الوضع السياسي في تونس، والمقاومة العمالية و الشعبية: حوار مع المناضلة ليلى الرياحي من تونس – عضوة شبكة سيادة
لفت الكفاح الشعبي بمدينة قابس في تونس مجددا الأنظار الى هذا البلد، مؤكدا الكمون النضالي الحي به برغم شتى صنوف الخنق. أجرينا هذه المقابلة مع المناضلة ليلى الرياحي بقصد استجلاء الوضع التونسي وإبراز دور شبكة سيادة في أحد اهم جبهات النضال من اجل التحرر. [المناضل-ة]
- ما تقييمك للوضع السياسي في تونس في ضوء التطورات الاخيرة في البلد، من قمع للمعارضين والتضييق على المنظمات المدنية والحقوقية.؟
المشهد السياسي مُدَمَر، الأحزاب، الهيئات الدستورية، المجالس المنتخبة بما فيها البلديات، المنظمات الوطنية التاريخية، منظمات ما بعد الثورة، النقابات… كل الأجسام الوسيطة مستهدفة.
توظيف تام وعميق للقضاء انطلق منذ تعليق المجلس الأعلى للقضاء، قضايا مفبركة عديدة تمس حرية التعبير، حرية التنظيم، حرية العمل المدني، تعليق لأنشطة المنظمات، وعدد المساجين والملاحقين قضائيا في تواصل مستمر ومحاكمات لا تحترم الحد الأدنى من الإجراءات
الحراك الاجتماعي المتواصل وأهم قضاياه تبقى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية: الماء، التلوث، التشغيل، المرافق العمومية، بالإضافة إلى القضية الفلسطينية ومطلب تجريم التطبيع.
النظام التونسي راهن على الشعبوية: الخطاب العام ينبني على التخوين والكذب والافتراء.
مراسيم وقوانين سالبة للحرية وعمليات قمع ممنهجة لكل الآراء المخالفة بما فيها الصحافة
بعد ست سنوات من حكم قيس سعيد، الوضع الاقتصادي في تأزم مستمر، لا تغيير في الأفق، نراهن على تواصل القمع، فليس لهذا النظام حلول أخرى.
- ماهي في نظرك الاسباب التي منحت للنظام الحالي فرصة الردة على مكتسبات الثورة حيث كانت تونس قبل انقلاب قيس سعيد الاخير، ينظر اليها على انها حالة استثنائية في المنطقة بسبب هامش الحريات؟
لم يتمكن المجتمع التونسي في عشر سنوات بعد الثورة من افراز نخبة سياسية جديدة متجذرة في الواقع ولا من تنظيم صفوفه الشعبية على قاعدة مشروع اقتصادي-اجتماعي بديل. انحصرت التجاذبات السياسية في مربع الاستقطاب الثنائي بين “الاسلاميين” و”التقدميين” وبقيت قضية تغيير المنوال التنموي هامشية كما بقيت مسألة تفكيك النظام البوليسي السلطوي الريعي الفاسد بعيدة عن تطلعات الحكام، بالعكس، حاول كل من وصل إلى السلطة كسب النظام والأجهزة من أجل الحفاظ على موقعه.
ساهم النظام العالمي المهيمن كثيرا في امتصاص الانتفاضة الشعبية والدفع نحو المحافظة على نفس النظم الاقتصادية والسياسية العميقة، وذلك أساسا عبر ثلاث مفاهيم متكاملة هيمنت بشكل كامل على مسار ما بعد 14 جانفي: العدالة الانتقالية، الانتقال الديمقراطي والانتقال الاقتصادي. وكل مفهوم هو حقيبة من الأدوات النظرية الجاهزة للتصرف مع الأزمات طبقا لنظرية حقوق الانسان من ناحية، وطبقا للنظريات الاقتصادية النيوليبيرالية من جهة أخرى. وهي لا تهدف إلى بناء السلم الاجتماعي وسيادة الشعب الحقيقية بل لمزيد دمج النظم المحلية في النظام المعولم.
مثل سقوط النظام انفتاحا كبير للمجتمع التونسي على الفعل السياسي والمدني، وبرزت عديد الفعاليات في أشكال متنوعة: جمعيات، أحزاب، مجموعات، حملات، حركات اجتماعية… غير أن الطيف اليساري كان فاقدا لأهم وسائل العمل السياسي الحر والمنغرس والبنّاء ولم يتمكن من تطوير إجابات سياسية – اجتماعية – اقتصادية قادرة على استيعاب الحركية وتوجيهها نحو مفاصل النظام مسلحة بخطاب مفهوم وبدائل عملية. يرجع ذلك بالتأكيد إلى الضعف الفادح في الهياكل الحزبية اليسارية التي كانت أغلبها تنشط في السرية قبل الثورة ولم تتمكن من التطور والانفتاح على المجتمع الثائر حيث أن تحاليلها لم تكن متوافقة لا مع الحاضر ولا مع انتظارات المستقبل.
لا يكفي هامش الحريات لبناء رؤى بديلة رغم أنه عنصر أساسي في ذلك. كما لا يكفي النشاط الميداني الحقوقي ما لم يستند إلى مشروع اقتصادي سيادي بديل.
- ما وضع الطبقة العاملة اليوم في تونس؟ وهل يمكنك أن توضحي لنا ما العلاقة اليوم بين نقابة الاتحاد التونسي للشغل والنظام التونسي؟
الوضع الاقتصادي عموما متأزم جدا وأول المتضررين هم الفلاحون.ات والعمّال.ات والمهمشون.ات وصغار المقاولين، وهم يمثلون الفئات الأوسع من الكتلة النشيطة في المجتمع. وبالتوازي، نلاحظ تفاقم البطالة، خاصة لدى حاملي الشهادات العليا وكذلك تفاقم ظاهرة الهجرة النظامية وغير النظامية، والتي تعبر على انسداد الآفاق في تونس.
تعاني هذه الفئات من إشكاليات اقتصادية عديدة متعلقة بالمنوال التنموي المقيّد بالديون الذي يهمش الأنشطة الاقتصادية الموجهة للسوق المحلي مقابل دعم الأنشطة الموجهة للتصدير في محاولات فاشلة لتدارك انخرام ميزان الدفوعات.
على الرغم من توقف المفاوضات مع صندوق النقد، إلا أننا لاحظنا ارتفاع المديونية الداخلية والخارجية إلى مستويات غير مسبوقة وتوسع اتفاقيات التبادل المجحفة، نذكر منها مذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي التي تقايض التمويل بالتعهيد الخارجي للحدود.
لعب الاتحاد التونسي للشغل دورا مركزيا في امتصاص الأزمات الاجتماعية طيلة العقد الأول بعد الثورة، ولم يعطي الأولوية اللازمة لتجديد هيكلته وصفوفه وبرامجه، بل حاول الإبقاء على تركيبته الموروثة من قبل الثورة والمبنية على معادلات حزبية قديمة لم تعد تعبر عن تطلعات المنخرطين.ات، وراهن على مقاربات “زبونية-قطاعية” كرست نظرة سلبية للعمل النقابي. كما لم يعطي الأهمية اللازمة للعمل على رسم البدائل الاقتصادية، بل تورط نسبيا في دعم مواصلة نفس المنوال. أدى ذلك إلى تصدع جبهاته الداخلية وتآكل رصيده النضالي لدى العمّال وفقدان دوره النقابي الريادي في قطاعات أساسية كالصحة العمومية والتعليم العالي.
إن الاتحاد اليوم في مأزق حقيقي وعليه إعادة بناء هياكله بأساليب نضالية جديدة. وهو أيضا تحت ضغط مباشر وغير مباشر من النظام الذي قام بالسطو على عديد المكتسبات النقابية كالحق في التواصل مع الأجهزة الرسمية باسم العمل والحق في التفاوض والحق في المساهمة في رسم السياسات.
- تجري حاليا نضالات شعبية في تونس ولعل أخرها ما تشهده مدينة قابس من احتجاجات عارمة من أجل تفكيك المجمع الكيميائي الملوث، هل يمكنك احاطتنا بما يجري هناك: طبيعة المحتجين ومطالبهم والقوى الفاعلة في هذه النضالات وتعامل الدولة معها وما المطلوب اقليما للتضامن؟
إن ما يحصل في قابس هو تاريخي بكل المقاييس: حجم التعبئة، التقاء كتلة واسعة من الفئات الاجتماعية على نفس المطلب (فلاحين، صيادين، موظفين، تجار، عموم السكان خاصة منهم الشباب)، وضوح المطلب وهو متمثل في “تفكيك الوحدات الملوثة”. تعد هذه السابقة أهم حركة اجتماعية منذ تقلد قيس سعيد الحكم وكذلك أهم حركة بيئية على الاطلاق.
لعبت مجموعة stop pollution دورا أساسيا على مدى أكثر من عقد في التعريف بالقضية ولفت انتباه المجتمع المدني والسلط وعملت تجميع الطاقات المطالبة بوقف التلوث والدفع نحو قرار تفكيك الوحدات. كما عبرت بشتى الوسائل عن المظالم المنجرة عن التلوث وعن أن قابس أخرى ممكنة وكونت مجموعة واسعة من الشبيبة الناشطة في هذا المجال. ويمكن اعتبار خروج أكثر من مائة ألف متظاهر انتصارا واضحا لهذا العمل الدؤوب.
تعبّر الحركية الاحتجاجية في قابس عن إدراك واسع بأن الصحة أهم من الانتاج، وإدراك زاد انتشارا بأن البيئة أهم من الصناعة. كما برزت مؤخرا فكرة أن قابس ضحية لمنوال تنموي فاشل.
هل يمكن وقف نشاط المجمع الكيميائي بين ليلة وضحاها؟ ترفض الحركة إلى حد الآن الخوض في مسألة التقليص التدريجي للتلوث (السقف الأدنى) أو وقف نشاط إنتاج الفوسفاط (السقف الأقصى)، وتكتفي بشعار “تفكيك الوحدات” اعتمادا على قرار رسمي أصدر في 2017، ما يفتح المجال لإنشائها في منطقة أخرى.

يمكن القول إن حركة قابس وضعت النظام أمام مختلف تناقضاته:
الشعبوية: فندت مقولة “الشعب يريد” التي لطالما رددها الرئيس دون أن يعطيها أية فاعلية، وهو نفسه من كان، قبل الوصول إلى الحكم، من المطالبين بوقف التلوث. كما دحضت مقولة “إنها مؤامرة” حيث أبرزت أن الدولة نفسها هي من تتآمر على الشعب.
السياسية: يحاول هذا النظام تفكيك كل الأجسام الوسيطة وتأليب الفئات الاجتماعية بعضها ضد بعض حتى لا يتسنى لها معارضة السلطة. في قابس، التحمت كل الفئات ضد السلطة ورفعت كل الفعاليات نفس الشعار، بما فيها نقابات الاتحاد التي كانت في الماضي القريب تدافع عن تواصل نشاط المجمع الكيميائي، بصفته المشغل الأثقل في المنطقة.
الاقتصادية: كثيرا ما تشدق النظام بالدفاع عن السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية ناعتا معارضيه بالعملاء والفاسدين، وكثيرا ما اعتبر نفسه حاملا “لمقاربة جديدة”. لكننا نجده في المجمع الكيميائي يقترح مزيد الاستثمار الأجنبي في مشاريع ملوثة، موجهة للتصدير ومستنزفة للموارد (الفوسفاطـ، الهيدروجين الأخضر، الأمونياك الاخضر…) أي أنه يواصل نفس السياسات الاستعمارية، وهذا الأمر أصبح اليوم مفضوحا في قابس تحديدا.
على المستوى الإقليمي، أصبح من المهم جدا التشبيك المباشر بين النضالات البيئية في المنطقة وذلك من أجل التضامن وحشد قوى التغيير ورسم البدائل.
- بصفتك عضوة في شبكة سيادة. نود منك أن تعطينا لمحة عامة عن عملكم النضالي والتثقيفي في المنطقة؟ وما هو دوركم في مثل هذه النضالات؟
تتابع شبكة سيادة بانتظام الحركات الاجتماعية والاحتجاجات المتعلقة بالبيئة والسيادة الغذائية وتشارك فيها، وتعمل على التعريف بنضالات أبناء وبنات الأرياف وصغار منتجي الغذاء. وتعمل من خلال أنشطتها التثقيفية والميدانية على التعريف بالمفهوم وعلى تنزيله في السياقات المحلية، اعتمادا على تبادل الخبرات بين مختلف المعنيين (فلاحين.ات، باحثين، نشطاء، صحفيين…)، هدفها هو أن تتنظم فئة الفلاحين في منطقتنا بما يسمح لها بالدفاع عن حقوقها والمشاركة في صياغة السياسات العمومية التي تمسها.
كما تعمل الشبكة على إبراز البدائل وصياغتها، إن كان ذلك على المستوى التنظيمي (التعاونيات، المجامع، شبكات الفلاحين.ات) أو على المستوى التقني (الفلاحة البيئية، البذور الأصيلة…) وتبحث من خلال ذلك على المساهمة في رسم مشروع السيادة الغذائية في المنطقة انطلاقا من الواقع والميدان.
وتساهم الشبكة في تفكيك المفاهيم النيوليبرالية المعادية لمشروع السيادة الغذائية كسياسات الديون والتقشف والتبادل الحر ودراسة تأثيراتها على نظم الانتاج والمنتجين والمستهلكين.
تفاعلا مع حركة قابس مثلا، نعمل حاليا على تنظيم وابينار لعرض شهادات للفلاحين.ات والصيادين.ات ومقارنتها بتجارب أخرى من المنطقة (آسفي – المغرب) والتعقيب عليها من الباحثين.ات والناشطين.ات مع الحرص على تقديم بدائل نظرية وعملية تفيد في تصور آفاق واقعية للحركة.
- كيف يمكن توسيع عمل شبكة سيادة في المنطقة العربية من اجل حشد التضامن مع النضالات وبناء جسور التشبيك ؟
إن شبكة سيادة -نسبيا- حديثة حيث لم يتجاوز عمرها الخمس سنوات، على الرغم من ذلك فهي تمكنت من التشبيك بين عديد الفعاليات ومن تطوير موقع غني بالمعارف والتجارب والتحاليل يلجأ إليه الباحثين.ات والصحفيين.ات والمهتمين بالموضوع.
أما بالنسبة لحشد التضامن، فالشبكة تعمل على التعريف بالقضايا وحث التواصل بين الفاعلين.ات من كل المنطقة وعلى تقديم مقارنات تفيد في تعميق الفهم وتوسيعه.
تساهم أيضا الشبكة في حركة الترجمة إلى العربية للكتب والمنشورات الصادرة بلغات أخرى (الاسبانية، الانجليزية…) عن منظمات ومعاهد بحوث وشبكات أخرى على غرار حركة لافيا كامبيسينا وغيرها، وذلك من أجل الاستفادة من التجارب العالمية من جنوب أمريكا وافريقيا وغيرها.
اقرأ أيضا


