اليسار و افساد وعي الجماهير الشعبية بأضاليل “مناهضة الفساد”
مع اعتقال أستاذ بجامعة اكادير يتاجر في شهادات الماستر، وتفجر فضيحة تورط عدد من مسؤولي مؤسسات الدولة، بدءا بالقضاء، في اقتناء تلك السلعة (أليست خاصية الرأسمالية تحويل كل شيء إلى سلعة؟)، عاد موضوع الفساد إلى تصدر الساحة الإعلامية والسياسية. ومعه عاد صنف من اليسار إلى تأكيد ما درج عليه من اعتبار الفساد أصل البلاء الملم بشعب المغرب المقهور.
استشرى الكلام عن الفساد (والريع) في خطاب اليسار، وتضخم لدرجة كاد يزيح غيره من الانتقادات الموجهة الى النظام السياسي. توارت المطالبةُ التقليدية بتعديل الدستور، وسواه من الإصلاحات السياسية، وباتت محاربةُ الفساد لازمةً تخترق مواقف قوى اليسار والنقابات العمالية.
وغدا تحقيق التنمية، في السائد من خطاب سياسي ناقد، يمر عبر القضاء على الفساد، باعتباره العائق الرئيس الذي حل في التحاليل مكان السبب الجوهري للتخلف: التبعية للامبريالية واملاءات مؤسساتها المالية عبر آلية الديون.
ما تكتوي به الجماهير الشعبية من تردي الخدمات الاجتماعية لا يُعزى إلى سببه الجوهري، المتمثلِ في السياسة الرأسمالية التي يحركها السعي إلى الربح، بل في إساءة هذا المسؤول أو ذاك التصرف، في هذه الصفقة أو تلك، بقصد الكسب الشخصي. وبطالة الشباب لا تعود إلى سياسة التقشف الطبقية، وامتناع الدولة عن التشغيل بالقدر الذي تقتضيه خدمات اجتماعية تلبي حاجات الجماهير الشعبية، بل إلى هذه أو تلك من أوجه الفساد في دواليب الدولة. و هلم جرا في تفسير كل مساوئ النظام الاقتصادي- الاجتماعي بالفساد.
بالنظر لحجم ما يروج من أخبار الفساد في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح يُخيل للمواطن المظلوم ان سرطان الفساد سبب كل الشرور وأوجه الظلم، وان القضاء عليه وصفة سحرية ستُنهي مشكلات المغرب.
ليس تدويخ البشر المقهور بهذا التفسير عفويا، بل ثمة آلة إعلامية مكرَّسة له، غايتها صرف الأنظار عن أصل البلاء الرأسمالي وما يُسنده من استبداد سياسي. يجري عرض المشكلة ومعها تفاصيل جهود الدولة لتنظيف مناحي الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية من الفساد، سواء بسن قوانين وإحداث مؤسسات، أو بإحالة فاسدين، حتى من مستويات عالية، على القضاء.
هذا التناول والاستخدام يندرج ضمن إفساد وعي المقهورين/ت بتضليل سياسي معهود، يكتسي كل مرة زيا متكيفا مع السياق، مفاده أن مركز السلطة الفعلي لا مسؤولية عليه البتة في مصائب البلد، بل تقع تلك المسؤولية على بعض الموكولة إليهم في المحيط مهمةُ التنفيذ والذين يسيؤون استعمال الثقة الموضوعة فيهم. ومن ثمة يكمن الحل في الردع والعقاب، ومزيد من التشريعات، وتجويد سير عمل المؤسسات المختصة في مكافحة الفساد، ومساندة “المجتمع المدني” لها.
ومن جانبهم، يجتهد اليساريون أنصار تفسير البلاء بالفساد لإبراز المغرب كحالة فريدة يشلها الفساد قياسا بغيره من البلدان. يقول أحدهم:” المُمسِكون بزمام أمور السلطة وهياكلها ومكوِّناتها يتحملون مسؤولية كبرى في “إنتاج الفساد وإعادة إنتاجه”، والحيلولة دون حصول تراكم طبيعي (لرأس المال) كما حدث في المجتمعات الديمقراطية…”.
هذا محض تضليل لأنه تجاهل مقصود لعدم خلو أي رأسمالية عبر المعمور من الفساد، حتى في أعرق “الديمقراطيات”. غاية هذا التضليل الإيهام بأن العدو هو الفساد وليس الرأسمالية؛ لأن هذا الصنف من اليسار برجوازي، البديل عنده هو رأسمالية بلا فساد ولا ريع ولا توحش، أي ما لم يوجد قط و لا هو قائم حاليا، ويستحيل أن يوجد، بحكم منطق الرأسمالية ذاتها.
ما لا يقال، حتى من قبل معظم اليسار، إن الدافع الرئيس لصنوف الفساد إنما هو منطق الرأسمالية ذاته. إذ يفرض تنافس الرساميل لزيادة أرباحها ومعدلات نموها وحصصها في السوق، إلى سعي محموم لإيجاد مواد أولية وقوة عمل أرخص، والحصول على تقنيات أكثر ربحية، وبيع بأعلى سعر ممكن. وبالتالي، يسعى البرجوازيون إلى نيل أقصى قدر ممكن من المساعدة من ممثلي الحكومة بإرشائهم. وبهذا يؤدي الفساد دور تشحيم آلة الأرباح الرأسمالية. ولهذا لم تنجح القوانين في وضع حد لفساد الرأسماليين. ولم تنجح المحاكم واللجان وغيرها من الهيئات في وضع حد لتواطؤ السلطات في هذا الفساد.
ليس تحليل “اليسار المناهض للفساد” خاطئا وحسب، بل يفضي إلى تحديد خاطئ للقوى التي يجب محاربتها. فهذا أحد قادة هذا اليسار يؤكد في ندوة بعنوان“مبادرات لمحاربة الفساد – سرطان ينهك المجتمع ويعطل التنمية”.
“إن الفساد آفة تهدد النظام الاجتماعي وتستوجب سن قوانين رادعة لها مع تعزيز الوعي وتنمية الديمقراطية وتقوية المؤسسات”. …” مواجهة هذه الآفة مسؤولية جماعية لما لها من انعكاسات سلبية على حياة المغاربة وتدهور الخدمات العمومية لفائدة اللوبيات الفاسدة التي تتحكم في إضعاف القدرة الشرائية للمغاربة في ظل تراجع الحقوق والتطبيع مع الفساد” .
وعلى نفس المنوال يستنج المدافع أعلاه عما سماه “التراكم الطبيعي لرأس مال”، قائلا: “هذا ما يقتضي تحوُّلا ديمقراطيا للدولة والمجتمع في آن، لأنه وحده الكفيل بتوسيع الفضاء الديمقراطي الذي ينشر بدوره ثقافة المساءلة التي ينبغي أن تقوم بها المؤسسات المنتخبة والأجهزة الرقابية، ومختلف تنظيمات المجتمع المدني”.
لن يزول الفساد إلا بزوال الرأسمالية
ليس قصدنا تصغير أضرار الفساد، ولا السكوت عنها، بل التأكيد على أن الفساد، كغيره من الظواهر الملازمة للرأسمالية في تطورها التاريخي، من صلبها ومتأصل فيها. سيزول الفساد بزوال منطق ربح الأقلية المالكة لوسائل الإنتاج، و الاستعاضة عنه بمنطق تلبية حاجات البشر المتحرر من نير رأسمال، ضمن مجتمع مسير ديمقراطيا ومحترم للبيئة وخلو من كافة صنوف الاضطهاد الطبقي و العرقي والجندري.
في خضم ضجيج التضليل بايديولوجية محاربة الفساد، تتمثل مهمة الثوريين، مع عدم إغفال أهمية النضال ضد نظام الاستبداد من أجل الديمقراطية، في الرقي بمطالب الشغيلة والمضطهدين، وتعزيز نضالهم ضد جميع فصائل الطبقة الرأسمالية، محلية و أجنبية، بالتشهير بكل مساوئ الرأسمالية وظواهر خمجها وهمجيتها، و الفساد واحد منها ليس إلا.
اقرأ أيضا