بعد «الربيع العربي»… صيف الاحترار الأقصى
بقلم، جلبير الأشقر
عند نهاية هذا العام، تكون خمس عشرة سنة قد مضت على الشرارة التي انطلقت من قلب تونس وأشعلت نيران الانتفاضات الكبرى التي عُرفت باسم «الربيع العربي». وبعد الخيبة من الإخفاقات التي عرفتها الموجة الأولى التي بلغت ذروتها في عام 2011، تلتها موجة ثانية في عام 2019 لم تلبث أن أجهضت بدورها. أما الحصيلة بعد كل هذه الأعوام، فكارثية تماماً: بلدانٌ مزّقتها حروب أهلية في سوريا وليبيا واليمن والسودان، ناهيك من التي مزقتها الحرب الأهلية قبل «الربيع العربي» في لبنان والعراق؛ وبلدانٌ ارتدّت فيها الأوضاع إلى ما هو أسوأ بعد مما كان قائماً فيها قبل الانتفاضة وقد هبّ الشعب للتخلّص منه، وهي حالة مصر وتونس على الأخص.
وكأن الحرائق السياسية-الاجتماعية في المنطقة العربية أشبه بحرائق الغابات التي تزداد عدداً وانتشاراً واتساعاً كل عام على وجه الكرة الأرضية. فبدل أن تفسح المجال أمام تجدد البيئة النباتية وانتعاشها، أدّت الحرائق إلى ازدياد خطير في نسبة الغازات الدفيئة في الغلاف الجوّي الإقليمي بما فاقم الاحتباس الحراري الذي ينجم عنه احترارٌ شديد. وقد بات المناخ الإقليمي على أسوئه، بعد 22 شهراً من حرب الإبادة في غزة ومن تصعيد «التطهير العرقي» في القطاع والضفة، واستباحة الدولة الصهيونية للشرق الأوسط بأسره، وسط لا مبالاة رسمية مذهلة وخمول شعبي محزن، والأمران متلازمان بالتأكيد.
هذا ومحلّ المقاطعة النفطية العربية للدول المساندة لإسرائيل، التي أُعلِنت تضامناً مع مصر وسوريا إزاء حرب أكتوبر 1973، حلّ مزادٌ علني بين الدول العربية الثرية في وعد الولايات المتحدة الأمريكية باستثمار آلاف مليارات الدولارات فيها، في حين أن واشنطن ليست مساندة لحرب الإبادة الصهيونية في غزة والعدوان الصهيوني على سائر البلدان الإقليمية وحسب، بل هي مشاركة فيهما مشاركة كاملة بما تعدّى كافة حروب إسرائيل السابقة، والحال أن إسرائيل ما كانت لتستطيع ارتكاب ما ترتكبه منذ 22 شهراً لولا التواطؤ الأمريكي الكامل معها.
ومثلما لحق «الربيع العربي» احترارٌ إقليمي أقصى، فإن إخفاق موجة النضالات الاجتماعية التي عرفها العالم منذ سنة 2011 بوحي من انتفاضات المنطقة العربية، قد لحقه احترارٌ سياسي شديد تمثّل بصعود للنيوفاشية على النطاق العالمي، بلغ ذروته مع استيلائها على السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، في الولايات المتحدة الأمريكية، أعظم القوى العالمية. وقد لعب الاحترار الأقصى في الشرق الأوسط، الذي بلغ أوجّه مع حرب الإبادة في غزة، دوراً بارزاً في مفاقمة الاحترار العالمي، خالقاً حالة من تطبيع الفظاعة تمثّلت بسلوك الحكومات التي كانت تدّعي تمثيل حقوق الإنسان وسائر القِيَم الحضارية، أو ما زالت تدّعي ذلك، وقد تراوحت مواقفها باختلاف المكان أو مرور الزمان بين التواطؤ واللا مبالاة.
أما وقد بدأت هذه الحكومات الآن تذرف دموع التماسيح على مصير أطفال غزة، بعد أن بلغ مشهد تجويعهم حداً أثار اشمئزاز الرأي العام العالمي، ما برحت تدين بقسوة أشدّ بكثير «همجية حماس» في معاملتها لمن لا تزال تحتجزهم من الإسرائيليين وعددهم عشرون، مما في إدانتها لحرب الإبادة التي يقترفها ائتلاف النيوفاشيين والنازيين الجدد الإسرائيليين، والتي ذهب ضحيتها منذ بدئها في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ما يزيد عدده اليومي المتوسط عن المئة من الفلسطينيين، بينهم غالبية من الأطفال والنساء، ناهيك من غير المقاتلين من الرجال (وهم الأكثرية العظمى من الضحايا الذكور).
وإذ بلغ الوضع الإقليمي الدرك الأسفل وكاد الوضع العالمي يبلغه، بات الأمل يكمن في ارتداد مجرى الأمور إثر ارتطامه بالحضيض، بحيث تنتفض شعوب المنطقة العربية مجدداً بعد كل هذا الاحتقان، وتستفيق شعوب العالم بأسره لحجم الكارثة الناجمة عن صعود النيوفاشية العالمي على خلفية الردة النيوليبرالية، فيتخلص بعض الشعوب من أوهامه ويخرج بعضها الآخر من وهنه، وتتجدد شروط بناء البدائل التقدمية عن الانحطاط الحضاري الذي نحن في صميمه. ولو حصل ذلك، سوف يصبح السؤال الكبير مرة أخرى: هل تكون البدائل بمستوى التجديد الذي لا غنى عنه كي تقود العالم إلى الخروج من محنته الراهنة، أو تتكرّر فيها علل الماضي فتلقى الفشل من جديد بما يقرّبنا من نقطة اللاعودة في الانحطاط العالمي؟
كاتب وأكاديمي من لبنان
المصدر: القدس العربي
اقرأ أيضا