تعويم الدرهم: اقتصاد المغرب في مهب العولمة الرأسمالية

سياسة13 أبريل، 2018

بقلم، سليم نعمان  

اقتصاد المغرب تابع ومتخلف، جرى تشكيله وتكييفه دوريا وفقا لمتطلبات السوق الرأسمالية العالمية، ويخضع بشدة لتقلبات هذه الأخيرة، إلى درجة أن سيادة البلد على سياسته الاقتصادية والاجتماعية صارت مفقودة. تطلع المؤسسات المالية والتجارية والاقتصادية الدولية (الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي) دوريا على سير السياسة الاقتصادية للبلد وتخضعها لفحص دقيق، وتحدد ما تراه ملائما القيام به خدمة للرأسمال الأجنبي وشريكه المحلي، مستعملة اشتراطاتها المتعلقة بالديون واتفاقات التبادل الحر… الاستعمارية الجديدة.

ينفد حكام المغرب بالحرف إملاءات هذه المؤسسات (بعضها ببطء لما قد تسببه من سخط اجتماعي هائل) مند بدء البنك العالمي تدخله في شؤون البلد الاقتصادية والاجتماعية مطلع سنوات الستينات من القرن المنصرم. تنفيذ حرفي بدريعة معالجة عوائق نمو البلد وازدهاره، لم ينتج عنه سوى المزيد من مفاقمة تبعيته وتخلفه، ما تشهد عليه تقارير تلك المؤسسات نفسها، وتقارير رسمية محلية، وصولا لإعلان الدولة فشل نموذجها التنموي (في الواقع تعني بذلك فشل تنفيذه وليس التخلي عنه).

هذا ما حصل مطلع ثمانينات القرن الماضي لما كان المغرب على شفا الإفلاس بسبب أزمة المديونية، بعدما تبخر الاحتياط النقدي وشحت الموارد وعجز عن استيراد حاجاته بالعملة الصعبة، وإغلاق السوق المالية الدولية في وجهه. وفُرض نظام برنامج التقويم الهيكلي PAS على المغرب، مثلما فُرضت الحماية الفرنسية لأسباب مالية (الديون) واقتصادية. وأجبرت المؤسسات المالية الدولية البلد على خفض مخصصات الإنفاق على الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وتجنيد الأجور، ووقف التوظيف، وتقليص الاستثمار العمومي. وكانت النتائج زيادة عدد الفقراء وتفشي البطالة الجماهيرية الدائمة، وهجرة كبيرة لآلاف القرويين إلى أحياء القصدير بضواحي المدن الكبيرة، وانتشرت المهن الهشة والفوارق الاجتماعية. وشهدت بعض المدن الكبيرة تمردات شعبية (1981 و1984 و1990).

تعويم الدرهم، إجراء نيوليبرالي لمواصلة فقدان السيادة 

تاريخيا، مر الدرهم المغربي بمراحل من تحرير التعامل، بدأت بفك الارتباط مع الفرنك الفرنسي عام 1959، ثم تحديد قيمة العملة مع الشركاء الأوروبيين عام 1973، وإصدار سلة عملات مرجعية يستند إليها قيمة الدرهم عام 1990. ثم تغيرت تلك السلة عامي 2001 و2005. وفي 2015 أصبح الدرهم المغربي مرتبطاً باليورو بنسبة 60 في المئة، وبالدولار بنسبة 40 في المئة. وسبق ذلك تبني الدولة المغربية في سنة 2006 قانون استقلال بنك المغرب، استقلال كبير تجاه بقية المؤسسات (الحكومة والبرلمان…).

ويأتي قرار تعويم الدرهم (تحرير كلي قد يستغرق 15 عاما) تنفيذا لإملاءات صدرت عن المؤسسات المالية الدولية منذ أواسط التسعينيات على الأقل، وجرى الضغط في السنوات الأخيرة من أجل المرور إلى التنفيذ. بلا شك أن هذا القرار، من بين أخرى عديدة تروم فتحا شاملا لاقتصاد البلد بما يخدم مصالح الرأسمال والشركات المتعددة الجنسيات، هو من اشتراطات مواصلة تلك المؤسسات “دعم” البلد (مثلا خط السيولة لصندوق النقد الدولي).

الطبقة العاملة والطبقات الشعبية من سيدفع الثمن مجددا

سيقود التعويم لخفض سعر الدرهم، ما يعني تآكل قدرته الشرائية بالنسبة للمأجورين وطبقات الشعب الكادحة، وإطلاق عنان التضخم. سيكون على الأجير أن يدفع ضعف (أضعاف) ما يقدمه في السابق لتلبية حاجاته الأساسية من الغذاء والسكن، والرعاية الصحية، وتعليم أبنائه… سيصبح متعسرا عليه تلبية احتياجات أسرته.

زيادة الصادرات ليس متوقفا فقط على خفض سعر العملة، بل جودة ما يتم إنتاجه، وكيف يتم إنتاجه. أضف لذلك أن تكلفة إنتاج السلع المحلية سترتفع لأن مستلزمات الإنتاج من آلات ومدخلات متنوعة مستوردة. وبالنظر للدور المحوري الذي لا زال يلعبه القطاع العام في اقتصاد البلد فلن يتمكن من شراء مستلزمات ما ينتجه من الخارج، بسبب زيادة سعر العملات الرئيسية أما العملة الوطنية، وقد يضطر إما للتوقف أو الاستدانة من أجل مواصلة الإنتاج. هذا القطاع يظل المنتج لسلع وخدمات الاستهلاك الجماهيري، ولا يسعى مثل القطاع الخاص لتحقيق الأرباح الطائلة.

سيؤدي التحرير عند تراجع قيمة العملة المحلية لزيادة فوائد الديون الخارجية وأقساطها، وهي مستحقات تؤدى بالعملة الصعبة. عودة على بدء، زيادة العجز في الميزانية وفي ميزان الأداءات، وزيادة الديون: دوامة الحلقة الفارغة.

هذا الإجراء متناقض كسائر إجراءات النموذج النيوليبرالي المهيمن، على سبيل المثال، ونظريا فقط، عند انخفاض قيمة العملة، المرجح بقوة، ستنمو الصادرات، وتعاق الواردات، لكن الأمر أشد تعقيدا لأن الأمر يتعلق بشكل وثيق بطبيعة الصادرات والواردات. العرض التصديري للمغرب ضعيف القيمة المضافة وتنافسيته رهينة بالقدرة على منافسة بلدان شبيه أخرى تجهد هي الأخرى بانتهاج نفس السياسات لرفع تنافسيتها (هل يكفي انخفاض العملة لمنافسة تركيا والصين وتيوان…)، وأوروبا التي تعد سوقه الرئيسية غارقة في أزمة اقتصادية عميقة لا مؤشرات عن قرب الخروج منها.

أما الواردات فهي بطبيعتها لا غنى عنها إذ تتشكل أساسا من المحروقات والمواد الغذائية ووسائل الإنتاج… وانخفاض قيمة العملة الوطنية سيرفع كلفتها.

إن المتضرر المتوقع من هذا الإجراء هم نفسهم من تحملوا أعباء عقود من سياسات نيوليبرالية تقشفية وقاسية، أي الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الكادحة. فهي أول من سيتضرر من الغلاء وانهيار القدرة الشرائية وتبخر المدخرات إن وجدت أصلا. ومن تبعات إعادة الهيكلة الاقتصادية التي سترافق ذلك والمرجح أن تقود إلى إفلاس المقاولات وفقدان كبير لفرص الشغل والدخل. أما الرأسماليون فخبراء في التلاعب والمضاربة وضمان سلامة مدخراتهم وأرباحهم. في الحالة المصرية، أدى تعـــويم الجنيه في نوفمبـــر 2017 إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار غالبية الســـلع الغذائية، والمثل الثاني هو الســـودان الـــذي يعاني مـــن معدلات تضخـــم مرتفعة إثر تعويمه الجنيه الســـوداني عام 2015.

قد يقود هذا الإجراء مؤقتا لنمو اقتصاد البلد وجدب الرساميل… لكنه معرض لا محالة لأخطار جمة يسببها أي تراجع ولو طفيف لثقة المؤسسات الدولية ومؤسسات التنقيط الدولية في اقتصاد البلد، وليس مستبعدا تماما أن يشهد البلد هزات اقتصادية ومالية أعنف مما شهدته دول أخرى مثل الأرجنتين وتركيا وروسيا وغيرها ممن انتهجت نفس السياسات وقامت بإجراء مماثل لما يفعل حكام المغرب حاليا بصدد تحرير الدرهم وتركه لتقلبات العرض والطلب في السوق الرأسمالية العالمية.

إن تطور البلد وازدهاره والعيش الجيد لكادحيه وكادحاته غير ممكن دون القطع مع السياسات النيوليبرالية القاتلة للحقوق والمصادرة للحريات، ولن يحصل التحرر الفعلي للمغرب من التبعية والتخلف سوى بنضال جماهيره المستغلة والمضطهدة، رجالا ونساء، من أجل الاستعاضة عن الرأسمالية التابعة والمتخلفة بمجتمع منتجين حر وديمقراطي وتشاركي، مجتمع اشتراكي يفتح أفق القضاء الناجز على الاستغلال والاضطهاد.

شارك المقالة

اقرأ أيضا