أطروحات حول الثورة والثورة المضادة – ليون تروتسكى (1926)

1 – كانت الثورات عبر التاريخ متبوعة دائما بثورات مضادة. ودائما، تعيد الثورات المضادة المجتمع إلى الوراء، لكن ليس أبدا إلى نقطة انطلاق الثورة. ويمثل تعاقب الثورات والثورات المضادة نتاج خصائص جوهرية لآلية المجتمع الطبقي، حيث تمكن، دون سواه، ثورات وثورات مضادة.

2 – تتعذر الثورة بدون مشاركة الجماهير. وتستحيل هذه المشاركة بدورها ما لم تربط الجماهير المضطهدة تطلعها إلى مستقبل أفضل بالثورة . وبمعنى ما، دائما ما يكون الأمل الذي تستثيره ثورة مبالغا فيه. هذا ناتج عن آلية المجتمع الطبقي، أي عن وضع أغلبية الجماهير الشعبية المريع، وعن الحاجة الموضوعية لاستثارة أعظم الآمال وتعبئة أكبر الجهود من أجل تأمين حتى أبسط نتيجة، الخ.

3 – تنتج عن هذه الشروط ذاتها إحدى أهم عوامل الثورة المضادة- فضلا عن كونه إحدى أكثرها شيوعا. فالمكاسب المنتزعة في النضال لا تطابق، ولا يمكنها بقوة الأشياء أن تطابق، مباشرة تطلعات الجماهير المتخلفة العريضة المستيقظة لأول مرة في غضون الثورة. إن خيبة أمل هذه الجماهير، وعودتها إلى حياة الرتابة والتفاهة، يمثل جزءا لا يتجزأ من الحقبة ما بعد الثورية، شأنه شأن انتقال الطبقات “الراضية”، المشاركة في الثورة، أو فئات منها، إلى معسكر” القانون والنظام”.

4 – وبعلاقة وثيقة مع هذه الأواليات، تحدث في معسكر الطبقات الحاكمة سيرورات موازية، لكن مغايرة، وحتى متعارضة جزئيا معها،. يخيف استيقاظ كتائب عريضة من الجماهير المتخلفة الطبقات الحاكمة، لأنه يغير ما اعتادت من توازن، ويحرمها مما كانت تحوز من دعم مباشر وثقة من لدن الجماهير، متيحا على هذا النحو للثورة إمكانات أكبر بكثير من تلك التي بوسعها فعلا أن تستغلها.

5 – إن خيبة قسم كبير من الجماهير المضطهدة إزاء مكاسب الثورة المباشرة، وبصلة مباشرة مع هذا، تناقص الطاقة والنشاط الثوري الطبقي، يولدان ثقة مجددة لدى الطبقات المعادية للثورة– تلك التي أطاحتها الثورة دون أن تحطمها، وكذا تلك التي ساعدت في مرحلة ما الثورة، لكن تطور هذه اللاحق دفعها إلى معسكر الرجعية.
6- سنحاول، انطلاقا من الأوالية الموصوفة أعلاه، والتي تعكس إلى هذا الحد أو ذاك أوالية كل الثورات السابقة، فحص كيفية انطباق هذه المسائل على نحو ملموس أكثر على حالة أول ثورة بروليتارية ظافرة، التي باتت سائرة نحو ذكراها السادسة.
إن عواقب حرب امبريالية من جهة، وامتزاج ثورة زراعية برجوازية صغيرة مع استيلاء البروليتاريا على السلطة من جهة أخرى، قد قادا الجماهير إلى النضال الثوري على نطاق لم يسبقه نظير، ما مد الثورة باندفاع غير مسبوق.
7- بصدد أهمية الثورة وقيادتها، المميزة بحزم فريد في التاريخ، مُنيت الطبقات الحاكمة القديمة ومؤسسات التشكيلتين الاقتصاديتين-الاجتماعيتين – قبل الرأسمالية والرأسمالية (الملكية وبيروقراطيتها، النبلاء والبرجوازية) بهزيمة سياسية تامة اتضح أنها أشد جذرية وذات عواقب مستديمة أكثر من ذي قبل بسبب سعي الطبقات الحاكمة القديمة، بقيادة الامبرياليات الأجنبية، إلى إطاحة ديكتاتورية البروليتاريا بقوة السلاح طيلة سنوات عديدة.
8- القوة التي هُزمت بها الطبقات الحاكمة القديمة ضمانة ضد خطر إعادة النظام القديم، لكن صلابة هذه الأخيرة وأهميتها لا يمكن تقويمهما بصواب إلا بارتباط مع عوامل أخرى لا تقل أهمية.
9- إن أفضل ضمانة ضد إعادة المَلكية والملاكين العقاريين هي المصلحة المادية المباشرة التي لأغلبية الفلاحين في الحفاظ لنفسها على الملكيات الكبيرة القديمة.
ترمي فكرة ميليوكوف بصدد إعادة النظام القديم في شكل برجوازي-جمهوري صرف إلى تحييد الفلاحين سياسيا، وكسب فئاتهم العليا (بفضل كتلة مع الاشتراكيين الثوريين) إلى هدف إعادة النظام القديم.
10- لا ريب أن البروليتاريا لم تفلح في الحفاظ على السلطة خلال حقبة 1918-1920، ومن ثمة حماية تأميم المعامل والمصانع، سوى لأن الفلاحين كانوا آنذاك يقاتلون للحفاظ على الأرض المنتزعة من أيدي نفس الأعداء. إن النضال للحفاظ على الصناعة المؤممة أقل أهمية مباشرة بالنسبة للفلاح، فلحد الآن يحصل على المواد الصناعية بسعر أكبر مما كان في ظل النظام البرجوازي.
11- على أساس هذا التقييم، كتب لينين في العام 1922:”نقود الثورة الديمقراطية البرجوازية أبعد مما جرى بأي مكان آخر بالعالم. هذا مكسب كبير، وما من قوة بالعالم قادرة على منازعتنا فيه…لقد خلقنا الدولة من طراز سوفييتي، وفتحنا عصرا جديدا في تاريخ العالم، عصر سلطة البروليتاريا السياسية، السائرة إلى الحلول مكان سلطة البرجوازية. ما من قادر على انتزاع هذا منا، رغم أن طراز الدولة السوفييتي لن يتخذ شكله النهائي إلا بمساعدة التجربة العملية لبروليتاريا بلدان عديدة.
لكننا لم ننته بعد من وضع أسس الاقتصاد الاشتراكي، وما زال بوسع قوى الرأسمالية المحتضرة المعادية أن تمنعنا من ذلك”.
12- ستظل مسألة الفلاحين، طالما بقيت ثورتنا معزولة، المسألة المركزية المطروحة على البروليتاريا في كل مرحلة. كان انتصار الثورة وامتدادها محددين بتركيب بين ثورة بروليتارية وحرب فلاحية. وخطر إعادة النظام القديم (ثورة مضادة) محكوم بانفصال محتمل بين البروليتاريا والفلاحين بسبب نقص اهتمامهم بالحفاظ على نظام الصناعة الاشتراكي، وعلى نمط التعاون القائم في دائرة التجارة، الخ. كما سبق القول، تهدف إعادة النظام البرجوازية الجمهورية لميليوكوف إلى التمايز عن إعادة نظام من طراز المَلكية- الملاكين العقاريين، بقصد تسهيل الانفصال بين البروليتاريا والفلاحين.
13- الفلاحون طبقة قبل رأسمالية (هيئة اجتماعية). وتحولت، في ظل الرأسمالية، إلى طبقة منتجين على نطاق صغير، أي إلى برجوازية زراعية صغيرة. وقد حبست شيوعية الحرب على نحو ضيق ميول الاقتصاد الفلاحي البرجوازية الصغيرة. وقامت السياسة الاقتصادية الجديدة بإنعاش تلك الميول البرجوازية الصغيرة المتناقضة داخل الفلاحين، ما أدى إلى إمكان إعادة نظام برجوازية.
14- وسيتأكد أن العلاقة بين الأسعار الصناعية و الأسعار الفلاحية (المقص) هي العامل الحاسم لمسألة موقف الفلاحين إزاء الرأسمالية أو الاشتراكية.
يجعل تصدير المنتجات الزراعية “المقص” الداخلي سريع التأثر بضغط السوق العالمية.
15- وإذ أعاد الفلاحون تشكيل اقتصادهم بما هم منتجون خواص يشترون ويبيعون، فقد أعادوا حتما خلق شروط إعادة نظام رأسمالية. وتتمثل القاعدة الاقتصادية لذلك في مصلحة الفلاح المادية في سعر قمح مرتفع وأسعار منتجات صناعية منخفض.
العناصر السياسية لإعادة النظام القديم هاته أعاد خلقها الرأسمال التجاري الذي أعاد العلاقات ضمن الفلاحين المجزئين والمشتتين، من جهة، وبين المدينة والقرية، من جهة أخرى. ينظم التاجر، مع الفئات العليا بالقرية، مقاطعة المدينة. ينطبق هذا، طبعا، بالمقام الأول على الرأسمال التجاري الخاص، لكنه ينطبق أيضا بمستوى ما دال على الرأسمال التجاري التعاوني، مع فاعليه ذوي الخبرة المديدة في التجارة والميالين بالطبع إلى الكولاك.
16- قلما تجدر الإشارة، من زاوية نظر إعادة النظام القديم، إلى الدلالة المباشرة، الاقتصادية والسياسية، للهجرة البرجوازية أو الملكية. فقط عندما تبلغ الأواليات الاقتصادية والسياسية المنوه بها “نضجها”، يمكن أن تحدث صلة بالمهاجرين، وبوجه خاص عبر تحول هؤلاء المهاجرين إلى وكلاء وخدام للرأسمال الأجنبي [1].
17- قد تفصل في الغالب بين سيرورات اقتصادية وتعبيرها السياسي سنوات عديدة. ستكون السنوات القادمة بالغة الصعوبة بالضبط لأن نجاحات حقبة البناء قادتنا إلى داخل نظام السوق العالمية، وعرت بفعل ذلك ذاته، إلى أقصى حد، تخلف صناعتنا بنظر الفلاحين. لن نستطيع اجتياز هذه الحقبة الصعبة سوى بأشد صلابة سياسية لدى البروليتاريا، وأشد نشاط سياسي، وبفضل قدرة الحزب البروليتاري على المناورة على نحو حاسم، ما يستلزم تركيز الديكتاتورية المطلق.
18- لقد باتت حياة الطبقة العاملة مركزة على تجربة حقبة إعادة البناء. وجرى ترميم صفوف البروليتاريا وتكميلها. وقد ارتفع متوسط عمرها على نحو محسوس قياسا بسنوات الثورة الخمس الأولى. ولا تزال المرحلة الجديدة، المتجلية في حدودها التقريبية فقط، والتي تهدد بزيادة الدور الاقتصادي والسياسي للعناصر غير البروليتارية في المجتمع، لم تدخل بعد وعي جماهير البروليتاريا.
19- إن الأمر الأشد خطرا بصدد نظام الحزب هو بالضبط جهله الأخطار الطبقية، ومماحكته بصددها، ومحاربته أي محاولة لإثارة الانتباه إليها. وهو بهذا ينوم يقظة البروليتاريا وينقص قتاليتها.
20- من الخطأ تجاهل واقع أن قابلية تأثر البروليتاريا اليوم (1926) بالمنظورات الثورية وبالتعميمات العريضة بات أقل كثيرا مما كان في أثناء الثورة وفي بضع سنوات تالية لها.
لا يمكن لحزب البروليتاريا أن يتكيف على نحو سلبي مع كل تغير في حالة الجماهير الذهنية. لكن، لا يمكن كذلك تجاهل التغيرات الناتجة عن أسباب تاريخية عميقة.
21- أثارت ثورة أكتوبر، بدرجة أرفع من أي ثورة أخرى بالتاريخ، أكبر الآمال والأهواء ضمن الجماهير الشعبية، ومنها الجماهير البروليتارية بالمقام الأول.
بعد عذابات 1917-1921 الكبيرة، حسنت الجماهير البروليتارية كثيرا وضعها. وتتمسك بهذا التحسين، مفعمة بالأمل في التطور اللاحق. لكنها أدركت، في الآن ذاته، من خلال تجربتها بطء هذا التحسن، الذي لم يفض لحد الآن سوى إلى استعادة مستوى عيشها قبل الحرب. ولهذه التجربة أهمية عظيمة للجماهير، لاسيما الجيل القديم. وقد تطورت على نحو أشد حذرا، وأكثر تشككا، وأقل تأثرا مباشرا بالشعارات الثورية، وأقل تقبلا للتعميمات الكبرى. هذه الحالة الذهنية، التي ظهرت للعيان بعد محن الحرب الأهلية ونجاحات إعادة البناء الاقتصادية، لم تنقضها بعد الحركات الجديدة للقوى الطبقية – تمثل تلك الحالة الذهنية الخلفية السياسية للحياة الحزبية، فعليه تستند النزعة البيروقراطية بما هي عنصر “قانون ونظام” و “سكينة”. وقد اصطدمت محاولة المعارضة طرح مسائل جديدة أمام الحزب بتلك الحالة الذهنية بالضبط.
22- جيل الطبقة العاملة القديم، الذي قام بثورتين، وبالأقل الأخيرة، البادئة في 1917، يوجد في حالة عصبية، ومنهك، ويخشى إلى حد بعيد كل اضطراب متصل بمنظور الحرب، والفوضى، والمجاعة، والأوبئة، وهلم جرا.
23- يُـثار لغط كثير بصدد نظرية الثورة الدائمة بالذات بقصد استغلال سيكولوجية قسم كبير من العمال، لا تحركهم بتاتا مطامح شخصية، بل تزايد وزنهم، وأسسوا أسرا. وطبعا لا ترتبط صيغة النظرية المستعملة بالصراعات القديمة، المودعة في الأرشيف منذ زمان، لكن ذلك يثير فقط استيهام اضطرابات جديدة – من قبيل”اجتياحات بطولية”، وانتهاكات “للقانون وللنظام”، وتهديد منجزات حقبة إعادة البناء، وحقبة جديدة من الجهود والتضحيات. إن اختلاق محاكمة بصدد الثورة الدائمة يمثل، جوهريا، مراهنة على الحالة الذهنية لقسم من الطبقة العاملة، ومنه أعضاء بالحزب، بات مكتفيا، وزاد وزنه، و أصبح شبه محافظ.
24- الجيل الجديد، الذي بلغ الآن النضج، تنقصه خبرة النضال الطبقي والصلابة الثورية الضرورية. إنه لا يفحص المسائل بذاتها، مثل الجيل السابق، بل يسقط مباشرة في بيئة حزب ومؤسسات حكومية قوية، وسلطة وانضباط، الخ. حاليا، يزيد هذا صعوبة اضطلاع الجيل الجديد بدور مستقل. ومن ثمة تكتسي مسألة التوجيه السليم لجيل الحزب الفتي وللطبقة العاملة أهمية هائلة.
25- بموازاة السيرورات المنوه بها أعلاه، كان ثمة نمو مفرط للدور الذي قامت به في الحزب وفي جهاز الدولة فئة خاصة من قدماء البلاشفة، أعضاء أو مناضلين نشطين بالحزب في أثناء حقبة 1905، وغادروه في حقبة الرجعية، وتكيفوا مع النظام البرجوازي، وتبؤوا موقعا هاما إلى هذا الحد أو ذاك؛ وكانوا دفاعويين (*)، مثل الانتلجنسيا البرجوازية برمتها؛ وعلى غرار هذه دفعتهم ثورة فبراير أماما (ما لم يحلموا به حتى، قبل بداية الحرب)؛ لكنهم عادوا إلى الحزب بعد إحراز النصر أو بعد استقرار النظام الجديد، لحظة أوقفت الانتلجنسيا البرجوازية مسعاها التخريبي. هذه العناصر هي طبعا عناصر من طراز محافظ. وهم غالبا لصالح إضفاء الاستقرار ضد أي معارضة. ويوجد قسم كبير من تربية شباب الحزب بين أيديهم.
هذا هو تضافر الظروف الذي حدد، في الحقبة الحديثة من تطور الحزب، تغيير قيادة الحزب وانعطاف سياسته نحو اليمين.
26- يمثل التبني الرسمي لنظرية “الاشتراكية ببلد واحد” تصديقا نظريا على الانعطافات التي حصلت وأول قطيعة مع التراث الماركسي.
27- تكمن العناصر الساعية إلى إعادة نظام برجوازية في : أ) وضع الفلاحين الذين لا يريدون عودة الملاكين لكنهم غير منتفعين ماديا من الاشتراكية (من ثمة أهمية صلاتنا السياسية مع الفلاحين الفقراء)؛ ب) الحالة الذهنية لفئات مهمة من الطبقة العاملة، وانخفاض الطاقة الثورية، وتعب الجيل الأقدم، ونمو وزن العناصر المحافظة الخاص.
28- العناصر العاملة ضد إعادة النظام القديم هي: أ) خوف الموجيك من عودة مالك الأرض مع الرأسمالي، كما سبق أن غادر مع الرأسمالي؛ ب) بقاء السلطة وأهم وسائل الانتاج حاليا بأيدي الدولة العمالية، رغم ما يشوب ذلك من تشوهات قصوى؛ ج) واقع بقاء قيادة الدولة حاليا بأيدي الحزب الشيوعي، رغم ما ينعكس فيه على نحو محرف من حركة جزيئية للقوى الطبقية وتغيرات الحالة الذهنية السياسية.
يترتب عما قيل أن الحديث عن ترميدور كأمر حاصل سيكون تشويها فظا للواقع. لم تصل الأمور أبعد من مستوى بعض التمرينات في الحزب ووضع بعض الأسس النظرية. لم ينتقل جهاز السلطة المادي إلى طبقة أخرى.

تعريب: المناضل-ة
===
(*) أنصار دفاع عن الوطن إبان الحرب العالمية الأولى.
إحالات :[1] مجرد تحليل إمكان أو خطر إعادة نظام بائد أمر يعتبره البيروقراطي ضيق الأفق” نقص وفاء”. لكن علة وجود هذا البيروقراطي ضيق الأفق هي بوجه الدقة جعل فعل معيدي النظام البائد أسهل بمنع العناصر الثورية من تقويم صائب لمجرى إعادة النظام البائد، ومن تعبئة البروليتاريا في الوقت المناسب لرد الهجوم.

شارك المقالة

اقرأ أيضا