مقدمة كتاب موريس بوتان: الحسن الثاني، ديغول، بن بركة، ما أعرفه عنهم

المكتبة26 يناير، 2019

 

 

   من أنا؟

   ترد الشهادات والتحليلات المتضمًنة في هذا الكتاب بضمير المفرد المتكلم أنا، لهذا بدا لي منطقيا، بل ضروريا، أن أزود القارئ ببعض المعلومات الشخصية عن هذه “الأنا” التي تطالعه في أغلب الصفحات.

    ولدت في العاشر من دجنبر من سنة1928 في مدينة مكناس بالمغرب، حيث كان أبويً المنحدران من منطقة سافوي يستقران منذ1920. كنت الخامس من بين سبعة أطفال تضمهم عائلتي. وقد فضلت أمي التي كانت مدرًسة للرياضيات في ثانوية كانت تسمى حينها بويميرو التخلي عن وظيفتها لتتفرغ لتربية أبنائها. وفي سنة1939، عيًن أبي الذي كان يشتغل محاميا بمنطقة فاس- مكناس نقيبا لهيئة المحامين، وبسبب ظروف الحرب ظل يشغل هذا المنصب إلى أن استقل منه سنة1944[1]. وأعيد انتخابه ولكن هذه المرة نقيبا لهيئة محامي مكناس من1952 إلى1954. وفي هذه السنة، تكفل بالدفاع عن رجال الحركة الوطنية أمام المحكمة العسكرية بفاس.

    تابعت دراستي الابتدائية والثانوية بثانوية مكناس. وفي سنة 1947، غادرت بيت العائلة نحو باريس لألتحق بالكلية الوحيدة للحقوق الموجودة وقتئذ ببانتيون، إلى أن حصلت على الاجازة ودبلومي دراسات عليا. شرعت مباشرة في تحرير رسالة لنيل الدكتوراه في موضوع كان يعتبر جديدا حينها بعنوان “الوحدة الاقتصادية لإفريقيا الشمالية”، ولكنني لم أتمكن من استكمالها لضيق الوقت. كما أن الأحداث الهامة التي عرفها المغرب في تلك الفترة كان لها الكلمة الفصل في إقبار هذا المشروع. وبعد عودتي إلى مكناس في خريف 1952 ببضعة أسابيع، التحقت بهيئة محامي مكناس متدربا في مكتب أبي. ولم ألبث إلا قليلا حيث سافرت في فصل الربيع من نفس السنة إلى فرنسا من جديد لقضاء الخدمة العسكرية في القوات الجوية ضمن التلاميذ الضباط في الاحتياط قريبا من “كاين”، وبعدها في مكتب التشريعات التابع لوزارة القوات الجوية بباريس.

    وبعد عودتي إلى المغرب في شتنبر1954، تابعت تدريبي بالرباط في مكتب النقيب “برونو”، أحد أكبر المحامين. كانت هناك علاقة صداقة تجمع بين عائلتينا منذ زمن طويل. هكذا أصبحت صديقا لشارل ولزوجته سيمون، ومع ذلك، كنا على طرفي نقيض فيما يخص السياسة التي تنهجها فرنسا في المغرب[2]. وخلال لقائنا الأول، أخبرته أنني سأتكفل بالدفاع عن رجال الحركة الوطنية الذين سيطلبون مني ذلك، كان إنسانا متحرر الفكر، لهذا ترك لي حرية الاختيار، شرط أن تحمل الأوراق التي استعملتها في مراسلاتي ومحاضري اسمي الشخصي[3].

    وفي هذه الظروف التي كان فيها المغرب يغلي بالمواجهات والأحداث الدامية، قررت الالتحاق بصف “الفرنسيون الاحرار” المنضوين في حركة “الوعي الفرنسي”. ولا يسعني هنا سوى أن أقدم تحية خاصة لأبي، فهو الذي كان له أكبر الأثر في تكويني كمسيحي لائكي منخرط في قضايا المدينة، قبل كتابات جورج برنانوس والفيلسوف إمانويل مونيي مؤسس مجلة “إسبري”. كما أن أبي هو الذي أسس برفقة بعض الأصدقاء مجلة ذات نزوع مسيحي، وهي مجلة”إسبري”.كما أن أبي هو الذي أسس برفقة بعض الأصدقاء مجلة ذات نزرع مسيحي، وهي مجلة”أراضي إفريقيا” خلخلت الأفكار الجاهزة السائدة محليا في الميدانين الاجتماعي والسياسي. وكان في الحقيقة قلبها النابض. ولم يكن مواطنونا الفرنسيونا الفرنسيون بالمغرب ينظرون بعين الرضا للأفكار التي كان يعرضها في المجلة، مما جعلها تتوقف عن الصدور سنة1950[4]. وفي سنة1955، أصدر كتاب “مأساة المغرب”[5] وفي يونيو1956 تقاعد مباشرة بعد الاستقلال من مهنة المحاماة، وكرس وقته حتى وفاته سنة1966 لمجلة “كونفلوون”.

    يرى والدي وهو الرجل المؤمن بالله وبالإنسان أن الحس الأخلاقي هو أعز ما يُطلب. والحس الأخلاقي عنده ينبني على مجموعة من القيم مثل الشرف والعدالة والتسامح والحرية والحقيقة والإحترام وكرامة الشخص، أكان مؤمنا بالله أم لم يكن. ولم يكن يتوانى عن التصدي لكل تمييز عرقي واجتماعي ويرى فيه أكبر مظهر من مظاهر الظلم. لم يحد أبدا قيد أنملة عن مبادئه، وظل دائما يرفض التسليم بما يسمى المصالح العليا للدولة. وهذا الإيمان وتلك القيم، أتقاسمها معه كلها، بوصفها الركيزة الأساس التي تقوم عليها كل التزاماتي، أيا كانت العواقب قد تنجم عنها.

    أول شخص التقيت به في إطار نشاطي السياسي، بعد لقاءاتي الأول بالطلبة المغاربة بباريس،هو أحد جيراني بالحي الذي أسكنه، وهو أيضا محام شاب يقضي الفترة الأخيرة من تدريبه. اسمه رضا اكديرة وهو متزوج بفرنسية. وسرعان ما توطدت علاقتي بهما وأصبحا من بين أصدقائي. كان اكديرة ينتمي حينها إلى مجموعة من المناضلين المستقلين بالرباط التي تأسست على يد رشيد ملين سنة1937[6].كوًنتُ برفقته إضافة إلى عدد قليل من رفاقه وأحد الفرنسيين وهو جاك جواني[7]“مجموعة الدراسات والتفكير الاقتصادي والاجتماعي”، وهي فرع من المجموعة التي أنشأها بالدار البيضاء روبير أورين. وانصبت اجتماعاتنا الأسبوعية في الأشهر الأولى أساسا على إعداد رفاقنا المغاربة للمشاركة في السلطة السياسية والإدارية للبلاد، بمجرد تسلم الضوء الأخضر من فرنسا. ولكن، منذ صيف1955 أصبحت عودة السلطان محمد بن يوسف إلى عرشه قضيتنا العمومية الكبرى. بيد ان هذا التوجه النضالي لم يحل دون لقائي ببعض رجال الحركة الوطنية الآخرين من أعضاء حزب الاستقلال أو حزب الشورى والاستقلال. ولم يلبث شخص المهدي بن بركة أن استرعى انتباهي بشكل خاص.

    كثيرا ما تكلفت بالدفاع عن بعض رجال الحركة الوطنية في قضايا الحق العام أو أمام المحاكم العسكرية. وبما أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، فإنني قمت بالدفاع بعد الاستقلال، في العشرية الممتدة من 1956 إلى 1966، عن أولئك الذين يناضلون ضد السلطة الجديدة، بنفاقها وانتهاكها من جديد للحريات، والختطافات القسرية، والقمع بمختلف أشكاله، وخاصة في صفوف “قوى اليسار”. وعلي أن أعترف أنني لم اجد أي مشاكل خاصة طوال المدة التي قضيتها بالمغرب معبرا عن رأيي ومحاميا في بعض القضايا. ولكن ما إن غامرت باتخاذ قرار الانتقال إلى باريس في أول محاكمة في قضية بن بركة، في شتنبر1966، فإنني أكرهت على أن أغادر بعدها المغرب… أنا لم اغادر المغرب وإنما هو الذي غادرني حينها. ذلك أنني مُنعت من دخوله عقابا لي على مرافعتي في تلك القضية. وقد اخبرني صديق لي يعمل بسفارة فرنسا بالرباط أن الشرطة المغربية تلقت أمرا باعتقالي بمجرد نزولي من الطائرة…[8]. ولن تطأ قدمي أرض المغرب إلا سبع عشرة سنة بعد ذلك، عندما حللت بهذا البلد عضوا في الوفد الفرنسي المرافق للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران. وبعدها سأظل أخضع سنوات عديدة لمراقبة شديدة كلما نزلت بمطار الرباط-سلا.

    انتهت المحاكمة الثانية في قضية بن بركة في 5 يونيو1967، يوم اجتياح مصر واحتلال الجيش الإسرائيلي لباقي مناطق فلسطين. شاركت حينها في إنشاء “مجموعة البحث والعمل من أجل القضية الفلسكينية”، وهي أول مجموعة دعم للشعب الفلسطيني. عاودتني الرغبة في مزاولة عملي كمحام من جديد، لهذا طلبت في نفس الفترة ترخيصا رسميا بالانسحاب من هيئة محامي الرباط، والتحقت بهيئة باريس مستهل شهر يوليو1967.

    وبعد ثلاث سنوات من العمل في مكتب جو نوردمان، فتحت مكتبي الخاص. لن أعرف في عملي نفس النجاح الذي لقيته بالرباط، إذ ليس من السهل اكتساب زبائن جدد، مما جعل وقتي يتسع للدفاع عن بعض الاستقلاليين الغوادالوبيين بمنطقة “باس طير”، وآخرين من جزر القمر بموروني، ونقابيين موريطانيين بنواكشوط، وفلسطينيين ألقي عليهم القبض باليونان… أو في فرنسا، و”يساريين” اعتقلوا سنة1968. ولكن وقتي اتسع خاصة للتفرغ لقضية بن بركة، بعد رفع دعوى جديدة خلال شهر أكتوبر سنة1975، والنضال إلى جانب عائلة المهدي بحثا عن الحقيقة.

    لقاءاتي بالحسن الثاني وبالمهدي بن بركة

    سيتواجه الرجلان، ولكن غالبا من بعيد. كلاهما ينعم بذكاء خارق ومواهب فذة وتجذبه السلطة. يبدو أحدهما أكثر ليبرالية. وفي الجانب الاقتصادي، وهو بالتأكيد ليبرالي حتى النخاع… ولكن لصالحه. وفي المستوى السياسي أيضا… على الأقل في الخطب التي يوجهها لشعبه. وفي الواقع، إنه احد اكثر الملوك الذين اعتمدوا نظام حكم فردي مطلق في تاريخ المغرب، منذ السلطان المولى إسماعيل[9]، فأي نقد موجًه إليه،  كان يشتمً فيه رائحة مؤامرة تحاك في الخفاء. طبعا، إن المهدي بن بركة أكثر ثورية في خطبه. وهو لا يخاطب “الشعب العزيز”، ولكن فقط الشعب المغربي الذي هو أحد أفراده. ويرىأن المغرب من حقه أن يتوفر على نظام ديموقراطي حقيقي، وتسود فيه العدالة الاجتماعية ويحظى شعبه بالحرية. وهو في أفعاله أكثر ديموقراطية. باختصار، إن التعارض بين الرجلين تعارض سياسي في جوهره، لا ينحصر فقط في استبدادية الحسن الثاني.

    سأقص هنا حكاية طريفة تتعلق بالرجلين. يذكر الحسن الثاني أن علاقته بالمهدي بن بركة في فترة الشباب[10] كانت علاقة حميمة: “كان رفيقا ممتازا، وصديقا قديما…”، ويستطرد قائلا: “منه تعلمت الأناقة… وفيما بعد كان لنا نفس الخياط، وهو السيد كامبس. كان ثمن البذلة حينها 150 ألف فرنك فرنسي قديم”. والحال ان الصدفة جعلتني يوما أقتني بذلة لدى احد التجار بشارع فيليكس فاور بباريس الذي أخبرني أنه كان يشتغل لدى السيد كامبس. ومن بين ما ذكره لي ان :”الأمير مولاي الحسن كان قد طلب من السيد كامبس مائة بذلة. وليس المهدي بن بركة.

    كان بالإمكان ان ألتقي بمن سيصبح فيما بعد الملك الحسن الثاني اول مرة في صيف 1942 أو 1943 بإفران. كان عمري وقتئذ 13 أو 14 سنة. كنت ألعب كرة المضرب مع صديق لي، عندما وقف عميد من الجيش الفرنسي بباب الملعب وخاطبني قائلا:

    -” هل تقبل ملاعبة الأمير؟” لم افهم ما المقصود، فسألته:

    -“أي أمير؟”

    -الإبن الأكبر لجلالة السلطان، الأمير مولاي الحسن”.

    أجبته مندهشا:

    -” ألعب بطريقة سيئة، ولن يجني الأمير أي فائدة من اللعب معي”.

    الأمير نفسه لم يبدأ لعب كرة المضرب إلا قبل وقت قصير. ولكن هناك شرط لكي تلاعبه: اتركه ينتصر عليك”.

    فارت الدماء في عروقي، وفعل “برج القوس” فعله الحتمي ليملي علي تماما عكس ما يطلبه الضابط…. صحيح أنني سأنهزم مرات عديدة في حياتي، ولكنني لم أقبل أبدا أن أختار الهزيمة طوعا في اي لعبة أو رياضة أو محاكمة. لهذا جاءت غجابتي قطيعة مدوًية:

    -” أمير او غير أمير، لا تنتظر مني أن ألبي طلبك”.

    مسألة كبرياء في مواجهة كبرياء، لاشك في ذلك… لا سيما وأنني سأعرف بعد ذلك بقليل أن مولاي الحسن يصغرني بستة أشهر… كان أبوه السلطان سيدي محمد بن يوسف الذي سيحمل فيما بعد لقب محمد الخامس قد قذف به في معمعان السياسة منذ نعومة أظافره. ألم يكن حاضرا بجانبه قي مستهل سنة1943 إبًان لقاء أنفا الشهير مع الرئيس روزفلت وونستون تشرشل؟ كان عمره حينها أقل من أربع عشرة سنة. لم أكن على علم بلقاء القمة هذا وأنا أجيب الضابط الفرنسي. ولكن حتى ولو كانت أعلم ذلك، ما كنت لأقدم جوابا آخر. وفي نظري، إن حكاية “النتيجة المفروضة” هذه، تكشف طبيعة التربية “الجيدة” التي تلقاها الأمير، وأقل ما يقال عنها إنها غير مقبولة، إن لم نقل إنها صادمة. ولا يخفى أن طرق التربية التي يخضع لها الطفل هي التي تصنع شخصيته في المستقبل حتى مماته. وسيمر وقت طويل قبل أن ألاحظ ان التربية التي تلقاها الحسن الثاني في طفولته ستظل دائما تتحكم في شخصيته، ففي عصره كان هناك في المغرب”هو” والآخرون[11].

    التقيت أخيرا بمولاي الحسن سنوات بعد هذه الحادثة، في اليوم الموالي لعودة السلطان وعائلته إلى الرباط. كان ىالأمير يريد شكر”الفرنسيين الأحرار” على مساعدتهم وتضامنهم. انعقد القاء في فندق المنصور بالدار البيضاء في مستهل شهر يناير1956. وصل مولاي الحسم متأخرا[12] تقريبا بعشرين دقيقة، محاطا ببعض الوزراء ومنهم رضا اكديرة. تأثرنا جميعا أيًما تأثر بكلمات الشكر التي قدمها لنا. انبهرت وأنا أراه يتحدث لغتنا بطلاقة وسلاسة دون لكنة، موظفا لغة غنية منتقاة بدقة. أحتفظ عنه في ذهني بصورة رجل أنيق جدا، واثق من نفسه، متوقد الذهن، وذكي إلى أقصى الحدود من دون أدنى شك.

    التقيت به مرة ثانية غداة الاستقلال في باريس، في 3 مارس1956، برفقة أحد أصدقائي، روبرت سشنايدر الذي هو أيضا صديق للعائلة الملكية. أقنع هذا الأخير الأمير بلقاء القس بيير في مركزه بإيماوس في نويي-سور-مارن. مر اللقاء في جو حميمي. وأعجب الأمير[13] بإنسانية هذ القس وكرمه وفعاليته.

    و”التقيت” به من جديد في فبراير1961 وقد أصبح ملكا، لقاء غير مباشر، في شروط خاصة جدا… عبر الهاتف. وسأعود إلى هذه الواقعة الطريفة عندما أثير قضية عدي أوبيهي.

    اللقاء الخامس سيتم في يناير1983، إبان الزيارة الرسمية لفرانسوا ميتران إلى المغرب. كنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أحط قدمي من جديد في البلد الذي قضيت فيه فترة شبابي، والأرض التي احتضنت”معاركي”. دخلتها مرفوع الرأس. قدم الرئيس أعضاء الوفد واحدا تلو الآخر إلى الحسن الثاني. خاطبني الملك قائلا: “الأستاذ بوتان، أنا سعيد جدا(كذا) باستقبالك في المغرب”. عبارة تقليدية تقال في مثل هذه المناسبات، ولكنها قد تكتسي في هذا السياق دلالة خاصة، فالمهدي بن بركة “اختفى” يوم 29 أكتوبر1965، وأوفقير “انتحر” غداة المحاولة الانقلابية في غشت1972، والدليمي أيضا “اختفى” مؤخرا في “حادثة سير”، بضعة أيام فقط قبل وصولنا[14]. أكان الحسن الثاني يعتقد أننا صفينا الدين القديم الذي كان بيننا، ولم يعد ثمة داع للمواجهة؟ كان الملك محاطا بالعديد من أعضاء الحكومة المغربية، وضمنهم الوزير الأول المعطي بوعبيد[15]. قبلني هذا الأخير أمام مرأى الجميع، معبرا لي عن سروره برؤيتي في المغرب، قبل أن يهمس في أذني قائلا: “أأنت المسؤول عن اختفاء الدليمي؟” وزراء آخرون كنت أعرفهم معرفة جيدة قبّلوني بدورهم على الطريقة المغربية. طالعت شعور الدهشة مرتسما على وجه بعض الوزراء الفرنسيين:”ألم يستدع ميتران الأستاذ المحامي بوتان بوصفه “معارضا” للسلطات الحاكمة في المغرب؟” حملني الوزير بيير بيريغفوي في سيارته خلال تنقلنا داخل مدينة مراكش، وعبر لي عن شعور الدهشة التي انتابته هو والرئيس في ظهيرة ذلك اليوم بينما الملك الحسن الثاني يسترسل في امتداح شخصي. لم يذكر لي السبب. قد يكون مرد ذلك نضالي من أجل الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، نضال اشتهرت به في الأوساط السياسية سواء في المغرب أو في فرنسا. ها أنا مرة أخرى أجد نفسي امام دليل آخر على ذكاء الحسن الثاني الذي أفلح في “خداع” ميتران و” التلاعب” به.

    وسيجمعني فيما بعد لقاء بالحسن الثاني في نونبر1985. كان الملك قد استدعى بعض الفرنسيين الأحرار الذين ما زالوا على قيد الحياة للاحتفال بالذكرى الثلاثين لعودة العائلة الملكية إلى المغرب. أقيمت على شرفنا احتفالات كبرى- كما هي العادة دائما- طوال ثمانية أيام… ولكن دون ان يستقبلنا الملك. أكان ذلك بسبب وجودي بينهم؟ سألت وزير الداخلية إدريس البصري، الرجل القوي حينها، ولم أحظ بجواب. اكتفى الوزير بإخبارنا أن الملك يعتبرنا فرنسيين مغاربة، لهذا فإنه سيلتقي بنا في نفس الوقت الذي يلتقي فيه بالجالية المغربية بباريس. هكذا أتيحت لي فرصة السلام عليه في الايليزي يوم 27 نونبر، خلال حفل عشاء نظمه رئيس الجمهورية على شرفه، وفي اليوم الموالي أيضا في حفل استدعيت إليه الجالية المغربية بباريس[16].

    ويعود أول لقاء لي بالمهدي بن بركة إلى نونبر1954، بعيد إطلاق سراحه بقليل.ذهبت للسلام عليه في منزله بشارع تمارة. استهل حديثه معي بشكر أبي على العمل الذي يقوم به منذ1952 مدافعا عن رفاقه وعن المقاومين، بل غنه كان يقدًره منذ زمن طويل وهو يقرأ له في مجلة “أرض إفريقية”، ويستمع إلى نداءاته المتكررة لضرورة احترام كرامة الآخر والحقوق الإنسانية والعدالة. استوقفتني معارفه رغم أنه قضى بضع سنوات في السجن، بعيدا جدا عن الرباط ومكناس[17]. وسألتقي به بعد ذلك مرات عديدة، وخاصة سنتي 1955و1956. وقلّت في السنوات التالية لقاءاتنا- وإن لم تخبُ حرارتها- بسبب مسؤولياته في المجلس الوطني الاستشاري الذي كان يرأسه وتنقلاته العديدة إلى الخارج أو إلى… المنافي. وفي كل مرة كنت اظل مشدوها امام توقد ذهنه وحصافة أقواله ونشاطه الفيّاض وتحليله النقدي للوضعية الراهنة، وكلامه المتحرر، وانفتاحه وقابليته للتحاور والإنصات و”حضوره”. وأفهم أكثر لماذا استطاع اجتياز امتحانات الباكالوريا بنجاح في تلك الفترة في ثانوية مولاي يوسف وبعدها في ثانوية غورو بالرباط بميزة حسن جدا، مع تنويه خاص من اللجنة، رغم انه لم يكن متسلحا ب”امتياز” الأصول الفرنسية. وليس ثمة شك أن المهدي بن بركة يعد انجب تلميذ تخرج من المدارس الفرنسية في عهد الحماية. وأفهم أيضا أكثر لماذا كان يعتبر في نظر مسؤولي تلك الفترة، والمقيم العام جوان وبعده غيوم عدو فرنسا الأول، قبل أن يصبح كذلك بالنسبة إلى الحسن الثاني[18].

    وخلال أحاديثنا كان بن بركة لا ينفك يعبر عن إرادته ورغبته في رؤية المغرب يتحول لينخرط في الحداثة ومتطلباتها،مع رفض آليات الاستغلال الاستعماري الجديد. ورغم انحداره من وسط حضري، فإنه تعرف عن كثب على البادية خلال فترة اعتقاله الثانية. وأدرك حينها الاختلاف في طرق استغلال الأراضي، ففيما يعتمد الفلاحون الطريقة التقليدية، يعتمد المعمرون الفرنسيون الطريقة العصرية. كما عاين استغلال الفلاحين من قبل هؤلاء إضافة إلى الملاك الزراعيين المغاربة الذين يتجاوزون دون شك اقرانهم الفرنسيين في هذا الصدد. لهذا فهو لايفرق بين هؤلاء وأولئك على أساس الجنسية، بل يراهم سواسية من حيث استغلالهم الفلاحين. لهذا لن أراه ابدا ينتقد فرنسا اعتباطا. ولكن من المؤكد انه كان قلقا وهو يرى ان الحصول على الاستقلال تم من دون صعوبات تُذكر بتعاون مع المستعمر، أكثر منه ضده… وكما أسرّ لي بذلك، فهذا هو السبب الذي جعل الكثير من أعضاء الحركة الوطنية سابقا “يتمدّدون على فراش” المعمّرين القدامى بموافقة القصر، بل بطلب منه، مديرين ظهرهم للشعب المغربي[19]. وقد كرر لي مرارا ان: “استقلال المغرب لن يستكمل غلا بعد تحرر نساء البلد ورجاله، اجتماعيا وسياسيا، بفضل توزيع حقيقي لثروات البلد”. اكيد أن ذلك لم يتحقق في تلك الفترة، فماذا عن اليوم؟

    ولم تنحصر اهتماماته في قضايا الشعب المغربي، بل تجاوزتها إلى مستقبل إفريقيا الشمالية، وضرورة الدفاع عن شعوب العالم الثالث وعن تحررها. وكان يهتم بشكل خاص “بالقضية الجزائرية”[20]. ومنذ لقاءاتنا الأولى، عبر لي عن رغبته في الجمع بين المقاومين المغاربة بالريف والفلاقة التونسيين والثوريين الجزائريين الذي اطلقوا شرارة ثورتهم المسلحة في نونبر1954. ولكن بضعة أسابيع بعد استقلال المغرب، فتونس، عبر لي عن امله في أن يرى فرنسا تجد حلا سياسيا سريعا في الجزائر، بعيدا عن الحرب الميتعرة حينها هناك. لم يفصل أبدا بين القضايا المغربية والجزائرية، مما يجعل منه اولا “قوميا مغاربيا”[21].

    أدرك المهدي بن بركة اهمية[22] مؤتمر باندوغ[23] وكان مقتنعا أشد ما يكون الاقتناع بفكرة عدم الانحياز، لهذا جعل المجلس الاستشاري الذي يراسه يتبنى قرارا في هذا الاتجاه في نونبر1957.

    وكان يدرك ما يمثله حقل التربية والتعليم من أهمية بالنسبة إلى الشباب، و لا يرى فيه “مجرد قضية أساسية، بل القضية الأساسية الأولى” [24] الهادفة إلى الدفع بهم نحو المشاركة في تنمية بلادهم وبناء شخصيتهم على أساس متين. وهنا أحد الانتقادات الصائبة الحادة التي وجهها للمستعمر الذي لم يضطلع بدور “الحامي” وبالتالي دور “الوصي” على الشباب[25]. ويدعو في هذا الصدد إلى عمل نضالي فعال بعيدا عن الشقشقة البلاغية والخطب الرنانة. وقد حكى لي انه كان في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة يشرف في ثانوية مولاي يوسف، مناضلا سياسيا في فترة الشباب، على خلية “العمل المغربي”، وهي أول منظمة تحرض على النضال ضد المستعمر.

    وعندما أصبح المهدي بن بركة بفضل كاريزميته زعيما سياسيا، لم يدر ظهره أبدا للشعب المغربي الذي هو فرع من شجرته. وسيظل “ابن الشعب” طوال حياته، مدركا لمسؤولياته تجاهه، بل تجاه كل الشعوب المقموعة في العالم، سنوات بعد ذلك. بيد ان حبه للشعب لم يمنعه من الوقوف قبل الاستقلال، عن اقتناع، بجانب رجال الحركة الوطنية البورجوازيين وهم يطالبون بنهاية الحماية. وستتاح لي الفرصة أن أستمع إليه وهو يدافع عن حرية المعتقد، ويتصدى لتهميش اليهود المغاربة[26]، مما يدل على رحابة أفقه الفكري وانفتاحه.

    أسر لي بعد إطلاق سراحه بقليل ان: “حزبنا أصبحت له ثلاثة رؤوس،ففي المجال السياسي هناك علال الفاسي والقادة القدامى، وفي المجال النقابي يوجد المحجوب بن الصديق، وفي مجال المقاومة هناك الفقيه البصري وآخرون”. ولم يخف عني اختياره[27] الذي يمليه عليه كونه رجل فعل، ومناضلا ضد الاستعمار ومنحازا للشعب، أي مصطفا إلى جانب النقابيين الذين يمثلون الشعب المغربي بعماله وفلاحيه، والمقاومين لإلحاق الهزيمة بسلطات الحماية المنهارة. أما السياسيون الذين غالبا ما يسقطون في السياسوية كما قال لي، فإنهم يدافعون أولا عن مصالحهم الشخصية وفي كل الأحوال عن مصالح طبقتهم.

    وفي كل أحاديثنا تطالعني سمة لصيقة بشخصهن تعبر عنها رغبة راسخة في العمل من أجل بلده، ولكن مع رفض قاطع للانبطاح امام أي كان، حتى الملك نفسه. وفي احد لقاءاتي العديدة بسكرتيره محمد عواد[28]، أشرت إلى هذه السمة الملازمة لشخص المهدي بن بركة، فسرد على مسامعي ما قاله له المهدي بن بركة في هذا الصدد: “من السهل في المغرب أن تصبح غنيا بين عشية وضحاها، يكفي أن تنكس الرأس وتقبل الأيادي. أرفض هذا السلوك وأمشي مرفوع الرأس”. يا له من نموذج مشرق بالنسبة إلى العديد من رفاقه الذين سحقتهم لسنوات طوال آلة قمع السلطة الملكية، ولم ينهضوا بعدها حتى اليوم.

    وكل من يعرفون المهدي بن بركة يحكون عن ذكائه المنفعل باللحظة، وحسه العملي النفعي، وسرعته في اختيار القرار عندما يجد نفسه أمام العديد من الحلول،، فديناميته[29] تدفعه إل كل ما يراه المستعجل والأهم والأنسب له وللبلد أيضا. ولكن واأسفاه، هذه السرعة في الاختيار بين حلين هي هي التي أودت بحياته في29أكتوبر1965. وأحسب أن المهدي بن بركة، رغم معرفته العميقة بالناس وبالوضعية السياسية بالبلد قبيل الإستقلال، قد أخطأ في تقدير شخص وحيد وهو رضا اكديرة. قال لي يوما إنه لا يفهم كيف أنني “أضيع وقتي”، وأشارك هذا الزميل ورفاقه من “المستقلين الأحرار”[30]الطريق. أجبته أن اكديرة “جار قديم لي ومحام متدرب مثلي والسكرتير الأول لجمعية المحامين سنة1954. وقد أصبح صديقا لي. وأتقاسم معه التوق إلى الحرية. لم أنحز أنا الفرنسي لهذا الحزب المغربي أو ذاك، وأنا أدافع عن رجال الحركة الوطنية، ولكنني انتصرت لحرية المغرب وجميع أبنائه. وأيا كانت أفكار اكديرة، فإن رغبته في خدمة بلده أقنعتني بوطنيته وقدارته. ورغم زواجه بفرنسية، فإنه ناضل من أجل استقلال بلده، كما ناضل مع رفاقه كي تتحول علاقات التبعية التي تربط المغرب بفرنسا، إلى علاقات تعاون”. ظل بن بركة على موقفه منه: “اكديرة لا يمثل شيئا”. هل اخطأت التقدير؟ من بين رفاق اكديرة، هناك شخص اسمه مسعود، ابن عم سكرتير للأمير، إن لم تخني الذاكرة. وعن طريقه تعرف اكديرة على مولاي الحسن، لتتوطد العلاقة بينهما، ويصبح أمين سره فمستشاره ثم ساعده الأيمن. ومرت سنتا 1955 و1956 ليدب الوهن شيئا فشيئا في علاقتنا… واتضح لي أن مسؤوليات اكديرة الوزارية ما انفكت تتعاظم، وخاصة دوره في ديوان الأمير، قبل أن يصبح المدير العام للديوان الملكي. واكتسب نفوذا حقيقيا إلى أن غذا الرجل الثاني في المملكة. خدم بتفان وإخلاص الحسن الثاني، ولكنه قد يكون الوحيد الذي يتجرأ على مناقشته، وحتى وإن لم يبلغ الحد إلى أن يصارحه بموقفه من بعض قراراته،فإنه على الأقل يصارحه بالكثير[31].

    لم يكن المهدي بن بركة أبدا شيوعيا، عكس ما كتبه البعض أو صرح به. ظلت هناك دائما مسافة لا ترتفع تفصله عن الشيوعيين. يتجلى ذلك في التركة الموروثة عن الحركة الوطنية في الأربعينيات حتى نهاية الخمسينيات، وفي اختلاف المواقف من القضايا العربية[32] ومن قضايا العالم الثالث، وفي توجهه العملي النفعي البعيد عن الدوغمائية الوثوقية. لكن ذلك لم يمنعه من اعتماد التحاليل الماركسية وأفكارها كلما تبين له نجاعتها وتلاؤمها ووضعية ما. كان ثوريا نعم، ولكنه كان واقعيا، بل إنه كان ينحدث أحيانا عن نوع من “الاصلاحية الضرورية”. وما كان يستوقفني في نقاشاتنا هو جانب”العقلانية” في تفكيره، عكس العديد من القادة المغاربة الآخرين وحتى بعض القادة من العالم العربي ممن سأتعرف عليهم. وقد يكون مصدر هذه العقلانية تكوينه الجامعي الفرنسي، في الرياضيات من بين مباحث أخرى. وقد تلقى الحسن الثاني نفس التكوين ولكن في المجال القانوني، وكان يوظف معارفه توظيفا واعيا محكما في مستوى علاقاته الدولية، اما محليا فغن ميولاته كانت موجهة نحو شخصه اكثر منها نحو الشعب المغربي…

    أكان بن بركة من دعة جمهورية المغرب؟ هذه على الأقل الأطروحة التي يقول بها كلود بيا[33]. قد تكون فكرة إقامة جمهورية بالمغرب غداة الاستقلال خطرت بباله سنة1951 أو1952، ولكنه حتما لم يفكر فيها بعد20 غشت1953، بعد نفي السلطان، والاجماع الشعبي على ضرورة عودته إلى عرشه. وفي المقابل، سمعته مرارا وتكرارا يثير مسألة الملكية البرلمانية آملا في تحققها. وبما انه اختار شخصيا طريق القانون والشرعية وليس الكفاح المسلح،فإنه وضع ثقته في السلطان كي يقود البلاد نحو تلك الملكية المنشودة[34]

الكتاب مرفقا للتحميلكتاب بوتان صيغة وورد//// كتاب بوتان صيغة بي دي إف

إحالات:

[1] – حدث ذلك في اليوم الموالي لإعدام زبونه ووزير الداخلية السابق في حكومة فيشي Vichy بيير بوشوPierre Pucheu الذي لم يشمله عفو الجنرال ديغول. وفي رسالة بعثها إلى أعضاء الهيئة، نجده يعرض أسباب قراره الاستقالة: ” العدالة والحق يسموان بحكم طبيعتهما المطلقة فوق أي اعتبارات تتعلق بالمصالح العليا للدولة، وهي مصالح نسبية في جوهرها لأنها متبدلة ومتغيرة. وأظن أن العدالة والقانون انتهكا في محاكمة السيد بيشو”.

[2] – كان ‘ رئيسي’ بحكم ارتباطه الشديد بالجالية الفرنسية ينتصر لأطروحة الإقامة العامة، والمراقبين المدنيين والأسس الأخرى التي يقوم عليها نظام الحماية… وهذا ماجعله لا يجد عضاضة في القبول بتنحية السلطان محمد بن يوسف في20 غشت1953، وتنصيب شخصية باهتة على العرش، أي ابن عمه محمد بن عرفة، سلطان الفرنسيين كما يناديه أفراد الشعب المغربي في الشعارات التي يرفعونها، بينما كنت أتبنى وجهة نظر مخالفة.

[3] – لم يكن هذا التقليد معمولا به فيما يخص المحامين لمتدربين في تلك الفترة.

[4] – باءت محاولة إصدار أسبوعية ميديتيراني Méditerranée  بالفشل ولم تعمر سوى بضعة أسابيع، وقد كتبت في افتتاحية آخر أعدادها الصادر في شهر دجنبر1946، قائلا : ” توجد إفريقيا الفرنسية بالشمال اليوم في مفترق الطرق، فإما أننا سنواصل نفس سياسة الماضي، لتتفاقم المواجهات وأحداث العنف السائدة حاليا، إلى أن تترتب عنها عواقب لا يمكن التكهن بخطورتها، وإما أن نغير جذريا سياستنا هاته”. فأي فرنسي مقيم بالمغرب كان يجرؤ حينها على الجهر بهذه الآراء عشر سنوات قبل استقلال هذا البلد؟

[5] – عن منشورات ‘سيرف’ Cerf

[6] – في الفترة التي وقعت فيها القطيعة بين علال الفاسي وحسن الوزاني. وفي إطار مواجهة هذا الحزب الصغير، حزب الشورى والاستقلال، اتخذ اسم ” اصدقاء رشيد ملين” الذي سيصبح فيما بعد حزب المستقلين الأحرار.

[7] – مستشار بنك المغرب، وهو مثلي عضو الحزب السياسي الفرنسي ” الجمهورية الشابة”.

[8] – قرار اتخذه الحسن الثاني لا أوفقير كما قيل لي.

[9] – عاصر لويس الرابع عشر. وهو مؤسس مدينة مكناس، أشتهر بالمعالم التي خلفها وبعشرات الكيلومترات من الأسوار التي شيدها.

[10] – الحسن الثاني ذاكرة ملك، مرجع مذكور، صفحتنا97 و98.

[11] – ألم يعترف هو نفسه بذلك في قوله : ” أنا الذي ولد فوق أدراج العرش…”؟ ولنتذكر في السياق نفسه أنه تدخل وعمره18 سنة خلال رحلة طنجة الشهيرة، وفي سن 26 تقلد منصب رئيس القيادة العليا للجيش، وفي سن 28 أصبح وليا للعهد، وفي سن 31 نائبا لرئيس الحكومة، وفي سن 32 اعتلى لبعرش ملكا

[12] ـ اشتهر بهذه العادة التي لازمته طوال حياته.

[13] – بلغ إلى علمه النداء الشهير الذي أذاعه القس بيير على أمواج إذاعة لوكسمبورغ للالتفات إلى معاناة المشردين في فصل الشتاء.

[14] – يلاحظ محجوب الطوبجي في هذا الصدد أن : ” التخلص من الدليمي بمراكش بضع ساعات قبل الوصول المظفر للرئيس ميتران إلى هذه المدينة ينم عن قدرة كبرى على التخطيط الشيطاني المحكم. أليست أفضل طريقة للتغطية على حدث ما أن  تخلق حدثا آخر أكثر إثارة للانتباه؟” ( ضباط جلالة الملك، منشورات فايار،2006، ص. 199.

[15] – جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ 1965. فالنقيب السابق لهيئة محامي الدار البيضاء كان حينها عضوا في المكتب التنفيذي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أكبر أحزاب المعارضة. وكان بجانبنا خلال المحاكمة المتعلقة ب ” مؤامرة يوليوز في ربيع1964، وفي محاكمات أخرىز

[16] – يبدو لي مفيدا في هذا السياق اقتباس الصورة الشخصية التي رسمها للحسن الثاني الدكتور فرانسوا كليريFrancois Cléret الذي كان يعرفه حق المعرفة منذ نفي العائلة الملكية بمدغشقر: ” كان جلالة الملك شخصية بالغة التعقيد. فهو من جانب لبق، ودود، لا تفارق البسمة محياه، سريع البديهة، شديد الجاذبية، والقدرة على الإقناع…ومن جانب آخر، متمكن من فن السياسة، يتميز ببرودة دم مذهلة، لاينفك يراقب محيطه بقدرة كبرى على النفاذ إلى أسراره، فلا شيء كان يخفى عليه…كان ماهرا في تحريك خيوط السلطة، يسعى دائما إلى تجاوز خصمه، ويرفض الهزيمة…( حصان الملك، طبعة جديدة،2000،ص.290).

[17] – اعتقل بأمر من المقيم العام في فبراير1951، ونفي أولا إلى الأطلس المتوسط بمنطقة إملشيل، حيث عقد صلات وثيقة بالسكان البربر الذين لم يكن هو الرباطي يعرف عنهم شيئا. ونقل بعدها إلى الجنوب المغربي. قضى إذن في السجن اثنين وأربعين شهرا، بعد أن سبق له أن قضي به ثلاث عشرة شهرا منذ سن الرابعة والعشرين، غذاة توقيع وثيقة الاستقلال في يناير1944

[18] – كان المقيم جوان مذهولا أمام حيوية ذلك المقاوم الشاب في صفوف الحركة الوطنية، إلى حد أنه اعتبره’ رئيس الأركسترا السري’ في برلمان مزعوم – الإعدادية الثانية الفرنسية المغربيةDeuxième Collège Franco-marocaine- حيث لم يكن يحضر أبدا.

[19] – أكد في اجتماع عمومي في يناير1960 بالدار البيضاء: ” نحن أعداء الاستعمار سنحاربه بكل الوسائل حتى وإن كان يعتقد أن بإمكانه أن يعول على أذناب يحرفون الوقائع من خلال البحث عن إضفاء صبغة الانشقاقات الحزبية على الكفاح الوطني”، جريدة الرأي العام، 10 يناير1960.

[20] – أقام علاقات صداقة مع العديد من الجزائريين والتونسيين من المناضلين من أجل الاستقلال، الذين سينخرطون فيما بعد في صفوف الحركة الوطنية، كل في بلده. وتجدر الإشارة هنا أنه عُين على رأس ” جمعية طلبة إفريقيا الشمالية” وبرفقة هؤلاء جميعا اختمرت في ذهنه فكرة ضرورة خلق ” التضامن المغاربي” التي لازمته طوال حياته.

[21] – لهذا السبب حكم عليه بالإعدام غيابيا في أبريل 1963، خلال ‘ حرب الرمال’.

[22] – وفي المقابل، لم يتفطن المسؤولون الفرنسيون لأهميته ” لم يكن هذا المؤتمر أهم حدث بعد النهضة”، كما رأى ذلك ليوبولد سنغور…ولكن هذا اللقاء الأول بين ممثلي الدول البروليتارية يمثل رسالة إلى عالم الأغنياء والأقوياء، مضمونها أن عهد احتكار المبادرة التاريخية قد ولى إلى غير رجعة، وأن العالم برمته عازم على أن يأخذ الكلمة” .ج. لاكوتور، لوموند، 19 أبريل،1975.

[23] – حيث التقى في أبريل1955 بأندونيسيا لأول مرة مندوبو 29 بلدا إفريقيا وأسيويا.

[24] – في عرض قدمه بدير تومليلين بأزرو حول التربية والتعليم.

[25] – حري بالذكر أن سلطات الحماية لم تنشيء سوى ثانويتين هما ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وثانوية مولاي إدريس بفاس، ثم بعد ذلك ثانوية في مراكش. وليس من قبيل الصدفة أن ظلت هذه المؤسسات تفتقر إلى قسم الباكالوريا… وقد تخطى المهدي بن بركة هذه العقبة إذ التحق بثانوية غورو.

[26] – انظر : حوار الأديان، تومليلين1957، Toumliline.

[27] – هنا نفهم كيف أنه كان أحد المصرًين خلال مؤتمر إيكس ليبان Aix- Les Bains في غشت1955 على المطالبة أولا بعودة محمد الخامس من المنفى إلى عرشه، احتراما لإرادة الشعب الذي أصبح ملكيا حتى النخاع. ولكنه سيغير موقفه في مقال يحمل عنوان ‘ نقد ذاتي’، حيث يخلص إلى ” أننا انصعنا للعبة المستعمر، إذ أحللنا محل الهدف الأساسي للنضال الذي بدأت معالمه تتضح يوما عن يوم في  أذهان المناضلين، هدفا آخر سهلا في المدى القريب، ولكنه خادع في المدى البعيد…وهذه الإجراءات المتخذة عن حسن نية ولكن دون استناد إلى استراتيجية شمولية ستؤدي إلى نتائج سلبية وإلى إفساد الحركة الوطنية. ليس عيبا التوصل إلى توافق، فكل شيء رهين بميزان القوى والهدف القريب أو البعيد المنشود، ولكن الأهم إنجاز ذلك في واضحة النهار، وتفسير الوضعية برمتها للمناضلين.والأهم ألا نعيد نفس خطأ إيكس- ليبان وألا نبرر كلية التوافق، ونحتفل به كما لو أنه النصر المبين، على قواعد وأهداف انتهازية”.1966،Mehdi Ben Barka ;Option rèvolutionnaire au Maroc,Ed . Maspero ;Paris

[28] – ظل سكرتيره عشر سنوات تقريبا من شتنبر1954 إلى يونيو1963. وقد ألف مع زوجته ماريا بالكتاب الممتع المعنون  Les Trente glorieuses ou l’age d’or du nationalisme marocain ;1925 1955-Ed. LPL .2006 وهو كتاب يمتاز بغنى مراجعه وتنوعها.

[29] – ” سيظل دائما وفي كل مكان، سواء أصاب الاختيار أم لا، ” القلب النابض” للحركة الوطنية والمغرب الجديد”. ج. لاكوتور، نوفيل أبسرفاتور،10 نونبر1965.

[30] -سأعرف فيما بعد عن طريق كتاب أخيه عبد القادر أنه أطلق على هذا الحزب اسم ‘ نادي الأحد عشر’ في إشارة إلى عدد أعضائه (المهدي بن بركة، أخي ، منشورات روبير لافون، ص.91.

[31] – هذا ما جر عليه غضب الملك في إحدى الفترات، ليضطر إلى معاودة العمل في مكتبه للمحاماة، قبل أن يعود من جديد إلى حضن السلطة وغواياتها اللامتناهية…أظن أن مولاي الحسن حتى بعد أن أصبح ملكا لم يكن يتبع إلا ما يمليه عليه مزاجه، وكان لا يثق في أحد حتى في أولئك الذين يمنحهم ثقته. لم يكن إذن يطمئن إلا لنفسه.

[32] – اختلف موقفه من القضية الفلسطينية مثلا عن موقف الشيوعيين. فهو في طبعه عروبي المنزع، ولا يفتأ يردد أن إنشاء دولة إسرائيل من قبل الأمم المتحدة خطأ تاريخي.وهذا ليس بحال موقف الاتحاد السوفياتي الذي كان من بين أولى الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل، وهو موقف نجده لدى الشيوعيين المغاربة.

[33] – يعود هذا الكاتب مراسلة للكابتن ونكل، أحد ضباط الشؤون الأهلية و ‘ حارس’ بن بركة في فترة الإقامة الجبرية المفروضة عليه. وفيها يعرض هذا الضابط الأحاديث التي دارت بينهما طوال أشهر من التعايش معا. وكان الضابط مقتنعا أن تلك الحوارات لن تجعل أسيره يحيد عن موقفه قيد أنملة. وهو يظن أن المهدي قد يكون أميل، في ظروف الثورة التي تعصف بالمغرب، إلى إقامة جمهورية أكثر نقاء من الملكية العلوية”.(كلود بيا، عشرون سنة مزقت المغرب، الجزء الثاني، روبير لافون،1972.

[34] – سيقول الحسن الثاني نفسه في هذا الصدد : ” لم يكن ينكر أن الملكية ضرورية للمحافظة على نوع من الوحدة. وفي الواقع، كان يتمنى أن يمتلك جزءا من سلطتها وصلاحياتها، مع الإبقاء عليها”. (الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع مذكور، ص.97).

شارك المقالة

اقرأ أيضا