جهاز القمع المغربي: من نزع سلاح المقاومة إلى سحق احتجاجات الشباب

سياسة13 نوفمبر، 2025

بقلم: أكوليز

  شهد المغرب صيف 2025 موجة احتجاجات ومسيرات في القرى والمناطق المهمشة، عبّرت عن غضب شعبي متزايد نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومطالبة بتحسين البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية. وتفاقم هذا الغضب في سبتمبر بعد وفاة ثمان نساء أثناء الولادة في المستشفى الجهوي بأكادير، ما أثار دعوات لتنظيم احتجاجات وطنية أمام المستشفيات.

القليعة… مرآة بؤس طبقي

 في خطوة لافتة، أطلقت حركة جيل Z يوم 27 شتنبر موجة جديدة من الاحتجاجات، قادها شباب ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا على تطبيق Discord، مطالبين بضمان الحق في الصحة والتعليم وبمواجهة “الفساد”، ومحاربة التهميش، والعمل والحماية الاجتماعية والحياة الكريمة. لقد مثّلت هذه الحركة امتدادًا لتراكم غضب اجتماعي ناتج عن البطالة وغلاء المعيشة وانسداد الأفق السياسي والاقتصادي، حيث عبّر الشباب عن معاناة فئات واسعة من شعب رازح تحت وطأة الفقر والظلم معًا. في بعض المناطق، كان السخط الشعبي موجهاً نحو رموز الثروة والسلطة الإدارية، في تحدٍّ واضح لبنية القمع اليومية.

 في مدينة القليعة بمنطقة سوس ماسة، اتخذت الاحتجاجات طابعًا أكثر حدة بسبب هشاشة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، إذ تعتمد المنطقة على فلاحة موجّهة للتصدير وعلى العمل الموسمي، ما جعلها نموذجًا مصغرًا للتفاوت الطبقي الذي يطبع بنية المغرب الاقتصادية. القليعة لم تكن استثناءً، بل مرآة لمغرب يعيش تناقضًا حادًا بين ثراء أقلية مهيمنة وبؤس أغلبية مقصية. ردت الدولة بعنف، حيث واجهت المحتجين بقمع أسفر عن ثلاثة قتلى، في مشهد يعبّر بوضوح عن وظيفة الدولة في حماية مصالح الطبقة الحاكمة أكثر مما يحمي ما يسمى بـ”الأمن العام”.

 لم يكن هذا القمع مجرد رد “أمني” ظرفي، بل تجسيد لآلية بنيوية تهدف إلى الحفاظ على النظام القائم، وضمان استمرار تراكم الثروة في أيدي قلة من البرجوازية المسيطرة سياسيًا واقتصاديًا. إنه دفاع عن منطق السيطرة الطبقية واستمرار استغلال الفلاحين والعمال، لا عن الأمن العام كما تروّج الرواية الرسمية.

احتكار العنف: تأسيس الدولة السلطوية

 تُقدّم الدولة المغربية أجهزتها القمعية — وخاصة الشرطة والقوات العمومية — على أنها أدوات لحماية النظام العام والأمن الشخصي للمواطنين. وتبرّر التدخلات ضد الاحتجاجات أو التجمعات العامة بضرورة منع الفوضى وحماية الممتلكات، مع التأكيد على احترام مبادئ “الضرورة والتناسب”. غير أن الواقع، كما أظهرته احتجاجات صيف 2025 في القليعة ومدن أخرى، يكشف أن هذه الأجهزة تؤدي دور الذراع التنفيذية لحماية مصالح سلطة الطبقة البورجوازية السياسية، أكثر مما تعمل على حفظ الأمن. فالقمع والاعتقالات الجماعية (اعتُقل آلاف الشباب وتوبع المئات منهم بأحكام وصلت في بعض الحالات إلى 15 سنة سجناً نافذاً) تثبت حقيقة وظيفة الدولة وموقعها في الصراع الطبقي.

 منذ فجر “الاستقلال” – المساومة الخيانية مع المستعمر الفرنسي- شكّلت أجهزة القمع ذراع الملكية المسلّح، تحمي سلطتها السياسية والمِلكية الخاصة للبرجوازية ولا تضمن حياة الشعب، وتبثّ الخوف في القرى والمدن والأحياء العمالية والمصانع والمظاهرات.

 بعد إعلان الاستقلال سنة 1956، سارعت الملكية إلى تفكيك جيش التحرير، أي نزع سلاح المقاومين الذين خاضوا معركة التحرر الوطني، ودمج بعضهم في الجيش النظامي أو إقصائهم نهائيًا من الساحة العسكرية. كانت هذه الخطوة تعبيرًا عن إرادة واضحة لبناء جيش رسمي خاضع بالكامل لمؤسسة القصر.

تفكيك جيش التحرير وقمع الريف… لحظة حاسمة في بناء دولة القصر

 مثّل نزع سلاح جيش التحرير المغربي بعد الاستقلال خطوة حاسمة في إعادة تشكيل ميزان القوى الطبقية داخل الدولة الفتية. فبعد أن كان جيش التحرير نتاجًا لحركة مقاومة شعبية جمعت الفلاحين والعمال والمقاتلين ضد الاستعمار، نظرت إليه الملكية كقوة غير منضبطة تهدد مشروعها في بناء دولة مركزية تحتكر السلطة السياسية والعسكرية داخل القصر. لم يكن نزع السلاح إذًا مجرد إجراء تنظيمي أو عملية لتوحيد القوات، بل كان فعلًا سياسيًا ذا مضمون طبقي، هدفه تجريد الطبقات المنتجة من أدواتها النضالية، وإقصاء القوى الثورية القاعدية. مثل ذلك لحظة تأسيسية لبناء جهاز دولة يعمل كأداة في خدمة الملكية وحليفتها طبقة الملاك العقاريين المتحكمة في الثروة، عبر احتكار العنف المشروع وإعادة توجيهه من مواجهة الاستعمار إلى ضبط البلد داخليا وإخضاع القوى الاجتماعية.

  بدأت الملكية خلال هذه المرحلة بتشكيل الأجهزة التي تُمكّنها من ممارسة السلطة المطلقة والوقوف في وجه كل منافسة، وعلى رأسها حزب الاستقلال. ويذكر جيل بيرو في كتابه “صديقنا الملك (1989)” أن حكومة 1958 تشكلت من حزب الاستقلال وحده، غير أنها قبلت بأن يحتفظ السلطان، الذي عزز سلطته آنذاك، بحق تعيين وزيري الدفاع والداخلية، وهو ما مثّل لحظة حاسمة في تركيز أدوات العنف الشرعي بيد القصر.

 شكّل قمع انتفاضة الريف 1958–1959 أول اختبار فعلي، لاحتكار الدولة “المستقلة”، للعنف المشروع، وتكريسًا لسياسة دشّنتها الملكية عبر نزع سلاح جيش التحرير. اُستُخدم الجيش الملكي – بقيادة ولي العهد آنذاك، الحسن الثاني – بعد تجريد المقاومين والفلاحين من سلاحهم، لقمع سكان الريف الذين خرجوا يطالبون برفع التهميش وتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. استخدمت الدولة القصف الجوي والمدفعي، ما خلف آلاف الضحايا والمعتقلين، ورسّخ في الوعي الجماعي صورة الدولة كقوة قمع لا كقوة تحرير.

 لم يكن هذا القمع حدثًا معزولًا، بل لحظة تأسيس لإعادة إنتاج جهاز الدولة كأداة لحماية مصالح الطبقة البورجوازية وضمان استمرار التحالف بين القصر والملاك العقاريين. فالملكية، التي احتكرت القوة المسلحة، استخدمتها لإخماد كل تعبير جماعي عن الغضب الطبقي، مؤسِّسة بذلك نمط حكم قائم على الولاء والخوف. وهو ما يؤكده المؤرخ المعطي منجب في كتابه »الملكية المغربية والصراع على السلطة» 1992 L’Harmattan، حيث يقول: “يمكننا أن نستنتج أن القصر، بفضل سيطرته على الجهاز العسكري للدولة الفتية، يمتلك أدوات السلطة الأساسية. وبفضل الثقل والسلطة التي يمنحها له الجيش الملكي والأمن الوطني والدرك الملكي وقريبًا المخابرات، يبدو بالفعل سيد الموقف الحقيقي، وحجر الزاوية للنظام برمته. وسيثبت هذا الاحتكار للقدرات القمعية للنظام فعاليته في الحفاظ على العرش.”

 من المسلّم به أن احتكار العنف البدني المشروع (القمع) هو أحد امتيازات الدولة منذ إنشائها، أي منذ ظهور فائض الإنتاج وتطور الملكية الخاصة، المكلفة بجمع هذا الثراء لصالح مصالح أقلية. ولقد مثلت موجة احتجاجات نهاية شتنبر وبداية أكتوبر 2025 الشبابية، أبرز مثال. من الريف إلى القليعة، ومن نزع سلاح جيش التحرير إلى قمع الاحتجاجات الشبابية الحديثة، كانت هذه لحظة غير منفصلة عن تاريخ الدولة المغربية؛ فهذا الاحتجاج امتداد لغضب طبقي متراكم، ويعيد في نفس الوقت إلى الواجهة مسألة استخدام العنف من قبل الدولة خدمة للطبقة المهيمنة.

تاريخ طويل من الدم والنار: القمع كركيزة للحكم

 عززت الدولة أركان حكمها السلطوي عبر تاريخ قمع منهجي، قائم على إرث السلطة التقليدية باستخدام وسائل قمع حديثة مستوردة من القوى الإمبريالية. سحق الجيش الملكي انتفاضة الدار البيضاء في 1965، واستهدفت الأجهزة الأمنية منظمات اليسار الثوري والإسلاميين، وأنشأت معتقلات سرية عبر احتجاز السجناء سنوات طويلة وجرى نفي أخرين، دون الحديث عن تصفيات جسدية لمعارضين. كما ووجهت الاحتجاجات بالاعتقالات التعسفية والمحاكمات الصورية.

 طال القمع أيضًا مناضلي الطبقة العاملة والشباب العاطل عن العمل، وسقط عدد كبير من أبناء الشعب تحت التعذيب، بينما تعرض نشطاء حقوق الإنسان والصحافيون المستقلون للبطش والمحاكمات القاسية. إن هذه الأحداث توضح أن الدولة استخدمت العنف المنهجي ليس لحماية الأمن العام، بل لضمان استمرار السيطرة السياسية والاقتصادية للطبقة الحاكمة، وتحجيم كل أشكال المعارضة الشعبية.

 تحاول الدولة التستر وراء وهم الحياد، مبررة تجاوزات أجهزة القمع بأنها مجرد انحرافات فردية، كما حاولت هيئة “المصالحة والإنصاف” من خلال ما سُمّي بـ”طي صفحة الماضي”. لكن هذه الانتهاكات ليست استثناءً، بل جزء لا يتجزأ من آلية الدولة لحماية مصالح الطبقة الحاكمة، وإخماد أي احتجاج شعبي أو مطالب اجتماعية يهدد استقرار النظام القائم. وهو ما تثبته وقائع قتل عدة مواطنين أو محتجين (كمال العماري من شباب 20 فبراير – محسن فكري في الريف – عبد الله حاجيلي – ياسين الشبلي.. وأخيرا ضحايا القليعة). إن قمع الاحتجاج، واعتداءات الشرطة المنهجية في المظاهرات، والمثول الفوري أمام القضاء وما يرافقه من تحقيقات واعتقالات، لا علاقة لها بالصدفة أو بانحرافات أجهزة القمع. إنه عنف “مشروع” وأداة أساسية بيد أجهزة دولة تخدم الطبقة الحاكمة.

مؤسسات “حفظ الأمن” كذريعة، القمع كحقيقة

 تُعد أجهزة الدولة القمعية – المتمثلة في الشرطة والقضاء وسجون العقاب والجيش — أداة لا غنى عنها لممارسة السلطة، وغالبًا ما كانت خصمًا مباشرًا للطبقة العاملة وفقراء الشعب. كما قال إنجلز: «في نهاية المطاف، الدولة هي عصابة من الرجال المسلحين» وهو تعريف يظل صالحًا حتى اليوم، رغم أن الرأسمالية طورت نظامها الأيديولوجي وأساليبها الثقافية بشكل يسمح لها أحيانًا بتجنب اللجوء المباشر إلى القوة. لكن عندما تعجز الوسائل الشكلية مثل الانتخابات أو المهرجانات الترفيهية والإعلام عن حفظ النظام الاجتماعي وضمان استمرار الاستغلال الرأسمالي، لا تتوانى الدولة عن تعزيز جهازها القمعي. بعد كل اضطراب، تُطلق الأجهزة، مدعومة بالدعاية الإعلامية، حملات تجنيد واسعة في الشرطة والجيش والقوات المختلفة، مستغلة البطالة ولا استقرار الشباب المهني، ضامنة بذلك استمرار السيطرة الفعلية على المجتمع. إن القمع، بالتالي، ليس استثناءً، بل عنصر أساسي في إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية وتحجيم أي تهديد للسلطة السياسية والاقتصادية لطبقة البورجوازية الحاكمة.

 تُقيّد الملاحقة القضائية والمضايقات الإدارية وعنف الشرطة، الطبقات الشعبية بشكل مباشر وعنيف في قدرتها على التحرك والمطالبة بحقوقها. فالخوف من المشاركة في المظاهرات يساهم في تراجع النشاط الاحتجاجي في الشوارع. هذا الواقع يغذي قبول الاستغلال المفرط ويُكرّس ظروفًا معيشية متدهورة.

 عنف الشرطة ما هو إلا الوجه البارز لقمع الدولة الممنهج، الذي يمتد إلى قوانين قمعية وأدوات مؤسساتية متعددة، مثل قانون الإضراب، وقانون النقابات والتظاهر والتعبير، وتجريم أي نشاط تضامني مع قضايا التحرر (فلسطين مثلا). هذه الإجراءات ليست مجرد تدابير “أمنية”، بل تمثل آليات الدولة في حماية مصالح الطبقة المهيمنة وضمان استمرار الاستغلال الطبقي. الدولة البوليسية اليوم لا تخفي نفسها، بل تتحرك بوجه مكشوف، واثقة من ضعف المعارضة الشعبية والطبقة العاملة خاصة، غير قادرة على بناء قوة جماعية قادرة على تحدي النظام القائم.

 الشرطة ليست في خدمة الشعب… بل أداة سيطرة

 يتحدث الناس عن “الشرطة في خدمة الشعب”، لكن هذا مجرد قناع. إن أي جهاز شرطة يخدم دولة رأسمالية لا يمكن أن يكون إلا آلة عنف. إن أساليب التفتيش على أساس المظهر، الاعتقالات الجماعية، والاعتداء الجسدي والتحرش الجنسي ليست أخطاء أو تجاوزات، بل هي جوهر وظيفته.

 لا يعني إلغاء الشرطة إلغاء الأمن، بل فتح الباب أمام بناء مجتمع مختلف: مجتمع تضامني، ديمقراطي، جماعي. الأحياء الشعبية تثبت بالفعل أن التنظيم الذاتي، التعاون، وإدارة النزاعات بدون قمع ممكن وفعال. هذه هي الممارسة الحقيقية التي يجب تعميمها، بينما يُضعف جهازَ الشرطة ويُحرر المجتمع من قبضته القمعية.

 رغم عنف جهاز الدولة والرهبة من القمع الممنهج، طالب حراك الشباب، عدوه الحقيقي (الدولة) بإقالة حكومة الواجهة. واقتصر للدفاع عن مطالبه، على الدعوة إلى أشكالًا جماعية لتدبير تداعيات القمع والتضامن مع ضحاياه (لجنة المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين). لكن الطريق لا يزال طويلاً قبل أن تتمكن هذه الحركة من مواجهة السؤال المركزي: ضرورة كسر جهاز القمع على نطاق واسع، وتحويل مقاومة القمع إلى مشروع تحرري شامل.

 وفي الوقت نفسه، تستمر أوهام الاستقلال المزعوم للعدالة في تغذية الخضوع والخوف. الجهاز القضائي، الذي يفترض أن يطبق القانون على قدم المساواة، يمارس في الواقع عدالة طبقية صارمة: يوميًا يُسجن سكان الأحياء الشعبية والفقراء والمهمشين وكل من يتجرأ على تحدي النظام القائم. بالمقابل، يظهر تساهل كبير مع مجرمين ينتمون إلى الطبقة البورجوازية أو مجرمين من قضاة أو محامين أو أساتذة جامعيين.. يدافعون عن المجتمع الرأسمالي دون أن يكونوا أعضاء من نفس الطبقة الاجتماعية.

 إن كل لحظات الحراك الاجتماعي تُعد فرصة لكشف طابع الدولة الطبقي وفضح الأوهام حول حياد الدولة وشرعيتها من أجل إضعاف جهاز القمع، وتحويل كل مقاومة معزولة إلى قوة جماعية قادرة على مواجهة آلة الدولة القمعية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا