرط».
كان بن ببركة يمثل الطبقة البرجوازية سياسيا رغم أنه متقدم على هذه الطبقة، لأنه طرح المهام التي تريدها البرجوازية نظريا لكن العاجزة عن تطبيقها عمليا.
كان أطول قامة من كل البرجوازيين، ولكنه كان يحمل الجينات السياسية لهذا الجنس الطبقي، ولم يستطع التخلص من تشويهاتها الخلقية، وظل يسعى وراء سراب التوافق مع الملكية حتى «أعدمته» هذه الأخيرة، مبرهنة على أن الملوك يفضلون تسليم رؤوسهم لمقصلة الإعدام على تقاسم السلطة، إذا حورنا تعبير الثوري الفرنسي سان جوست، لكن في مفارقة تاريخية جرى «إعدام» المرشح لاحتلال منصب سان جوست المغربي.
هل كان بن بركة محض انتهازي على شاكلة الساسة البرجوازيين الحاليين؟ يصعب الجواب على السؤال بنعم أو بلا. فبن بركة كان يدافع عن اقتناع عما يراه صالحا وضروريا لنمو الطبقة البرجوازية، كان يدرك جيدا ما تتمناه هذه الأخيرة ولكن يدرك أيضا أنها عاجزة وجبانة ولن تدعمه في صراعه الضاري ضد الملكية لذلك سعى إلى التوافق معها.
لقد كانت «انتهازية» بن بركة انتهازية طبقية، تضع نصب عينيها توفير الشروط الاقتصادية والسياسية اعتمادا على جهاز الدولة وبتعاون مع الملكية، لنمو طبقة برجوازية ستصبح- حسب اعتقاده- بعد حين قادرة على حكم بلد حديث ومستقل، ولا علاقة لها بـ»الانتهازية» الفردية لورثة حزبه بعد اغتياله.
بن بركة والطبقة العاملة
حمل بن بركة – كأي ممثل للطبقة البرجوازية- التخوف الفطري والغريزي الطبقي تجاه نضال الجماهير، لذلك سعى إلى توجيهه ومنعه من تجاوز حدود المجتمع الرأسمالي؛ ومن هنا سعيه للظهور ممثلا للشعب كافة، وأصل شعبويته التي تخلط بين تحليل معتمد على الماركسية والتوجه للجماهير وحلول برجوازية.
كان بن بركة طيلة النضال من أجل الاستقلال عمليا هو من تكلف بالمسائل النقابية داخل حزب الاستقلال، وكانت الغاية انتزاع الحركة النقابية المغربية من يد الحزب الشيوعي المغربي، وقد ساعدهم هذا الأخير في ذلك حيث أعطى أسبقية للنضال النقابي والاقتصادي على النضال الوطني.
إلى جانب تمثيله لبرجوازية جبانة وهزيلة، كانت كبوة بن بركة رغبته تسخير نضال الطبقات الشعبية- وضمنها الطبقة العاملة- لتحقيق مشروع سياسي طبقي يخدم البرجوازية بالدرجة الأولى، وبالتالي سعيه للتحكم في نضالها وتوجيهه في قنوات السعي إلى التوافق مع الملكية ولا تتجاوز سقف المجتمع الرأسمالي.
كغيره من مثقفي البرجوازية كان بن بركة يتوجس من الاستقلال السياسي للطبقة العاملة وعمل على دمجها ضمن حزب يضم طبقات أخرى وضمنها الطبقات المالكة لوسائل إنتاجها، كما عمل على حصر نضالها في المجال الاقتصادي فقط: «الدور الجسيم الذي ينتظر الطبقة العاملة لتحمل مسؤولية المعركة الاقتصادية». [الاختيار الثوري].
مثل بن بركة تنويعا مغربيا للشعبوية العالم ثالثية التي كانت سائدة أواسط القرن العشرين والتي لا ترى في الطبقة العاملة إلا جزءا من كل اسمه الجماهير الشعبية، دون مصالح متمايزة عن باقي الطبقات «الوطنية» وضمنها «البرجوازية الوطنية» مالكة وسائل الإنتاج.
ضرورة استخلاص العبرة
إن ما يهم ثوريي المغرب، في حياة ونضال بن بركة وسقوطه، هو استخلاص الدروس من فكره ونضاله وهزيمته. بعد اغتيال بن بركة، قام بوعبيد شريك بن بركة، بتأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بعد أن خلصه النظام من الجناح الوطني الشعبوي الثوري للاتحاد الوطني. وانحل التوافق مع الملكية بشروط الاتحاد الوطني للقوات الشعبي، إلى توافق مع الملكية بشروط هذه الأخيرة.
لا زال اليسار اليبرالي في المغرب يسعى وراء هذا السراب في شروط أقل مواتاة من تلك التي ناضل ضمنها بن بركة. وقد يغري ذلك من يستيقظ لتوه من الخمول السياسي ويسعى لنيل المطالب عن طريق أوهام الإصلاح والتوافق، ودور اليسار الثوري هو محاربة هذه الأوهام حربا لا هوادة فيها، وإلا سيعيد المناضلون سيرة بن بركة، ولكن على شكل مسخرة، بدل أن تكون مأساة.
التوجه إلى الطبقة العاملة والعمل على بناء حزبها المستقل والحرص على استئثارها بقيادة نضال كادحي المغرب، هي الشروط التي لا غنى عنها لانتصار نضالها ضد الاستبداد.
أزنزار

شارك المقالة

اقرأ أيضا