فنزويلا: بين الأزمة والاجتياح
بقلم: ماو بايوكو •
يسبر ماو بايوكو غور الأزمة في فنزويلا فيما يصعد ترامب العدوان لأمريكي.
عينُ الولايات المتحدة الأمريكية منصبة على فنزويلا. في الشهر الماضي، أسفرت جملة غارات جوية أمريكية على سفن يُزعم أنها تهرب مخدرات في البحر الكاريبي عن مقتل ما لا يقل عن 37 شخصًا. تم نشر أسطول أمريكي كبير من ثماني سفن حربية و10 آلاف جندي قبالة سواحل فنزويلا. وفي أواخر أكتوبر، أذنت إدارة ترامب بعمليات سرية لوكالة المخابرات المركزية في فنزويلا، وتم إرسال أقوى حاملة طائرات، USS Gerald R Ford، لدعم العملية.
لا يتعلق هذا التصعيد الدراماتيكي في المقام الأول بتهريب المخدرات، بل يروم إطاحة حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولا مادورو. على مدى العقد الماضي، نجا مادورو من انهيار اقتصاد فنزويلا، وموجات احتجاج جماهيرية، وجملة عقوبات أمريكية، ومن جهود حثيثة من قبل المعارضة لإزاحته من السلطة، وحتى محاولة اغتياله. وقد بات يواجه الآن احتمال شن عملية عسكرية أمريكية واسعة النطاق. ومع قيام وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن الداخلي ستيفن ميلر بتوجيه إدارة ترامب نحو ممارسة أقصى ضغط على فنزويلا، يبدو أن ضربة عسكرية كبيرة، إن لم تكن غزوًا، أمر لا مفر منه.
وقد أربك تغيير الاتجاه المفاجئ – من التقارب في بداية ولاية ترامب الثانية إلى حافة الحرب – معظم المعلقين على هذا الموضوع. تصدر مقالات يومية متكهنة باستراتيجية ترامب النهائية بصدد فنزويلا وأسبابه المحتملة لشن ما سيكون على الأرجح حرباً طويلة الأمد وغير شعبية ودموية. كما يواجه اليسار أيضاً صعوبة في تفسير هذا الوضع. تفسيرنا المعتاد الذي يعتبر أن ترامب، الممثل لمصالح الإمبريالية الأمريكية وطموحاتها، يسعى وراء موارد فنزويلا النفطية والمعدنية الهائلة لا يقودنا بعيداً. علينا أن نسأل أيضًا: لماذا الآن؟ هل سيكون هذا نموذج الإمبريالية الأمريكية في السنوات القادمة؟
بالنسبة للفنزويليين، قد يكون غزو أمريكي مفضٍ إلى انهيار الدولة كارثة لا يمكن تصورها. ومع ذلك، حتى مع هذا التهديد الذي يحوم على رؤوسنا، سادت التكهنات إلى حد كبير، وليس رفض الغزو. إن العودة إلى إجماع، تدعم فيه كل أطياف اليسار وقاعدته الشعبية الدولة، ستواجه الصعوبات المتمثلة في تصاعد الاستبداد، والاستياء العام، والأزمة الاقتصادية، وواقع ما يعنيه التدخل الأمريكي لفنزويلا. سيأتي الغزو المحتمل في وقت تصل فيه التعبئة الشعبية الفنزويلية ودعمها للدولة إلى أدنى مستوياتها. وهذا قد يفسر إلى حد ما سبب اختيار ترامب محاولة إطاحة مادورو الآن.
بين الأزمة والاجتياح
تجتاز فنزويلا أزمة سياسية لا نظير لها في تاريخها الحديث. اتسمت الثورة البوليفارية، البادئة في العام 1998 بانتخاب هوغو تشافيز، بكونها حققت أحد أعلى نسب المشاركة السياسية والديمقراطية في العالم، حيث أجريت 14 انتخابات وطنية بين العام 1998 ووفاة تشافيز في العام 2013. وعلى امتداد سنوات الثورة، استمدت الدولة شرعيتها من هذه الممارسة الديمقراطية الجماهيرية شبه المستمرة. كان تشافيز يرى أن بناء الانتقال إلى الاشتراكية سيجري بالتدريج، عبر هذه الموافقة الديمقراطية الجماهيرية. بيد أن الثورة لم تتمكن، بعد فوز مادورو في انتخابات رئاسية كانت مشدودة أكثر من المتوقع في العام 2013، من الحفاظ على هذا الدعم الديمقراطي الجماهيري؛ إذ فازت المعارضة اليمينية بأغلبية ساحقة في الانتخابات التشريعية في العام 2015،
استغلت المعارضة هذا الزخم، وسارعت إلى إجراء استفتاء على عزل مادورو ساعية إلى الفوز بالرئاسة. سرعان ما تم إلغاء ذلك في العام 2017، عندما قضت المحكمة العليا في فنزويلا بأن الجمعية الوطنية قد أهانت المحكمة، فعلقت جميع وظائفها التشريعية. تلت ذلك احتجاجات جماهيرية أسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص واعتقال الآلاف. أطلقت المعارضة غير المنظمة، في السنوات الست التالية، مبادرات متعددة في محاولة للوصول إلى السلطة، بما في ذلك دعم العقوبات الأمريكية وإعلان عضو الجمعية الوطنية خوان غوايدو رئيسًا مؤقتًا لفنزويلا، وهو ما اعترفت به إدارة ترامب إلى جانب عشر دول في أمريكا اللاتينية ومعظم دول الاتحاد الأوروبي.
بيد أن تهديدا أكبر للثورة بدأ يلوح. فقد قاطعت المعارضة الانتخابات وتقدمت الحكومة دون معارضة، فانخفضت نسب المشاركة الديمقراطية بشكل حاد، وشهدت انتخابات الجمعية الوطنية لعام 2020 انخفاضًا تاريخيا في نسبة المشاركة. عانت الحكومة من آثار الأزمة الاقتصادية وافتقارها إلى التعبئة الشعبية، فاستولت طبقة سياسية جديدة، معظمها من الجيش وحلفائه، على قدر متزايد من السلطة. هذا الاتفاق بين حكومة يسارية متبقية وطبقة عسكرية قوية ذات مصالح خاصة واسعة النطاق في قطاعي النفط والمناجم في فنزويلا يسيطر الآن على فنزويلا بطريقة استبدادية.
سعياً للإفلات من العقوبات المفروضة على نفط فنزويلا وأصول الشخصيات الرئيسية في الحكومة، قبل مادورو اتفاق بربادوس Barbados في العام 2023 الذي توسطت فيه الأطراف الدولية. وافق مادورو والمعارضة، في مقابل رفع العقوبات، على خوض انتخابات الرئاسة للعام 2024 تحت مراقبة دولية. وأصبحت ماريا كورينا ماتشادو، المعارِضة والحائزة مؤخراً على جائزة نوبل للسلام، وذات الماضي اليميني المناهض لتشافيز، مرشحة المعارضة، وجددت نفسها كسياسية وسطية تنتقد القيادات اليمينية المؤيدة للعقوبات. اكتسبت حملتها زخماً من أماكن غير متوقعة، حيث عقدت تجمعات حاشدة في معاقل تشافيزية سابقة مثل ولاية باريناس. أما أحزاب اليسار، مثل الحزب الشيوعي الفنزويلي وحزب ”الوطن للجميع“ (PPT)، وكلاهما كانا في السابق جزءاً من تحالف الثورة البوليفارية، فقد تجمعت حول الترشيح البديل لعضو المجلس الانتخابي الوطني السابق إنريكي ماركيز.
على الرغم من منعها في النهاية من الترشح للانتخابات، أيدت ماتشادو الدبلوماسي السابق إدموندو غونزاليس مرشحا للمعارضة. وعندما أجريت الانتخابات أخيرًا في 28 يوليو، أعلنت الحكومة والمعارضة نتائج متباينة. ادعت الحكومة أن مادورو حقق فوزًا ساحقًا، بحصوله على 51 في المائة من الأصوات مقابل 40 في المائة لغونزاليس. لكن المعارضة ادعت أن غونزاليس حقق فوزًا ساحقًا بحصوله على أكثر من 67 في المائة من الأصوات. توقعاً لهذه الحالة، جمعت المعارضة حصيلة الأصوات المفصلة والأدلة (actas) من كل مركز اقتراع (يحق لكل حزب متنافس، بموجب قانون الانتخابات الفنزويلي، الحصول على نسخة من هذه البيانات)، ونشرتها على الإنترنت.
بدت الأدلة التي جمعتها المعارضة تؤكد ادعاءاتها بفوز غونزاليس، وقد أيد ذلك المراقبون الدوليون الذين دعتهم الحكومة للإشراف على العملية. ومن ناحية أخرى، أدى فشل الحكومة في عرض مجموعة أدلتها، وتدقيق النتائج، إلى عدم اعتراف المجتمع الدولي بفوزها المزعوم. والأهم من ذلك، أن الحلفاء اليساريين التاريخيين لشافيزية والثورة البوليفارية، مثل رؤساء كولومبيا والبرازيل وشيلي، امتنعوا عن الاعتراف بالنتائج حتى تعرض الحكومة أدلتها الخاصة. وادعت الحكومة تعرض النظام الانتخابي للاختراق، وزعمت أنها فقدت الأدلة، ولم تأت حتى اليوم أي دليل على فوزها.
رد فعل وقمع
اندلعت، في أعقاب الانتخابات، موجة احتجاج جماهيرية في جميع أنحاء البلد. وفي كاراكاس، تركزت الاحتجاجات في المناطق العمالية التي كان التشافيزية تعتبرها معاقلها. وبدا أن هذه الاحتجاجات قد خرجت عن سيطرة المعارضة الرسمية، التي رفضت الدعوة إلى المظاهرات حتى تتمكن من الحصول على حججها وتحميلها. وبوجه تحد شعبي غير مسبوق، سارعت حكومة مادورو إلى قمع هذه الاحتجاجات، واعتقلت آلاف الأشخاص بتهمة الإرهاب. كما تم سجن المرشح المستقل المدعوم من اليسار، إنريكي ماركيز، بعد اقدامه على استئناف قانوني أمام المحكمة العليا لإجبار الحكومة على نشر النتائج المفصلة. وعلى عكس موجات الاحتجاجات والانتقام الحكومي السابقة، أصبحت الحكومة تركز بشكل قوي على منتقديها من اليسار. فتم اعتقال مئات من قادة النقابات ومناضلي الجماعات السكانية والمراقبين الانتخابيين المحليين دون محاكمة أو إجبارهم على المنفى، ولا يزال هذا القمع مستمراً حتى يومنا هذا.
ومع ذلك، لن تكتمل هذه الحكاية دون اعتبار السبب الرئيس لتراجع الدعم الشعبي للحكومة، ألا وهو الأزمة الاقتصادية. فقد شهدت فنزويلا، بين العامين 2014 و2019، انهيارًا غير مسبوق لاقتصادها في وقت سلم. بدأت الأزمة مع انهيار أسعار النفط العالمية في العام 2014، ما أدى إلى تخلف فنزويلا عن سداد ديونها ومحاولتها سد العجز عن طريق زيادة الكتلة النقدية في نظامها، ما سبب تضخما فائقا. ومنعت العقوبات الأولى التي فرضتها إدارة ترامب على فنزويلا، بدءاً من العام 2017 بدعم من المعارضة، البلد من الاستفادة من التمويل الدولي وإعادة هيكلة ديونه.
كانت النتائج المتداخلة كارثية، حيث بلغ معدل التضخم أكثر من مليون في المائة في عام 2018 ، وانهار الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 50 في المائة. وهاجر أكثر من 7 ملايين فنزويلي، أي ربع سكان البلد. وفي السنوات الأخيرة، تمكنت الحكومة من احتواء الأزمة إلى حد ما من بتنفيذ إصلاحات مكلفة عززت قوة الطبقة الرأسمالية المحلية، مثل دولرة الاقتصاد وخصخصة الصناعات وخفض رواتب القطاع العام. أدت هذه الإجراءات إلى تراجع كبير في المساواة الاقتصادية والتقدم الاجتماعي اللذين تحققا في عهد تشافيز. وقد سبب الأمر زيادة عدد الإضرابات في قطاعي النفط والطاقة الفنزويليين، ولكنه لم يؤدِ بعد إلى إعادة تشكيل سياسي للطبقة العاملة بما يكفي للضغط على الحكومة.
وربما باتت الحركات الشعبية، بوجه العواقب المركبة للأزمة الاقتصادية، وغياب الديمقراطية في السنوات الأخيرة من الثورة البوليفارية، ضعيفة بما يكفي لكي تحاول الولايات المتحدة فرض نفسها في البلد. إذا أفلحت لن يكون ذلك برغبة الفنزويليين، بل بفعل فشل القيادة البوليفارية في تجديد الثورة، والخروج من النموذج الاستخراجي النفطي الفاشل، والحفاظ على الممارسات الديمقراطية الجماهيرية التي كان أصل الحركة. لكن الأسئلة الرئيسية تبقى مطروحة: ما هي خطط الولايات المتحدة إزاء فنزويلا، ولماذا فشلت حكومة مادورو، التي أصبحت الآن تابعة إلى حد كبير لتحالف بين الجيش والطبقة الرأسمالية، في تقاربها مع الولايات المتحدة؟
أكثر من مجرد موارد
بعد فترة وجيزة من تولي ترامب منصبه هذا العام، عرضت الولايات المتحدة مبادرات جديدة لفنزويلا. فرضت إدارة بايدن، في أشهر ولايتها الأخيرة، مجموعتين جديدتين من العقوبات على المسؤولين الفنزويليين والشركات الحكومية، ردا على الانتخابات الرئاسية الفنزويلية للعام 2024 المطعون فيها، وكان هناك دعم متزايد بين المُشرِّعين الجمهوريين والديمقراطيين لفرض عقوبات مباشرة على قطاع النفط الفنزويلي. سرعان ما عكست إدارة ترامب مسارها في هذا الاتجاه. أولاً، أرسلت المبعوث الرئاسي ريتشارد غرينيل إلى فنزويلا للتفاوض على استئناف رحلات الترحيل من الولايات المتحدة، وكذلك الإفراج عن المواطنين الأمريكيين المسجونين في فنزويلا بتهمة التآمر على الحكومة. ثانياً، منحت شركة شيفرون ترخيصاً لإنتاج وتصدير النفط الفنزويلي مباشرة إلى الولايات المتحدة، ما أدى إلى زيادة كبيرة في مبيعات النفط الفنزويلي إلى الولايات المتحدة.
وبدا أن فنزويلا كانت في طريقها إلى تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة. كان ذلك قبل تغير المزاج في واشنطن بين عشية وضحاها، ما فاجأ حكومة فنزويلا. كان ردها الأولي على الغارات الجوية على القوارب الفنزويلية في البحر الكاريبي القولَ إنها لم تحدث، وأنها مقاطع فيديو مصنوعة بالذكاء الاصطناعي، وأن مكتب وزير الخارجية الأمريكي المتشدد المناهض لمادورو، ماركو روبيو، قد صنعها لإفشال تقارب إدارة ترامب وفنزويلا. وقد أفادت التقارير أن مادورو ضغط للحصول على تنازلات أكبر لصالح الصناعات النفطية والمنجمية الأمريكية في محاولة لدرء التصعيد، ولكن بات جليا بنحو متزايد أن الولايات المتحدة لا تسعى فقط وراء موارد فنزويلا.
كانت الضربات، من وجهة نظر حكومة فنزويلا، غير عقلانية ومفاجئة. ويمكن إضافة أنه من وجهة نظر رأس المال الدولي، لا يمكن اعتبار الضربات مثمرة. فبرغم أن صناعة النفط في فنزويلا مملوكة للدولة اسمياً، يعتمد البلد بشكل كبير على التمويل والاتفاقات مع شركات النفط الأجنبية والخاصة للحصول على رأس المال الثابت اللازم لاستخراج النفط (المثاقب والمضخات وأنظمة التكرير، إلخ) وكذلك المهندسين المدربين. تشكل شركات النفط الأجنبية أكثر من 50 «مشروعاً مختلطاً» مع شركة النفط الحكومية الفنزويلية PDVSA، وتستأثر بما بين 50 و70 في المائة من صادراتها النفطية.
سرَّع إقرار قانون مكافحة الحصار في العام 2020 إنشاء شركات مختلطة دون رقابة ديمقراطية، ما أدى في الواقع إلى خصخصة أقسام متزايدة من قطاع النفط المحلي بواسطة منح امتيازات تستمر إلى ما بعد العام 2040. أصبحت الدولة الفنزويلية، في شكلها الحالي، شريكاً راغباً وضماناً لهذا الاستخراج، بدلاً من أن تكون عائقاً أمام وصول القطاع الخاص إلى ثروتها النفطية. في الواقع، أخذت الدولة الفنزويلية على عاتقها مهمة تطويع القوى العاملة في حقولها النفطية، حيث سجنت أكثر من 100 من قادة نقابات شغيلة صناعة النفط في العام الماضي وحده.
والوضع أسوأ بكثير في قطاع المناجم واستخراج المعادن في فنزويلا، الذي يعاني من تخلف تاريخي. أنشأت الحكومة، في العام 2016، منطقة التنمية الاستراتيجية الوطنية للقوس المنجمي أورينوكو، التي تغطي 12 في المائة من الأراضي الوطنية، بما في ذلك الأراضي التاريخية لقبائل واراو وبيمون وبياروا وييكوانا وأراواك الأصلية. وكانت النتائج كارثية من الناحيتين البيئية والاجتماعية، حيث أن معظم العمليات المنجمية تقودها جهات فاعلة صغيرة غير حكومية وعصابات منظمة عابرة للأوطان، ما أدى إلى الاتجار بالبشر، والاستغلال المنجمي غير القانوني، وتدمير البيئة، وارتكاب عدد كبير من انتهاكات حقوق الإنسان ضد السكان الأصليين، بما في ذلك المذابح، واستغلال الأطفال، والاعتداء الجنسي، والرق. ولا يصل أي من الثروة المستخرجة إلى خزائن فنزويلا؛ بل يتم غسلها لتصديرها مباشرة إلى أسواق المعادن العالمية. وتشرف القوات المسلحة الفنزويلية على هذه المنطقة، إما بتغاضيها عن الممارسات واسعة النطاق للاستغلال وتدمير البيئة أو بالاستفادة من الرشاوى وتوفير الموارد مثل الوقود.
أثبتت الحكومة الفنزويلية، على مدى العقد الماضي، مرونتها تجاه مطالب رأس المال الأحفوري والاستخراجي، سواء كان ممثلاً في شركات النفط الخاصة المعولمة أو في العمليات المنجمية غير القانونية الصغيرة. إن كانت الولايات المتحدة مهتمة بالموارد الفنزويلية، فإن المخاطر التي ينطوي عليها الغزو ستجعل استخراجها أشد صعوبة، على الأقل لعقود من الزمن. فبدون سيطرة القوات المسلحة على الأراضي، ووظيفة فرض الانضباط على السكان، ووظيفة تنسيق نقل البضائع ورأس المال، تصبح فنزويلا أقل جاذبية للاستغلال. قد تعتقد الولايات المتحدة أنها قادرة على تحقيق نصر سريع، والانتقال إلى نظام جديد مع بقاء هيكل الدولة سليماً إلى حد كبير، ولكن النتيجة الأكثر ترجيحاً لانهيار الدولة ستكون سيادة حالة تتميز بالاستخراج الفوضوي وغير القانوني مع انخفاض الإنتاجية.
من المؤكد أن مادورو والطبقة الرأسمالية المحلية التي تدعمه لم يستنفدا بعد التنازلات الممكنة، لكن ترامب غير مهتم. ينبغي ألا ننظر إلى الموارد الفنزويلية على أنها المحرك الرئيس هنا، بل أيضاً إلى أسلوب ترامب الجديد في السياسة الخارجية، حيث تعادل الشواغل الاقتصادية الملحة الدوافع السياسية والعرقية ومحاولات الإدارة لإظهار قوتها وجبروتها العسكري في عالم يتراجع فيه نفوذ الولايات المتحدة بنحو مطرد.
وجه الإمبريالية الجديد
وافقت المحكمة العليا الأمريكية، يوم 3 أكتوبر، على قرار إدارة ترامب إلغاء وضع الحماية المؤقت (TPS) لأكثر من 300 ألف مهاجر فنزويلي في الولايات المتحدة، ما يمهد طريق ترحيلهم في نهاية المطاف من الولايات المتحدة. يشمل وضع الحماية المؤقت غالبية المهاجرين الفنزويليين المقيمين في الولايات المتحدة. وبرغم من أنهم يمثلون نسبة صغيرة من أكثر ضمن سبعة ملايين فنزويلي فروا من البلد في العقد الماضي، يوجدون في طليعة حملة جديدة من العنصرية والشيطنة، حيث يتم ربطهم بعصابات مثل Tren de Aragua وتجارة المخدرات الدولية. ويردد هذا الرأي سياسيون يمينيون في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، مثل خوسيه أنطونيو كاست في تشيلي وناييب بوكيلي في السلفادور. ويتيح صعود السياسات اليمينية العالمية للإمبريالية مبرات إضافية للهجوم والتدخل في الدول الأجنبية – مبررات تقوم على السياسات العنصرية وإدارة السكان الداخليين.
ثمة في هذا المنظور هدفان مهمان للتصعيد الأمريكي الراهن في فنزويلا. أولهما أن تغيير النظام قد يهيئ الظروف لإعادة مئات الآلاف من الفنزويليين المقيمين في الخارج إلى البلد قسراً. والثاني هو أن اللجوء الى قوة استثنائية ضد الفنزويليين، سواء كمهاجرين جرى تجريمهم في الولايات المتحدة أو كأفراد مجَرَّمين في بلدهم، يخلق مبرراً لمزيد من استخدام هذه القوة، ويجعلها وظيفة أساسية للدولة. تندمج إدارة ومراقبة السكان المهاجرين الداخليين مع العمل العسكري ضد هؤلاء السكان أنفسهم في بلدانهم الأصلية، وهو منطق بدأته الحرب على الإرهاب ويجري توسيعه الآن في خطاب ترامب المعادي للمهاجرين واستخدامه لوكالة الهجرة والجمارك (ICE).
يكمن تفسير انعطاف إدارة ترامب، من تقارب مع فنزويلا وتطبيع إلى تعزيز القوات في منطقة البحر الكاريبي وشن ضربات ضد البلد، في جهود الضغط المستمرة التي مارستها ماريا كورينا ماتشادو في الأشهر التي أعقبت انتخاب ترامب. تضمنت هذه الضغوط ربط تجارة المخدرات الدولية بالحكومة الفنزويلية، وتسليط الضوء على الادعاءات بأن منظمتين إجراميتين فنزويليتين – عصابة Tren de Aragua وCartel de los Soles – تعملان في الولايات المتحدة. تؤدي هاتان المنظمتان دورًا ضئيلًا نسبيًا في تجارة المخدرات في الولايات المتحدة (وهو أمر تدركه وكالات الاستخبارات الأمريكية)، ومع ذلك زودت ماتشادو إدارة ترامب بذريعة للحرب وبالكثير من الخطاب الذي يبرر الهجمات على المهاجرين الفنزويليين في الولايات المتحدة والدولة الفنزويلية. بل إنها دفعت بسردية وجود عملاء إيرانيين على بعد ثلاث ساعات من ميامي، وهي رؤية للدولة الفنزويلية بما هي عدو أساسي للولايات المتحدة يستحق التدمير. لقد خلقت ماتشادو توافقاً قوياً بين طموحاتها السياسية وسياسة ترامب الداخلية، متجاهلة حياة الفنزويليين المستهدفين من قبل لوكالة الهجرة والجمارك والفنزويليين المستهدفين بالعمل العسكري في منطقة البحر الكاريبي.
ومع ذلك، تفتقر الولايات المتحدة إلى رؤية استراتيجية لأمريكا اللاتينية. لقد ولت أيام تشكيل كتلة خاضعة لمصالح رأس المال العالمي القائمة على النيوليبرالية واتفاقيات التجارة الحرة. تتجه الطبقات الرأسمالية المحلية في القارة بشكل متزايد إلى الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة من أجل التجارة والتنمية. والولايات المتحدة مهتمة بالاستيلاء على الموارد الرئيسية لنفسها – سواء كانت قناة بنما أو المعادن النادرة في بوليفيا – ولكنها لم تعد قادرة على هيكلة اقتصادات وسياسات بأكملها حول نفسها. كانت الولايات المتحدة تعتمد سابقا على مزيج من المساعدات واتفاقيات التجارة الحرة والسيطرة على صندوق النقد الدولي والوعد بالتكامل مع المنظمات عبر الوطنية مثل منظمة الدول الأمريكية (OAS)، ولكن تلك الأيام قد ولت.
تعمل الولايات المتحدة الآن بشكل أساسي، بما هي إمبراطورية آخذة في الأفول، على أساس المعاملات، على أمل أن يكون التهديد بالقوة العسكرية كافياً لجعل الدول تنصاع. وستضطر دول أمريكا اللاتينية إلى تتبع أشباح أولويات ترامب المحلية — تقليل الهجرة، والمزيد المعادن النادرة، وخفض إنتاج المخدرات، وتقليل التعامل مع الصين، وما إلى ذلك — تحت تهديد العمل العسكري. وفي حالة فنزويلا، يتمثل الهدف في اللجوء الى القوة: أن يكون مثالاً رادعاً للمنطقة بأكملها وشعوبها، وأن يثبت إمكان إسقاط دولة دون مواجهة عواقب. إنه استعراض قوة أجوف لا بد أن يؤتي نتائج عكسية، ولكن ليس قبل أن يعاني منه ملايين الفنزويليين.
جعل التضامن فعالاً
إن الطبقات الفقيرة والعاملة في فنزويلا، المحاصرة بين قمع الدولة وهجمات المعارضة اليمينية والتهديد بالغزو الأمريكي، تجد نفسها في موقف بالغ الصعوبة، حيث يتعين عليها إعادة تشكيل المعارضة السياسية من القاعدة. بالنسبة لعامل نفط نقابي في باراغوانا، أو عامل منجم بيمون في غواسيباتي، أو ساكن في حي كوتا 905 في كاراكاس، يبدو احتمال هجوم أمريكي أمرا أبعد وأكثر تجريداً من مواجهاتهم اليومية مع الجيش والطبقات السائدة التي تدعمها هذه القوى. من الضروري دعم جميع نضالات الطبقة العاملة، وتسليط الضوء على الانتهاكات التي ترتكبها الدولة، وإفساح المجال لانتقاد الحكومة الفنزويلية. ومع ذلك، سيكون خطأ فادحا أن يجعل اليسار دعمه لفنزويلا، التي تواجه هجوماً إمبريالياً أمريكياً، مشروطاً بأي وجه كان.
ليس لدى المعارضة التي تقودها ماريا كورينا ماتشادو أي حلول لمعاناة فنزويلا. إن سياستها المتمثلة في منح جميع موارد فنيزويلا الطبيعية لرأس المال الخاص، واستعدادها للانخراط في حملة ترامب لشيطنة المهاجرين الفنزويليين، وضغطها من أجل اتخاذ إجراءات عسكرية ضد نظام مادورو، تجعل من الواضح أن المعارضة، بعيدًا عن كونها تشكيلًا ديمقراطيًا وليبراليًا وموحدًا، لا تزال أسيرة لجناحها الأكثر رجعية. وتراهن حاليا، بفعل عجزها عن الاستفادة من زخم 28 يوليو 2024، على المخاطرة بانهيار كامل للدولة الفنزويلية من أجل الصعود إلى السلطة.
لحسن الحظ، تزود النضالات الأخيرة اليسار العالمي بإجابات متجددة على هذه المعضلات. وكما أظهرت حركة التضامن مع فلسطين، فإن الإمبريالية مشروع للطبقة الحاكمة يبدأ عندنا. إن له أساس مادي في الدول والمجتمعات التي نعيش فيها. لكي تكون مناهضة الامبريالية فعالة، يجب أن تتجاوز الأشكال القديمة من الزيارات الدولية المعدة سلفاً، والوفود النقابية، والبيانات السياسية والتمييزات المصاغة بعناية. يتطلب الوضع الراهن عملاً تضامنياً. يجب محاربة صناعة الأسلحة، ورأس المال الأحفوري، وأنظمة القمع العنصري ومراقبة الحدود التي تهيمن على حياة جزء كبير من سبعة ملايين فنزويلي يعيشون في الخارج، بتعبئة جماهيرية للطبقة العاملة. إن ثمة حاجة إلى مجموعة جديدة من الاستراتيجيات.
ترجمة: جريدة المناضل-ة
المصدر: https://revsoc21.uk/2025/11/07/venezuela-between-crisis-and-invasion/
اقرأ أيضا


