لماذا الأساتذة- ات معنيون- ات بمذكرة وزارة التعليم حول شروط اجتياز المباريات؟

أصدرت وزارة التربية الوطنية بتاريخ 19 نوفمبر 2021 بلاغ تنظيم مباريات الولوج إلى مراكز تكوين ما يُطلق عليه “أطر الأكاديميات الجهوية” في إطار التوظيف الجهوي/ التعاقد. وضع البلاغ شروطا شديدة التعقيد تسد الباب أمام عشرات الآلاف من حملة الشهادات الجامعية الأساسية (شرط السن 30، ميزات تحصيل البكالوريا والإجازة، إجازة علوم التربية، عدم الاشتغال مع مؤسسات القطاع الخاص).

أثار البلاغ رفضا واسعا واحتجاجات ومتنامية. لكن يبدو أنه لم يحرك- لحدود الساعة- ساكنا في جسم شغيلة التعليم (خاصة المرسَّمة منها)؛ أولا بفعل الدور الكابح للقيادات النقابية التي آثرت “جلسات حوار مع الوزارة” على التحريض ضد هجمة الوزارة وحفز النضال؛ وثانيا كون هذه الشغيلة تعتقد أنها بمنأى عن هذه الهجمة، بمبرر شكلي مفاده: “لا رجعِية القوانين”.

لكن الدولة لا تخفي أن هذه الإجراءات ستجرف ما كان قائما من مكاسب وبعد ذلك ستقوم بتثبيتها على شكل بنود في القوانين/ الأنظمة الأساسية، وقد وثَّقت ذلك بالحرف في “حقيبة تنزيل مشاريع القانون- الإطار”: “تحديد مهام وكفايات الأطر الإدارية والتربوية والتقنية المنتمية لمختلف الفئات المهنية العاملة في مجالات التربية والتعليم والتكوين في الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات، تُعتمد لإسناد المسؤوليات التربوية والإدارية، وتقييم الأداء والترقي المهني، والعمل بعد ذلك على إعادة تنظيم مهن التربية والتكوين وملاءمة الأنظمة الأساسية الخاصة لمختلف الفئات المهنية وفق المبادئ والقواعد المنصوص عليها في هذه الدلائل المرجعية”. أي أن الأنظمة الأساسية ليست بمنأى عن المراجعة، بعد تغيير علاقات الشغل واقعيا.

لا يتعلق الأمر إذن بحرمان المعطلين- ات من التباري على مناصب توظيف هشة (التعاقد) وحسب، بل بتمهيد أرضية إعادة هيكلة شاملة لعلاقات الشغل داخل قطاع التعليم العمومي، لتطابق تلك السائدة في القطاع الخاص، التي لم تكن بدورها كذلك، ولكن جرى فرضها واقعيا ثم تثبيتها قانونيا في مدونة الشغل التي ستتعرض للمزيد من التكييف استجابة لمطالب أرباب العمل. وعدم الوعي بحجم الهجوم هذا سيسهل تمرير دكاكة الدولة التي ستساوي بين جميع شغيلة القطاع مهما كانت وضعيتها الإدارية/ القانونية (مرسَّمة كانت أم مفروضا عليها التعاقد)، وهذا هو المضمون الفعلي لشعاري “المطابقة والمماثلة” بين “أطر الأكاديميات الجهوية” و”موظفي- ات الوزارة”.

انتصار الوزارة هزيمة لكل الشغيلة

إن انتصار الوزارة على الدينامية النضالية الجارية التي يخوضها القسم المعطل من الشغيلة ستمتد لتنال من قسمها العامل لا محالة. ومن موقع قوة ستمرر الوزارة مجمل دكاكة الهجوم التي يشتمل عليها “القانون- الإطار 51.17″ و”النموذج التنموي الجديد” و”البرنامج الحكومي”.

فباسم “النجاعة” و”المردودية” ستعصف الدولة بمكاسب تاريخية تطلبت عقود نضال وتضحيات، وعلى رأسها المعايير التي تضْمن تفاوضا جماعيا حول الأجور والترقية وغيرها من حقوق مهنية. وسيجري تعويضها بمعايير فردية مبنية على “الاستحقاق” ومهددة بالفقدان في حالة عدمه.

إن الاعتقاد بأن الوضع الحالي للشغيلة سيظل قارا إلى الأبد وهمٌ ساطع. فكما غيَّر التعاقد علاقات الشغل وسمح للوزارة بإصدار وتطبيق تسونامي من المذكرات الوزارية لتكثيف الاستغلال وتكليف هيئة التدريس بمهام إدارية… إلخ، فإن الإجراءات المرتبطة بإعادة هيكلة التكوين بما يطابق مهنَنَته، سيدمر نهائيا علاقات الشغل القارة ويعوضها بعلاقات أكثر مرونة وهشاشة.

“دعم جاذبية مهن التدريس”

جوابا على سؤال “كيف يمكن لإجراءات الانتقاء وتحديد سن الترشح أن تصل إلى أهداف تجويد المنظومة التربوية؟” صرح الوزير: “التعليم “مهنة” يجب علينا رفع جاذبيتها… مهنة تحتاج إلى كفاءات، وإذا أردنا إعطاء دفعة للإصلاح قوية، فيجب أن ينطلق من “الموارد البشرية”، ومن “كفاءات” هيئة التدريس”.

هذا هو لب الموضوع الذي يختفي وراء ضجيج المفاهيم البراقة. فمنذ مدة تعمل الدولة على هدم نمط التوظيف القديم (الوظيفة العمومية المركزية القارة مع تحملاتها الاجتماعية) وتفكيك أساسه القانوني (النظام الساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية). ففي سنة 2013 أصدرت الوزارة وثيقة أسمتها “التدابير ذات الأولوية”، وتضمنت مفهوم “المهن” حيث أوصت بإصدار “مشروع النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين” بدل “النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية”. وبعد موجة التوظيف بالتعاقد انحسر عدد الأساتذة- ات المشتغلين- ات مع الوزارة، وتضخم عدد المشتغلين- ات مع الأكاديميات، فوضعت لهم- ات الوزارة أنظمة أساسية جهوية.

يشكل “نزع الضبط والتقنين” صيحة الهجوم النيوليبرالي على علاقات الشغل. فباسم المرونة تشجع منظمات أرباب العمل والدولة التخلي عن الأنظمة الأساسية المركزية واستبدالها بأخرى جهوية، وصيغ تفاوض داخل المنشأة والمؤسسة بدل قانون شغل شامل، وأنظمة أجور متفاوض عليها بدل حد أدنى وراتب أساسي مُلزِم، وطالب المجلس الأعلى للحسابات بأجر يتضمن تعويضات غير دائمة وغير معمَّمة.

الغاية الأساسية لكل هذا هو إقبار مكاسب الوظيفة العمومية القائمة على معايير جماعية تضمن التمتع بالأجور والترقيات والتعويضات والرخص والحماية الاجتماعية، وتعويضها بنمط توظيف تعتمد فيه هذه الأخيرة على معايير فردية تجعل التمتع بتلك الحقوق بناء على الاستحقاق الفردي وكمية العمل المقدَّمة ومردودية الأجير الفرد.

بهذه الآليات بَدَلَ أن يطالب الأستاذ- ة بتقليص ساعات العمل وعدد التلاميذ ورفع أجور يشمل مجمل هيئة التدريس، سيسعى كل بمفرده جاهدا إلى تطوير أجور عبر  رفع ساعات العمل، وسيكون الاكتظاظ محبذًّا لأنه يرفع حظوظ نيل مزيد من الحوافز والتعويضات، مع الحرص الشديد على الحفاظ على نفس الأداء والمردودية، لتفادي فقدان تلك الحوافز. وهو ما يسمى في القطاع الخاص بـ”العمل بالأهداف les objectifs”.

إنها صيغة مستقدَمة مباشرة من عالم المقاولة والقطاع الخاص. ويُطلق عليها “آليات حديثة لتدبير الموارد البشرية”، وهي آليات لاستغلال الأساتذة- ات واعتصار أكبر قدر عمل ممكن منهم- هن مقابل أقل قدر ممكن من الحقوق.

ليس هذا مستجدا مرتبطا بوزير أو حكومة، بل يوجد في صلب هجوم الدولة على الوظيفة العمومية. انتقد تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول الوظيفة العمومية سنة 2017 بشدة نظام ترقية الموظفين لأنه “غير مرتبط بأدائهم… حيث تتم الترقية في الغالب دون تمييز على أساس مستوى الأداء الوظيفي”. ورفض الاستمرار بنظام الترقية التلقائي والسريع، وطالب باعتماد نظام تقييم جديد “يسمح بقياس أداء كل موظف أو تمييز الموظفين على أساس الكفاءات”. وطالب المجلس بمعايير ترقية بطيئة وقائمة على القهقرة.

ورد نفس الشيء في وثائق أخرى:

– “ربط تطور المسارات المهنية بالمردودية التربوية في إطار نظام التقويم المتمحور حول النتائج”. [وثيقة بعنوان “التدابير ذات الأولوية”، وزارة التربية الوطنية، 16 ديسمبر 2015].

– “وضع نظام لقياس الأداء الإداري عبر اعتماد بارومتر لقياس جودة الخدمات الإدارية بشكل منتظم من أجل معرفة مدى استجابة المرافق الإدارية لحاجيات المرتفق وتتبع مستوى رضاه”. [“الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة 2018- 2021، نجاعة إدارية في خدمة المواطن والتنمية”، وزارة إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية].

ليست هذه المقتبسات سوى ترجمة أمينة لتوصية البنك الدولي. ففي نقده للوظيفية العمومية كتب: “لا يزال عمل الإدارة يرتكز إلى مفاهيم المنصب والترقية المبنية على الأقدمية في حين أن العمل والأداء ينبغي أن يكونا حجر الزاوية الذي تقوم عليه المبادئ التنظيمية للإدارة”، وينصح البنك بـ”تطوير أنظمة للتقييم والتأطير ملائمة للرفع من أداء المدرسين المزاولين”. [“المغرب في أفق 2040، الاستثمار في الرأسمال اللا مادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي”، جان بيير شوفور، موجز عام، مجموعة البنك الدولي، 2017].

“التجويد” و”التثمين” و”رفع الجاذبية” كلها إذن موجَّهة لخدمة غاية تكييف علاقات الشغل داخل الوظيفة العمومية لتتلاءم مع سياسة تقشف تسعى إلى تقليص كلفة الأجور في القطاع العام وجعل خدمة التعليم مقابل الأداء (عبر مختلف أشكال الخوصصة)، ولتتلاءم مع متطلبات المقاولة عبر تكوين مواطن مؤهَّل وخنوع ومستهلِك.

ما دور “التكوين” وموقع “الانتقاء” من خطة الدولة؟

قال الوزير على التلفزيون: “إذا أردنا أستاذا يكون لديه مسار مهني… طويل، وطيلته يرفع الأستاذ قدراته، وإذا لم نساعده على البدء في هذا المسار في الوقت الذي لا زالت لديه قدرات ومحتفظا بشبابه، فهذا لن يساعدنا على الحفاظ على تلك الكفاءات التي نحن في حاجة إليها داخل المنظومة”.

ما موقع “مراكز التكوين” من مجمل هذه الخطة؟

قبل الجواب نقدم مثالا من نفس القطاع: الإدارة التربوية. تقوم خطة الوزارة على ما تسميه “استقلالية المؤسسة المدرسية”، وقد صدرت مذكرة وزارية بشأن تفعيلها بتاريخ 6 نوفمبر 2021. تعني استقلالية المؤسسة تحويل المدرسة إلى ما يشبه مقاولة يسيرها “مجلس تدبير” و”لجنة قيادة مشروع المؤسسة” على رأسها “رئيس مؤسسة” (لم يعد يسمى مديرا)، وتعمل على الانفتاح على محيطها بحثا عن شراكات تضمن لها تمويلا، في حين يقتصر تمويل الدولة على “دعم” يقطَّر بناء على ما نفذته “المؤسسة المدرسية” من الأهداف/ البرنامج الذي تعاقدت عليه. فقد ورد في المذكرة الوزارية بالحرف: “تخصيص الأكاديميات الجهوية… لاعتمادات مالية لتمويل مشروع المؤسسة، إلى جانب الاعتمادات المالية التي تم تعبئتها محليا وإقليميا”.

ولأن هيئة الإدارة القديمة لم تتلق تكوينا في “آليات التدبير الحديثة”، نظمت الدولة بداية دورات تكوين للمديرين، بعد ذلك فتحت مراكز تكوين خاصة يتخرج منها مديرون- ات متشبعون- ات ومتشربون- ات لآليات السوق هذه، وقادرون- ات على “ريادة” مؤسساتهم/ مقاولاتهم بعقلية المحاسب المقاولاتي.

نفس الشيء ينطبق على هيئة التدريس حاليا. فلأن الأجيال القديمة يستعصي أن تُفرض عليها آليات اعتصار العمل (الأجر مقابل العمل، الترقية مقابل المردودية، الحوافز…)، ورأينا ذلك من الاستياء العارم ضد فرض تنزيل “تطبيق مسار” في الهواتف الشخصية” ومن تكليف هيئة التدريس بمهام إدارية ومن مذكرات الأستاذ الرئيس والأستاذ المصاحب. لذلك اتجهت الوزارة إلى زرع هذه الآليات من المشتل الذي تتخرج منه هيئة التدريس: مراكز التكوين.

ورد هذا في “حقيبة تنزل مشاريع القانون- الإطار بقول: “يهدف هذا المشروع… إلى الرفع من نجاعة التكوين… وجعله ممهنِنا من خلال تحديد معايير ولوج التكوين الأساس والرفع من نسب حاملي شهادة الإجازة في التربية”.

ولن يقتصر الأمر على مراحل التكوين، بل سيمتد على مدى المسار المهني، حسب ذات الوثيقة التي ورد فيها: “جعل التنمية المهنية إلزامية ومعزِّزة للترقي المهني”. وهكذا سيكون سبب بطء الترقية بل وحتى التقهقر هو فشل الأساتذة- ات في الحفاظ على قابلية تشغيلهم، وليس سياسة تقشف مبنية على التحكم في كتلة الأجور.

هذا هو سبب حرمان حاملي- ات الشهادات الأساسية من مباريات التعليم، لأن مضمون ما تلقوه من تعليم (آداب ولغات وعلوم حقة وقانونية واجتماعية) والمناهج التي تعلموا من خلالها لا تضمن الاشتغال بتلك الآليات. وسيجري تعويض تلك الإجازات بأخرى من مسلك علوم مهن التربية والتكوين، التي ستضمن يدا عاملة/ هيئة تدريس متشربة بدورها تلك الآليات ومقتنعة بها.

نفس الشيء بالنسبة للسن، فآليات الحوافز والمردودية، تكون ملائمة ليد عاملة في مقتبل عمرها، مع أوهام بإمكانات الارتقاء المهني والاجتماعي بناء على الجهد الفردي المبذول والأداء المقدَّم والمردودية المعتصَرة. أما من مرت سنوات عديدة على تخرجه من الجامعة، فستكون البطالة قد نالت من بعض معنوياته، واستنفذ الاشتغال في المهن الهشة أو القطاع الخاص جزءً من قدراته (ما يسميه الوزير “الكفاءات”).

المقصود إذن ليس فقط إقصاء “الفئة العمرية ما فوق الثلاثين” و”حاملي الإجازة الأساسية” من التنافس على مباريات التعليم، بل تكييف التكوين ليطابق خطة الدولة لتدمير الوظيفة العمومية وعلاقات الشغل القارة داخلها، وتعويضها بـ”وظيفة غير قارة وهشة” (مثل التعاقد، التوظيف الجهوي… إلخ).

إما النضال أو همجية الاستغلال

إن المستهدَف بقرار الوزارة ليس فقط المعنيين المباشرين به من معطلين- ات حملة شهادات أساسية ومتجاوزي- ات سن الثلاثين. فشغيلة التعليم (مرسمة كانت أم مفروضا عليها التعاقد) في وجه المدفعية الثقيلة للدولة.

القرارُ حلقة في سلسلة تطوق رقاب الشعب كله من تلاميذ- ات وطلاب- ات يراقبون مسارهم- هن الدراسي يتبدد أمام أعينهم- هن، ومعطلين- ات تُسدُّ في وجوههم- هن إمكانات التشغيل، وأساتذة (رسميون ومفروض عليهم التعاقد) ينتظرهم- هن جحيم الاستغلال والطحن إن تمكنت الوزارة من تمرير خطتها.

إن نضالنا نضال واحد ويستدعي المزيد من الوحدة والتنسيق والتعاون النضالي، بدل صيغة كل يغني ليلاه. الهجوم متعدد الجبهات لكنه ينطلق من مركز واحد، وعلى النضال بدوره إن أراد الظفر بالمطالب أن يتوحد بدل مواجهة كل هجوم على حدة بطريقة تتبدد معها طاقات نضال شرائح الشعب في مناوشات معزولة.

لا زالت فرصة رد هذا التعدي الغاشم على مكاسب شغيلة التعليم (والوظيفة العمومية) مفتوحة، وكل تأخر سيؤدي إلى إمكان تفويتها. وعلينا كأساتذة- ات وإداريين- ات وأطر دعم تربوي واجتماعي أن نفتح نقاشات في أماكن العمل من أجل بلورة سبل التصدي لهذا التعدي، دون انتظار ما ستجود به وعود الوزارة التي تنيم الواهمين- ات في العسل، ودون انتظار أن يقوم من يقف على رأس تنظيمات نضالنا (من نقابات وتنسيقيات) بمهمته. فقط ضغطنا من أسفل ونضالنا الجماعي وتنظيمنا الجماهيري والديمقراطي سيسمح بتفادي الانزلاق إلى جحيم الاستغلال الذي تعده لنا الدولة.

بقلم: وائل المراكشي

شارك المقالة

اقرأ أيضا