مات الاتحاد الاشتراكي، الثقافة الاتحادية على قيد الحياة

سياسة11 ديسمبر، 2025

بقلم؛ أزنزار

ظل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، على امتداد زهاء ربع قرن، من تأسيسه في العام 1975 على أنقاض سلفه (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) حتى اتضاح نتائج دوره في ما سمي حكومة تناوب، حزبَ اليسار الكبير وعمودَه الفقري. صفحةٌ طويت تقريبا في النصف الثاني من العقد الأول من سنوات 2000. إذ لم يكن لقبوله دور مواصلةِ (في حكومة واجهة) سياسةَ البنك العالمي/صندوق النقد الدولي، التي سعى في «المعارضة» إلى إضفاء صبغة اجتماعية عليها، إلا أن يدمر شعبيته، ما تجلى في نتائجه الانتخابية اللاحقة. ونال الضعف من انغراسه الشعبي بانشقاق معظم الجناح النقابي سياسيا، وانتهى إلى كائن انتخابي مستوعَب لا يتميز عن أحزاب كان يسميها «إدارية» تعبيرا منه عن مسايرتها التامة للسياسة الرسمية. يتأسف جيل اليسار الذي حمل تلك التجربة على كاهله، بأسى وحنين وعجز، على الوضع الحالي لحزب «القوات الشعبية. وقد جرى مؤتمر الأخير (الثاني عشر في 17 إلى 19 أكتوبر 2025) ليؤكد أن الآلة الحزبية استقرت على ما يتيح استمرار هذا الوضع، ومن ثمة الطابع الواهم لأي مراهنة على انبعاث روح الاتحاد التاريخي، أي ما أشاع من تصور أيديولوجي وسياسي، في الجسم الذي يحمل اليوم هذا الاسم، تلك الروح تحيا في هياكل حزبية أخرى مثل فيدرالية اليسار، المتشكلة من مكونات اتحادية رافضة لخط الحزب الرسمي في فترات مختلفة من تاريخه (المتحدرون من حزب الطليعة ومن تيار الوفاء للديمقراطية) وفي الحزب الاشتراكي الموحد (المتحدر قسم كبير منه من تحول إصلاحي لقوى جذرية وثورية). لكن تلك الروح (التصور الأيديولوجي -السياسي) تحيا أكثر من ذلك في شكل ثقافة سياسية عامة لها رموزها من المثقفين والإعلاميين.

مرَّت خمسون سنة على ميلاد حزب الاتحاد الاشتراكي، وقبل عشر سنوات نُشر في ذكرى ميلاده الأربعين مقال بجريدة المناضل- ة ضَمَّ هذا التقييم: «في يناير 2015، احتفل حزب الاتحاد الاشتراكي بعيد ميلاده الأربعين وهو في حال من التفسخ متقدمة. مضى زمن كان بهذا الحزب جناح رافض للنزوع الانتخابوي، برؤية إصلاح جذري مضبَّبة بالحنين إلى مجد ثوري. زمن ختمه عبد الرحيم بوعبيد بطرد معارضيه، وحتى باستدعاء الشرطة لاعتقالهم، كان ذلك قبل ثلاثين سنة. ومضى زمن كان بهذا الحزب جناح رافض للانبطاح التام للملكية باسم «الوفاء للديمقراطية»، لم تعد تربة الحزب المتغيرة قابلة له فلفظته، حدث ذلك في العام 2002. كان هذا الجناح آخر اختلاجات جسم يغوص في أوحال «التوافق مع الملكية. مذاك غدا الحزب مجرد مستنبت لمقتنصي فرص الترقي الاجتماعي عبر مؤسسات الديمقراطية الزائفة، الديمقراطية الحسنية، المحلية منها والوطنية» [1].
المعضلة أكبر من اختصارها في أزمة تنظيمية
في مقال عن المؤتمر الثاني عشر للاتحاد الاشتراكي، عزا الصحفي علي أنوزلا مآل الاتحاد الاشتراكي وتحوُّله من «ضمير اليسار المغربي وعقله المفكر» إلى حزب «يثير السخرية والشفقة أكثر مما يثير النقاش»، عزاه إلى «غياب الديمقراطية الداخلية، وتحوّل الأحزاب إلى مِلكية خاصة تُدار بمنطق الولاء لا بالكفاءة، وبالانضباط لا بالحوار والنقاش وبالمبايعة لا بالانتخاب والتصويت» [2].
طبعا، لا أحد يُنكر الدور الكبير للآليات التنظيمية والديمقراطية الداخلية في حياة الأحزاب وتطورها وانحطاطها، لكنها في آخر المطاف لا تُعبِّر سوى عن المشروع السياسي للأحزاب وطبيعة قيادتها. فما اعتبره علي أنوزلا قوة الاتحاد الاشتراكي في الماضي، أي أنه «صاغ بلغة المثقفين والعمّال والطلبة حلم ‹المغرب الممكن›»، هو نفسه الجينة السياسية التي حملت بذور فشل الاتحاد الاشتراكي كقوة سياسية برجوازية معارضة من مواقع الدفاع عن مصالح أقسام برجوازية مستاءة من احتكار الملكية للسلطة وفرص الاغتناء الاقتصادي الكبيرة. لقد صاغ الاتحاد الاشتراكي مشروعه الرأسمالي الوطني، «بِـلغة العمال والطلبة»، لكن مصالح هؤلاء لم تتعدَّ مجال «اللغة»، بينما المضمون الفعلي للمشروع كان من صياغة «مثقفين برجوازيين»، وهذا ما ورد في المقال المنشور في جريدة المناضل- ة المنوه به أعلاه: «كانت النواة الصلبة الموجِّهة للاتحاد الاشتراكي مثقفين بورجوازيين، حاملي مشروع رأسمالية أقل تبعية، جعلهم الخوف من نضال الكادحين يتوهمون إمكان إصلاح الملكية لتلائم أحلامهم».
كانت عبارة «القوات الشعبية» التي يُحتفى بها عادة، صيغة لإلحاق الطبقات الشعبية بمشروع سياسي لحزب يقوده مثقفون برجوازيون ويصوغون برنامجه، وكان الاتحاد الاشتراكي بذلك يعكس نفس بنية المجتمع البرجوازي: الكادحون- ات المخدعون- ات في أسفل والخدَّاعون في أعلى، ما جعل القاعدة يسارية أكثر من القيادة.
انهار هذا المشروع الاتحادي في نهاية التسعينيات، بعد استسلام الاتحاد الاشتراكي الناجز أمام المَلكية، بقبوله المشاركة في واجهتها الحكومية سنة 1998، في إطار مناورة سياسية ضخمة قادتها المَلكية لتأمين انتقال الحكم من ملك على وشك الرحيل (الحسن الثاني) إلى ولي عهده (محمد السادس).
انهار الاتحاد الاشتراكي… لا تزال الثقافة الاتحادية على قيد الحياة
كون الاستبداد السياسي والرأسمالية التابعة لا يزالان قائمان، فذلك يمثل تربة خصبة لاستمرار الثقافة الاتحادية (استراتيجية وتكتيكا)، حتى وإن انهار الحزب تنظيميا وأفلس سياسيا. لا يزال المشروع الاتحادي محمولا من طرف قوى سياسية مثل الحزب الاشتراكي الموحَّد وفيدرالية اليسار الديمقراطي ومثثفين جامعيين وخبراء اقتصاد ليبراليين وصحفيين يدعون أنفسهم «مستقلين»، ولا يزال عبد الرحيم بوعبيد هو المثال الأعلى السياسي لهذين الحزبين وأولئك المثقفين والخبراء والصحفيين.
ما كان جوهر المشروع الاتحاد البوعبيدي؟ إنه ما أسماه هذا الأخير «استراتيجية النضال الديمقراطي»؛ أي تغيير المجتمع باستعمال مؤسسات الدولة، وكان ذلك إحدى قواعد الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التقليدية، لكن بخصوصيات محلية؛ أي المشاركة في المؤسسات التي فصَّلتها المَلكية بوهم إمكان التغيير من الداخل، وكانت النتيجة أن تلك المؤسسات هي التي غيرت الحزب بلفظ بقايا الشعبوية الراديكالية (ما سيفضي إلى حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي)، وجذب ممتهني السياسة في المؤسسات، أي الوصوليين والانتفاعيين، بل حتى تحويل قسم من المناضلين إلى قناصي فرص اغتناء.
هذا المشروع الاتحادي البوعبيدي هو ما تحاول قيادة الحزبين الذين ورثا الاستراتيجية الاتحادية (الاشتراكي الموحَّد وفيدرالية اليسار) إحياءه، لكن في سياق مختلف كليا وميزان قوى متغير جذريا. إلا أن تلك الثقافة الاتحادية لا يزال لها تأثير ضخم جدا، وهو ما يفسر قدرة الحزبين (خصوصا الاشتراكي الموحد) التأثير سياسيا على نضالات الشبيبة (مثل حراك 20 فبراير وجيل- زد).
لا يمكن الحديث عن نهاية «أوهام الإصلاحية الليبرالية وإفلاس خياراتها السياسية»، رغم «تفسخها التنظيمي وتفكك قاعدتها»، فهذه الأخيرة ليست شرطا لاستمرار أوهام الإصلاحية الليبرالية. كانت قوة الاتحاد الاشتراكي هي «قوةُ تأثير مثقفين برجوازيين على طبقات أخرى بقدر ما لم تتوصل هذه الأخيرة بعد إلى أيديولوجية سياسية خاصة بها». وقد تجلَّى هذا في كل النضالات التي هزت البلد في العقدين الأخيرين. فحراك العشرين من فبراير كان تحت شعارات تلك «الأوهام الإصلاحية الليبرالية وخياراتها السياسية»، متمثِّلة في المناداة بـ»المَلكية البرلمانية» و»محاربة الفساد» المقصود به «اقتصاد الريع والاحتكار» والتركيز آنذاك على المحيط المباشر للملك (مثل الهمة والمجيدي). وكانت حملة مقاطعة الشركات الاحتكارية سنة 2018 تحت نفس الشعارات: «مناهضة زواج السلطة والمال» والتركيز على الشركات الاحتكارية لا على الرأسماليين بمجملهم، وآخر نضال جبار، وهو نضال شباب جيل- زد كان أيضا تحت نفس الشعارات والمطالبة بإقالة أخنوش، وحيث كان لمثقفين معارضين ليبراليين، مثل عبد الرحيم الجامعي وبنشمسي وأقصبي، التأثير الأكبر من الناحية السياسية على أولئك الشباب.
إن الإفلاس «التاريخي» للإصلاحية الليبرالية لا يعني أن أوهامها كفَّت «عمليا» عن التأثير في الشعب، وهو نفس ما يصدق على البرلمانية، فكون هذه الأخيرة قد أفلست قبل قرن من الزمان لا يعني أن مفعول الأوهام البرلمانية زال في صفوف الشعب. ومن شأن استنتاج سياسي مثل «إفلاس الأوهام الإصلاحية الليبرالية» أن يكون له مستتبعات سياسية خطيرة: 1) عدم الانتباه إلى خطورة استمرار تأثير تلك الأوهام على الجماهير؛ 2) قد يؤخذ من يتبنى ذلك الاستنتاج السياسي على حين غرة بانبعاث قوة سياسية ليبرالية معارضة، فقد سبق لحزب لاستقلال أن عاد إلى المعارضة مشاركة في الجلبة التي قادتها الكتلة الديمقراطية في بداية التسعينيات منادية بإصلاحات دستورية؛ 3) أن المنافس الخطير للأوهام الإصلاحية الليبرالية، حاليا ليس قوة ثورية جذرية، وإنما قوة سياسية أكثر خطورة وهي الحركة الرجعية الدينية، وكلاهما قوتان سياسيتان تعبِّران عن مصالح طبقية ومشاريع سياسية غير عمالية.
كما أن «التفسخ التنظيمي للمعارضة الليبرالية وتفكك قاعدتها الاجتماعية»، لا يعني بدوره أن الأوهام الليبرالية انتفت عمليا. إن الأوهام الإصلاحية الليبرالية حتى وإن لم تمتلك شكلا تنظيميا، إلا أنها تملك قوة العادة، قوة التقاليد السياسية، التي تستمر في الحياة كأفكار وكتوجهات، ويمكن أن تنبعث كقوة سياسية تنظيمية من جديد في حالة هزة سياسية قوية، ما دام شرط بقائها قائما. فقوة الاتحاد الاشتراكي لم تكن يوما في الاستناد على البرجوازية أو على المالكين الصغار، بالمدن والقرى، بل كانت قوة تأثير مثقفين برجوازيين على طبقات أخرى بقدر ما لم تتوصل هذه الأخيرة بعد إلى إيديولوجية سياسية خاصة بها. وما دامت الطبقة العاملة لم تتوصل بعدُ إلى «أيديولوجية خاصة بها»، فإنها ستظل هي وباقي الطبقات الشعبية، تحت التأثير الجبار لأوهام الإصلاحية الليبرالية. ولأن هذه الأخيرة محمولة حاليا عبر الصحافة الالكترونية ومثقفين وخبراء وصحفيين فإن أكثر قابلية للانتشار في صفوف شباب يرفض النزعة الحزبية.
استقلالية الطبقة العاملة وحده كفيل بإنهاء الأوهام الليبرالية الإصلاحية
ما دامت الطبقة العاملة وتنظيماتها تحت تأثير «الأوهام الليبرالية الإصلاحية»، فلا يمكن الحديث عن إفلاس هذه الأخيرة. لايقتصر تأثير تلك الأوهام على النقابات وحدها، بل يتعداه إلى قسم من اليسار الذي يستبطن نظريا وعمليا أفكار وتوجهات المعارضة الليبرالية، فالتركيز على مناهضة الريع والاحتكار وزواج السلطة والمال، يمثل جزءا مهما من خطاب اليسار الجذري نفسه.
عندما يُتمكَّن من بناء قوة سياسية يسارية عمالية يمكن الحديث عن إمكان نهاية الأوهام الليبرالية الإصلاحية، فهذه الأخيرة ستظل حية ما دام المجتمع الرأسمالي قائما والاستبداد السياسي راسخا. ولا يمكن بناء هذه القوة السياسية إلا بتعاون صادق ورفاقي بين قوى اليسار الجذري والطلائع التي يفرزها النضال العمالي والشعبي.
كما كان الحال بالنسبة للاتحاد الاشتراكي، فإن الحزبين اللذين ورثا مشروعه السياسي، أي الحزب الاشتراكي الموحد وفيدرالية اليسار الديمقراطي، يضمان قيادة بمشروع سياسي برجوازي يريد بناء رأسمالية نقية قائمة على التنافس الشريف، وقاعدة كفاحية منخرطة بمبدئية وصدق في المقاومات العمالية والنضالات الشعبية اليومية. وبدورها، لا يمكن بناء قوة يسارية عمالية دون الانفتاح الصادق والتعاون الرفاقي مع هذه القاعدة الكفاحية في ذينك الحزبين.
إحالات[1]- محمود جديد (13-04-2015)، «الاتحاد الاشتراكي: من أصول شعبوية راديكالية إلى حزب برجوازي سافر، ومنحط»، https://www.almounadila.info/archives/1846.[2]- علي أنوزلا (22-10-2025)، «نهاية أسطورة «الاتحاد الاشتراكي» المغربي»، https://www.alaraby.co.uk/opinion/نهاية-أسطورة-الاتحاد-الاشتراكي-المغربي.

شارك المقالة

اقرأ أيضا