قانون المنع العملي للإضراب: خسارة بلا معركة

بقلم: جنين داود

 في شهر سبتمبر 1955، صدر بالجريدة الرسمية لنظام الحماية الاستعماري ظهير يمدد “الانتفاع بالحق النقابي الى الرعايا المغاربة”. كان ذلك بعد أن بات تنظيم شغيلة المغرب نقابيا واقعا قائما، تكرس بإعلان تأسيس الاتحاد المغربي للشغل قبل نصف عام من صدور هذا الظهير. وفي متم سبتمبر 2025، بعد 70 سنة، يدخل حيز التنفيذ القانون التنظيمي للإضراب الذي يفرغ ذلك الحق النقابي من محتواه الضئيل الذي ظل طيلة السبعين سنة تلك هدفا لقيود قانونية، ولهجمات شرسة في منعطفات الصراع الطبقي بالمغرب، لا سيما عند سعي الشغيلة الى استعمال فعال لسلاح الإضراب، اي في لحظات الإضراب العام (1990 و 1981 بوجه خاص).

قضى شغيلة المغرب زهاء 20 سنة إضافية يناضلون من أجل الاعتراف بالحق النقابي منذ أن أقصاهم ظهير ديسمبر 1936، مانحُ الحق النقابي للشغيلة الفرنسيين، إقصاءً تعزز بمنع صريح بظهير يونيو 1938. توج النضال بانتزاع الحق النقابي بظهير سبتمبر 1955. وظل حق الإضراب فارضا نفسه بحكم ميزان القوى المميز للحقبة التالية مباشرة لإعلان الاستقلال الشكلي، ومعه الجملة الشهيرة المتربصة بحق الإضراب (قانون تنظيمي يحدد شروط ممارسته). وبالمثل أمضت الدولة بالأقل عقدين في التهييء للإجهاز على حق الإضراب، المقيد أصلا بعدد من القوانين، مانعةٍ ومجرمةٍ له، ظلت الحركة النقابية تنادي بإلغائها. وانتقلت الدولة منذ العام 2022 إلى بدء عملية الإجهاز النهائي بعد أن وافقت عليه القيادات النقابية في اتفاق أبريل من ذلك العام. إذ بدأت تروج مشاريع لتقنين الإضراب تلو المشاريع منذ مطلع سنوات 2000، مصرة على عدم إلغاء القوانين المجرمة للإضراب رغم توقيعها على ذلك في اتفاق مع القيادات النقابية منذ العام 2003، بل تجاسرت وبادرت إلى اقتطاع أجور المضربين- ات في الوظيفة العمومية.

لم تستطع بروليتاريا المغرب ضمان حق الإضراب بالغاء القيود القانونية (الفصل 288 من القانون الجنائي حول عرقلة حرية العمل، والفصل 5 من مرسوم فبراير 1958 المانع لاضراب الموظفين و قانون التسخير المبطل لحق الإضراب..). وعندما شرعت الدولة البرجوازية قبل زهاء ربع قرن في سعيها إلى اصدار القانون التنظيمي للإضراب، المشار اليه في الدساتير المتتالية،  لم يكن رد المنظمات النقابية في مستوى خطورة العدوان، وحتى معظم يسار الحركة النقابية لم يقف الموقف العمالي المبدئي، اي الرفض التام لأي تقنين.

انهال هذا العدوان الكاسح في مسعى رأس المال لمزيد من إمالة كفة ميزان القوى لصالحه في علاقته بالشغيلة، عدوان يشمل مجمل الحياة الاجتماعية، حيث تصب السياسات العامة كلها في إتاحة ظروف مواتية لتراكم رأس المال، بالخوصصة في جميع الاتجاهات، وبالمزايا من كل نوع “للمستثمرين”، وبإلقاء تكاليف اعادة الإنتاج الاجتماعية على النساء، وبإحكام آلية الاكراه الطبقية.

قانون الإضراب شأن سياسي بامتياز، ويندرج إصدراه في تعزيز الاستبداد، وليس فقط ما في سماه الوزير «تحسين مؤشرات المناخ الاجتماعي ومناخ الأعمال وتقوية جاذبية الاقتصاد الوطني في مجال الاستثمار…»، أي خدمة رأس المال. والقيادات النقابية لها سياستها القائمة على منطق السلم الاجتماعي، مع ما يستتبع من الاضطلاع بدور مكمل للدولة في تدبير التوترات الاجتماعية على الساحة العمالية، لتأمين استقرار نظام الاستغلال الرأسمالي.

وفي ظل افتقاد الشغيلة لمنظمة نضال سياسي لخوض هذه المعركة السياسية، دفاعا على احد  ادوات النضال السياسي، اقتصرت محاولة رد الهجوم على اعتماد النقابات ، هذه التي سارت طيلة عقود في انزياح متواصل عن علة وجودها نحو أدوار مكملة للدولة ومساعدة لها، عبر آلية “الحوار الاجتماعي” بالذات.

فكان أن تصرفت قيادات المنظمات النقابية بمزاوجة التظاهر بالاعتراض والمساعدة على تمرير ما تريد الدولة: النقد بالكلام وخدمة هدف الدولة بالأفعال. هذا ما يفرضه على تلك القيادات استحالة التصريح بتلك المساعدة، فتراها ترتجل أشكال “احتجاج” و “نضال” عديمة الجدية في سياقات باردة، تعطي نتائج عكسية تزيد الإحباط واليأس في الصف العمالي. هذا بعد ان تكون قد نسفت إمكانات النضال الفعلية المتيحة ردا جماعيا من الطبقة العاملة، كما كان الحال طيلة أشهر حراك التعليم. تتصرف القيادات على هذا النحو “المناضل”  لدفع الاتهام بالتخلي عن مصلحة الشغيلة. وهي ستواصل نفس الدور برغم الويلات التي نتجت عنه.

جرى تمرير القانون المانع للإضراب بلا معركة حقيقية، ولم يبق لقيادات النقابات غير كلام رفضه، يضاف الى نظيره الخاص بقيود سابقة.

لن نعوض الخسارة التاريخية الحاصلة سوى ببناء منظمات نضال بروح النضال ومبادئه. وعي المصلحة الطبقية والدفاع عنها بوجه جبروت رأس المال، المصاص الذي لا يشبع من دماء الشغيلة. ذلك بالتبديد المتواصل لأوهام وأضاليل مصلحة مشتركة مزعومة بين المستغِل وضحيته (أيديولوجية الشراكة الاجتماعية). مع ما يترتب عن هذا المنطق من استقلال التنظيم العمالي عن الدولة. لا قوة إلا في اتحاد الشغيلة، ما يقتضي إنماء إرادة الوحدة لدى الشغيلة، وتقوية أواصر التضامن، من أصغر معركة من أجل تحسين وضع آني إلى كبريات معارك التحرر من الرأسمالية، الآتية لا محالة.

لن نسير نحو تعويض الخسارة المؤكدة سوى بانكباب طلائع النضال، مناضلي طبقتنا ومناضلاتها المكرسين- ات حياتهم- هن للتنظيم والنضال اليوميين، على النقاش والبحث الجماعيين للإجابة على الأسلة التي تطرحها حالتنا: لماذا وصلنا إلى ما نحن عليه من ضعف سهل على العدو سلبنا حرية الإضراب النسبية التي بُذلت من أجلها تضحيات أجيال متتالية من طبقتنا؟ ما أسباب ابتلاء منظماتنا بقيادات فرطت في كل شيء، ولم يبق غير السلاح نفسه فأعانت على إسقاطه من يد طبقتنا بسياستها المتعاونة مع الدولة؟ لماذا لم يهتز الجسم العمالي بوجه قانون الإضراب كما فعل فرعه في قطاع التعليم ضد نظام المآسي؟ كيف نصون استقلال منظماتنا عن الخصم الطبقي، وكيف نصون استقلال الكفاحيين- ات عن البروقراطيات المسايرة، بل المجارية، للدولة البرجوازية؟

السير نحو توحيد الفعل، وتضافر النضالات، وجه لمهمة مناضلي طبقتنا ومناضلاتها التي يجب النهوض بها في تجاوز لكل الحواجز  المصطنعة بين هيئات النضال بكل أنواعها. وكل مبادرة في هذا الاتجاه مشروعة، وكل تعزيز لاشكال تعاون نضالي قائمة واجب.

وجهها الآخر مواصلة جهود التضامن مع النضالات الجارية، مهما كانت نواقصها، وحفز التنظيم، وكل ما يرفع الوعي إلى مستواه السياسي، مستوى إدارك الحاجة إلى الاستعاضة عن التنظيم الرأسمالي الراهن للمجتمع، مع ما يلازمه من استبداد واضطهاد، بمجتمع المساواة والديمقراطية، والعلاقة السليمة بالبيئة، مجتمع الاشتراكية الإيكولوجية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا