ذكرى يوم الأرض وانفجار تناقضات الكيان الصهيوني

بقلم: أحمد أنور

علِقت دولة الاحتلال الصهيوني طيلة ثلاثة أشهر الماضية في دوامة صراعات لم تعرف لها نظير منذ 1948، تاريخ الإعلان عن ولادة كيان الاستعمار الاستيطاني لأرض فلسطين، باستعمال نهج متواصل من الأساليب الإجرامية كالإجلاء القسري لجزء من شعبها، الترهيب الجماعي وارتكاب جرائم ضد الإنسانية على يد العصابات الصهيونية. استمرت الجرائم الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني وبلغت ذروتها مع النكبة الثانية التي وسع بعدها الاحتلال ضم أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد هزيمة 1967، منذ ذلك الحين وكل فلسطين التاريخية تحت سطوة التنكيل والاضطهاد الصهيوني، لكن العاجز عن إخضاع المقاومة الفلسطينية التي ظلت شعلتها متقدة تقارع الاحتلال وتتكيف مع التحولات وتتحدى العقبات والمؤامرات.
ظلت إسرائيل محمية إمبريالية وتستفيد من تغطية لجرائمها. وظفت بانتهازية فجة جرائم الهولوكوست وتقمصت دوما دور الضحية المهدد أبديا بخطر الإبادة من المعادين للسامية. ارتكبت إسرائيل كل أنواع الجرائم ضد الافراد والجماعات لكن طالما الضحية هم الفلسطينيون فان «الديمقراطية» الإمبريالية شاحت بنظرها واكتفت بإدانات لا تتعدى بيانات الأمم المتحدة بلا أثر عملي.

خديعة «إسرائيل واحة الديمقراطية»
روجت إسرائيل لخديعة أنها الديمفراطية الوحيدة في غابة الديكتاتوريات البشعة، رغم أن احتلال شعب آخر يتناقض مع هذه المزاعم إلا أن الكذبة لاقت رواجا واسعا، خصوصا مع صعود اليمين المتطرف وانتشار الاسلاموفوبيا.
وراء « الديمقراطية اليهودية» التي كانت مبدأ الصهاينة المؤسسين بدأت فاشية يهودية مناهضة للديمقراطية تفقس بيضها. طالما كانت الفاشية اليهودية هامشية وفرق صدامية في مواجهة الشعب الفلسطيني، فإنها مرغوب فيها في صفوف الإسرائيليين لقيامها بأعمال قذرة جدا دون أن تتلوث أجهزة دولة «الديمقراطية اليهودية». لكن انقلب السحر على الساحر، فالأحزاب الفاشية اليهودية بلغت سن الرشد وتوسعت قاعدتها الانتخابية في صفوف المستوطنين وجرفت معها قسما من الإسرائيليين في انجرافها نحو اليمين.
تدفع الفاشية اليهودية منطق الصهاينة المؤسسين إلى ذروته، تنزع عنه قناع النفاق الليبرالي أو اليساري كاشفة حقيقته المنطقية. إسرائيل وعد التوراة وتمتد من البحر إلى النهر، الواجب حسب حملة هذا المنطق هو إقامة دولة إسرائيل وفق وصايا الشريعة التوراتية التي يجب أن يخضع لوعدها السماوي الأغيار من الفلسطينيين واليهود غير المتدينين غصبا.
طبعا خلف السجالات الأيديولوجيا والسياسية مصالح طبقية عميقة ومصير أشخاص عالقين يبحثون عن إنقاذ أنفسهم بتفجير القواعد القانونية المعتمدة.
تأسس الكيان الإسرائيلي على يد يهود أغلبهم من أوروبا، ومنهم يتشكل الكادر الرئيسي للجهاز العسكري والمدني وينحدر منهم كبار الرأسماليين. لكن مع توافد موجات هجرة متتالية من اليهود العرب خصوصا في الستينات القرن الماضي وتبعهم يهود الاتحاد السوفياتي لاحقا واليهود الأثيوبيين، أدت تلك الموجات من المهاجرين إلى ولادة تناقضات داخلية وإحساس بالميز والإقصاء يمارسها اليهود من أصول أوربية. لكن طالما أن ذوي الأصول الأوروبيين يشكلون الأغلبية فان مؤسسات الاحتلال تسير دون عقبات، لكن التحولات الديمغرافيا والثقافية عبر عقود جعلت التناقضات تتراكم والانغلاق «الطائفي» ينمو على حساب الانتماء الجماعي فأصبحت الوحدة القومية المدفوعة بالخوف من الأعداء المتربصين أقل قدرة على كبح التشققات الداخلية العميقة، فاليهود الشرقيون يزدادون عددا ويشكلون قاعدة الاستيطان ويعيشون في مجتمعات شبه مستقلة تطبق فيها التعاليم الدينية الأرثدوكسية في النظام الدراسي وفي الأحياء السكنية والطلاب الدينيون لا يؤدون التجنيد في مجتمع قائم على فرضية الحرب الدائمة.
هكذا بدأت الأحزاب الدينية الأرثدوكسية تحوز قوة انتخابية وممثلين بالكنيست، في حين تراجعت القوة السكانية والانتخابية للمعسكر الصهيوني المتنافس بشقيه الليبرالي واليساري وبات حصول أحدهما على الأغلبية الحكومية معلق بالتحالف إما مع الأحزاب العربية بالكنسيت أو مع الأحزاب الأرثدوكسية الدينية الفاشية.
فقدت «الديمقراطية اليهودية» مفعولها فقد أضحت خمرا لم يعد يسكر اليهود الأرثدوكس واليمين الفاشي وهم العارفون بمأزق إسرائيل المخيرة بين تحالف مع عرب أراضي 48 أو معهم لأهميتهم العددية وهم الغاضبون من دونيتهم المرفوضة.

حكومة اليمين تمركز مجمل التناقضات
بدأت الأزمة الحكومية منذ الأيام الأولى لتشكيلها، (الحكومة السادسة برئاسة بنيامين نتنياهو) في آخر ديسمبر الماضي. لكن الأزمة أسبابها أبعد فمنذ حوالي أربع سنوات، تعيش إسرائيل على واقع توالي أربع دورات انتخابات عامّة، في ظل اهتزاز التوازن المعهود منذ تشكيل إسرائيل، بسبب تراجع قوة المعسكر الصهيوني بأحزابه اليسارية واليمينية وصعود أحزاب يمينيّة فاشيّة، إضافة إلى الحزبين الدينيّين لليهود الأرثوذكس (الحريديم) الإشكناز والسّفاراديم وطبعا مع حفاظ الأحزاب العربية المشاركة في الانتخابات الإسرائيلية على مكانتها رغم تحولات نوعية في تكتيكاتها وتحالفاتها.
دفعت حكومة ناتنياهو التناقضات العميقة التي تراكمت في قاع الكيان الصهيوني إلى السطح بشكل فاجأ الكثيرين، أخيرا تعرت إسرائيل من كل ادعاءاتها وتكشفت حقيقتها البشعة بسبب إصرار الأحزاب الفاشية والأرثدوكسية المشاركة في الحكومة على أن يلبي ناتنياهو المحتاج لدعمها شروطها الخطيرة وهي الحريصة على ألا تجحد اقتناعاتها الفاشية حتى لا تنتحر انتخابيا، فقد جاءت لتبقى لفترة طويلة هنا.
يتمحور أساس الخلافات بين هذه الأحزاب الإسرائيلية المتصارعة، في الأزمة الحالية حول دزينة من القرارات التي تضعف جهاز القضاء وتتيح لزعماء التحالف الإفلات بجلدهم بوجه أحكام وقضايا تحرم بعضهم من تولي الوزارة وآخرين قد تزج بهم في السجن، فاتفقوا على إسقاط سيف القضاء المسلط على رقابهم برغم أن للاتفاق المشار اليه أبعاد أكبر من ذلك بكثير، حيث سيؤدي تنفيذ «التعديلات في جهاز القضاء الإسرائيلي» إلى إحداث تغيير جوهري في «نظام الحُكم» ويعتبر «انقلابا على جهاز القضاء» وتحكم للجهاز التنفيذي في مفاصل الدولة.
يتشكل التحالف الحكومي من أربعة أحزاب وكتل انتخابية: حزب الصهيونيّة الدينيّة الفاشي، برئاسة بتسليئيل سموطرِتش، وزير المالية؛ وحزب «عوتسما يهوديت» (القوة اليهودية) الفاشي، برئاسة إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي؛ وحزب شاس لليهود الشرقيين الحريديم، برئاسة أريه درعي. تساند قرارات نتانياهو (من حزب الليكود اليمين التقليدي) لإصلاح القضاء مقابل تنفيذه اجنداتها الخاصة بتمكينها من وزارات بصلاحيات تسمح بتنفيذ خططهم خصوصا إلحاق جهاز حرس الحدود بوزير الأمن الوطني، وتشكيل «الحرس القومي» لإرهاب فلسطيني 48 والحركات التضامنية في الميدان الإسرائيلية والاممية، وزيادة تمويل المدارس الدينية مع إعادة النظر في المناهج الدراسية لتكريس التعليم الديني في المدارس، وتوسيع الاستيطان الصهيوني، سن قوانين ضد الحريات الفردية كمنع العمل في السبت، إقرار عقوبة الإعدام… الخ.
أثارت الحكومة الحالية رعب المعسكر الصهيوني العلماني الذي رأى الركائز الأساسية المؤسِّسة للكيان الصهيوني تتحطم كالزجاج تحت أحذية الفاشيين الجدد. خرج الإسرائيليون لأول مرة بكثافة في نضالات جماهيرية ومسيرات غضب حاملين لنجمة داوود مع اتفاق على تجاهل العلم الفلسطيني حتى لا تنفجر وحدتهم وهم واهمون، فالاستعمار هو التربة الخصبة لولادة الفاشية التي ستلتهم يوما دولة الاستيطان أو تدمرها، كما ظهرت أشكال عصيان وتمرد في جيش الاحتياط وفي ضباط سلاح الجو وأفراد كومندوهات المهمات السرية الخارجية. وأعلنت الهيستودروت نقابة العمال الإسرائيليين بداية الإضراب عن العمل. وتعالت أصوات ديبلوماسية وبرلمانية ولوزراء من الائتلاف الحكومي تعارض المضي في فرض تلك القوانين دون تفاهمات مع أحزاب المعارضة بسبب ما ينطوي عليه ذلك من خطر انفجار الكيان الصهيوني وتفككه.
لقد تجمعت تناقضات الكيان الصهيوني المتراكمة لعقود واندفعت في انفجار كبير ومخاوف جادة من تطوره إلى حرب أهلية داخلية، التناقضات عميقة جدا ولجمها بات عصيا. تغيرت المعطيات السياسية الداخلية الإسرائيلية، فالإجماع الداخلي باسم معركة البقاء الوجودي التي طبعت تاريخ الكيان الإسرائيلي تشققت بعنف وتسرب منها حقيقة التناقضات الداخلية التي تمس أسس «الديمقراطية اليهودية» ومكانة الشريعة الدينية في الدولة وهذا كله في صلة مع طبيعة العلاقة مع الشعب الفلسطيني هل بالضم وإقامة (ابارتايد) فصل عنصري صريح على كامل الأراضي، أم تسوية تعترف بدولة فلسطينية شكلية فاقدة لمقومات السيادة على جزء ضئيل من الأرض التاريخية لفلسطين. الصراع الداخلي الصهيوني بدأ للتو ويعد بطفرات شديدة العنف، وحتى إن تراجع مؤقتا بعقد تسويات تكتيكية فإنه سيعود إلى صدام أشد عنفا بدفع من رغبة الحسم النهائي من طرف أحد المعسكرين الصهيونيين المتنافسين ولن يشكل افتعال عدوان خارجي إلا صرفا مؤقتا للأذهان نحو عدو خارجي.

لأجل دولة فلسطينية ديمقراطية وعلمانية
إن درجة التعقيد وركام الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية والضرر الخطير الذي تسببت فيه عقود من الاستعمار الاستيطاني، جعلت حلول التسوية لدولتين متعايشتين مجرد خيال غير قابل للتطبيق. وفي ظل الصراع الدموي فان التداخل بين سكان فلسطين التاريخية بلغ درجة جعلت أي انفصال جديد بداية مأساة أخرى. الحل الوحيد الممكن والاقل ألما هو دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية على كامل فلسطين تضمن للجميع باختلاف انحدارهم القومي ودينهم وأصولهم حق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات واحترام الحريات الدينية والعقائدية في إطار دولة علمانية وحماية مضمونة للأقليات وحق اللاجئين في العودة وفق تفاهمات تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الحاصلة، مع حق حفظ الذاكرة المأساوية وكشف الحقيقة عن الوقائع التاريخية على أساس مساومة واعية بين سكان فلسطين. غير ذلك أجيال من الصراع الدموي وجرائم لا تنتهي وقضية للمزاودة من طرف شتى صنوف الرجعيات القومية والدينية التي يفيض جنونها ليغرق العالم بمخاطر الحروب والغزو والانقلابات والتهديدات النووية. إن منظورا أمميا اشتراكيا وحده يقدم الإطار الفعلي للخروج من مستنقع جريمة نسجت خيوطها الإمبريالية البريطانية بمنحها أرض شعب لما اعتبرته شعب بلا ارض.

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا