الذاكرة العمالية: إضراب الموظفين (20 دجنبر 1961)
دأبت جريدة المناضل-ة على السعي لكشف صفحات من تاريخ كفاحات الطبقة العاملة بالمغرب. وذلك بنشر العديد من النصوص والوثائق المؤرخة لمعارك وتطورات، منذ بدايات الحركة العمالية بالمغرب في العقد الثالث من القرن العشرين. وفتحت الجريدة جسر تعاون مع الفقيد شكيب أرسلان، لكن الموت اختطف هذا الباحث المجتهد في تاريخ الحركة العمالية بشقيها السياسي والنقابي. وتكثفت جهود نشر الادبيات التاريخية العمالية إبان صدور المناضل-ة اسبوعيةً. سنعمل على جمع تلك المادة في مصنف واحد لتيسير العمل بها.
على المنوال ذاته نعرض ادناه مقتطفا عن احدى أكبر النضالات النقابية في مطلع الستينات، عنينا إضراب الموظفين في متم العام 1961. وغني عن البيان ان زاوية النظر في هذا المقتطف إنما تعني مُعتمِدها، واثقين في الحس النقدي للقارئ/ة.
المناضل-ة
نص المقتطف:
يكتسي إضراب الموظفين العموميين بتاريخ 20 دجنبر 1961 أهمية بارزة في التاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب المستقل، تتمثل في تشكيله لأولى حلقات الصراع والمواجهة بين الموظفين والدولة الحديثة، إضافة لتجسيده لتطورات الانشقاق داخل صفوف الاتحاد المغربي للشغل [1].
وبالرجوع إلى المحيط العام لاندلاع هذا النزاع، يتضح أن السياق السياسي والاقتصادي الذي تفاعل داخله يرتبط أساسا بتبني النظام السياسي المغربي لمبدأ التعددية النقابية مع مطلع الستينات، والإعلان عقب إقالة حكومة عبد الله إبراهيم في ماي 1960 عن اعتماد سياسية اقتصادية تقوم على النهج الليبرالي.
فبمناسبة عيد الشغل لفاتح ماي 1961، ألقى الملك الراحل الحسن الثاني كلمة أكد فيها موافقته على التعددية النقابية ورفضه للتنازع بين منظمة الاتحاد المغربي للشغل ومنظمة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، الذي أسفر عنه أحيانا إراقة الدماء [2]. إضافة لرفضه تبعية المنظمات النقابية للأحزاب السياسية. فأشار ضمن هذه الكلمة أنه: «…. لا خطر على وحدة الطبقة العاملة من تعدد الحركات النقابية، واختلاف وجهات نظرها، ولكنه صراع بعيد عن مبادئ النقابة وأهدافها ومثلها العليا ناتج عن انحراف الإطارات النقابية عن الأهداف النقابية … فكيف يرضى العملة بالتضحية بمصالحهم وحرية توجههم ووقوع نقابتهم تحت تأثير منظمات أخرى لها مهام غير مهام النقابة؟ ومع هذا كله فإننا غير يائسين من عودتكم إلى جادة الرشد وتسترجعون وحدتكم وتوحدون صفوفكم، وتفهمون مهمتكم ودوركم فهما حقيقيا، ألا وهو الدفاع عن العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والمساواة التامة، وفرص العمل المتكافئة للجميع …… [3]
وتميز الوضع الاجتماعي خلال سنة 1961 بكثرة الإضرابات التي بلغت 383 نزاعا، وفي هذا الإطار صرحت منظمة الاتحاد المغربي للشغل منذ مطلع هذه السنة، من خلال جريدة “الطليعة” الناطقة باسمها، أنها ستنفذ سلسلة من الإضرابات العمالية للمطالبة بزيادة 20% في الأجور، بسبب تسجيل الرقم الاستدلالي العام للمعيشة ارتفاعا بنسبة %5.90% منذ أواخر سنة 1959 في حين ظلت الأجور مجمدة، رغم الاعتراف الرسمي بهذا الارتفاع، ورغم أن ظهير 31 أكتوبر 1959 المحدث للجنة مركزية للأسعار والأجور كان يقضي في حالة زيادة في أثمان المعيشة بنسبة لا تقل عن 5% ، بأن يخطر وزير الشغل رئيس الحكومة بزيادة في الأجور مماثلة لارتفاع أثمان المعيشة.[4]
وفي ظل هذه الأوضاع، ونظرا لاتخاذ منظمة ” الاتحاد المغربي للشغل” قرار تأجيل إضراب عام ليوم 19 يونيو 1961، لجأت الجامعة الوطنية للبريد التابعة لهذه المنظمة إلى إعلان إضراب جديد يوم 20 دجنبر 1961.
ففي بداية شهر يونيو من سنة 1961 صادقت الجامعة الوطنية للموظفين التابعة للاتحاد المغربي للشغل، بالإجماع على ملتمس يدعو إلى الإضراب العام. وأصدرت عقب ذلك الجامعة الوطنية للتعليم لنفس المنظمة بلاغا يدعو إلى القيام بإضراب إنذاري يوم 19 يونيو 1961، واعتبرت هذه الجامعة أن القرار جاء نتيجة رفض وزارة الوظيفة العمومية دارسة وتلبية مطالب موظفي التعليم، وأنه تم رفع رسائل إلى رئاسة الحكومة في هذا الصدد دون جدوى. كما دعت الجامعة الوطنية لموظفي العدل (إ.م.ش) إلى إضراب عام وشامل لنفس اليوم. [5]
إلا أنه باقتراب موعد الإضراب أصدرت وزارة الداخلية تعليمات إلى عمال الأقاليم، تفيد أن كل موظف يضرب عن العمل يوم الإثنين 19 يونيو 1961 يعاقب عقوبات إدارية وقضائية. [6]
وفي يوم السبت 17 يونيو 1961، عقد اجتماع بين أحمد رضا اكديرة مدير الديوان الملكي ووزير الداخلية والفلاحة، ووفد يمثل الاتحاد النقابي للموظفين التابع للاتحاد المغربي للشغل. وأكد رضا أكديرة أثناء هذا اللقاء أن الملك يتولى بنفسه دراسة مطالب الموظفين، ووقع الاتفاق على عقد أول اجتماع للمجلس الأعلى للوظيفة العمومية.[7]
عقب هذا الاتفاق أعلن الاتحاد المغربي للشغل، عن تأجيل الإضراب العام المقرر ليوم الاثنين 19 يونيو 1961، واعتبر أنه حقق انتصارا بذلك. إلا أن مجموعة من النقابيين ومناضلي ” الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، اعتبروا أنهم كانوا عرضة لتواطؤ وخيانة قادة منظمة الاتحاد المغربي للشغل، كما أنه لم يتم استدعاء المجلس الأعلى للوظيفة العمومية طبقا للاتفاق المبرم مع الحكومة. [8]
ويتضح موقف منظمة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب من إضراب 19 يونيو 1961، من خلال تتبع ما نشرته جريدة العلم من مقالات تتهم فيها إعلان “الاتحاد المغربي للشغل لهذا الإضراب بكونه إضرابا سياسيا تهدف من وراءه هيئة سياسية الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تحقيق مصالحها بالعودة إلى السلطة. وأن سعيها لتوقيف جهاز الدولة يهدف إلى إبراز قوتها فضلا عن كون مطلب رفع الأجور يؤدي إلى مضاعفة ميزانية التسيير، ويهدد ميزانية الدولة والاقتصاد الوطني. [9]
وتستحضر هذه الجريدة مجموعة من المواقف التي سبق اتخاذها من طرف أحد عناصر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (عبد الرحيم بوعبيد). أثناء تواجده على رأس وزارة المالية سنة 1958. أسفر عنها تجميد أجور الموظفين وعدم تغييرها منذ سنة 1956 وقد ساندت منظمة الاتحاد المغربي للشغل هذه المواقف آنذاك.[10]
واعتبرت نفس الجريدة أن تراجع منظمة الاتحاد المغربي للشغل عن إضراب 19 يونيو 1961، يعد بمثابة هزيمة للهيئة السياسية المتسترة وراء هذه المنظمة، وأن الموظفين لم يستجيبوا للدعوة إلى الإضراب رغم ممارسة أسلوب العنف وتوزيع مناشير لتهديد الممتنعين عن الإضراب [11]
وأعلنت جامعة البريد التابعة للاتحاد المغربي للشغل” عن إضراب جديد يوم 20 دجنبر 1961، بسبب عدم تنفيذ الحكومة للاتفاق المبرم مع المنظمة، إثر تراجعها عن إضراب 19 يونيو 1961، والمتعلق بانعقاد المجلس الأعلى للوظيفة العمومية.
فبعث المكتب الفيدرالي لجامعة البريد رسالة إلى رئاسة الحكومة ووزارة الوظيفة العمومية ووزارة البريد، يعلن فيها استعداد العملة والموظفين لشن إضراب عام يوم 20 دجنبر 1961. وجاء في هذه الرسالة ” إن مكتب الفيدرالية الشرف بأن يخبركم بأنه طبقا لقرارات المؤتمر الثالث للجامعة الوطنية للبريد التابعة للاتحاد المغربي للشغل المنعقد في 7 و8 أكتوبر 1961 فإن اللجنة الإدارية المجتمعة يوم 17 نونبر بالدار البيضاء قد قررت شن إضراب عام غير محدود الآجل، ابتداء من 20 دجنبر 1961 على الساعة 0 إذا لم يتم قبل يوم السبت 16 دجنبر 1961 إرضاء مجموع مطالبنا التي قدمت لكم يوم 23 أكتوبر 1961 بواسطة مذكرة مدققة ومفصلة [12]
ونشرت جريدة “التحرير” عدة بلاغات للجامعة الوطنية لموظفي العدل والجامعة الوطنية للتعليم التابعتين للاتحاد المغربي للشغل، يؤكدان فيها قرار شن إضراب عام ابتداء
من 20 دجنبر 1961 دفاعا عن حقوقهم وتضامنا مع موظفي قطاع البريد. [13]
ورغم انعقاد لقاء بين مكتب الجامعة الوطنية للبريد ووزير هذا القطاع يوم 16 دجنبر 1961 حول دراسة مطالب عمال وموظفي البريد، إلا أنها لم تسفر عن أية نتيجة فأصدرت الجامعة بلاغا تؤكد فيه تمسكها بقرار الإضراب العام. وبالفعل دخل موظفو البريد في إضراب يوم الأربعاء 20 دجنبر 1961.
وذكرت جريدة “التحرير” أنه رغم تهديدات السلطة ومحاولة منع هذا الإضراب فإن امتداده كان عاما وشاملا في جميع أنحاء المغرب. فتعطلت الحركة في جميع المراكز والإدارة المركزية للبريد في العاصمة، باستثناء شبكة المواصلات الخارجية التي تقرر بقاؤها مفتوحة بالنسبة للمكالمات ذات الصيغة الاستعجالية.
وأشارت الجريدة كذلك إلى جملة من الاعتداءات على بعض العاملين لمدينة البيضاء، بسبب تدخل قوات الشرطة، إضافة إلى احتلال مركز الشيكات البريدية بالرباط من طرف السلطات الأمنية، واعتقال بعض الموظفين التابعين للاتحاد المحلي بالرباط.
وأصدرت وزارة البريد بلاغا عاجلا، جاء فيه أن الوزارة عرضت على أنظار الملك حالة موظفيها. وأن الملك عقد عدة اجتماعات لدارسة حالة موظفي البريد، وتم اتخاذ تدابير تهم:[14]
- تثبيت الموظفين المؤقتين والمساعدين والعمال الذين قضوا في عملهم أكثر من سبع سنوات في خدمة الدولة.
- تعيين الموظفين الذين نجحوا في الامتحانات المهنية.
- إقرار العطلة الأسبوعية العادية بالتدريج في جميع مصالح البريد.
واعتبرت جريدة ” التحرير” أن تصريحات الحكومة عبر الإذاعة، حول استعدادها لرفع أجور صغار الموظفين هي محاولة لتمزيق وحدة الطبقة العاملة.
وفي هذا السياق أصدرت جامعة البريد التابعة للاتحاد المغربي للشغل بلاغا يوم الإضراب، تضمن توضيحات حول تصريحات الحكومة بالزيادة في أجور العمال المياومين ابتداء من فاتح يناير 1962، ورفع قيمة الرقم الاستدلالي بين 100 إلى 200 بأن الإجراء الأول كان ينبغي أن يدخل حيز التطبيق منذ فاتح يناير 1960 حسب منشور إداري صادر عن الوظيفة العمومية سنة 1960، أما الإجراء الثاني فلا يمس إلا فئة قليلة من الموظفين، ولا يستجيب لارتفاع تكاليف المعيشة. [15]
وفي يوم الخميس 21 دجنبر 1961 عقد اجتماع بناءا على طلب من وزير البريد بين ممثلي العمال ومسؤولين في الوزارة. فأصدرت الجامعة الوطنية للبريد التابعة للاتحاد المغربي للشغل بلاغا ورد فيه بأنه: ” على إثر جلستي عمل عقدنا يوم 21 و22 دجنبر 1961 بطلب من السيد وزير البريد والتلغراف والتيلفون أسفرت المحادثات التي دارت عن إرضاء جانب من مطالبنا وستعقد جلسات عمل أخرى لدراسة بقية المطالب ونتيجة لذلك فقد قررت الجامعة الوطنية للبريد التابعة للاتحاد المغربي للشغل إيقاف الإضراب الذي شن يوم 20 دجنبر 1961، وهي إذ تهنئ جميع موظفات وموظفي البريد …. تطلب منهم أن يستأنفوا أعمالهم اليوم 22 دجنبر على الساعة الثانية والنصف [16]
أما بخصوص نقابة وزارة الشؤون الخارجية التابعة للاتحاد المغربي للشغل فعقدت جمعا عاما استثنائيا يوم 19 دجنبر 1961 وقررت شن إضراب إنذاري يوم 20 دجنبر 1961 دفاعا عن مصالحهم وتضامنا مع موظفي وعمال البريد. وصدر بلاغ عن هذه النقابة يطالب كافة المضربين أن يستأنفوا عملهم يوم الخميس 21 دجنبر 1961 مع الاحتفاظ بالاستعداد لشن إضراب عام غير محدود، في حالة عدم تلبية المطالب أو في حالة ممارسة استفزاز للمضربين [17]
وتضمنت مطالب موظفي وزارة الخارجية:؛
- ترسيم الموظفين الصغار
- تتميم إصدار قوانين إطارات الوزارة وخاصة منها قانون نواب أمناء السر وقانون مستخدمي السفارات والقنصليات والبعثات.
- إدماج الموظفين من ديبلوماسيين وقنصليين في الإطارات الخاصة بهم.
- تكوين لجنة الترسيم والإدماج تكون منتخبة من طرف الموظفين خصوصا أن أغلبية موظفي الخارجية كانت تربطهم عقود مع الإدارة والبقية تتكون من مستخدمين مياومين.
وردا على إجراءات الطرد المتخذة في حق المضربين يوم 20 دجنبر 1961، عقد موظفو وزارة الشؤون الخارجية جمعا عاما استثنائيا ببورصة الشغل بالرباط 21 دجنبر 1961 وتقرر مواصلة إضراب عام غير محدود [18].
وفي نفس اليوم قررت اللجنة الإدارية التابعة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالرباط، مبدأ شن إضراب عام عن العمل باسم جماهير الاتحاد من عمال وطلاب وفلاحين وتجار، تضامنا مع المضربين.[19]
وفي هذا السياق نددت جريدة “التحرير” بالحملات الانتقامية والاستفزازية التي تواصلها السلطات ضد المضربين، وأشارت إلى وقوع إضراب بالرباط يوم الثلاثاء 26 دجنبر 1961 تضامنا مع الطبقة العاملة، ومساندة لرفض إجراءات الطرد المتخذة في حق عدد من موظفي وزارة الخارجية، وتم نشر لائحة بأسماء الأشخاص الذين تعرضوا للطرد من مختلف الإدارات والمصالح. وأشارت الجريدة إلى لجوه السلطات إلى نصب حواجز أمنية للشرطة في مختلف الطرق الرئيسية بالمغرب، وتفتيش سيارات النقل الخاصة والعمومية. [20]
وبالرجوع إلى موقف الجامعة الوطنية لمستخدمي وموظفي البريد التابعة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب”، فقد قررت بدورها خوض الإضراب العام ليوم 20 دجنبر 1961 بحجة غياب حقوق موظفي البريد الذين يعترف المسؤولون عن الوزارة بمشروعية مطالبهم النقابية المتمثلة في رفع الأجور، ورد التعويضات العائلية، إضافة لترسيم الأقدمين.[21]
وأعلنت الجامعة الوطنية لموظفي الجمارك التابعة للاتحاد العام للشغالين بالمغرب على أعمدة جريدة العلم تضامنها مع موظفي البريد، وإمكانية مشاركتها في الإضراب في حالة عدم التنفيذ العاجل للمطالب التي تم تقديمها إلى وزير الاقتصاد الوطني والمالية وظلت حبرا على ورق. [22]
إلا أن جامعة الموظفين التابعة للاتحاد العام للشغالين بالمغرب عادت بعد صدور بلاغ من الكتابة العامة للحكومة لمنع إضراب 20 دجنبر 1961، إلى التصريح بإلغاء الإضراب.
وورد ضمن بلاغ الكتابة العامة للحكومة بأنه نظرا للإضراب المراد القيام به يوم 20 دجنبر في بعض المصالح العمومية يعاد إلى الأذهان أنه بمقتضى المادة 5 من المرسوم رقم 2-57-1465 الصادر بتاريخ 15 رجب 377 موافق 5 فبرابر 1958 التي تنص على أن كل انقطاع منظم عن العمل في أي مصلحة وكل عمل جماعي مخالف للنظام يستوجب العقوبة وذلك خارجا عن نطاق الضمانات التأديبية [23]
وفي يوم الإضراب صدر بلاغ عن الجامعة الوطنية للبريد التابعة للاتحاد العام للشغالين بالمغرب يبرر موقف التراجع عن قرار المشاركة في الإضراب.
ويشير البلاغ إلى أنه بناء على القرارات التي اتخذتها حكومة صاحب الجلالة في صالح الموظفين الصغار لرفع أجورهم، بناء على الوعد الذي قطعه صاحب الجلالة على نفسه في اتخاذ قرارات أخرى لصالح الموظفين في شهر يناير 1962
فإن الجامعة الوطنية لعمال وموظفي البريد قررت باتفاق مع الجامعة الوطنية الفلاحة والجامعة الوطنية للأشغال العمومية، والجامعة الوطنية للإنارة والطاقة والكهربائية وجامعة الجمارك التابعة للاتحاد العام للشغالين بالمغرب العدول عن الإضرابات التي أعلنت عنها.
وفي هذا الإطار قام الملك الراحل الحسن الثاني بتعيين لجنة وزارية مشتركة تضم خمسة وزراء، بهدف تحديد حجم الزيادة الحقيقية للأجور. فقررت الحكومة زيادة عامة في الأجور بنسبة 5.7% تبعا لملاحظة الزيادة في مستوى المعيشة خلال 30 نونبر 1961 [24].
إن تتبع مختلف البلاغات والتصريحات الواردة حول إضراب الموظفين بتاريخ 20 دجنبر 1961، يؤدي إلى الخروج بجملة من الاستنتاجات نميز ضمنها بين جوانب ترتبط بمواقف المركزيات النقابية، وأخرى تتعلق بالمواقف الحكومية.
على مستوى المركزيات النقابية عكست البلاغات الصادرة عن منظمة الاتحاد المغربي للشغل، غياب تشاور موسع وبكيفية سابقة مع القاعدة العمالية، سواء أثناء اتخاذ قرار الإضراب أو التراجع عنه، وفي هذا الإطار تتهم قيادة الإتحاد المغربي للشغل بالتراجع عن قرار إضراب 19 يونيو 1961 دون استشارة مع أية هيئة مسؤولة، مما خلف استياء وسط مناضلي حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية. [25]
إضافة إلى بروز تحول سريع ومفاجئ في مواقف الجامعة الوطنية للبريد. وتأكيدها على تحقيق بعض المطالب ضمن أحد بلاغاتها، دون تحديد لمضمون تلك المطالب ومدى أهميتها [26].
أما بخصوص مواقف بعض جامعات الموظفين التابعة للاتحاد العام للشغالين بالمغرب فيطبعها التناقض، ونوع من الترقب والتردد في اتخاذ مواقف مبررة وحاسمة للمشاركة في الإضراب أو معارضته. فقبل تراجع الإتحاد المغربي للشغل عن إضراب 19 يونيو 1961 وجه له الإتحاد العام للشغالين بالمغرب اتهامات بخوض إضراب سياسي بتحريض من حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ، بهدف العودة إلى السلطة واستخدام منطق القوة لإبراز القدرة على التعبئة وتحريك صفوف العمال والموظفين، إلا أن لجنة التنسيق التابعة للاتحاد العام للشغالين بالمغرب عادت بمناسبة إعلان الإتحاد المغربي للشغل عن إضراب 20 دجنبر 1961 إلى الدفاع ضمن مطالبها على إلغاء المرسوم الذي يحرم الموظفين من حق الإضراب، والتهديد بشن الإضراب في حالة عدم الاستجابة المطالب الموظفين. وعند حلول يوم الإضراب، تخلى الإتحاد العام للشغالين بالمغرب من جديد عن مواقفه الداعمة للإضراب وعمد إلى التصريح بأن الإضراب جريمة في حق الوطن ويدعو إلى نبذ نهائي لفكرة الإضراب من الأذهان. [27].
أما على مستوى المواقف الحكومية فتعكس اتجاها متصلبا في التعاطي مع مطالب فئات الموظفين، خصوصا أن هناك اعترافا من كافة الأطراف بوجود مشاكل حقيقية تمس القدرة الشرائية للموظفين، بدليل اتخاذ بعض التدابير الهامشية المتعلقة بترسيم بعض الموظفين الذين قضوا سبع سنوات من الخدمة وتوسيع تدريجي للاستفادة من العطلة الأسبوعية، بهدف نزع فتيل التوتر القائم في قطاع البريد، إضافة إلى تقديم الحكومة وعودا دون الالتزام بتنفيذها، وتجميد الحكومة للمجلس الأعلى للوظيفة العمومية كأحد الآليات القانونية للتفاوض وتسوية النزاعات.
وفي هذا الإطار تبرر الجامعة الوطنية للبريد التابعة للاتحاد المغربي للشغل لجوئها إلى إضراب 20 دجنبر 1961، بعدم التزام الحكومة بوعدها أثناء التراجع عن إضراب 19 يونيو 1961، بدعوة المجلس الأعلى للوظيفة العمومية.
ويجسد إضراب موظفي وزارة الخارجية جانبا من التداخل بين النشاط الحزبي والعمل النقابي من خلال تصريح حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بشن إضراب عام بالرباط لدعم المضربين الشيء الذي يثير التساؤل عن حدود استقلالية النقابة في اتخاذ مواقفها ومدى تعبير قراراتها عن المطالب الحقيقية لمختلف فئات الموظفين.
ويقدم هذا التداخل بين الحزب والنقابة مبررا للطعن في حسن نية المضربين وسعيهم إلى تحقيق أهداف تتجاوز المطالب النقابية المحضة، وتدخل في مجال التنافس السياسي.
ويلاحظ أن التداخل القائم بين الحزب والنقابة برز منذ عهد الحماية أثناء الانتفاضة التي اندلعت في الدار البيضاء في شهر دجنبر 1952، عقب مقتل الزعيم النقابي فرحات حشاد، بحيث تزعمت الحركة النقابية هذه الانتفاضة في الشارع.[28]
ورغم أن إضراب الموظفين في 20 دجنبر 1961، يبدو منطقيا باعتبار ما له من مبررات اقتصادية تتجسد في ضعف القدرة الشرائية للموظفين، باعتراف كافة الأطراف وبدليل بعض التدابير التي اتخذتها الحكومة، ثم تراجع الإتحاد المغربي للشغل عن قرار الإضراب خلال يونيو 1961، في انتظار تنفيذ الحكومة لوعودها بانطلاق عملية التفاوض حول المطالب المقدمة.
إلا أنه على المستوى النقابي اندلعت هذه الاضرابات في أجواء من التوتر، بعد تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب بتاريخ 20 مارس 1960، ولجوء الاتحاد المغربي للشغل إلى تنظيم اضرابات كرد فعل على تأسيس هذه المركزية النقابية المنافسة. هذه الأخيرة التي لا يفهم عدم اعتراف السلطات العمومية بها رسميا، إلا في 20 مارس 1963.
إن ظروف اندلاع هذا الإضراب تضفي عليه طابعا سياسيا، يتعلق أساسا بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم في ماي 1960، وتلقي المضربين الدعم والمساندة من طرف حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، فضلا عن تدخل الملك كأعلى سلطة في البلاد في كافة مراحل هذا النزاع.
ويمكن تلخيص المعطيات المتعلقة بهذا النزاع ضمن الجدول الآتي:

المصدر: الحركة النقابية والنزاعات العمالية الكبرى في المغرب ما بين 1956 و1996، أطروحة لنيل الدكتوراة في القانون العام، علاء الدين راجي، السنة الجامعية 2009-2010، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاجتماعية. أكدال-الرباط
اقرأ أيضا


