إرنست ماندل (1923-1995): أعمال إرنست ماندل، إرث هام للنضال الثوري

قبل 26 سنة غادرنا الرفيق ارنست ماندل (1923-1995) بعد حياة كرسها لقضية تحرر الطبقة العامة وعامة المضطهدين. تمكينا للجيل الراهن من الافادة من الرصيد الفكري لهذا المناضل الماركسي النموذجي، المستند على ممارسة يومية داخل الحركة العمالية الثورية، ننشر إحاطة بإسهامه كتبها الرفيق الألماني مانويل كيلنر، مع نص لماندل ذاته. وقد سبق لموقع المناضل-ة نشر كتابات عديدة لماندل وأخرى عنه.

_______________________________

أعمال إرنست ماندل، إرث هام للنضال الثوري

مانويل كيلنر

توفي إرنست ماندل (1923-1995) قبل ربع قرن مخلفا لنا أعمالاً نظريةً هامة. هذه ضرورية لمن يسعى إلى وضع حصيلة القرن العشرين والإسهام في صياغة المنظورات الثورية للقرن الحادي والعشرين.

إن الخط الموجه لفكر إرنست ماندل، ومحور دوران كتاباته وحياته كمناضل ثوري، هما النشاط الذاتي التضامني والتنظيم الذاتي الديمقراطي للطبقة العاملة: حجر الناصية من أجل تحرر إنساني شامل. تنبع الفكرة الأساسية لإسهاماته المتعلقة باستراتيجية المعركة من أجل مجتمع لا طبقي، وفي الآن ذاته جوهر رؤيته عن الديمقراطية الاشتراكية التي القادمة على صعيد العالم، من انتقاداته المفصلة للرأسمالية ولغيرها من أنظمة الإكراه المعاصرة. كانت نزعة إرنست ماندل الأممية عضوية ومرتبطة بصلب اهتماماته ومتعذرة الفصل عن انحيازه إلى مصالح الأجراء والمضطهدين والمحرومين وكل المهملين.

هذا ما يفسر تطرق إرنست ماندل  لهذا القدر من المواضيع. وتبين لنا سيرته الرائعة التي كتبها يان فيلم ستوتج  Jan Willem Stutje ماندل الإنسان وتفانيه في خدمة القضية الثورية وبناء أمميتنا الرابعة (1). إن مُصنَّف المداخلات في ندوة عام 1999 في أمستردام حول اسهاماته في النظرية الماركسية، المنشورة تحت إشراف جليبر الأشقر، غنية بالدروس (2). ويعطي كتابي حول أعماله النظرية، المرتكز اساسا لا حصرا على قراءة مؤلفاته، نظرة اجمالية عن إسهامه النظري مع نقاش مكامن قوته وأوجه ضعفه (3).

نقد الاقتصاد السياسي

كان إرنست ماندل يسعى، في كتاب النظرية الاقتصادية الماركسية عام 1962 (الذي انتهى من صياغته في أيار/مايو عام 1960) إلى إثبات: « إمكان إعادة بناء نظام كارل ماركس الاقتصادي برمته انطلاقا من المعطيات التجريبية للعلوم المعاصرة، » (4). إن ثراء الإحالات المرجعية إلى عدد كبير من المنشورات من مختلف مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية يدعم استدلاله بشأن ما يظل راهنيا في نقد كارل ماركس لنمط الإنتاج الرأسمالي -على الرغم من التوسع الاقتصادي المديد بعد الحرب.

كان إرنست ماندل، في هذا الكتاب كما في أعمال أخرى تتناول نفس الموضوع وفي عديد من «مقدماته» لأعمال ماركس وخلفائه، ينأى عن المدرسة الماركسية المبتذلة المتمثلة في سرد الاستشهادات “لإثبات” أن ماركس كان على حق. وعلى نحو مماثل، لم يكن ماندل ميالا بأي وجه إلى اعتبار مقولات نقد ماركس للاقتصاد السياسي معطيات ناجمة منطقيًا ودوغمائيا عن بعضها البعض. كان يطمح إلى توليف التاريخ الاقتصادي والنظرية الاقتصادية، وإبراز أن هذا مكمن قوة مقاربة ماركس. فقد طور، مثلا، نظرية القيمة -العمل بناء على أمثلة ما قبل رأسمالية حول استيلاء طبقة سائدة على النتاج الفائض.

إن الميزة العظيمة لهذه الطريقة تعليمية. أعرف عددًا من المعاصرين الذين تمكنوا مثلي من فهم كتاب رأس المال لكارل ماركس من خلال قراءة كتابات ماندل. كان أسلوب ماندل متمثلاً في توضيح حججه بعدد كبير من الأمثلة الملموسة. هذا ما جعله مفهومًا للغاية ومقنعًا في كتاباته وكذلك في عروضه في دورات التكوين أو الندوات أو اللقاءات السياسية. يشرح بتفصيل في مقدمة كتابه الرأسمالية المتأخرة Spätkapitalismus ، (5) ، منهجه «التاريخي التوليدي» مدافعا عنه، مع إضفاء نسبية ما عليه، إذ كان يتقبل انتقاد إفراطه في «الوصف» في كتابه النظرية الاقتصادية الماركسية.

لم يكن ماندل يؤيد تصورا حتميا للمادية الجدلية التاريخية. كان يتحدث عن «متغيرات مستقلة جزئياً» محددة لتطور نمط الإنتاج الرأسمالي. وشرح سبب ظهور نمط الإنتاج هذا أولا في بلدان بغرب أوربا، لا بسبب «قوانين» تطور تاريخي عامة، بل لاجتماع خصائص معينة، وشروط مسبقة معينة، هناك في لحظة تاريخية. مثال ذلك الذهب المنهوب من أمريكا اللاتينية المعزز لإمكانات تراكم رأس المال–النقدي والفصل التام لقسم هام من السكان عن وسائل إنتاجهم، ما يتيح الاستثمار الكثيف في استغلال قوة العمل. لم تكن هذه الشروط المسبقة قائمة في الصين، وبالتالي لم يمكن تطور نمط الإنتاج الرأسمالي آنذاك – رغم أن بعض التكنولوجيات تطورت هناك أكثر مما كان في أوروبا.

يُعتبر كتاب Spätkapitalismus (الرأسمالية المتأخرة )، المؤلف باللغة الألمانية والصادر في العام 1972، أعظم أعمال إرنست ماندل. يتطلب تعيين سياق هذا العمل استحضار أن الوضع كان لا يزال آنذاك بعيداً عن الهيمنة النيوليبرالية.  كانت الأيديولوجية السائدة تدافع عن النظام الرأسمالي  معتبرة تناقضات نمط الإنتاج هذا الصارخة من قصص الماضي، حيث نجح تدخل الدولة في كبح جماح الأزمات، وتحسن مستوى معيشة أجراء كُثُر تحسنا ملحوظ، وحظيت بلدان «العالم الثالث» بفرصة اللحاق بمستوى البلدان الغنية، وكان تطور أنظمة الضمان الاجتماعي يتجاوز ميول إفقار جماهير عريضة.

في هذا السياق، كان ماندل يوضح أن تناقضات المجتمع الطبقي الرأسمالي غير متجاوزة بتاتاً، وأنها ستتفجر أكثر من ذي قبل في مستقبل قريب. كان يحلل التغيرات الملموسة في سير عمل هذه الرأسمالية في حقبة ما بعد الحرب والتي كانت، بنظره، مرحلة جديدة في إطار الرأسمالية الإمبريالية أو الاحتكارية التي حللها لينين.

وأسهم إرنست ماندل أيضًا في تفسير أزمات فيض الإنتاج الرأسمالي المدمرة والتي تظهر بانتظام –وهي دليل فشل النظام الرأسمالي ومثال جيد عن قوة نقد كارل ماركس لنمط الإنتاج الرأسمالي. تمثل إسهامه الأصيل في رفض التفسيرات أحادية السبب- من قبيل نظرية نقص الاستهلاك، أو نظرية التفاوت بين أقسام الإنتاج الكبيرة، أو أيضاً فرط تراكم رؤوس الأموال. وفي توليفه، تقوم تقلبات معدل الربح  بدور هام. لم يكن ماندل يقتصر على دراسة ما لمختلف المقاربات من قوة تفسير، بل يدرس أيضاً دورها في الصراع بين الطبقة العاملة ورأس المال. على سبيل المثال، كانت القيادات الإصلاحية تستخدم التنظير بصدد نقص الاستهلاك لكي تجعل المطالب مقتصرة على تحسين قدرة الجماهير الشرائية، المفترض أن يكون كافياً لمواجهة الأزمة.

لكن إذا ارتفعت الأجور، تنخفض الأرباح … ما لا يشجع الاستثمار الرأسمالي. وتحيل نظريات تفاوت مختلف قطاعات الإنتاج من جانبها إلى «فوضى» الإنتاج الرأسمالي.

وهنا أيضا، جرى استخدام ذلك حجة دفاع عن خلق «شركة قابضة فائقة» super-holding لتجاوز تأثيرات المنافسة على قرارات الاستثمار. وأخيرا، كان فيض التراكم حجة لدى رأس المال لزيادة إنتاج فائض القيمة. تفترض «نسخة ماركسية» من هذا النوع من النظريات معدل بطالة يقارب الصفر طيلة فترة مديدة جدًا، وهذا أمر طوباوي في نمط الإنتاج الرأسمالي.

وجه العملة الآخر هو وظيفة الأزمات الدورية. إنها، من وجهة نظر رأس المال، أزمات «تطهير»، تعيد الأسعار بنحو متقبض إلى القيم الحقيقية بحيث تبقى أقوى المنشآت ورؤوس الأموال، على حساب المقاولات ورؤوس الأموال الأضعف التي تزول. وعلى هذا النحو يتحقق الميل نحو تمركز رأس المال وتركزه بكيفية كارثية من خلال أزماته.

إرنست ماندل أحد منظري الماركسية القلائل جدا الذين وضعوا نظرية عن «الموجات الطويلة» للرأسمالية: هذه الحقب المتسمة بميل عام نحو التوسع أو الركود الاقتصاديين، والتي تضم كل منها عدة دورات أقصر. لكن، بينما تنطوي الأزمات الظرفية للدورات الصناعية على بذرة الانتعاش الاقتصادي، كان ماندل يوضح أن الحقب الطويلة ذات الميل إلى الركود لا تحتوي على العناصر اللازمة للعودة إلى حقبة ازدهار. فالأمر يتطلب عوامل خارجية، خارج الاقتصاد، ذات طابع سياسي بوجه عام. مثال ذلك أن هزيمة  القرن التي منيت بها الطبقة العاملة والمفضية إلى الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن أشكال الدمار الكارثي الناتج، هي التي أتاحت ارتفاعا مذهلا لفائض القيمة، على حساب الأجراء/ات،  مُرسية أسس حقبة ازدهار ما بعد الحرب.

كان ماندل يتحدث أيضا، بمعنى ما، ومقتديا في ذلك بماركس، عن «الانهيار» القادم (Zusammenbruch) لنمط الإنتاج الرأسمالي، فيما كان هذا الأخير يبدو في ذروة نجاحه. لكنه لم يكن يعتقد أن ثمة آلية اقتصادية تؤدي في حد ذاتها إلى هكذا انهيار. وكان بالفعل يؤكد أن انهزام الأجراء والمضطهدين، وعجزهم عن مقاومة معاملة لاإنسانية قد تفرضها عليهم الرأسمالية، يتيحان لهذه الأخيرة الإفلات بجلدها -نظريًا- لكن على حساب السقوط في الهمجية الشاملة. وكان ماندل يدافع لاعن انهيار اقتصادي محض، بل عن فكرة أزمة شاملة متعددة الأوجه، تشمل أزمة نظام الهيمنة السياسية والأيديولوجية للطبقة الرأسمالية. أزمة بنيوية خاتمتها الاشتراكية أو نهاية الحضارة الإنسانية.

الاشتراكية

كان إرنست ماندل، بالاستناد على كتابات ماركس وعلى مناقاشات البلاشفة الروس والأممية الشيوعية الفتية أثناء الثورة، يعتبر الاشتراكية مجتمعا بلا طبقات، وبالتالي بدون دولة -بدون هذا الجهاز المسلح والإكراهي الذي يعلو فوق المجتمع. في هكذا مجتمع، المعتبر طورا أولا من الشيوعية، ستخلي هيمنة الإنسان على الإنسان المكان لتدبير مشترك للأشياء، ولمنتجات المجتمع المادية، من قبل المنتجين/ات المتشاركين/ات الأحرار/ات.  لن تكون فيه السلع والمال قوة شبه طبيعية تُخضع البشر، وسيكون فيه اقتصاد السوق قيد الاضمحلال لإفساح المجال باطراد لتدبير مشترك بغية تلبية الحاجات. أما الشيوعية، فستكون -كما رسم ماركس معالمها- مجتمعًا حيث حرية كل فرد شرطً لحرية الجميع نساء ورجالاً:  ليس «نهاية للتاريخ»، بل على العكس بداية حقيقية لتاريخ الإنسانية المحررة من كل فظائع الماضي المتسمة بالاستغلال والاضطهاد والعنف.

ويرى ماندل أن بلوغ الاشتراكية يتطلب استيلاء الطبقة العاملة، بتعبئة كل الفئات المضطهدة، على السلطة وتملكها قوى الانتاج التي طورها رأس المال على مستوى العالم كي تديرها وتحولها لمصلحتها الخاصة. وسيكون النظام السياسي الأهل لذلك ديمقراطية اشتراكية، وهي شكل سيطرة الطبقة العاملة الوحيد (كان ماركس وإنجلز يماثلان «دكتاتورية البروليتاريا» مع كومونة باريس للعام 1871 –ذلك الشكل الأولي بامتياز للديمقراطية الأكثر اكتمالا) القادر في الآن ذاته على محاربة فعالة لمقاومة الطبقات المالكة لمصادرة أملاكها، وعلى إرساء تخطيط ديمقراطي.  سيكون واقع الأمر دولة، لكنها دولة تنطوي منذ البداية على بذرة اضمحلالها، ممهدة بذلك لمجتمع لا طبقي و«اشتراكي» بكامل معنى الكلمة.

جلي أن ما يقوله الثوريون عن «المجتمع الانتقالي (إلى الاشتراكية)» -الذي يبدأ في الوجود فور استيلاء الطبقة العاملة على السلطة- يثير اهتمام عامة الشعب أكثر من اهتمامها بيوطوبيا الوضع المأمول المرتقب بعد عقود. وقد كان إرنست ماندل واضحًا للغاية  بصدد هذه النقطة: يجب على هذا المجتمع الانتقالي إلى الاشتراكية أن يحسن، منذ البداية، بنحو ملحوظ مصير الأجراء/ات والجماهير العريضة.  ليس ضمان حريات ديمقراطية أوسع مما في أي جمهورية برجوازية برلمانية ديمقراطية وحسب، بل حتى ضمان أساس مادي متين يتيح للجماهير ممارسة حقة لحقوقها الديمقراطية، والمشاركة في هيئات التسيير الذاتي وسيرورات صنع القرارات السياسية. يتطلب الأمر، بنظر ماندل، تقليصاً حادًا وعامًا لساعات العمل، مع مستوى معيشة لائق للجميع. يجب في هكذا مجتمع انتقالي، إقرار تعدد حزبي وبالتالي خيارات سياسية متعددة وكذا منظمات وجمعيات جماهيرية مستقلة، بدءًا من النقابات.

نقع بسرعة، عند البحث عن مكامن ضعف في استدلال ماندل، على مشكلة «الأسس المادية»  تلك اللازمة لتحقيق هذا التقدم المُحرر. فقراءة الفصل المتناول هذه المشكلة في كتاب النظرية الاقتصادية الماركسية – المؤلف في بداية سنوات 1960-، تبرز بجلاء أن ماندل كان آنذاك بعيدًا عن إدراك مشاكل البيئة بالقدر الذي سيعيها في سنوات 1980 (وبالأحرى وعي الأممية الرابعة لها اليوم). أورد ماندل في مطلع سنوات 1960، ضمن مصادر تراكم اشتراكي، الطاقة النووية وتطوير الزراعة الكثيف باستخدام أسمدة كيماوية،  وهي أمور ليس من شأنه أن يكتبها لاحقًا.

يجب ألا يغيب عن الأذهان أن فكرة التحرر مرتبطة لدى ماندل ارتباطًا وثيقًا بوفرة نسبية لوسائل الاستهلاك، فبدونها لا يمكن تصور توزيع  غير تجاري للمنتجات الاستهلاكية إلا بواسطة نظام تقنين. إذ ليس المقصود تلبية الحاجات الاساسية وحسب، بل تقليصا جذريا لوقت العمل في الآن ذاته.

إذا لزم الغاء أشكال إنتاج كُثيرة لإنقاذ المناخ والأرض، وإذا توجَّب تقليص إنتاج الطاقة بشكل كبير، وإذا كان على الإنتاج الزراعي الاشتغال بدون زراعة أحادية، فلن ترتفع إنتاجية العمل بدرجة فائقة … لكن، لا يمكن لديمقراطية اشتراكية أن تؤدي وظيفتها بلا تقليص جذري لساعات العمل وبدون رفاه مادي للجميع. يجب والحالة هذه إعادة التفكير في ذلك كله.

استراتيجية

يتطور تنظيم الأجراء الذاتي الديمقراطي في النظام الرأسمالي بالنضال الجماعي ضد رأس المال ودولته. يدعونا ماندل إلى تصور نضال يتمدد ويعم، كالحاصل في والونيا في 1960-1961. إنها في واقع الأمر فكرة إضراب عام انتفاضي. إن ضرورات النضال ذاتها، إذا خيض بشكل متسق، تقود إلى اتساع الحركة وتكاثر ما تحدد من مهام لنفسها، بما في ذلك المرتبطة بالأمن العام. تشرع هيئات المضربين المنتخبة ديمقراطيا في منازعة أجهزة الدولة البرجوازية في حقوق السيادة والتمثيل الشرعي. بهذا النحو، يمكن للجان إضراب بسيطة أن تصبح مجالس و«سوفييتات»، أي هيئات دولة بديلة ناشئة من أسفل. هكذا يبرز أولا وضع ازدواجية سلطة  يتطلب فكا  بعد مدة معينة، إما صوب إعادة ارساء سلطة الدولة البرجوازية التامة، أو لصالح ظفر المجالس الممركزة ديمقراطياً بالسلطة.

ليست الطبقة العاملة متجانسة سياسيا. و لا يمثل الثوريون ضمنها، في الأزمنة العادية، سوى أقلية. بيد أن الأزمنة ليست عادية عندما يتطور نشاط ذاتي تضامني واسع النطاق في إطار الصراع الطبقي. لا تتعلم الجماهير العاملة الشيء الكثير في ظل السلبية والتذرر، ولكنها تتعلم بسرعة وبكثرة بمجرد أن تُحدث لنفسها مساحات نشاط جماعي محددة ذاتياً. يجب على التيار الثوري أن يسعى، في إطار هكذا حركة عريضة، إلى كسب مساندة مطردة لأفكاره العامة ومقترحاته العملية كي تحظي بأغلبية في المجالس.

يجب على الثوريين، بقصد بلوغ ذلك، السعي إلى تطبيق ترسانة كاملة من المفاهيم الاستراتيجية التي صاغتها الحركة الشيوعية في مستهل سنوات 1920، وفقدتها في عهد ستالين، ولكن صانتها وحينتها باستمرار الأممية الرابعة:

  • سياسة الجبهة: قوامها عمل مشترك مع الأحزاب والمنظمات الإصلاحية من أجل مطالب وأهداف ملموسة.
  • المطالب الانتقالية: تنطلق من وعي جماهير العمال والعاملات، ومما تستشعر من مشاكل، كي تقترح حلولا تضامنية ذات دينامية متعارضة مع النظام الرأسمالي (مثل خفض ساعات العمل دون مساس بالأجر، مع إحداث فرص عمل متناسب ورقابة عمالية على ظروف العمل، ومثل حظر تسريح العمال، الخ) .
  • بناء حزب ثوري: يُفترض أن يضم الطليعة العمالية والاجتماعية العريضة، كل من يخوضون النضال باستمرار، وليس في لحظات انتفاضات جماهير عريضة وحسب.
  • تنظيم الذاكرة والتفكير على الصعيدين الوطني والعالمي، بحيث لا تصبح تجارب الحركة في حقبة مد عرضة للضياع في حقبة جزر، وحتى تفيد في التوجيه أثناء اندفاعات جديدة للحركة الجماهيرية.

كانت استراتيجية إرنست ماندل الاشتراكية أممية عضوياً. وكان يدعو إلى تقييم الوضع الاجتماعي والسياسي بدءًا من الصعيد العالمي، وأسواقه ووسائله القمعية والتفاوتات الصارخة التي تعمقها الرأسمالية، وأيضًا من إمكانات المقاومة، ومختلف الحركات ذات الطابع التحرري على الصعيد العالمي. وكان يدافع، فيما يخص البلدان الفقيرة والتابعة، عن استراتيجية الثورة الدائمة، حيث لا يمكن انجاز تام للمهام الثورة الديمقراطية والوطنية (الاستقلال) و لإصلاح زراعي جذري من قبل قوى برجوازية، ومن ثمة ضرورة استيلاء الطبقة العاملة المتحالفة مع جماهير الطبقات المحرومة والمضطهدة على السلطة، مندرجة على هذا النحو في سيرورة الثورة الاشتراكية العالمية.

تحليل ظاهرة البيروقراطية

يتعذر على منظمات العمال الجماهيرية (جمعيات ونقابات وأحزاب) الناشئة في ظل الرأسمالية الاستغناء عن مداومين متفرغين. فلا بد لها من منظمين وصحفيين وسياسيين محترفين إلخ، كي تُشغِّل هكذا منظمات وتمثيلها البرلماني. كان إرنست ماندل على وعي تام بالأمر. لكنه كان يبين الثمن الواجب مقابل ذلك: ظهور فئة بيروقراطية ذات امتيازات داخل المنظمات العمالية، تنمي مصالح خاصة وتصبح محافظة باطراد. إنها ترتبط بأغنى فئات الأجراء، وتمقت الثورة «مقتها للجحيم» (فريدريك إيبرت)، وتتحكم وتدمر الحركات التي قد نبدي اعتراضا على  المسيرة «الروتينية» للهيمنة الرأسمالية على المجتمع.

وبوجه هذه البيروقراطيات، كان ماندل يقترح بناء تيارات يسارية، تيارات صراع الطبقي، لاسيما في النقابات، تطرح خيارات استراتيجية وشخصية بديلة عن التوجهات الإصلاحية المحافظة لدى القيادات البيروقراطية. وكان جليا لديه أن غلبة البدائل اليسارية غير ممكنة سوى في إطار حركات جماهيرية عريضة وكفاحية. لذلك، يتمثل واجب الثوريين الأول في بذل القصارى لتعزيز كل اندفاع للنشاط الذاتي الجماعي للأجراء والمضطهدين وتشجيعه ودعمه. يرى ماندل في المنظمات العمالية الجماهيرية في ظل الرأسمالية أدوات ذات حدين: أداة لا غنى عنها لمواجهة سلطة أرباب العمل وجمعياتهم وأحزابهم، وهي في الآن ذاته تهدف إلأى قصر النضالات على مطالب الأجر الحقيقي، وظروف عمل أفضل، وحماية اجتماعية أمثل في إطار الرأسمالية. إن هذه المنظمات، المحدودة ذاتيا بهذا النحو، غالبًا ما تمتنع عن تجاوز نجاح يبدو رمزياً وحسب. وإن جعلها أدوات فعالة في اتجاه مصالح الأجراء/ات المباشرة لأمر يتطلب تنظيم قطيعتها مع سياستها القائمة على التعاون الطبقي والسلم الاجتماعي.

إن بيروقراطيات النقابات العمالية والأحزاب العمالية، المتكيفة إلى هذا الحد أو ذاك مع الدول الديمقراطية البرلمانية البرجوازية، تحافظ على نمط تنظيم سلطوي وغير ديمقراطي، خانق لمبادرات من هم في أسفل، محارب بلا هوادة للمعارضين اليساريين. أما الأنظمة البيروقراطية للأحزاب-الدول المندمجة في السلطة، في البلدان المسماة «اشتراكية قائمة فعلا» فجائرة بكامل الوضوح. لقد أدى تبقرط الاتحاد السوفياتي إلى وصول فصيل ستالين إلى السلطة، وكان هذا الأخير الممثل المناسب لهذه الفئة البيروقراطية ذات الامتيازات. كانت هذه البيروقراطية تسعى في المقام الأول، بقصد الدفاع عن مصالحها المادية، إلى القطع مع ماضي البلشفية الثوري وحتى مع فكرة الثورة العالمية. لذلك حل مفهوم «الاشتراكية في بلد واحد» وسياسة سلطة الدولة محل استراتيجية الثورة الدائمة والنزعة الأممية المتسقة لدى الأممية الشيوعية الفتية.

ليس النقد الماركسي الثوري لهذه الأنظمة عين نقد إيديولوجيي البرجوازية لها. بالطبع، يجب التنديد بجرائم ستالين وفريقه الفظيعة، ولكن يجب، في الآن ذاته، إدراك الطابع المحافظ بجلاء لـ «الشيوعية الرسمية» القائمة في عهد ستالين.

كان ماندل يعتمد بوجه خاص، في السعي لتوصيف هذه الدول، على تحليلات تروتسكي، مطورا إياها في الآن ذاته بأخذ ميول جديدة بعين الاعتبار. إن تعبير «الدولة العمالية المنحطة بيروقراطيا» مزعج. تروتسكي ذاته لم يكن يرضى به كثيرًا، ويستعمله لانعدام أفضل منه. وفي واقع الأمر، ما معنى دولة عمالية (حتى مبقرطة إلى حد كبير) لا تمارس فيها الطبقة العاملة السلطة، بل هي محرومة من الحقوق الديمقراطية الأساسية؟

كانت حجة إرنست ماندل الرئيسة، على غرار تروتسكي، استمرار بعض مكاسب ثورة تشرين الأول/أكتوبر عام 1917، إذ لم تكن وسائل الإنتاج ولا قوة العمل بضاعة؛ ولم يكن قانون القيمة والسوق سائدين في الاقتصاد الذي كان مخططاً؛ وكانت الدولة لا تزال تحتكر التجارة الخارجية. لقد كانت مجتمعات غير رأسمالية انتقالية نحو الاشتراكية، وإن كانت متحجرة بيروقراطياً. وجب والحالة تلك الجمع، على صعيد المهام، بين الدفاع عن العناصر غير الرأسمالية ضد أي مسعى إلى إعادة ارساء الرأسمالية من الداخل أو من الخارج، مع إطاحة ثورية بسلطة البيروقراطية السياسية من أجل العودة إلى ديمقراطية اشتراكية مجالسية.

كانت سيرورة تصدع المونوليتية الستالينية، وأزمة الستالينية، ثم أزمة ما بعد الستالينية مشجعة لماندل وللأممية الرابعة، ولكنها أيضًا حافلة بتحديات نظرية وبرنامجية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الحليفة أو المماثلة في أوروبا، أشاد ماندل بشدة بزوال «الأغلال» الستالينية، وبات يرى انفتاح سيرورة ثورية في اتجاه الثورة السياسية المأمولة وعودة التطلع إلى ديمقراطية اشتراكية أصيلة على مستوى الجماهير. كانت ثمة أمارات في هذا الاتجاه، لكن آمال ماندل تحطمت على حقيقة سيرورة اعادة إرساء الرأسمالية والانتصار المظفّر لـ «الغرب» الرأسمالي في «الحرب الباردة»، ما كان طبعاً هزيمة كبرى للطبقة العاملة على صعيد العالم.

كتب إرنست ماندل في كتابه العظيم حول البيروقراطية “السلطة والمال” Power and Money (6)، بروح نقد ذاتي، أن «الماركسية الثورية» (وبالتالي هو ذاته) كانت قللت من شأن التأثيرات المدمرة لعقود من حكم ستالين وما بعد ستالين على وعي الشغيلة. وكان من ناحية أخرى بالغ أيضًا تقدير إمكان مقاومة البيروقراطية السائدة ذاتها لعودة الرأسمالية. هذه عناصر هامة، لكنها غير كافية لإنهاء هذا النقاش.

يتناول الفصل الأصيل حقًا من هذا الكتاب «النزعة الاستبدالية»، ويكتسي أهمية خاصة للثوريين. فإذا كانت الأيديولوجية الاستبدالية ميزة قيادات الأجهزة البيروقراطية الكبيرة-التي تسعى إلى تبرير ميلها المستمر إلى التصرف باسم الأجراء/ات وعوضا عنهم-، فإن القادة الثوريين تستهويهم أيضا، في ظروف معينة، النزعة الاستبدالية. وأعطى ماندل أمثلة مقْنعة عن الأمر لدى لينين وتروتسكي، وحتى عند روزا لكسمبورغ وغرامشي! وبين أن درجة نشاط  الطبقة العاملة والمضطهدين/ات المستقل هي العامل المحدد. إذا كانت هذه الدرجة متدنية جدًا، غالبًا ما يتفوق نوع من أنواع النزعة الاستبدالية (برلمانية، أوبقيادة زعيم مطلق، أو إرهابية، أو دعاوية…).

ويخلص إرنست ماندل مرة أخرى إلى أن مهام الثوريين الرئيسة متمثلة في بذل القصارى لتشجيع النشاط الذاتي للطبقة العاملة والجماهير المضطهدة بشكل عام وتعزيزه.

للنقاش

إن إسهام إرنست ماندل النظري بالغ الثراء بحيث يتعذر إخضاعه لدراسة نقدية في هذه السطور القليلة. يجب أن أقتصر على طرح ثلاث علامات استفهام والدعوة إلى قراءة كتابي. سؤال يمس صلب الماركسية الثورية هو ما إذا كانت راهنية الثورة الاشتراكية العالمية سارية في القرن الحادي والعشرين، وما إن كانت الطبقة العاملة فقدت مقدرتها على قيادة هكذا سيرورة ثورية؟ كان تروتسكي استشعر بالفعل شكوكا حول هذا الأمر عندما أوضح أن تأكد عجز الطبقة العاملة السوفيتية عن إطاحة سلطة البيروقراطية من أجل استعادة سلطتها الطبقية، سيفقد للبرنامج الانتقالي معناه، وسيتعين الاستعاضة عنه ببرنامج حد أدنى جديد للدفاع عن المصالح الأساسية للجماهير التي باتت في حالة عبودية. واليوم؟ ما من دليل على أن إعادة بناء حركة عمالية تحررية وثورية لا تزال ممكنة. إن الهبّات الجديدة، بدءًا من صعود حزب العمال في البرازيل في أوائل سنوات 1980، تحطمت بصورة منتظمة، حتى الآن …

تستحق ماركسية إرنست ماندل النقاش. كيف كانت جدليتها بين ماركسية «منفتحة» وفي نفس الوقت مائلة إلى أشكال أرثوذكسية معينة («ماركسية»، «لينينية»، «تروتسكية»)؟  هل كان سعيه إلى تماسك العقيدة الإجمالي مرتبطًا بالحاجة إلى حماية وتعزيز تماسك منظمته الأقلوية الخاصة؟ وبالمناسبة، فإن ماركسيته – لنقل بتعبير فلسفي رؤيته للعالم (Weltanschauung) – تستعير كثيرًا من الكتابات التبسيطية لإنجلز وبليخانوف اللذين كانا ابتكرا إلى هذا الحد أو ذاك «العقيدة الماركسية». إنها أيضًا ماركسية بروميثيوسية prométhéen للحركة العمالية الكلاسيكية المرتبطة بإيمان قوي بالتقدم العلمي والتكنولوجي والاجتماعي وبالمقدرة الإبداعية للطبقة العاملة الكفيلة بحل أصعب المشاكل.

لم يكن إرنست ماندل يحبذ اعتباره مفرط «التفاؤل» معظم الأحيان. كان اكتسب ثقة قوية بالنفس بتنبؤه بتطورات في سنوات 1960 و1970 تحققت  بنحو مقنع إلى حد ما– رغم استثناءات. كان دوماً يترصد تطور الحركات ذات الإمكانات التحررية في أي مكان في العالم. وكان يبالغ في تقدير الإمكانات الثورية، أو يقلل من شأن الصعوبات.

كان وعمره 23 سنة يرى أبراهام ليون مثالاً يحتذى عندما حث رفاقه على «أن يروا وراء كل سبب لليأس سببًا للأمل». كيف للمرء أن يخوض الكفاح الثوري ضد النازية والحرب في منتصف ليل القرن العشرين ويحافظ في الآن ذاته على حماسته الإنسانية لولا هكذا قوة أخلاقية مذهلة؟ عند هذه النقطة، من المعتاد الاستشهاد بأنطونيو غرامشي. سأختم مغايرا شيئا ما باستحضار روبرت ميرل Robert Merle الذي قال عن بطله عالم الدلافين سيفيا:  «لم يكن ساذجًا بقدر كاف لاعتقاد أن قضية ما تنتصر لأنها عادلة، لكنه لم يقدر على استباحة ترف أن يكون متشائمًا.» (7)

======================

المصدر: مجلة انبركور N° 676 juillet 2020

ترجمة المناضل-ة

—————————————

*مانويل كيلنر Manuel Kellner عضو قيادة المنظمة الاشتراكية الأممية (ISO، فرع الأممية الرابعة الألماني) ورئيس تحرير مجلة Sozialistiche Zeitung الشهرية. نشر بوجه خاص

Trotzkismus. Einführung in seine Grundlagen : Fragen nach seiner Zukunft (Le trotskisme : Introduction à ses fondements et questions sur son avenir), Stuttgart 2004 ; Gegen Kapitalismus und Bürokratie : zur sozialistischen Strategie bei Ernest Mandel (Contre le capitalisme et la bureaucratie : sur la stratégie socialiste d’Ernest Mandel), Neuer isp-Verlag, Karlsruhe/Köln 2010 ; Kritik der Religion und Esoterik : Außer sich sein und zu sich kommen (Critique de la religion et de l’ésotérisme : être hors de soi et revenir à soi), Stuttgart 2010 et, avec Ekkehard Lieberam et Robert Steigerwald, Reform und Revolution (Réforme et révolution), Hamburg 2013.

 

 

إحالات

  1. 1. Jan Willem Stutje, Ernest Mandel – Rebel tussen droom en daad, 1923-1995, Houtekiet & Amsab-isg, Antwerpen-Gent 2007
  2. Gilbert Achcar (direction), le Marxisme d’Ernest Mandel, PUF, Paris 1999.
  3. Manuel Kellner, Gegen Kapitalismus und Bürokratie – zur sozialistischen Strategie bei Ernest Mandel. Ce livre est en cours de traduction et devrait paraître en français en 2021. Une traduction anglaise – Against Capitalism and Bureaucracy : Ernest Mandel’s socialist strategy – sera publiée cette année par Brill & Haymarket books dans la série Historical Materialism.
  4. Ernest Mandel, Traité d’économie marxiste, Tome 1 (introduction, p. 13), UGE 10/18, Paris 1969, http://digamo.free.fr/mandel621.pdf
  5. Ernest Mandel, Der Spätkapitalismus, Versuch einer marxistischen Erklärung, Suhrlamp Verlag, Frankfurt an Main 1972. La première traduction française est parue en 1976 sous le titre le Troisième âge du capitalisme aux éditions 10/18. Une version revue et corrigée par l’auteur a été publiée par Les Éditions de la Passion, Paris 1997.
  6. Ernest Mandel, Power and Money, A Marxist Theory of Bureaucracy (le Pouvoir et l’argent, une théorie marxiste de la bureaucratie), Verso, London-New York 1992 (Une traduction française doit enfin paraître cette année à la Nouvelle librairie La Brèche).
  7. Robert Merle, Un animal doué de raison, Gallimard, Paris 1967

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا