انبعاث اليسار الجذري والسياسة العمالية

بقلم جوردان همفريز  Jordan Humphreys

عاش معظمنا القسم الأكبر من حياته في ظل حرب طبقية من جانب واحد.

لقد شيد المليارديرات ثرواتهم بينما تعرض الفقراء للاستغلال. وقد ركعت حكومات العالم لتسهيل ذلك. ونتج عنه عالم يدوس فيه الأغنياء بالأقدام الجميع دون عواقب تذكر. وتتمثل ذروة موقف التساهل هذا تجاه العسف في استخدام السلطة في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين-ت.

لقد انتفض الناس، حيث شهدنا في القرن الحادي والعشرين بعض المظاهرات الضخمة حقًا: ضد حرب العراق، وحركة ”حياة السود مهمة“، والإضرابات المناخية، والآن الحركة العالمية من أجل فلسطين.

بيد أن الضعف الأساسي لهذه الحركات كان عدم تحرك الشغيلة. وهذا أمر بالغ الأهمية لأن الطبقة العاملة هي الوحيدة التي تمتلك القوة لتحدي المصدر الحقيقي لسلطة الطبقة الحاكمة، ألا وهو تحكمها في الاقتصاد.

كان لتراجع نشاط الطبقة العاملة تأثير مدمر على اليسار. نُسيت فكرة أن الاشتراكية تعني بناء حركة شعبية جماهيرية من الناس العاديين الذين يمكنهم الاتحاد وأخذ زمام السلطة بأيديهم. وفقد العديد من الاشتراكيين ثقتهم في أن الشغيلة سيتحركون مرة أخرى. أسهم هذا في فتح المجال أمام اليمين المتطرف للتنكر في صورة أبطال الطبقة العاملة الجدد.

هذا ما يجعل ما حدث في أوروبا محفزا إلى درجة كبيرة.

يوم 3 أكتوبر، هز إضراب عام على مستوى البلد إيطاليا. شل مئات الآف العمال البلد، مطالبين حكومتهم بقطع جميع العلاقات مع حكومة إسرائيل.

هذا أمر غير مسبوق. ليست الإضرابات العامة أمراً غير مألوف في إيطاليا، وقد قامت قطاعات من العمال بإضرابات ضد النزعة العسكرية في التاريخ الحديث. لكن إضراباً عاماً جماهيرياً، مدعوماً من النقابات الرئيسية، حول قضية سياسية مثل حرب إسرائيل، هو أمر مغاير.

نشأت حركة الشغيلة هذه من الحركة الجماهيرية لأنشطة عرقلة الحركة والاحتجاجات في الشوارع التي اشتدت في الأسابيع الأخيرة. ومنذ ذلك الحين، تحرك شغيلة التعدين في مدريد لشن إضراب مفتوح بسبب الصلات بين صناعتهم والجيش الإسرائيلي. وفي 15 أكتوبر، من المقرر تنظيم مظاهرة ضخمة في إسبانيا، حيث تخطط عدة اتحادات نقابية لشن إضراب. ويناقش مئات الآلاف من الأوروبيين ضرورة الإضراب لدعم فلسطين.

 يمثل هذا خطوة نوعية كبيرة إلى الأمام في كل من النضال لعزل إسرائيل وإعادة إحياء حركة عمالية جذرية قادرة على تحدي الرأسمالية.

لقد ”أدت الإبادة الجماعية إلى ظهور وعي جديد، استغرق وقتًا وطاقة لترسيخه، وقتًا طويلاً، ربما أكثر من اللازم بالنسبة لأولئك الأسرى في غزة، ولكنه أدى قلب الإحداثيات السياسية الغربية“، على حد تعبير  افتتاحية مجلة المانفيستو il manifesto الإيطالية. ”تجمع حشود في كل ربوع العالم مطالبها التي تبدو خاصة في إطار نموذج عالمي وجد رايته الخاصة“.

هذه لحظة فاصلة تدمر الكثير من ما يسمى “الحس المشترك” بشأن الشغيلة والرأسمالية.

كان من الشائع، طيلة عقود، اعتقاد أن الطبقة العاملة الصناعية لم تعد موجودة، وأن الياقات البيضاء هي، على حد تعبير الفيلسوف سلافوج زيزيك، ”البرجوازية الأجيرة“، وأن شغيلة الهشاشة عاجزون عن الفعل، وأن العمال الذين لديهم وظائف مستقرة لا يناضلون لأنهم أرستقراطية ذات امتيازات اشترتها الطبقة الحاكمة. كان يُنظر إلى شغيلة العالم الغربي على أنهم مستفيدون من المكائد الإمبريالية لحكامهم. وكم كان شائعا، في الحركة الفلسطينية، إدانتهم باعتبارهم ”مستوطنين“ متواطئين في قمع الفلسطينيين.

يُظهر الإضراب العام في إيطاليا مدى سخافة كل هذا.

أكد عمال الموانئ المضربون في جنوة وليفورنو ورافينا والبندقية ومدن أخرى أن الأتمتة إن قلصت عدد العمال في هذه الموانئ، فهي لم تقلص قوتهم الصناعية. انضم عدد كبير من العمال إلى الإضراب في المستشفيات والمدارس والجامعات، مؤكدين أن هذه المؤسسات هي العقد المركزية للاقتصاد الحديث.

وقد كشف ذلك القوة الكامنة التي تختزنها الطبقة العاملة، ليس فقط في إيطاليا بل في جميع أنحاء العالم. كما أنه يعزز الحجج الأساسية التي قدمها الاشتراكيون حول سبب كون الطبقة العاملة هي القوة التي يمكنها النضال من أجل التحرر الإنساني.

تشمل الطبقة العاملة كل الذين يضطرون إلى بيع قدرتهم على العمل، بغض النظر عن طبيعة هذا العمل أو ما إذا كان صاحب العمل رجل أعمال خاصا أو إدارة حكومية.

إن نشاط الطبقة العاملة هو الذي يحرك عجلة الرأسمالية. يتركز العمال في المصانع شبه الآلية، وفي المدارس والمستشفيات والوزارات الحكومية، وفي صناعة ”المعرفة“ المتوسعة باستمرار في الجامعات، بينما يتوزع الآخرون على ملايين الشركات الصغيرة، التي تربطها جميعًا أنظمة معقدة للنقل والطاقة والاتصالات.

بما أن الشغيلة محور هذا العملاق الهائل المتمثل في الرأسمالية العالمية، فإنهم يحوزون القدرة على فهم الطريقة التي يسهل بها النظام الإبادة الجماعية والاستغلال، ولديهم القوة لإيقافه. ففي النهاية، ليس الشغيلة مجرد تروس في الآلة. إنهم بشر يستلهمون العزيمة من الآخرينـ ويفزعون من المآسي الأخلاقية مثل الإبادة الجماعية في غزة.

يمكننا أن نرى ذلك بشكل مباشر عندما يضرب عمال ميناء جنوة عن العمل لمنع استخدام موانئهم في إرسال شحنات إلى إسرائيل، أو عندما يطالب عمال التعدين الإسبان بإجراء تحقيق في صناعتهم خوفًا من أن يتم استخدامها لإنتاج الأسلحة الأوروبية لمساعدة إسرائيل.

إن إمكانية قيام العمال بعمل ضد الإبادة الجماعية تتجاوز أولئك الذين يرتبط عملهم بشكل مباشر بآلة الحرب الإسرائيلية. أظهر الإضراب العام أيضًا كيف أن للشغيلة مقدرة على تعطيل الأعمال والحكومات التي تعتمد على عملهم.

عندما يكون العمال سلبيين، يبدو أن الاختلافات التي لا حصر لها بينهم تجعل من غير المرجح أن يتحركوا في عمل موحد. ولكن بمجرد أن يتحدوا، يبدو الأمر بديهيا للغاية. وذلك لأن تحركهم يستند إلى شيء يوحدهم حقاً، وهو تجربتهم المشتركة كعمال مستغلين من قبل النظام الرأسمالي.

تكشف الأحداث الإيطالية أيضاً العلاقة الجدلية بين قوة العمال ونشاط مجموعات اجتماعية أخرى. ما كان الإضراب العام ليحدث لولا نشاط الشباب على مدى عامين وحملة التضامن مع فلسطين. كان هناك تأثير متراكم لمشاركة مئات الآلاف من الناس في الاحتجاجات، على الرغم من تقلبات الحركة. وقد أدى ذلك إلى خلق سياق شعر فيه العمال اليساريون بمزيد من الثقة للانتقال إلى التحرك، ولم يتمكن فيه قادة النقابات العمالية السائدة من كبح جماح الموجة.

تُظهر إيطاليا أيضًا أن إعادة إحياء نشاط الطبقة العاملة الذاتي أمر يتطلب قطيعة حادة مع قادة النقابات العمالية القائمين والأحزاب اليسارية الرسمية.

يعتقد بعض الاشتراكيين، الذين عانوا من سنوات العزلة، أن الطريقة الوحيدة لإعادة بناء سياسة الطبقة العاملة هي التملق إلى بيروقراطيي النقابات والأحزاب السياسية الإصلاحية. غالبًا ما يتم تجميل هذا الأمر بالحديث عن «الجبهات المتحدة» أو “العمل الجماهيري”

لكن الإضراب العام الإيطالي ليست نتيجة مناشدة ما من قبل المناضلين المناصرين لفلسطين لقادة النقابات للقيام بما يجب . بعد أن دعت عدد من اتحادات النقابات اليسارية الصغيرة إلى الإضراب في 22 سبتمبر، انتقدت المنظمات المؤيدة لفلسطين والتيارات اليسارية داخل النقابات بلا رحمة وبشراسة قادة النقابات السائدة الذين بذلوا قصارى جهدهم لتجنب الانتقال إلى الفعل.

” لنتوخَّ الوضوح،  الناس الذين يتظاهرون في الساحة لم يعودوا قادرين على التحمل“، كما أوضح بيان صادر عن الاتحاد النقابي في القاعدة  Unione Sindacale di Base، وهو اتحاد نقابي يساري، ”ولكن بما أنهم لم يجدوا أي دعم في عالم السياسة والنقابات، فقد ظلوا صامتين لفترة طويلة، يعانون بشكل سلبي من تدهور الحياة السياسية، وتراجع الحقوق، وتفاقم الظروف الاجتماعية“.

لم تكن الحكومة اليمينية المتطرفة ووسائل الإعلام وحدها هي التي أساءت فهم التحول في وعي الجماهير.

يتكرر هذا الأمر في إسبانيا مع النقاشات حول يوم التحرك في 15 أكتوبر. في حين أيدت الاتحادات النقابية اليسارية والإقليمية الأصغر حجمًا الدعوة إلى الإضراب العام، تحاول الاتحادات النقابية الإسبانية الرئيسية قصر الإضراب على ساعتين فقط.

كان العامل الرئيسي الذي ساعد في تسهيل التحرك هو نشاط الشباب النضالي، ولا سيما الطلاب. وقد أعطى هذا دفعة قوية لجميع أعضاء الحركة العمالية واليسار الذين يضغطون من أجل تحرك أكثر جدية ضد مقاومة قادة النقابات.

إن لكل هذا صدى في الماضي. عندما تقدمت الحركة العمالية واليسار الجذري، كان ذلك في شكل قطيعة حادة مع الحاضر وثورة على التقاليد والمنظمات القائمة. لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك. كيف يمكننا أن نبدأ في كسر سنوات من السلبية والمحافظة بنحو آخر؟

الأحداث في إيطاليا مثيرة، لكنها تشكل أيضاً تحدياً جاداً لليسار في كل مكان.

لقد اتسع المجال لإعادة تعميم فكرة أن العمال هم محرك التغيير الاجتماعي. لم تأتِ الأحداث في إيطاليا من فراغ، ودعم فلسطين ليس العامل الوحيد وراءها. لقد أدى التأثير التراكمي لسنوات من عدم المساواة، والعسكرة، ونخبوية المؤسسة الحاكمة، إلى تحطيم ثقة الناس في الرأسمالية. هناك تقاطب قوي في العالم برمته بين اليساريين التقدميين الذين يريدون تحرير فلسطين، ورفض اليمين المتطرف، وإلغاء المليارديرات، وأولئك الذين يتطلعون إلى السياسات القومية المتطرفة.

الاحتمالات أكثر وضوحًا في أوروبا. فإلى جانب قضية فلسطين، كان ثمة إضراب عام ضخم في اليونان في أكتوبر ضد تعديلات قوانين العمل. واهتزت فرنسا بأيام طويلة من الاحتجاجات وعرقلة الحركة ضد حكومتها النيوليبرالية غير المستقرة. وشهدت ألمانيا مظاهرات كبيرة ضد اليمين المتطرف.

كما أن نمو الأحزاب اليسارية الإصلاحية يدل على أن مساحة جديدة قد فتحت. فقد تحول حزب  فرنسا الأبية إلى اليسار في السنوات الأخيرة، وتوطد ليصبح أكبر حزب يساري جذري في أوروبا، مع ما يقرب من 400 ألف عضو. ونما حزب اليسار» (Die Linke) الألماني من 58 ألف عضو إلى 112 ألف عضو هذا العام. وقد انضم حوالي 800000 شخص إلى حزب ”Your Party“ في بريطانيا.

هذه هي أقوى الأمارات منذ سنوات على إمكان إحياء السياسة اليسارية الجذرية و سياسة الطبقة العاملة. العالم يتغير بسرعة. حان الوقت الآن لاغتنام الفرصة.

المصدر: https://redflag.org.au/article/the-revival-of-the-radical-left-and-working-class-politics

شارك المقالة

اقرأ أيضا