رحيل أرنست ماندل آخر المكملين الكبار لماركس ولينين وتروتسكي

تاريخ الأممية26 يوليو، 2025

بقلم : داغر كميل

من أرشيف  جريدة السفير  

قبل ظهر السبت 30 أيلول 1995، جرى احتفال كبير، بنقل رماد المفكر والمناضل الماركسي الثوري، ارنست ماندل، من الأراضي البلجيكية إلى مقبرة بير لاشيز Pere – Lachaise في باريس. وكان ماندل توفي بنوبة قلبية صاعقة في 20 تموز الماضي، بعد أسابيع قليلة على حضوره المتقطع للمؤتمر الرابع عشر للأممية الرابعة، التي كانت “معنى حياته”، كما يقول في وصيته. ولد ماندل في فرانكفورت، في نيسان 1923، لأب عضو في الحزب الشيوعي الألماني كان غادر بلده الأصلي إلى بلجيكا أوائل عام 1919 اثر اغتيال كارل ليبنخت وروزا لوكسمبورغ. وقد ترعرع تحت كنف ذلك الوالد، الذي شربه منذ حداثة سنه المبادئ الماركسية الثورية، والتطلع إلى عالم خال من التمييز الطبقي والعنصري وشتى آليات الاضطهاد والاستغلال والقمع، سواء تحت سيادة رأس المال أو في ظل البيروقراطية ما بعد الرأسمالية. ومنذ المراهقة كان قد اختار طريقه، وانتقل إلى النضال ضد العالم القديم، وسط الطبقة العاملة التي سوف تتسم حياته بالارتباط العميق بها، كما وسط الشرائح الاجتماعية الأخرى ذات المصلحة في التغيير الاشتراكي، مدشناً عمله النضالي بتوزيع البيانات على جنود الاحتلال النازي. وهو الأمر الذي أدى إلى اعتقاله وإرساله الى معسكر اوشفيتز المشهور. لكن العلاقة التي نجح في نسجها مع حراسه، وبينهم أعضاء سابقون في الحزبين الشيوعي والاشتراكي الألمانيين، جعلتهم يسهلون فراره ونجاته من موت محتم. وقد اعتقل بعد ذلك مرتين، وتم تحريره في المرة الأخيرة على مقربة من نهاية الحرب. في الثامنة عشرة من عمره، في تموز 1941، كان قد أصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الثوري، الفرع البلجيكي للأممية الرابعة، المتشكلة قبل أعوام ثلاثة (1938). وقد تلقى فيه التأثير العميق لابراهام ليون، المفكر والمناضل الاممي الثوري، الذي سيلقى حتفه بعد قليل، في المعسكرات النازية، ومنذ تلك المرحلة المبكرة، كان قد ربط نفسه نهائياً بالمشروعين الأهم في حياته: بناء حزب شيوعي ثوري فاعل وسط شغيلة بلجيكا، واستكمال بناء الأممية الرابعة كنواة لأممية جماهيرية قادرة على إطاحة رأس المال على الصعيد العالمي وبناء بديل اشتراكي حقيقي، مرتكز على الديمقراطية الثورية الأوسع للمنتجين اليدويين والذهنيين. وقد لعب دوراً مركزياً منذ نهاية الحرب في كل المنعطفات التي ستجتازها الأممية المذكورة: من اعتماد التكتيك الدخولي في الأحزاب الإصلاحية الجماهيرية في الخمسينيات، إلى دعم التوجه نحو الكفاح المسلح في الستينيات والنصف الأول من السبعينيات، في أمريكا اللاتينية بوجه خاص، إلى تكتيك التوجه نحو المصانع في مؤتمر عام 1979، وصولاً إلى التكتيك الراهن الذي كرسه مؤتمر الأممية الرابع عشر المنعقد في حزيران الماضي، تكتيك إعادة التجمع، القاضي ببناء أحزاب جماهيرية للتغيير، مع منظمات عمالية لها تاريخها الخاص بها، وارتباطها الفكري غير المنخرط بالضرورة في التجربة التروتسكية. ولأهداف تنظيمية، وتعليمية، وتوجيهية، الخ.. رأينا ارنست ماندل يتنقل بين البلدان والقارات، محاضراً، أو مدرساً، او مشاركاً في لقاءات ومؤتمرات شتى لأطراف اليسار عبر العالم. وفي هذا السياق بالذات، كان انتقاله الى هافانا بدعوة من تشي غيفارا، للمساهمة معه في النقاش الدائر آنذاك داخل القيادة الكوبية حول التوجه السياسي والاقتصادي وبناء الاشتراكية. كما كان في واجهة قرارات شجاعة عدة اتخذتها الأممية تضامناً مع حركات الثورة والتحرر في العالم. ومن هذا الموقع شارك شخصياً عام 1950 في فرقة العمل التي نظمتها الأممية دفاعاً عن يوغسلافيا، وكان ستالين يسعى آنئذ لسحقها، رداً على نزعة تيتو إلى الاستقلال عن توجيهات موسكو. كما كان حضوره واضحاً في قرارات بالغة الأهمية تميزت بها الأممية بخصوص منطقتنا العربية. ومن ذلك رفض قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، وإنشاء دولة يهودية على ارض فلسطين التاريخية، وتقديم شتى أشكال الدعم لثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، بما في ذلك بناء مصنع للأسلحة على حدود البلد، لتجهيز جيش التحرير بالبنادق والقنابل والمتفجرات، وجعل بلجيكا قاعدة خلفية مهمة للعمل السري لجبهة التحرر الوطني.

 كتاباته النظرية والسياسية

 عدا دوره النضالي والتنظيمي الكبير، ترك ماندل كماً هائلاً من المؤلفات: كتباً، وكراسات، ومقالات ومقابلات لا تحصى في الصحف والمجلات (ناهيكم عن المراسلات)، بلغات شتى، وفي بلدان وقارات شتى. وبين أهم مؤلفاته، نشير إلى كتابه الذي صدر أصلاً باللغتين الفرنسية والانجليزية، بأجزائه الثلاثة، عام 1962، بعنوان بحث في الاقتصاد الماركسي. وكان هدفه وفقاً لما يذكر المؤلف “الانطلاق من المعطيات التجريبية للعلوم المعاصرة” لأجل “إعادة تكوين مجمل نظام كارل ماركس الاقتصادي” و”نزع الطابع الغربي عنه”، مضيفاً إلى ذلك تحليلاً للاتحاد السوفييتي في ظل البيروقراطية الستالينية، ولإشكالية الانتقال إلى الاشتراكية. وفي عام 1968، صدر له بالألمانية »الرد الاشتراكي على التحدي الاميركي«، حيث يحلل التناقضات في المعسكر الامبريالي بين الولايات المتحدة وأوروبا السوق المشتركة، ناهيك عن آفاق الوحدة الأوروبية. تلت ذلك نصوص عدة حول البيروقراطية، والفاشية، والنظرية اللينينية في التنظيم. وفي عام 1970 نشر بحثاً طويلاً بعنوان: الرقابة العمالية، والمجالس العمالية، والتسيير الذاتي. وفي عام 1972، صدر بالألمانية كتابه الفخم “العصر الثالث للرأسمالية” (ستحمل ترجمته الانكليزية عام 1975، عنوان الرأسمالية المتأخرة، في جزأين). وهو يعمق فيه نظرية “الموجات الطويلة”، ونظريته عن الأزمات، ويحلل التمفصل بين الثورة التكنولوجية الثالثة والميل للتجديد الدائم وسباق التسلح، من جهة، والتغييرات البنيوية على صعيد الرأسمالية، من جهة أخرى. وفي عام 1986 صدر له بالانكليزية معنى الحرب العالمية الثانية، في تفسير ماركسي لهذه المجزرة الهائلة، وفي العام عينه، أصدر له معهد أمستردام نصاً مهماً بعنوان مكانة الماركسية في التاريخ. وبين آخر كتاباته الأكثر أهمية، تنبغي الإشارة إلى: 1 الاتحاد السوفييتي إلى أين في ظل غورباتشوف؟، وقد صدر عام 1989 بالفرنسية. وفيه يحلل واقع البلد المذكور قبل انهياره، في ظل البيروقراطية الشائخة، ومحاولات غورباتشوف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عبر إدخال إصلاحات حكم ماندل بحتمية فشلها، لكنه بقي يطرح كاحتمال جدي لمسار البلد قيام الثورة السياسية، التي كان تروتسكي طرحها عام 1936، في الثورة المغدورة، كواحد من احتمالين، تقوم بموجبه الطبقة العاملة السوفييتية بإطاحة البيروقراطية الستالينية وإطلاق سيرورة بناء اشتراكي حقيقي. وكان الاحتمال الثاني الجدي جداً، في نظر تروتسكي آنذاك، هو عودة الرأسمالية، وهو الأمر الذي لم يتوقعه ماندل، فجاءت الأحداث اللاحقة في نهاية 1991 لتثير لديه خيبة أمل مريرة، لا سيما بعد التطور الخطير الآخر، الذي لم يتوقعه أيضاً، وهو توحيد ألمانيا تحت سيادة رأس المال، بدلاً من قيام الثورة السياسية في الجزء الشرقي، كما كان يأمل.

 2- السلطة والمال، باللغة الانكليزية، عام 1992، وفيه يشرح ماندل جذور انحراف البيروقراطية السوفييتية والأوروبية الشرقية نحو إعادة الرأسمالية، منتقداً في الطريق أخطاءه السابقة في تحليل آفاق سيطرة تلك البيروقراطيات، ومدافعاً مجدداً عن الاشتراكية القائمة على التسيير الذاتي.

 3 – وفي العام نفسه، نشر له أيضاً معهد امستردام دفتراً جديداً بعنوان أوكتوبر 1917، انقلاب ام ثورة اجتماعية؟ حيث يدافع عن التفسير الثاني ويقدم الحجج على ذلك. كما نشر له حزب الاشتراكية الديمقراطية (الحزب الشيوعي الألماني الشرقي سابقاً)، كتابه تروتسكي كبديل، وذلك بالألمانية. وفيه يعتبر أن مساهمات الرجل تشكل رد الماركسية المتماسك على مشكلات القرن العشرين الكبرى. هذا وقد لعبت هذه الكتابات، ومقالاته الكثيرة، دوراً عظيماً في تكوين وعي أجيال عديدة من الماركسيين الشباب في النصف الثاني من هذا القرن، وكان لتلك التي أصدرها في الستينات اثر عميق في الشبيبة في شتى أنحاء العالم، ولا سيما في منعطفات مهمة، من ضمنها ثورة أيار في فرنسا عام 1968، التي تجذر خلالها جزء مهم من الجيل اليافع آنذاك. وهو ما يبرزه لوران مودوي في المقال الذي نشرته له لوموند الفرنسية بعد يومين على وفاة الرجل، حيث يقول: “إن ارنست ماندل هو أكثر بكثير من أحد الوجوه الكبرى لأقصى اليسار الأوروبي في فترة ما بعد الحرب، انه أيضاً مفكر ذو ثقافة مدهشة طبع بتأثيره القوي ليس فقط تياره الخاص به بل أيضاً عقول اليسار الطلابي في الستينيات (…)”. ارنست ماندل والصراع العربي الإسرائيلي لن اكرر الحديث عن مواقف الأممية الرابعة من الموضوع، وارنست ماندل في القلب منها، حيال القضية العربية والشعب الفلسطيني بوجه اخص، لكنني سأكتفي ببعض الملاحظات السريعة في لحظات نادرة من اقترابي من الرجل. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتحديد في صيف 1992، تلقيت دعوة من الكسندر بوزغالين، أحد القادة البارزين لليسار الجديد في روسيا الحالية، لحضور مؤتمر ينظمه هذا اليسار ويحضره ممثلون لمنظمات ثورية وديمقراطية في أوروبا وأمريكا وأستراليا، بين 12 و17 تشرين الأول من ذلك العام، وذلك في بريوفسكي، وهي إحدى ضواحي موسكو. وقد كنت الوحيد الآتي من العالم الثالث، فقدمت مداخلة عن التناقض الجذري بين العدل الاجتماعي والديمقراطية الحقيقية، من جهة، وواقع »النظام العالمي الجديد« من جهة أخرى. وقد أنهيت مداخلتي بالحديث عن الوضع المأساوي لبلدان العالم الثالث في ظل هذا “النظام”، وبوجه خاص وضع البلدان العربية في ظل السلم الإسرائيلي الأميركي، الذي يجري الإعداد لفرضه في العقد الاخير من هذا القرن، وركزت على اعتبار أن هذا »السلام«، إذا قيض له أن يستتب، فهو لن يكون سوى مقدمة لحروب (أو بالأحرى لحرب) جديدة مدمرة هذه المرة في ما يسمونه الشرق الأوسط، ربما استخدم خلالها السلاح النووي، الذي تمتلكه إسرائيل الآن، وقد تمتلكه لاحقاً أكثر من دولة أخرى في المنطقة ومحيطها الإسلامي (إيران مثلاً). واعتبرت أن الحل الوحيد الذي يمكن ان يؤسس لسلام حقيقي في بلداننا هو ذلك الذي يقوم على حل ديمقراطي يعطى بموجبه فلسطينيو الشتات جميعاً حق العودة إلى فلسطين التاريخية، حيث تكون لهم حقوق المواطنية الكاملة، كما يعطى بالمقابل اليهود العرب في دولة إسرائيل حق العودة الى بلدانهم الأصلية حيث يمكّنون هم أيضاً من ممارسة حقوق المواطنية من دون اضطهاد او تمييز. كما شددت على أن الحل الصحيح للوجود اليهودي في فلسطين يجب أن يكون في إطار كينونة ديمقراطية مندمجة في فدرالية عربية لا تمييز فيها بين الأديان والأعراق والقوميات. كان ارنست ماندل حاضراً. وكان طيلة تلاوتي ذلك المقطع عن الصراع العربي الإسرائيلي يهز رأسه بالإيجاب. وقد تعمق توافقنا حول هذه الموضوعات في اكثر من لقاء جانبي تم بعد ذلك إبان المؤتمر، وان كان اعتبر ماندل في احد تلك اللقاءات ان طرح الحكم الذاتي الفلسطيني، ضمن موازين القوى الراهنة، قد يشكل خطوة إلى الأمام نحو تحرر الشعب الفلسطيني، حيث انه يساعد في تجاوز الشعب المذكور قيادته الراهنة المتمثلة بمنظمة التحرير وعلى رأسها ياسر عرفات، نحو قيادة قادرة على تمثيل مصالحها الحقيقية. وفي سهرة الوداع، التي حضرها العديد من المؤتمرين، ومن بينهم ارنست ماندل، رفع كأسه في إحدى اللحظات وهو يتوجه إلي، وشرب نخب تحرر الشعب الفلسطيني. في اليوم التالي، حين كان ينزل من الباص الذي اقلنا من بريوفسكي الى موسكو، مر بقربي وقال مودعاً: “اراك في الاجتماع القادم للجنة التنفيذية” (للأممية). وفي الواقع انني لم أتمكن من رؤيته مجدداً إلا في حزيران الماضي، في المؤتمر الرابع عشر للأممية الرابعة. كان قد أصيب قبل عامين من ذلك الحين بنوبة قلبية أولى، وتداعت صحته بشكل واضح، وعلى الرغم من المرض، تدخل مراراً خلال المؤتمر، مركزاً على الموضوعة التي ظل يرددها باستمرار في السنوات الأخيرة، وسبق ان عبر عنها في لقاء بريوفسكي أيضاً، ومفادها أن العالم مهدد بالفناء، ليس فقط بسبب السلاح النووي، بل كذلك الأسلحة التقليدية، كما بسبب التلوث واستهلاك البيئة، تحت سيادة رأس المال وقوانين الربح، ومرة أخرى اعتبر أن اشتراكية حقيقية قائمة على الديمقراطية الأوسع للمنتجين الفعليين، هي العلاج الأمثل للمأزق الذي تعيشه البشرية حالياً. لكن للمرة الأولى، كان ذلك التفاؤل العارم الذي طالما ميزه طيلة حياته السياسية، وبقيت جوانب مهمة منه واضحة في الكلام الذي دار بيننا في بريوفسكي حين اعتبر ان انتصاراً محتملاً لحزب الشغيلة في البرازيل، في انتخابات 1994 الرئاسية، قد يلغي النتائج السلبية لانهيار الاتحاد السوفييتي وما كان يسمى المعسكر الاشتراكي ، ذلك التفاؤل بات شيئاً من الماضي. لقد فعلت تطورات السنوات الأخيرة الكارثية فعلها! اللقاء الأخير في المؤتمر الرابع عشر للأممية، كنت أتوقع ان يغادرنا الرفيق ماندل في تاريخ غير بعيد، وحاولت أن أحصل منه على مقابلة يجيب خلالها عن جملة أسئلة حول الواقع الراهن وآفاقه. لكنه اعتذر بحجة المرض، وطلب مني بالمقابل أن أنقل إلى العربية كتابه الأخير الصادر بالألمانية، والمترجم إلى الانكليزية، تروتسكي كبديل، واعداً إياي بارسال نسخة منه بالانكليرية في اقرب فرصة!! كما اخبرني انه بصدد كتابة مؤلف عن الحركة العمالية الأوروبية يتوقع انجازه خلال سنتين. لم يصلني كتاب ماندل، كما أن الرجل لم يستطع أن ينجز المجلد الذي كان بصدد تأليفه، فالموت لم يمهله حتى شهرين، وبوفاته التي يصادف تاريخها مرور مئة عام على وفاة فريدريك انجلز، يكون قد غادرنا هو الآخر. لكن أفكاره باقية بيننا، ومعها تفاؤله الثوري، وان كان هذا التفاؤل بات مقيداً بشروط قاسية. بيد انه بقدر ما تستطيع البشرية في هذا العصر ان تستوعب تلك الشروط وترد عليها بالعمل المناسب، بقدر ما ستنفتح مجدداً آفاق حياة أكثر إشراقاً وسعادة وعدلاً.

جريدة السفير  : 1995-10-03 | رقم العدد:7201

شارك المقالة

اقرأ أيضا