إضراب 14 دجنبر 1990: المجريات والدروس

نشر يوم الاربعاء 15 كانون الأول (ديسمبر) 2004، نعيد نشره في الذكرى 27 لهذا الإضراب 
المناضل-ة عدد: 3

مضت 14 سنة على ذلك اليوم الذي أضرب فيه قسم من الطبقة العاملة وهب قسم من ضحايا سياسات الإقصاء البرجوازية لتفجير سخطهم على دولة لا تدخلهم سوى في حساب الضبط والمراقبة والردع بالقمع. جاء ذلك الإضراب والعصيان الشعبي في سياق سياسي مطبوع ببداية تململ المعارضة البرجوازية لأجل تحسين موقعها في الآلية السياسية للحكم الذي ما فتئ يعدها بذلك، بينما كان يواصل تنكيله باليسار الجذري بغية استئصاله، حيث ألقى كوادر منظمة إلى الأمام ومناضليها في السجون بعد موجات القمع المتلاحقة منذ 1984 .

من أجل تفسير ما جرى واستخلاص عبره نمد قراء المناضل-ة بهذا النص الذي يصف مجريات الإضراب ونتائجه مع الإشارة إلى كونه نصا جماعيا ساهم فيه رفيقنا الراحل عبد الله موناصير إسهاما كبيرا.

أ : من الإنذارات إلى الإضراب المؤجل

طيلة السنوات التي أعقبت ضرب الحركة النقابية في بداية سنوات 80 دأبت كدش على الحد من اندلاع النضال العمالي مكتفية بالتضرع طلبا للحوار وفق تصور للسلم الاجتماعي مختلف عن تصور البرجوازية القائم على القمع وتذرير الطبقة العاملة . ففي الوقت الذي تتصاعد فيه الضربات الموجهة لعموم الكادحين لا تكل قيادة كدش في سعيها لاقناع البرجوازية داعية “الصناعيين والمقاولين والمستثمرين مغاربة كانوا أو أجانب إلى الالتزام بالدستور ، لأنه الحكم في كل نزاع اجتماعي والاطار الذي يمكن من دعم الاستقرار في المنشأة” حارفة دور النقابات نحو ” حفظ الاستقرار والتوازنات الاجتماعية ” ( سلسلة مقالات بجريدة الاتحاد الاشتراكي بعد اجتماع اللجنة الادارية لكدش في أكتوبر 1987.)

والنتيجة الوحيدة التي حصدتها الحركة النقابية من سياسة التعاون الطبقي هذه هو تقلص دائرة تأثير النقابات وتصاعد الهجمات المعادية للعمال رغم التهديدات الجوفاء الصادرة عن القيادات بين فينة وأخرى بتصعيد النضالات.

ففي ماي 89 الذي شهد عدة حالات نسف بروقراطي للمعارك النقابية لوح كاتب عام كدش بإمكانية اللجوء إلى الاضراب العام… طبعا لأجل فرض تطبيق فهمه للسلم الاجتماعي. غير أن هذا التنبيه لم يجد آذانا صاغية لدى برجوازية لا تخفى عليها حالة وزن النقابات. فامتد صبر القيادة النقابية تسعة أشهر أخرى انتظارا لغمزة تفاهم رأس المال، قامت بعدها ببعث إشارة تنبيه إضافية إثر اجتماع الهيئة التقريرية للنقابة في فبراير 1990 بالإعلان أن هذه الهيئة اتخدت قرارا “سيفصح عنه في الوقت المناسب”. ولممارسة ضغط أقوى تمت الدعوة إلى تجمعات بمقرات النقابة سميت بالتعبئة، لقيت تجاوبا ضعيفا وأُشير إلى احتمال اللجوء إلى اضرابات قطاعية أو إضراب عام بالبيضاء (أهم مركز صناعي وسكاني) أو حتى إضراب عام على صعيد البلد. ولأن الهدف من هذا كله لم يكن سوى اجتذاب الحكومة إلى “الحوار” فإنه لم يواكب بالحملة الاعلامية في صحافة الحزب الذي يرعى النقابة كما سيكون عليه الأمر لاحقا.

وستترك النقابة مهلة شهرين للحكومة. لكن هذه لم تعر أدنى اهتمام للثرثرة مما أضطر القيادة النقابية إلى أن تعلن في 7 أبريل قرار الدعوة إلى إضراب عام يوم 19 أبريل.

وبالنظر إلى ضعف النقابة وضيق مدى تأثيرها، تولت صحافة الحزب مهمة ايصال دعوة الاضراب إلى الجماهير مخصصة لذلك عناوين بارزة. وفاجأ هذا الجماهير العمالية وعموم الكادحين وأيقظ توقهم إلى تحرك جماعي وأملهم في تحسين أوضاعهم. لكن هذا الأمل سيخيب بعد أسبوع فقط، إذ بقرار فوقي ألغت القيادة قرار الإضراب العام بعد لقاءات مع الحكومة أوهمتها أنها بلغت مبتغاها: ما تسميه بالحوار.

ناورت الحكومة فنزعت فتيل السخط الجماهيري وعادت القيادة النقابية من حوارها خاوية الوفاض إلاّ من الوعود والتعهدات التي لن ترى النور. حينئذ لم يبق سوى اللجوء إلى تبرير التراجع بكل ما أمكن من ذرائع:

الإضراب ليس هدفا بحد ذاته. الإضراب قد يفسح المجال أمام الإسلاميين خاصة مع اتساع تأثيرهم بالجزائر. تأجيل الإضراب جنب البلاد مواجهة عنيفة ودامية، الخ.

تلا هذا الفصل من تخاذل القيادة النقابية مناخ إحباط عززته هزالة نسبة رفع الأجور وهو إحباط سيكون له بالغ الأثر عند الدعوة من جديد إلى الاضراب بعد نصف سنة. ففي شتنبر تقرر مجددا خوض الاضراب العام المؤجل دون تعيين تاريخه، إذ سيرا على عادتها أوكلت البيروقراطية ذلك إلى قمتها. وستمنح هذه القمة مهلة شهر للحكومة قبل أن تعلن في 27 نوفمبر، أن الاضراب العام سينفذ يوم 14 دجنبر.

إنها سيرورة إنذارات امتدت سنة ونصف لا يمكنها إلاّ أن تعطي نتائج عكسية إذ نبهت العدو وكثفت التردد وانعدام العزم لدى “قادة” الطبقة العاملة والبلبلة المترتبة عن ذلك في القواعد.

ب) 14 دجنبر: الاستعداد والتنفيذ والنتائج

بعد نصف سنة عادت كدش تدعو إلى الاضراب العام والتحق بها الاتحاد العام للشغالين بعد شهر ونصف من ذلك، كان خلالها موضوع الاضراب محط مداولة ليس في قاعدة تلك النقابة بل داخل قيادة حزب الاستقلال التي قررت المشاركة وتعبئة الحزب والمنظمات التابعة له (شباب- نساء- تجار صغار..). فانعقد المجلس الوطني للاتحاد العام للشغالين برئاسة الدويري (رجل أعمال ومال ووزير سابق وثاني قائد لحزب الاستقلال ومؤسس الاتحاد العام للشغالين وعضو أول لجنة إدارية له) دون حاجة إلى تمويه الطابع الفوقي والحزبي لقرار المشاركة في الاضراب. وبعد أن ذكر الدويري بمهادنة حزبه للحكم بمبرر قضية الصحراء أكد أن “مصلحة البلاد تقتضي إضرابا عاما”. لكن السياق العام وضعف النقابيين وما خلفته سيرورة التخبط التي مر منها الاضراب، كلها عناصر لا تشير إلى إمكانية الاستجابة الواسعة للدعوة الجديدة، مما استوجب استنفار كل الوسائل والقوى المرتبطة بالحزبين: فالتحقت نقابتا التجار الصغار والمتوسطين وسيارات الأجرة ومدرسو التعلييم العالي، وهي فئات يتفاوت تضررها من الوضع القائم لكنها ضعيفة التنظيم باستثناء الجامعيين.

وظل الغائب الأكبر هو الاتحاد المغربي للشغل الذي لم تلتفت قيادته للدعوة الصادرة من النقابات الأخرى محاولا الرد على إحجامه دون الالتزام بعمل ملموس. فمجلسه الوطني المجتمع في الأسبوع الأخير من نوفمبر عبر عن ذلك بصيغة مبهمة ومفتوحة على كل شيء وعلى لا شيء تحصر التحرك في القطاعات رافضة ضمنيا مبدأ الاضراب العام “القيام بكل عمل نضالي لفرض مفاوضات حقيقية في كل قطاع”

إن قيادة الاتحاد المغربي للشغل أضعفت الرد العمالي لكونها لم تتلق ضغطا كافيا من قاعدتها لسبب بسيط هو ضعف هذه القاعدة بالذات من جراء التراجع العام الذي مس كل النقابات ومن جراء سياسة الانتظار المستديمة وتراكم الاحباط التي قادت إليها البيروقراطية الحريصة على مصالحها. وفي الأسبوع ذاته تحركت الحكومة للمناورة والتهديد لافشال الاضراب فردت على أحد أهم المطالب النقابية (إرجاع المطرودين) بقبول إرجاع قسم منهم فقط (الوظيفة العمومية والقطاع العام) مع حرمانهم من أجور فترة التوقيف. وكلف الملك وزيرين للتفاوض مع النقابات وتعالى الضجيج حول ضرورة الحوار وتكاثرت الوعود في وقت تقاطرت فيه التعليمات على مختلف الادارات ومرافق الدولة لمنع الاضراب وتجندت وزارة الداخلية لافشاله. وتوج ذلك كله ببلاغ مجلس الحكومة يوم 05 دجنبر تضمن تهديدا صريحا باستعمال جميع الوسائل لحماية “حرية العمل” و”النظام العام” وأجرت الحكومة سلسلة مفاوضات مع النقابات الصفراء وشاركت قيادة الاتحاد المغربي للشغل في المهزلة، وأياما قلائل قبل موعد الاضراب العام أوقفت اضراب مستخدمي الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي واضراب منجميي جبل عوام وتمادت في نيتها كسر الاضراب مع أن شقيقتها في كدش دعت إلى وحدة العمال علما أن هذه الدعوة كانت فوقية (رسالة من الأموي إلى بن الصديق) بدل مخاطبة القواعد مباشرة لتتجاوز قيادتها في هذه اللحظة الحاسمة. لكن كيف تلجأ قيادة كدش لغير هذه الطريقة وهي التي عملت سنوات عديدة على تربية قواعدها على معاداة قواعد النقابات الأخرى؟

وردا على الترهيب والمس بحق الاضراب قاطعت كدش والاتحاد العام المفاوضات التي دعت إليها الحكومة يومي 08-09 دجنبر لكن سرعان ما عادت لتشارك فيها يومي 12 و13 إلاّ أن الحكومة لم تهيئ لها غير طلب التراجع عن الاضراب مقابل التزامات شفوية مبهمة. حينئذ لم يبق سوى تنفيذ الاضراب، حيث لم تبق للقيادة إمكانية العودة إلى الوراء.

وكما أمسكت القيادة العليا بكل تفاصيل الاضراب منذ البداية للحد من الطاقة الاحتجاجية الكامنة فيه، فقد احتفظت لنفسها بحق تحديد صيغة تنفيذه. ولقطع الطريق على من ستسول له نفسه مناقشة هذه الصيغة عمدت إلى تأخير إعلانها حتى أخر لحظة. فصباح يوم 13 دجنبر طلعت صحف الحزبين ببيان قيادي يحدد كيفية جديدة في الاضراب: اعتكاف العمال في منازلهم مذررين وجعل يوم الاضراب يوم عطلة والامتناع عن احدى ضمانات النجاح: حواجز الاضراب تاركين هكذا المجال رحبا أمام من جنذتهم الحكومة لكسر الاضراب. وبدل ترك الأمر للأجراء المعنيين مباشرة دعت القيادة العليا إلى مداومة المستعجلات الصحية و”الحرص على حماية التجهيزات في المنشآت المتطلبة حدا أدنى من المداومة”. ودعت عمال سكك الحديد بالمؤسسات والمحطات الثانوية إلى عدم المشاركة في الإضراب. هكذا تمت قيادة هذا النضال: بكل بيروقراطية من طرف موظفين بعيدين عن أماكن العمل بينما تقتضي الديموقراطية العمالية انتخاب لجان الاضراب من قبل كافة المضربين نقابيين وغير نقابيين وخضوع هذه اللجان لقرارات التجمعات العامة، وتشكيل فرق مناضلين للسهر على تنفيذ الإضراب. ومجمل هذه الاشكال النضالية ليست بدعا ليساريين مفصولين عن الواقع بل شهدها تاريخ النضال العمالي بالمغرب خلال فترة الاحتلال الفرنسي وأقبرها البيروقراطيون “الوطنيون”. فخلال الصعود العمالي في النصف الثاني من الثلاثينات (اضرابات البيضاء والفسفاط أساسا) تشكلت لجان الاضراب مع احتلال أماكن العمل وتم تنظيم التضامن من طرف العائلات و”الاسعاف الأحمر”. والآن بعد نصف قرن يظهر النضال بالاعتكاف في البيوت وتشتت صفوف الجماهير العمالية ويقيد القسم الذي سيدخل المعركة ويدعى للامساك عن تنظيمها. ومن مهازل التاريخ أن البروقراطية بعد أن أحكمت تحييد الجماهير المدعوة إلى الاضراب طلبت من وزارة الداخلية والاعلام أن تمكنها من استعمال الاذاعة والتلفزة. وهما فعلا الوسيلة المتبقية لتصل إلى المضربين المعتكفين في غرف نومهم. خاصة وأنها لم تفكر في إصدار جريدة “الديموقراطية العمالية” ولو في عدد خاص بالإضراب. ولم تغفل البروقراطية سوى أن تطلب من بوليس التدخل السريع الاشراف على سير الاضراب بمنع المضربين من مغادرة بيوتهم. هكذا لم تشل الحركة الاقتصادية، إذ كانت المشاركة في الاضراب دون المتوسط رغم التعاطف الجماهيري العام الذي أثاره وهي نتيجة نابعة من كل المقدمات التي رأينا. ونجح التهديد الحكومي لمستخدمي الوظيفة العمومية في بلوغ مبتغاه وأدت السلطات في أنحاء البلد دورها كاملا في السعي لافشال الاضراب وتم استقدام العسكر إلى المدن (استمر انزالهم في محطة قطارات الدار البيضاء حتى صباح يوم الاضراب) واستنفرت وزارة الداخلية كل ترسانتها وكان لها ما أرادت.

والنقابيون منزوون في بيوتهم، هب شباب الأحياء الفقيرة من عاطلين وأشباه بروليتاريين ومن قرويين مدمرين لم يصبحوا عمالا لغياب تصنيع ونمو اقتصادي كاف، هبوا في بعض المدن والمراكز شبه الحضرية في حركة عصيان واسعة لكنها عاجزة عن استجلاء أي أفق لغياب قيادة بروليتارية ثورية تلف المضطهدين حول برنامج مطالب منطلقة من الظرف ومستوى الوعي الحالي ومتجهة بحزم متزايد ضد أسس النظام البرجوازي.

ولصرف الانظار عن الانحدار المخزي انزلقت القيادة النقابية وأحزاب المعارضة البرجوازية إلى حملة تراشق بالأكاذيب مع وزارة الداخلية. إذ أن هذه الأخيرة نشرت أرقاما عن نسب المشاركة في الاضراب كلها تلفيق تجرأت على التقليل من أهمية المشاركة حتى في ما يشكل حصنا تاريخيا لنقابة كدش (التعليم ومفاحم جرادة). ومن جهتها ردت المعارضة البرجوازية والنقابات بمبالغات متضاربة ولا دقة فيها وبالسكوت عن نسب المشاركة في قطاعات ليست لها فيها أي تمثيلية وعن فشل الاضراب في قطاع البنوك والتأمين وتوزيع الماء والكهرباء والصيد البحري وفي المزارع الرأسمالية وعن ضعف المشاركة في الموانئ وسكك الحديد والبريد والصحة والصناعات التحويلية وفي مراكز الفسفاط الأخرى غير خريبكة التي لا تضم سو ثلث عمال الفسفاط. في التعليم وحده لقي الاضراب استجابة واسعة وهو القاعدة الأساسية لكدش ونقابته هي العمود الفقري لجهاز كدش. أمّا الاتحاد العام للشغالين فضعيف في هذا الوسط فضلا عن كون حاضنه حزب الاستقلال كان مشاركا في الحكومة التي نفذت قمع المدرسين سنة 1979 (اضراب 10-11 أبريل)

وفي الندوة الصحفية التي تلت الاضراب قدم الأموي ارقاما بالفواصل عن نسب المشاركة ممارسا تضخيما لن ينطلي على أحد متجاهلا أنه أسلوب لا نفع فيه للحركة النقابية.

ماذا انتزع الإضراب؟ : لا خبز ولا دستور

عنصران حددا حجم ما سينتزعه الإضراب:

عنصر حد من الممكن انتزاعه وهو السياق العام الذي خيضت فيه “المعركة” وطرائق قيادتها.

عنصر دفع إلى التنازل الطفيف هو فزع وارتباك الدولة البرجوازية، إذ أن الوضع قابل للانفجار رغم ضعف المشاركة في الإضراب.

فعلى مستوى المطالب كانت قيادة كدش تؤكد طيلة سنوات أن تعويض ما ضاع من القدرة الشرائية إثر الرفع المتزايد للأسعار يتطلب زيادة دخل العمال بنسبة 400%، لكنها ظلت تطالب ب 100% فقط بل لجأت قبيل الإضراب إلى تخفيض المطالبة إلى 50% مراعاة للوضعية الاقتصادية والمالية حسب زعمها. وهي نسبة لم ترد في بيانات الاستعداد للاضراب، هذه البيانات التي أعطت المطالب صيغة عمومية غير مدققة بينما احتفظت القيادة بتفاصيل المطالب في المذكرات المقدمة إلى الحكومة دون نشرها. وتمحورت المطالب حول:

– الأجور ومكملاتها(المنح والتعويضات)
– الحرية النقابية وإرجاع المطوردين
– استقرار الشغل
– إصلاح الإطار القانوني لاستغلال قوة العمل.

وظل مطلب آخر يطل من خطب وتصريحات القادة النقابيين والسياسيين دون أن يكون موضوع نقاش وتعبئة في القواعد العمالية: إنه مطلب “تعديل الدستور” وهو مطلب لا يمكن إثارته إلاّ مع القصر وبالتالي فهو موكول، بحكم تقسيم للأدوار يحصر النقابات في المطالب الخبزية ، إلى قادة المعارضة البرجوازية ساعة يتلقون الدعوة لتقديمه. بل إن المطالب حول الأجور سيجيب عنها الملك لا غيره.

ففي لقاء مع النقابات (أسبوعين بعد الاضراب) لم تتقدم الحكومة بأي اقتراح حول ما يمكن أن تلبيه من مطالب مرجئة ذلك إلى لقاء آخر. هذا اللقاء لن يترك له الحكم فرصة الانعقاد، إذ داس كل محاولات تحييده من قبل النقابات مزيحا كل تمويه لموقعه وتدخل ليضع حدا للمطالب العمالية ويغلق ملف الاضراب دون مفاوضات مستقويا بما منحه لنفسه في الدستور. فبعد أن أبدى أرباب العمل استعدادهم لزيادة 25% في الأجور جاء خطاب الملك يوم 02 يناير 1991 ليحصر الزيادة في 15%. وسعى لتركيع الحركة العمالية بوضع ميثاق اجتماعي يجعل السنوات الخمس اللاحقة سنوات سلم اجتماعي مع استمرار حرب الإفقار ضد الكادحين، إذ أكد أن الالتزامات مع صندوق النقد الدولي غير قابلة للمساس. وجرت تهنئة قوات القمع على ما ارتكبته من مذابح في حق الجماهير العزلاء في فاس وغيرها كما تم الاعتراف بالمسؤولية فيما تم اقترافه وهو ما وفر كل عناء المعارضة البرجوازية التي دعت، في سعيها الدائم لتمويه الحكم المطلق وتزكيته، إلى انشاء لجنة تحقيق في الأحداث ومعاقبة المسؤولين عنها.

وكان مسك الختام التذكير بأن مشكل الصحراء لم ينته بعد مع العزم على الاستمرار في استعماله مبررا لتحميل الحرمانات للجماهير وجعلها تتقبلها مثلما كان الأمر طيلة 15 سنة الماضية بتواطؤ “القوى الوطنية والديموقراطية” المناضلة دوما لتأخير وعي الجماهير وإفساده.

مضى الاضراب مخلفا زيادة هزيلة في الأجور لن تتأخر البرجوازية في استرجاع أضعافها كما اعتادت طيلة العقد الأخير. وبقي المطرودون من العمل بسبب نشاطهم النقابي كما أرادت لهم الحكومة وستبقى مآسيهم (ومنهم عمال الفسفاط المطرودين منذ 1986) فزاعة تشُل العمال في ظل تصاعد البطالة. وسحق العصيان الشعبي بقوة الحديد والنار واعتمدت في مناطق العصيان أساليب الضبط والمراقبة البوليسية التي أتت أكلها بعد عصيان 81 و84 وأعلنت القيادة النقابية أنها “تحتفظ لنفسها بحق اتخاد ما يلزم من قرارات بما فيها الاضراب العام”

وبدل استخلاص ما يلزم من دروس ارتمى الجميع أحزابا ونقابات في الأوهام المغرية حول “النجاح الهائل” و”الاستجابة الواسعة والرائعة” للاضراب العام.

ج- لماذا تحالف حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي في الدعوة إلى “الإضراب العام”

لم تكن تعليمات الرأسمال الامبريالي التي طبقت بتعاون ربيبه المحلي ضربة للجماهير الكادحة فحسب، إذ تضررت اقتصاديا أقسام من الطبقات المالكة بموازاة تهميش سياسي في إطار عملية تمويه الحكم المطلق المسماة ب”التجربة الديموقراطية”

فاقتصاديا أدت سياسة الباب المفتوح إلى بلوغ منافسة البضائع الأجنبية للمنشآت الاقتصادية المحلية المتجهة للسوق الداخلية درجة الخنق، مما عطل جزءا من قدراتها الانتاجية وأدى إلى تسريح جزء من عمالها. وكان لاتساع نشاط التهريب دور مماثل. كما أن هذه المنشآت وجدت صعوبات متنامية في تصريف منتوجاتها نظرا لما لحق الطاقة الشرائية للجماهير الواسعة إثر تجميد الأجور ورفع الأسعار وتفشي البطالة. ومن جهة أخرى أدى تقليص نفقات الدولة إلى تضرر المنشآت المستفيدة من صفقاتها. كما أن مشروع تمليك قطاع الدولة للخواص ما أن كاد يسيل لعاب هذه الأقسام من الطبقات المالكة حتى أثار لديها أشد المخاوف من أن يبتلع الرأسمال الاحتكاري، وعلى رأسه القصر، هذه الغنيمة.

وإلى جانب هذه الأضرار الاقتصادية كان هذا القسم من الطبقات المالكة ضحية تقليص لموقعه سياسيا منذ انتخابات 83-84 المحلية والبرلمانية. وعبر حزب الاستقلال منذ خروجه من الحكومة سنة 1985 عن عدم رضاه عمّا اعتبره اجحافا في حقه وعارض من داخل المؤسسات المزيفة السياسة الحكومية محاولا احتواء التحرك الجماهيري وتوسيع قاعدته الاجتماعية التي قوضتها مشاركته في الحكومة منذ 1977.

وعند اقتراب تجديد الحكم لمؤسساته “التمثيلية” أكثر حزب الاستقلال من التنبيه إلى عدم استعداده لمعاودة اللعبة “الديموقراطية” وفق قواعدها السابقة. وكان أبرز تنبيه، قبل الاضراب العام، موقفه خلال استفتاء دجنبر 1989حول إضافة سنتين لعمر البرلمان (جرى تبريرها بمسألة الصحراء) إذ بدل قبول التمديد، مثلما فعل الاتحاد الاشتراكي وحزب يعته، ترك حزب الاستقلال للمواطنين “حرية الاختيار” وهي صيغة تموه الرفض في ظل حكم يرى في كل اعتراض عصيانا.

ركز حزب الاستقلال كل مطامحه بإعادة النظر بقواعد اللعبة في مطلب مراجعة الدستور. ولبلوغ مراميه وجد نفسه في تحالف مع الأحزاب الإصلاحية البرجوازية سواء تحت قبة البرلمان أو خارجه، وفي هذا السياق شارك في الدعوة إلى الاضراب العام تحت الغطاء الشفاف لنقابته الاتحاد العام للشغالين قصد الضغط في حدود لبلوغ أهدافه الخاصة. ويشكل الاتحاد الاشتراكي، بجانب حزب الاستقلال، القطب الرئسي في تحالف المعارضة البرجوازية وتؤمن له مواقعه في كدش هيمنة أكبر على قسم الطبقة العاملة المنظم وهو الذي كان وراء الدعوة إلى الاضراب مدفوعا بحاجته إلى قوة ضغط للمساومة حول “تعديل الدستور” و”الحكومة المنبثقة عن البرلمان”.

لم تلجأ المعارضة البرجوازية إلى الاضراب العام لاسماع انذارها إلاّ لعدم اكثرات النظام بالعديد من التنبيهات سواء من داخل المؤسسات المزيفة أو من طرف النقابات في وقت ركنت فيه دوما إلى السلم الاجتماعي بل إن الاضراب نفسه كان لتوفير شروط هذا السلم. وقد عبرت عن هذا جريدة الاتحاد الاشتراكي دون لف أو دوران. فحسب هذه الصحيفة: “تقاعست الحكومة في أن تكون أداة تنشيط الحوار الاجتماعي وعنصر تحريك التفاوض بين أطراف الإنتاج، وسعيها إلى اقرار السلم الاجتماعي منحصرة في القمع. وفي هذه الحالة يمثل الاضراب العام حقيقة البحث عن السلم الاجتماعي المفقود، فالبحث عن سلم اجتماعي يعني صياغة ميثاق اجتماعي…” وقد رأينا كيف كان الرد على الدعوات إلى ميثاق اجتماعي.

خلاصة: من أجل تحول الطبقة العاملة من أداة ضغط بيد المعارضة البرجوازية إلى فاعل سياسي مستقل

شكل الاضراب العام محطة أخرى في مسلسل حرف طاقات العمال النضالية نحو أهداف ليست أهدافهم. وعدم نضج البروليتاريا الكامن خلف هذا الحرف له جذور تاريخية إضافية إلى تيه الثوريين اليوم.

وقد أبانت التجربة قبل الاستقلال الشكلي وبعده حدود المعارضة البرجوازية وغياب أي قدرة سياسية مستقلة لديها، وانحصار نضالها في الاستجداء والمساومة الخيانية . وبالتالي عجزها عن الهيمنة داخل الدولة وجعل التحالف السائد قادرا على تحويل الدولة البرجوازية شبه المستعمرة إلى دولة برجوازية مستقلة…

كان ضعف القاعدة الاجتماعية للبرجوازية “الوطنية” داخل الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة مع الوزن المهيمن للرأسمال الامبريالي داخل التحالف الحاكم يجعلان القضاء على التأثير الامبريالي مشروطا بتعبئة واسعة وفعالة للجماهير الكادحة، خصوصا العمال وفقراء الفلاحين. ومثل هذه التعبئة تطلق دينامية تهدد جميع الطبقات السائدة . لهذا فأقصى ما يمكن أن تبلغه البرجوازية المحلية في مواجهة الأوليغارشية والامبريالية هو تعبئة محدودة ومراقبة لممارسة الضغط لتغيير موازين القوى داخل التحالف الحاكم.

إن انقسام بروليتاريا البلد إلى حضرية ومنجمية وزراعية يجعل شروط حياتها ومستويات كفاحيتها متفاوتة مما يستلزم تربية وتجربة كبيرتين لتوحيد تلك المكونات. وفضلا عن ضرورة أن تلحم قواها الذاتية يبقى على عاتق البروليتاريا أن تلف حولها القوى الحية للفلاحين الكادحين والبرجوازية الصغيرة الراديكالية بالمدن لبلوغ موازين القوى اللازمة لاطاحة سلطة الاستغلال والاضطهاد والسير نحو الاشتراكية. لهذا فواجب الماركسيين لا يكمن في التفرج على موازين القوى القائمة ولا في مبالغة تقديرها بل في العمل لتغييرها برفع ثقة الكادحين بقواهم والتحامهم وصهر الطليعة الاشتراكية الثورية القادرة على قيادتهم إلى معارك ظافرة.

إن الاضطلاع بهذه المهمة في الشروط الملموسة للحركة العمالية بمغرب اليوم يمر أولا عبر النظر إلى هذه الحركة كما هي وليس وفق الرغبات والسير على النهج اللينيني في معالجة الأخطاء والهزائم: فخشية استخلاص النتائج من الهزائم أخطر من الهزائم نفسها والثوريون الذين تحبطهم الهزائم وترخى طاقة النضال لديهم هم ثوريون عديمو الجدوى. وفي هذا الاتجاه لابد من نبذ السلبية اليسارية المتطرفة تجاه منظمات الطبقة العاملة، هذه السلبية التي منعت طيلة العقدين الماضيين تحقيق الجبهة الموحدة اللازمة ضد الهجوم البرجوازي وحرمت العمال من النضال ضد هيمنة القيادات الاصلاحية البرجوازية المسيطرة على أغلبهم.

إن السمة الأساسية للحركة النقابية، كما كشف عنها “الاضراب العام” هو كونها هياكل شبه فارغة لا تعدو أن تكون قنوات لتمرير سياسة افساد وتأخير وعي العمال الطبقي. ولقطع الطريق أمام هكذا سياسة يجب على الثوريين بناء هذه النقابات وإنماء كفاحيتها وفق خط الوحدة النقابية والديموقراطية الداخلية والنضال الطبقي الحازم.

كتب هذا النص بداية سنة 1991

شارك المقالة

اقرأ أيضا