الكونفدرالية الدّيمقراطية للشّغل بعد أربعينَ سنة: ميلاد المشروع النقابي الإتحادي واستفحال أزمته

 

 

 

متم شهر نوفمبر 2018 تستكمل الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، عامها الأربعين. تركت هذه المنظمة بصمة بارزةً على العديد من الأحداث الاجتماعية المميزة للعقود الأربع المنصرمة. منها أدوار مشرفة، كإضراب 30 مارس 1979 العام تضامنا مع شعب فلسطين، وكفاحات شارك فيها عشرات آلاف الشغلية، من إضرابات قطاعية، كالتعليم والصحة في 1979، وجولات كفاح عمال مناجم جرادة في نهاية سنوات 1980، وإضرابات عامة لاسيما في 1981 و1990. ومنها أيضا مواقف لقيادتها دخلت التاريخ تحت عنوان الخذلان والتفريط في حقوق الشغيلة، منها إجهاض إضرابات قطاعية وأخرى بالعديد من المنشآت، واتخاذ مواقف مناقضة لمصلحة العمال المباشرة في العديد من كبريات ملفات النضال النقابي. كما تشوب صورة هذه المنظمة العمالية انتهاكات جسيمة للديمقراطية الداخلية ولحرية معارضي القيادة في التعبير، وطرد مناضلين من أفضل ما أنجبت طبقتنا، وتفكيك هيئات وفروع نقابية عديدة.
وبعيدا عن الإطراء والتمجيد الأجوفين اللذين يبدع فيهما متملقو القيادة، وعن التبخيس والتحقير الذي يختص فيه جيش من أعداء النضال العمالي، يجب علينا نحن مناضلي الطبقة العاملة، في الكونفدرالية وبغيرها من النقابات، أن نضع تجربة هذه المنظمة العمالية (عمالية بتركيبها الاجتماعي، وليس بخطها السياسي) تحت مجهر الفحص من وجهة نظر مصالح طبقتنا الآنية والتاريخية على السواء.
الكونفدرالية صنيع اتحادي بامتياز
قامت الكونفدرالية على أكتاف مناضلي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبتنظير من مفكريه. كان أبرزهم في الشأن العمالي، ممن وضعوا الأسس الإيديولوجية للكونفدرالية، عبد اللطيف المنوني، العضو حاليا في المجلس الدستوري وأحد صناع دستور العام 2011 [1].
أسس الاتحاديون الكونفدرالية بمبرر «إعادة ربط الحركة النقابية بحركة التحرر الوطني»، و»ربط النضال النقابي بالنضال السياسي في أفق التحرر الوطني وآفاق مجتمع اشتراكي».
لا يمكن فهم المدلول الفعلي لهذا التبرير دون النظر في جوهر ما يسمى بحركة التحرر الوطني. معناها لدى الاتحاديين هي حزبهم بالذات، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والاتحاد الاشتراكي لاحقا، وهو ليس سوى يسار حزب الاستقلال، بامتداداته في حركة المقاومة وجيش التحرير. نشأ حزبا شعبويا ببرنامج تحرر وطني ووهم التوافق مع الملكية، أي محض برنامج برجوازي، تغلف في ذلك السياق التاريخي بألفاظ اشتراكية. لكن النظر فيما وراء الألفاظ يظهر حدود هذا الخط الوطني، أي طبيعته البرجوازية وليس العمالية.
إن ما يعتبره الاتحاديون [يسار حزب الاستقلال] ربطا للحركة النقابية بالحركة الوطنية بتأسيس الاتحاد المغربي للشغل كان بسطا لهيمنة برجوازية على حركة عمالية بانتزاعها من الشيوعيين الحاملين على كاهلهم مهمة استقلال العمال السياسي.
وقد امتد هذا الربط، في منظور الاتحاديين، حتى عام 1961، حيث تمكنت الملكية من استمالة قيادة الاتحاد المغربي للشغل، بإغداق الامتيازات عليها وتبلور بيروقراطية ذات مصالح خاصة.
قاوم الاتحاديون انجرار الاتحاد المغربي للشغل، بقيادة بن الصديق، إلى جوار النظام في مواقع نقابية، لاسيما قطاعي التعليم والبريد. وبعد تدافع تخللته بالخصوص محاولة رأب الصدع نقابيا بموازاة محاولة رأبه حزبيا في غشت 1967 . كان فشل هذا المحاولة مقدمة للطلاق بين جناحي الحزب في 1972، ما وضع حتما في الأفق سؤال مصير عمل الاتحاديين النقابي، أي نقابتا البريد والتعليم القائمتين تحت لواء إ.م.ش لكن باستقلال عن قيادته.
بعد مؤتمر الاتحاد الاشتراكي في 1975، وتوضيح الخيار الإصلاحي البرجوازي بالتخلص النهائي من الشعبوية الراديكالية (تيار الفقيه البصري)، تحت عنوان «خط النضال الديمقراطي»، ستكون تلك النقابتان نواة الكونفدرالية ، بتأسيس نقابات وطنية أخرى بين صيف 1976 وصيف 1978. قامت عمليا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بديلا عن الاتحاد المغربي للشغل، ليس لدى الطبقة العاملة التي بقي قسم منها يناضل في إطار هذه النقابة، بل لدى الاتحاديين المبتغين وسيلة للتدخل في الساحة النقابية لخدمة إستراتيجية الحزب «الديمقراطية».
يروم المشروع الاتحادي، الذي ستكون الكونفدرالية إحدى رافعاته، بلوغ مساومة مع الملكية بالعودة إلى صيغة مطلع الاستقلال الشكلي المتجسدة في تجربة حكومة عبد الله إبراهيم، أي تطبيق إصلاحات في ظل حكم الملك بتوسيع صلاحيات المؤسسات «المنتخبة»، في صيغة مغربية من «الملكية البرلمانية». وهذا ما عبر عنه مؤتمر الاتحاد الاشتراكي الثالث –ديسمبر 1978- بتحويل الملكية من مخزنية إلى ملكية بحكومة مسؤولة أمام البرلمان، حيث «يتولى الملك رئاسة الدولة كحكم فوق الأحزاب والطبقات».
هدف يسعى إليه الحزب باستراتيجية استعمال المؤسسات (ما يسمى النضال الديمقراطي) يعي جيدا أنها لن تفلح إلا بتوسيع قاعدة الحزب الانتخابية وبالضغط على الملكية. توسيع وضغط سيكون للكونفدرالية فيهما دور كبير.
أدت عقود الخنق البيروقراطي لتوق العمال إلى النضال، وإجهاض نضالات عديدة وتفكيك تنظيمات عدة، في الاتحاد المغربي للشغل، إلى تدفق طاقة النضال العمالي عبر القناة الجديدة التي مثلتها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. فتبوأت بسرعة مقدمة النضالات العمالية، لكن بمنطق التحكم فيها ووقفها قسرا عند الاقتضاء. وهذا منذ بداية المشوار، مثال إضراب عمال مناجم خريبكة الذي دام 86 يوما في متم 79 وبداية 80 [2]. وما اعتراف الأموي شخصيا بإجهاض نضالات سوى تعبير عن كون الأمر ليس استثناء بل قاعدة من قواعد عمل القيادة[3] من المعارضة المسؤولة إلى مسايرة الهجوم البرجوازي
واجهت الكونفدرالية، مع باقي مكونات الحركة النقابية، تشديد سياسة التقشف في مطلع سنوات الثمانينات، خاصة مع الشروع في تطبيق برنامج المؤسسات المالية الدولية، المسمى «تقويما هيكليا». فكان هجوما كاسحا على مكاسب الشغيلة، وبخاصة «مرونة الشغل»، وقضم الميزانيات الاجتماعية، والخصخصة. انعكس الرفض العمالي لتلك السياسة في دينامية الكونفدرالية، لكن ضمن الحدود التي يحتملها خط الاتحاد الاشتراكي الذي انتهى إلى الاستسلام لتلك السياسة، وتجريع النقابة سموم «تنافسية المقاولة الوطنية» و»نقابة الشراكة الاجتماعية»، أي مساعدة الدولة على تطبيق السياسات صندوق النقد الدولي، واستبطان انعدام بديل غير الاندماج في العولمة الكاسحة. فوقعت الكونفدرالية التصريح المشترك لفاتح غشت 1996 [ بين النقابات وأرباب العمل ودولتهم] المستند على توجيهات الملك والأولوية التي يوليها «للتآزر بين قوى الإنتاج، ودعم الاقتصاد الوطني وتوفير المناخ الاجتماعي اللازم والمحافظة على التوازنات الاجتماعية لتطوير المقاولة المغربية لمواجهة تحديات عولمة الاقتصاد ومتطلبات التأقلم». وبلغ حماس الأموي للتوغل في التعاون مع الدولة درجة دعوة جزار انتفاضة يونيو 1981، إدريس البصري، إلى مؤتمر الكونفدرالية الثالث سنة 1997.
اليوسفي في حكومة الواجهة نهاية لدور الكونفدرالية التاريخي
في مطلع سنوات 1990 دخلت الكونفدرالية طورا أخيرا من استعمالها لتعبئة الشارع للضغط على النظام. حيث نسقت المعارضة البرجوازية [الاستقلال والاتحاد]، للضغط بقصد تعديل قواعد اللعبة الديمقراطية، توقا إلى متسع أكبر في هوامش الديمقراطية الحسنية. انخرطت الكنفدرالية في نضالات قطاعية وطنية، وأخرى عامة، واستعمل ما سمي «كتلة ديمقراطية» النضال النقابي رافعة اجتماعية لـ»نضالها السياسي». لم يثمر ذلك غير تنازلات مجهرية من الحسن الثاني بتعديل الدستور في 1992 و1996. غير أن وشوك موت الملك دفعه إلى استعمال المعارضة البرجوازية في حكومة الواجهة لتأمين انتقال العرش في وضع اجتماعي وسياسي مستقر. فكان ما سمي «حكومة تناوب». وتلك كانت نهاية الاتحاد الاشتراكي، ومعه الكونفدرالية كما تشكلت وتحركت تاريخيا طيلة العشرين سنة السابقة لترأس اليوسفي حكومة الواجهة.
انتقل الاتحاد الاشتراكي من مساند متواطئ متظاهر بالنقد لسياسة صندوق النقد الدولي إلى أداة لتطبيقها. فنشب خلاف مع قسم النقابيين الذي لا يقبل الإشادة سوى بما يعتبره ايجابيا من سياسة حكومة اليوسفي. فتفاقم التدافع بين الأقطاب داخل الحزب والنقابة على السواء، ليفضي إلى شقهما معا، بظهور حزب المؤتمر –أكتوبر 2001- واجهة سياسية للماسكين بجهاز النقابة، والفيدرالية الديمقراطية للشغل، في ابريل 2003، واجهة نقابية للماسكين بجهاز الحزب.
اليسار الجذري ومسار الكونفدرالية
بين هذا الانشقاق والتأسيس، سقط من الاتحاد الاشتراكي جناحه اليساري، ما سيغدو حزب الطليعة. بيد أن هذا الجناح لم يتميز بأي شيء يخص المسألة النقابية، إذ كان وظل اتحاديا، ولا يزال يتحمل مسؤولية في هياكل الكونفدرالية. فقد كان أفقر سياسيا من القدرة على اجتراح خط عمالي ماركسي رغم نوايا قسم من أعضائه، الذين عاشوا على وهم تثوير الاتحاد نحو حزب للطبقة العاملة طبقا لفكرة مذكرة عمر بنجلون التنظيمية.
أما اليسار الماركسي اللينيني، فقد كان موقفه عند تأسيس الكونفدرالية التمسك بوحدة العمال نقابيا في الاتحاد المغربي للشغل. ما جعله ، فضلا عما تعرض له من قمع استصالي، خارج الـتأثير في الدينامية النضالية للكونفدرالية. ولما بات له وجود محسوس، انساق مناضلوه مع تقاليد السعي إلى الفوز بسلطة في الجهاز، بدل العمل للتأثير سياسيا على القاعدة العمالية بمعارضة خط البروقراطية بخط ماركسي، كفاحي وديمقراطي، وصار قسم منهم جزءا لا يتجزأ من بيروقراطية النقابة.
على طول مسار الكونفدرالية تعرضت الأصوات الرافضة للقمع والإقصاء بتجميد أجهزة، وبطرد مناضلين، وبدفع آخرين كُثر إلى المغادرة. كما أدى تعارض سياسة القيادة مع تطلعات القواعد العمالية بوجه تصاعد هجوم الدولة البرجوازية إلى انشقاقات بناء على مطالب فئوية: الهيأة الوطنية للتعليم عام 2005 والنقابة المستقلة للتعليم الابتدائي عام 2006. وكذا إلى ظهور تنسيقيات فئوية خارج النقابات كلها.
وظلت أصوات الماركسين الثوريين صيحة في واد وعرضة للقمع، فضاعت من جراء ذلك كله فرص بناء معارضة كفاحية لخط البيروقراطية المتعاون مع أرباب العمل ودولتهم.
إلى أين؟
إن كان مشروع الاتحاد الاشتراكي السياسي قد انتهى إلى إفلاس، فقد جر معه الكونفدرالية، فباتت تائهة بين خط سياسي اتحادي سفهته التجربة التاريخية عقودا والتوغل في سياسة التعاون مع الدولة. ومع ذلك يستمر إقبال العمال عليها ، كما على غيرها من النقابات، بضغط من فرط الاستغلال وقمع الدولة، لأنهم بحاجة إلى أدوات مقاومة. الوجه المنير لهذه النقابة هو المناضلون/ات الصامدون داخلها، دفاع على ما تبقى من مكاسب وردا للتعديات المتصاعدة، وأفواج الشغيلة الشباب الذين يلتحقون بها بما هي راية للكفاح الطبقي. هذا ما يجعلها موضع اهتمام من يحملون هم بناء المقاومة النقابية على أسس الكفاحية والديمقراطية، وهم بناء حزب العمال الاشتراكي الثوري. لهذا يستمر عمل هؤلاء داخل الكونفدرالية، كما بغيرها من النقابات المنظمة لنضالات، بمنطق هدم الأسوار بين القواعد العمالية أيا كانت التسميات، والدفاع عن الديمقراطية العمالية في تسيير النضال وأدواته، والعمل لبلوغ العمال المناضلين رؤية سياسية مطابقة لمصلحتهم التاريخية، مصلحة التحرر من الاستغلال الرأسمالي.
إحالات:
1- انظر كتابه المشترك مع محمد عياد: الحركة العمالية المغربية، صراعات وتحولات. دار توبقال للنشر -1985.
2- عادل حميد، الفعل النقابي بين الشعار والممارسة ، ص. 108. بدون تاريخ إصدار- مطبعة المتقي برينتر، المحمدية
3- كتاب «عن قرب» حوارات مع نوبير الاموي،ص .46 – منشورات ك.د.ش .2001

شارك المقالة

اقرأ أيضا