من المساندة الرمزية إلى الفعل: هل يجري تنظيم تضامن الحركة العمالية مع فلسطين ؟
بقلم : إ.م
يوم 4 يونيو 2025، بعد أقل من شهرين من إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزمه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، كشف موقع Disclose المستقل أن فرنسا تستعد لتسليم 14 طنًا من قطع غيار الرشاشات إلى إسرائيل. كان من المقرر أن تصل هذه القطع، المصنعة من طرف شركة يورولينكس Eurolinks الفرنسية، على متن سفينة شحن ترسو في ميناء Fos-sur-Mer الفرنسي في 5 يونيو. أثار كشف هذا الخبر فورا رد فعل من عمال الرصيف في نقابة CGT وعمال ميناء خليج فوس Golfe de Fos. أعلنت النقابة، في بيان صحفي صدر في 5 يونيو 2025، أن عمال الرصيف رفضوا تحميل حاوية الشحن المتجهة إلى ميناء حيفا على متن سفينة كونتشيب إيرا Contship Era. وجاء في البيان الصحفي: “لن يشارك عمال الرصيف وعمال الموانئ في خليج فوس في الإبادة الجماعية المنظمة من قبل الحكومة الإسرائيلية”، وذكر بموقف نقابة CGT”من أجل السلام، من أجل إنهاء الحروب في العالم، من أجل مجتمع خالٍ من الاستغلال الرأسمالي”. أمام هذه التعبئة، وبينما كان من المقرر أن ترسو سفينة كونتشيب إيرا في ميناء جنوة في إيطاليا – حيث أعلن أيضا عمال الرصيف المتجمعين في نقابة العمال القاعدية (USB Mare e Porti)عن نيتهم معارضة دخول السفينة – غادرت سفينة الشحن أخيرًا Fos-sur-Mer دون حمولتها من الأسلحة.
يعد هذا الحدث مثال تضامن دولي قوي وانتصاراً لحركة دعم فلسطين، التي تحشد عدداً متزايداً من المنظمات العمالية حول العالم. تعزز زخم التضامن العمالي فور دخول الإبادة الجماعية مرحلة جديدة، بعد وقف إطلاق النار القصير والهش.
إن التعبئة في فوس سور مير Fos-sur-Mer وجنوة ضد شحنات أسلحة القوى الإمبريالية المرسلة إلى إسرائيل تعود بنا إلى تحركٍ آخر بالغ الأهمية: ذلك الذي حدث في المغرب في أبريل/نيسان ضد نقل قطع غيار لطائرات مقاتلة أمريكية من طراز F-35 على متن سفن تابعة لشركة ميرسك Maersk الدنماركية. فوفقاً لتحقيق أجراه موقع Declassified UK،كان جرى شحن هذه القطع من هيوستن Houston في تكساس Texas إلى ميناء حيفا، قبل نقلها إلى القاعدة العسكرية الإسرائيلية نيفاتيم – وهي مركز قيادة استراتيجي وقاعدة عمليات لطائرات إف-35 التي تقصف غزة. . كان مقرراً نقل الشحنة على متن السفينة ميرسك ديترويت Maersk Detroit من الولايات المتحدة الأمريكية إلى ميناء طنجة المتوسط، قبل أن يجري تحميلها على متن السفينة ميرسك نيكسو Maersk Nexoe في 20 أبريل (القادمة من Fos-sur-Mer لتواصل رحلتها إلى وجهتها. وقد ردت حركة المقاطعة في المغرب في 6 أبريل ، منددة بـ”تواطؤ السلطات المغربية” في الحرب على غزة، وحثت عمال الميناء على رفض رسو السفن في الميناء وضمان احترام إرادة الشعب المغربي. دعت الجبهة المغربية لمساندة فلسطين ومناهضة التطبيع إلى تعبئة شعبية كبيرة في طنجة في 20 أبريل، وكذلك في الدار البيضاء حيث كان من المقرر أن ترسو سفينة ميرسك نيكسو في 18 أبريل قبل أن تتوجه إلى طنجة. كما دعت منظمات تقدمية أخرى مثل أطاك المغرب إلى التعبئة ونددت باستخدام البنى التحتية للموانئ المغربية لخدمة حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني.
لكن الخبر الأبرز في هذا التسلسل كان دعوة النقابات العمالية الرئيسة المتواجدة في مينائي الدار البيضاء وطنجة إلى مقاطعة السفن ورفض أي عمليات مناولة لها علاقة بديترويت ونيكسو. بالفعل، أعلن الاتحاد المغربي للشغل رفضه “أي شكل من أشكال انخراط العمال المغاربة في العمليات اللوجستيكية المرتبطة بمساعدة هذه السفينة أو ما شابهها في تنفيذ مهام النقل الإجرامية”، مضيفا أن أي تعاون من شأنه أن يمثل “تواطؤا في تزويد الكيان الصهيوني بمعدات عسكرية فتاكة” ومساهمة غير مباشرة في ”حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني“. وهو الموقف الذي دافعت عنه أيضًا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الوطني للشغل في المغرب، اللذان دعيا العمال في موانئ وأرصفة الدار البيضاء وطنجة إلى رفض تحميل الحاويات. هذا موقف قوي، بالنظر إلى أنه منذ تطبيع العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني، اكتفت المركزيات النقابية الرئيسة بإظهار الدعم المبدئي للشعب الفلسطيني ، دون أي استراتيجية ملموسة أو خطة نضالية لمناهضة التطبيع الاقتصادي والأمني والعسكري بين النظامين. لذا، إذا ما برزت فعاليات تضامنية داخل الطبقة العاملة، فقد كان ذلك بمبادرة من الطبقة العاملة وليس من البيروقراطيات النقابية.
شكلت دعوة النقابات لمقاطعة السفن نقطة تحول في حركة التضامن المغربية مع الشعب الفلسطيني. وقد مكنت هذه المبادرة من ربط تعبئة عمال الموانئ بتعبئة الحركة الأوسع نطاقًا. في الدار البيضاء، احتشد عمال الميناء صباح يوم 18 أبريل لمنع السفينة ”ميرسك نيكسو“ من الرسو. وفي اليوم نفسه، نُظم اعتصام شعبي بالقرب من الميناء بمبادرة من الجبهة، ما عزز هذا التحرك. وردد المتظاهرون شعارات مثل “الشعب يطالب بوقف التطبيع” و”الشعب يطالب بمغادرة السفينة”.
أدى هذا التحرك المشترك إلى تأخير وصول السفينة إلى ميناء طنجة المتوسط لمدة 40 ساعة تقريبًا. في 20 أبريل، عندما كان من المقرر أن تُنقل الشحنة من سفينة ميرسك ديترويت إلى سفينة ميرسك نيكسو قبل مواصلة طريقها إلى حيفا عبر ميناء مرسين Mersin التركي، خرجت مظاهرتان في الدار البيضاء وطنجة. تعرضتا لقمع قاسٍ، حيث جرى نشر قوات كبيرة من الشرطة لاحتواء المتظاهرين في نقاط تجمعهم ومنعهم من الوصول إلى الموانئ. تشهد الصور ومقاطع الفيديو التي التقطت يومها على حجم الترتيبات الأمنية والعنف المستخدم ضد المتظاهرين. بموازاة هذه التعبئة الشعبية، أبدى عمال ميناء طنجة المتوسط أيضًا مقاومة قوية: فقد رفض معظمهم تفريغ الأسلحة المنقولة، رغم الضغوط التي مارستها إدارة ميناء طنجة المتوسط، تحت تأثير شركة APM Terminals، وهي شركة تابعة لشركة ميرسك. ووفقًا لمصادر إعلامية، اختار بعض عمال النقل الاستقالة احتجاجًا على ذلك. بوجه هذه المعارضة، اضطرت شركة APM Terminals إلى استدعاء عمال غير نقابيين للقيام بعمليات التحميل وتجنب المزيد من التأخير.
رغم وصول الشحنة إلى وجهتها في نهاية المطاف، إلا أن التعبئة نجحت في تهديد سلسلة توريد الأسلحة إلى إسرائيل. بعد أكثر من 40 ساعة من التأخير، غيّرت سفينة ميرسك نيكسو مسارها الأصلي، متجنبةً ميناء مرسين في تركيا ومتجهةً مباشرةً إلى حيفا، ربما خوفًا من المزيد من الحصار. كما أعلنت شركة ميرسك أيضًا أن ميناء Fos-sur-Mer لن يكون جزءًا من دورتها في البحر الأبيض المتوسط. يأتي هذا القرار بعد أن أجبرت ضغوطات عمال نقابة CGT الممارسة من أجل فحص حمولة سفينة ميرسك نيكسو قبل مغادرتها إلى الدار البيضاء.
وتعتبر هذه التعبئة النموذجية ضد ميرسك ديترويت وميرسك نيكسو سابقة يجب أن يحتذى بها، خاصة وأن ميناء طنجة المتوسط يشكل الآن مركزا استراتيجيا لنقل المعدات العسكرية الموجهة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. حظرت ، بالفعل، العديد من دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك إسبانيا، تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، ما أجبر شركات النقل على إعادة تحديد مساراتها اللوجستيكية. أيضاً، نقلت شركة ميرسك جزءًا من أنشطتها من ميناء الجزيرة الخضراء إلى ميناء طنجة المتوسط في بداية عام 2025، من أجل التحايل على القوانين البيئية الأوروبية الجديدة (التي تنطوي على تكاليف إضافية كبيرة لكل توقف في ميناء أوروبي).
بينما ترفض أغلبية الشعب المغربي التطبيع، يتواصل استخدام البنية التحتية لموانئ البلاد لنقل الأسلحة المستخدمة في حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، أو في العمليات العسكرية ضد لبنان وسوريا، مع استمرار القمع الشديد: تجريم أي احتجاج وترهيب العاملين في سلسلة التوريد والعقوبات القانونية ضد النشطاء. تعرض العديد من المناهضين للتطبيع للضغط والملاحقة القضائية. كانت هذه هي حالة إسماعيل لغزاوي، الناشط في حركة المقاطعة في المغرب، الذي حُكم عليه بالسجن لمدة عام (وهو حكم خُفف بعد الاستئناف) بسبب تعبيره عن سخطه على وصول سفينتين تابعتين لشركة ميرسك تحملان معدات عسكرية متجهة إلى إسرائيل في نونبر 2024. كانت إسبانيا قد أعادت هاتين السفينتين بعد الحظر الذي فرضته مدريد. عندما وصلت السفينتان إلى ميناء طنجة المتوسط، رفض عمال الرصيف بالفعل التعامل مع الحمولة، ما أثار غضب إدارة ميرسك. ووفقًا لوسيلة الإعلام الدنماركية Ekstra Bladet، التي جمعت شهادات من العديد من عمال الميناء، اعتُبرت الحادثة مقلقة بما فيه الكفاية ليقوم الرئيس التنفيذي للشركة متعددة الجنسيات بزيارة شخصية إلى طنجة. كان الهدف من الزيارة، التي تضمنت مزيجًا من الإغراء والترهيب للموظفين، هو ردع العمال عن أي مقاومة مستقبلية في صفوفهم.
في الوقت الذي دخلت فيه الإبادة الجماعية مرحلة جديدة من الوحشية الشديدة، المتسمة بتمديد الاحتلال العسكري لغزة (ما يقرب من 80% من الأراضي الآن تتوافق مع المناطق العسكرية أو تخضع لأوامر الإخلاء), والتهجير القسري للسكان نحو الجنوب و”تركيزهم” في المخيمات حيث تسبب توزيع المساعدات الغذائية الموكل إلى مرتزقة أمريكيين في سقوط قتلى قبل أن يجري تعليقها، والهجوم واسع النطاق في الضفة الغربية، لم يعد بإمكان النقابات العمالية المغربية الاكتفاء بالدعم الرمزي والمبدئي للقضية الفلسطينية. إن دعوة المركزيات النقابية لمقاطعة “سفن الإبادة الجماعية” التي كانت ستعبر الموانئ المغربية في أبريل/نيسان هي خطوة في الاتجاه الصحيح. لا ينبغي أن تظل مبادرة معزولة، بل يجب أن تشكل جزءًا من استراتيجية ملموسة للتضامن العمالي مع الشعب الفلسطيني، من منظور أممي يعترف بدور الكيان الصهيوني في خدمة الإمبريالية الغربية، وكذلك البعد السياسي للصراع.
إن المطلوب هو منظور مناهض للإمبريالية ومتجذر في تقليد طويل من النضالات العمالية ضد الحرب والصراع. تاريخيًا، جرى التعبير عن هذا التضامن العمالي من خلال حصار مصانع الأسلحة ورفض تحميل الشحنات العسكرية والإضرابات الضخمة المنسقة بدعم من المنظمات اليسارية (الحركة الطلابية، والحركة المناهضة للحرب، إلخ). مثلا، في سنوات الثمانينيات حين قاطع عمال الرصيف في ليفربول (المملكة المتحدة) وسان فرانسيسكو (الولايات المتحدة الأمريكية) السفن احتجاجًا على الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وفي عام 1991 عندما قام عمال السكك الحديدية الفرنسيون المنتمون إلى نقابة CGT بتعطيل القوافل العسكرية احتجاجًا على الحرب الإمبريالية في الخليج، وفي مارس 2003 عندما نظمت الاتحادات النقابية الإيطالية الرئيسة إضرابًا عامًا ضد الحرب في العراق، أعقبته تعبئة شعبية في مدن البلد الرئيسة. أو في مصر، إبان الانتفاضة الثانية، حين هزت البلد موجة من الإضرابات والاحتجاجات العامة في عام 2000 في قطاعات الموانئ والنقل العام والتعليم والصناعة، مدعومة بمظاهرات بشعارات مناهضة لإسرائيل والحرب ودعمًا لفلسطين.
إن تضامن الحركة العمالية المغربية مع الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يظل تضامنًا رمزيًا. بعيدًا عن التشدق بالكلام عن القضية الفلسطينية أو حصرها في البعد الديني، يجب أن يصبح التضامن نشطًا وهجوميًا، قائمًا على إجراءات مقاطعة ملموسة مرتبطة بحملات المقاطعة وعلى رفض نقل المعدات العسكرية وعلى التعاون العمالي المباشر مع القوى التقدمية الفلسطينية والمنظمات الدولية، من أجل إضعاف إمدادات الكيان الصهيوني العسكرية ومصالحه الاقتصادية والأمنية في المنطقة.
إدراكًا لدور العمال الاستراتيجي – لا سيما أولئك الذين هم في قلب السلاسل اللوجستية المرتبطة بالكيان الصهيوني وداعميه الغربيين – يجب أن تكون الحركة العمالية طليعة كتلة تقدمية واسعة مناهضة للإمبريالية، تجمع بين المنظمات اليسارية والشبابية، على غرار حركة التضامن الواسعة التي شهدتها البلاد قبل بضعة عقود. يجب أن تجمع مثل هذه الكتلة بين النضال ضد الصهيونية والنضال ضد النظام الرأسمالي المحتضر الذي تحافظ عليه سياسات التقشف من جهة والنزعة العسكرية من جهة أخرى، في وقت يشهد كارثة مناخية وتراجع الهيمنة الأمريكية.
اقرأ أيضا