الاتحاد المغربي للشّغل: مؤتمرُ المهزلة وخيانة مصالح الطبقة العاملة لصالح الاستبداد

سياسة16 مارس، 2019

 

ليس ما تنظمه قيادة الاتحاد المغربي للشغل بجميع المقاييس مؤتمرا، بل هي محطة مناسباتية، أي “العراضة” بالدارجة المغربية، وفق لائحة مضبوطة للمدعوين والمدعوات من مختلف المدن والعمالات حسب معايير الولاءات والخضوع التي ترعاها قيادات الجامعات الوطنية والفروع الجهوية والإقليمية. وطبعا هناك فريق كبير من الأمن الخاص (“سيكوريتي”) عند دخول قاعة “الحفلة” بالدار البيضاء للتأكد لمرة أخيرة من هوية الحاضرين والحاضرات.

إنها “زردة” كبيرة بأطباق الأعراس والحفلات المغربية يحضرها أكثر من 1500 من المنخرطين والمنخرطات في النقابة، وضيوفٌ ممتازين كوزير الفلاحة أخنوش ورئيس الباطرونا المغربية مزوار، والذين يشارك معهم عديد من أعضاء قيادة الاتحاد المغربي للشغل أواصر الصداقة والخدمات المتبادلة في نادي المليارديرات الذي يلتقون فيه في أوقات خاصة. فمنطق التبجح بالثروة المالية لم يعد حكرا على رجال الأعمال، بل صارت القيادات النقابية أمثال شاهير وموخاريق وغيرهم في الاتحاد المغربي للشغل تتصرف في ميزانيات اجتماعية تقدر بمليارات الدراهم، وتُنشأ مقاولات خاصة، وتعيش حياة بذخ العائلات الثرية.

وعلى غرار عالم المال والأعمال الذي يتطلب النجاح فيه في بلدنا التقرب من المربع الذهبي للقصر والخنوع لمنطقه وخدمته، فالقيادات النقابية في الاتحاد المغربي للشغل اغتنت هي أيضا بشكل سافر، لكونها التزمت بقواعد البيعة المعروفة للقصر، ومنها مثلا التصويت على الدستور الممنوح سنة 2011 في عز التعبئات الشعبية التي انطلقت في الشوارع المغربية مع حركة 20 فبراير، وتسدي خدمات تدجين جزء من الطبقة العاملة المغربية يقتني لديها البطائق، وتضفي الشرعية على جميع الهجومات على مكاسب الأجراء والفئات الشعبية من خلال ممثليها بمجلس المستشارين، والمؤسسات الاستشارية الملكية، ومجلس إدارة منظمة العمل الدولية العضو بمنظمة الأمم المتحدة، وعديد من التمثيليات في مؤسسات وطنية وإقليمية ودولية.

قامت قيادة الاتحاد المغربي للشغل بأدوار تاريخية في تمرير مخططات كبرى بدءا بقبول جدولة الديون العمومية في بداية الثمانينات، وبرنامج التقويم الهيكلي الذي نتج عنها، واتفاقات التبادل الحر، وتدمير مكسب التقاعد، وتفكيك صندوق دعم أثمان مواد الاستهلاك الأساسية، وخوصصة مقاولات عمومية مربحة لميزانية الدولة وتشريد عمالها ومستخدميها، وخوصصة جزء كبير من خدمات الصحة، والتعليم، وتوزيع الماء والكهرباء، والنقل الحضري، إلخ.

حرصت هذه القيادة على عدم تعبئة القواعد العمالية المنخرطة لديها، وإبعادها عن التعبئات العمالية والشعبية الأخرى (أبرزها التنسيقات ضد غلاء الأسعار والخدمات، وحركة 20 فبراير وحراكي الريف وجرادة، وأيضا تنسيقة الدفاع عن مكسب التقاعد، ثم حاليا تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، والأمثلة عديدة) سواء عبر غياب التضامن أو السكوت عن القمع والمحاكمات الصورية التي يتعرض لها نشطاؤها.

سهلت هذه القيادة تمرير المخططات التي ينفذها النظام القائم بتنسيق مع خبراء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، وهي مؤسسات تُشرف على نهب ثروات الشعوب في بلدان الجنوب وبلدان الشمال على السواء من قبل الشركات متعددة الجنسيات والرأسمال المالي المضارباتي عبر الديون واتفاقيات التبادل الحر والخوصصة والمشاريع الكبرى عديمة الفائدة (القطار فائق السرعة بالمغرب مثلا)، إلخ. وسبق لوفد من الأمانة الوطنية للاتحاد المغربي للشغل برئاسة الأمين العام الميلودي المخارق أن عقدت اجتماعا هي أيضا مع خبراء من صندوق النقد الدولي يوم 29 نونبر 2016 بالمقر المركزي بالدار البيضاء حول مبدأ مرونة الشغل. هذا المبدأ موجود أصلا في مدونة الشغل الحالية التي وافقت عليها قيادة الاتحاد المغربي للشغل، لكن صندوق النقد الدولي يتدخل بكل وقاحة لتوسيعه وتعميقه لتشجيع مناخ الأعمال، وفق نظام قياس أنظمة أنشطة الأعمال الذي اعتمده البنك العالمي لترتيب الاقتصادات حسب تسهيلها شروط الاستثمار الرأسمالي الكبير ومنها أساسا توفير يد عاملة قليلة التكاليف من ناحية الأجور والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، وعدم الاستقرار في الشغل لامتلاك الأقدمية، وتسهيل مساطر الطرد.

وطبعا يأمل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي استجابة من قيادة الاتحاد المغربي للشغل التي طالما، وكما أشرنا أعلاه، دافعت عن خيار “السلم الاجتماعي” لتسهيل تمرير املاءات هاتين المؤسستين الاستعماريتين بخلق جو ملائم لتحقيق أرباح الرأسماليين على ظهر الطبقة العاملة وتردي أوضاعها، وذلك بعقد اتفاقات ما يسمى بالحوار الاجتماعي المخزية منذ 1996 إلى 2011، ومواصلة هذه المهزلة الخيانية حتى الآن، وتوقيع اتفاقات هدنة مع الباطرونا ودولتها في عديد من المدن خصوصا الدار البيضاء وطنجة التي تتركز فيهما الطبقة العاملة بشكل كبير، إلخ.

فليس إذن غريبا أن يحضر حفلة الاتحاد المغربي للشغل ممثلون عن الباطرونا ودولتها، حيث أن هذا التحالف الاستراتيجي وجد دائما، وحرصت قيادة الاتحاد المغربي للشغل على إفراغ النقابة من أي وجود كفاحي أو يساري قد يشكل شرارة استنهاض المقاومة في وضع اجتمعت فيه مقومات انفجار الغضب العمالي والشعبي.

كان هذا هو جوهر الإجراءات الاستئصالية التي قامت بها ضد بعض العناصر اليسارية المُنتقدة في مارس 2012، وهي تستكمل ولاءها الكامل للنظام بشكل صريح منذ أن حازت على تبرئة الذمة في المؤتمر العاشر للإتحاد في دجنبر 2010 وصوتت لصالح دستور العبيد في 2011. وهي الآن في هذه الحفلة المسماة مؤتمرا وطنيا تُواصل ذلك بكل خزي حيث لا جموعات انتخاب المؤتمرين، حتى بشكله الفارغ المعتاد، ولا مشاريع أوراق حتى بلفظيتها الخادعة، بل فقط اتصالات عبر الهاتف لتفادي بعض الساخطين والمنتقدين وضبط خريطة من سيملأ الكراسي بالسلبية المعهودة للتصفيق ورفع الشعارات لتنشيط حفلة الخيانة وتهييجها لإعادة تجديد الطاقم البيروقراطي الفاسد الذي سيُواصل أدواره لتعميق الاستبداد وضرب كرامة الأجراء والأجيرات وتعميق هشاشتهم وفقرهم وخدعهم.

يبدو أن منصة الحفلة تؤثثها أيضا منظمات محسوبة على الصف اليساري الليبرالي كحزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والاشتراكي الموحد. وهما لا يشتركان فقط في كلمة الاشتراكي الموجودة في اسميهما بل أيضا في فهمهما للاشتراكية وسبل بلوغها.

نحن نؤمن بأن الاشتراكية، بمعنى التملك الجماعي لوسائل الإنتاج والتسيير الديمقراطي لصالح أغلبية المجتمع، هي ما تحتاجه الطبقة العاملة التي ترزح تحت نير العمل المأجور والملكية الخاصة التي تستحوذ عليها أقلية في نمط الإنتاج الرأسمالي. لكن المسخ الذي يدافع عنه الحزبان هو تعاقد (دون أي نضال أو مواجهة) بين النظام الاستبدادي من أجل “ملكية برلمانية” ومؤسسات، أي دولة قانون أو دولة الحق والقانون لضمان الاستغلال الرأسمالي على شاكلة نماذج الغرب الامبريالي المتقدم الذين نرى اليوم كيف أدى احتداد الصراع الطبقي الى انكشاف عنف الدولة في مواجهة من يحاولون صد الهجوم على مكاسب الأجراء والفئات الشعبية (تعبئات السترات الصفراء في فرنسا، وتحالف الإمبرياليات الأوروبية ومؤسساتها ضد الشعب اليوناني، إلخ).

ليس المجال هنا لتوسيع الفكرة، لكن يتشارك هذين الحزين مبدأ “السلم الاجتماعي” لضمان استقرار النظام السياسي القائم ومؤسساته، وهما على نفس خط قيادة الاتحاد المغربي للشغل.

لكن هناك أيضا قوة محسوبة على صف اليسار الجذري هذه المرة، وهي قيادة النهج الديمقراطي، الذي أصدرت كتابته الوطنية في 10 مارس بيانا، تتمنى فيه، وفق أعراف المجاملات الخاوية، النجاح للمؤتمر 12 للاتحاد المغربي للشغل “بما يخدم الوحدة النقابية بدءا بالوحدة النضالية للشغيلة والمساهمة في النضال العام لشعبنا من أجل الديمقراطية والتحرر الوطني ودمقرطة واستقلالية هذه المركزية التاريخية وصون وتجسيد مبادئها ومقومات هويتها كما رسخها قانونها الأساسي المصادق عليه في المؤتمر 10 (دجنبر 2010)”.

لم يمنع هذا التملق الزائف الأمانة العامة منع أحد قيادات الحزب، أمين عبد الحميد، من حضور المؤتمر. وطبعا نعلن كامل تضامنا المبدئي واللامشروط مع أمين عبد الحميد كيساري جذري ضد تعسفات خدام الاستبداد في قيادة الاتحاد المغربي للشغل. لكننا امتعضنا كثيرا لفحوى رسالته التي تنم عن رضوخ للبيروقراطية ويعترف بشرعية المؤتمر المزور مسبقا بكونه سيستأنف العمل مباشرة بعد انتهاء الأشغال وكأن شيئا لم يقع.

إنه يواصل نهجه الاستسلامي من خلال شعار “بت نبت” الذي كان وراء تدمير تجربة ما يسمى “التوجه الديمقراطي” من خلال موقع مسؤوليته في الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي التي أشرفت قيادتها بشكل مباشر على المفاوضات مع الأمانة العامة للاتحاد المغربي للشغل، ورتبت معها شروط إعادة تطبيع العلاقة، وعودة الجامعة الوطنية لعمال وموظفي الجماعات المحلية إلى المنظمة، ومحاولة الدفع بجامعة التعليم إلى الحل والعودة إلى المركزية. كما ساهمت بشكل كبير في إقبار أجهزة “التوجه الديمقراطي” الناشئة، ومعها النقاشات ووجهات النظر المكتوبة التي تدافع عن التوجه الديمقراطي الحقيقي كقطب لممارسة نقابية كفاحية يحتاجها الوضع الراهن، وأبانت عن ذلك تجارب ملموسة في الميدان. ونعتبر أن التوافق الحالي مع البيروقراطية النقابية في الاتحاد المغربي للشغل من قبل جزء من اليسار الجذري يحمل أخطارا كبيرة، حيث سيدفعه ذلك إلى مأزق التبرؤ من المعارك النقابية المكافحة في حال تجاوزت الخط الأحمر الذي تسطره هذه البيروقراطية. وقد بدأنا نرى ذلك بالملموس حاليا في بعض النضالات العمالية ببعض القطاعات.

لسنا مغامرين ندافع عن المواجهة المباشرة مع جهاز البيروقراطية الضخم الذي تسانده الباطرونا ودولتها، ويرتكز على قاعدة عمالية سلبية عريضة. إننا نلح على بناء المنظمات النقابية كأدوات ضرورية أولية للعاملات والعمال من أجل تحسين وضع استغلالهم. ونرى أن الأمر بالنسبة لليساريين الجذريين يتعلق بالعمل الدؤوب من أجل:

– تطوير الوعي الكفاحي للطبقة العاملة وبناء تقاليد الديمقراطية الحقيقية حتى تكون القواعد العمالية سيدة قرارها، ومحاربة ممارسات تُكرس سلبية القواعد وتُديم الهيمنة عليها من خلال هيكلة تنظيمية بيروقراطية هرمية (نموذج الجامعات الوطنية داخل الاتحاد المغربي للشغل)، ولجنة الترشيحات، والكولسة والتواطؤات لضمان التّحكم في الأجهزة، وتوزيع الحصص (“الكوطات”)، إلخ،

– تحفيز الوحدة العمالية المنشودة والتي ليست هي تدعيم التنسيق الفوقي للبيروقراطيات الجاثمة اليوم على النقابات، بل وجب بناؤها على مستوى القواعد في خضم المعارك النقابية والنضالات الشعبية وتوحيد اتجاهاتها المناضلة على أرضية برنامج نضالي يستجيب لتطلعات طبقة الأجراء والفئات الشعبية من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية،

– العمل على حفز أكبر حركة إضرابية ممكنة باعتبارها البديل الحقيقي إزاء سياسة المساومة الخيانية التي تنهجها القيادات البيروقراطية النقابية، والارتباط بالنضالات الجارية خارج النقابات وتوسيع التضامن العمالي، ومرافقة الجيل الجديد من الطلائع النقابية، وتدعيم آمالهم في بناء تجربة نقابية كفاحية وديمقراطية.

فنحن نسعى في الأخير أن تكسب الطبقة العاملة وعيا سياسيا يضعها في مواجهة مجمل نمط الإنتاج الرأسمالي والنظام السياسي الذي يُجسّد هيمنته عبر الاستبداد القائم. ومن هنا ضرورة حزب الطبقة العاملة الذي سيمكنها من الاستيلاء على السطلة، وبناء مشروعها الاجتماعي. هذا الحزب المنشود، ليس بإعلان النوايا أو تبني الاسم، بل في خضم الممارسة الكفاحية وبناء خط الصراع الطبقي داخل مجمل فئات الطبقة العاملة المنظمة في نقابات وغير المنظمة، والتشهير بجميع أعدائها، وتوضيح مشروع البرنامج الاشتراكي البديل.

ونتمنى أن يكون هذا المؤتمر/المهزلة فرصة لإعادة فتح نقاش بين مكونات اليسار الجذري، من أجل النقد والنقد الذاتي البناء من أجل استشراف آفاق بناء خط صراع طبقي، يخترق جميع النقابات وأيضا يمد الجسور نحو التجارب النضالية الواعدة كتلك التي نراها في قطاع التعليم (مختلف التنسيقات وعلى رأسها تنسيقة الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد).

16 مارس 2019

سليم علواني

شارك المقالة

اقرأ أيضا