بورتريه: تلا رواق في الذكرى التأسيسية الثالثة لـ”معتصم الكرامة”

في أرض منبسطة تحيط بها تلال ضعيفة الارتفاع تحفها أشجار، ومساحات منزرعة بعشبة الكيف، نصبت خيام متفرقة ومنصة يحيط بها حشد من الأطفال في مشهد احتفالي رائع.

تلارواق دُوَّار يقع بجماعة إساكن، إقليم الحسيمة، جهة طنجة تطوان. ينتمي الدوّار لمشيخة تلارواق التي تضم 10 دواوير، ويقدر عدد سكانه بـ 6000 نسمة.

تلا رواق جزء من المغرب الدي ورث تهميشه عن فترة الاستعمار، واستمر بعدها بسياسات دولة سخرت ثروات البلد لتنمية برجوازية محلية واغتناءها على حساب قوت جماهير الشعب.

صراع تاريخي حول الأرض

نهب الاستعمار أراضي القبائل، واستملكها لكبار المعمرين وللقواد المتواطئين معه. وبعد خروج الاستعمار ارتمت عليها الدولة، وجعلتها فريسة نهب كبار المعمرين وأرضية لخلق برجوازية زراعية لتقوية القاعدة الاجتماعية للملكية.

500 هكتار من الأراضي، ظلت محط صراع بين صغار فلاحي تلا رواق وبين كبار ملاك مدعومين بسلطة الدولة.

تعود قصة الأرض إلى بدايات القرن العشرين، حين قضت المحكمة سنة 1934 لصالح القرية بملكية الأرض، بعد منازعات قبلية تعود إلى سنة 1907.

ستعود قضية الأرض للظهور سنة 1975 وضمن مشروع ديرو، الذي يدخل في إطار شراكة وتعاون، كان الرهان منها الاستفادة من خبرات فلاحية من قبل ألمانيا، تقدمت وزارة الفلاحة بطلب لساكنة تلارواق للتنازل على هكتارين من الأرض لتأسيس تعاونية “الفتح الفلاحية”، وكان هدا غطاء قانونيا للترامي على مساحة 47 هكتار، تم غرسها بشجر التفاح.

جرى قضم بقية الهكتارات في السنوات اللاحقة، ما دفع الساكنة للاحتجاج سنة 1984، ونالهم من جائحة القمع ما نال منتفضي الريف الدين وصفوا  بـ”الأوباش” من طرف الحسن الثاني آنداك.

في سنة 2008 تناهى إلى خبر سكان القرية ادعاء تعاونية فلاحية ملكيتها للأرض، عازمة إنشاء مدينة جديدة فوقها. وصل النزاع إلى القضاء، حيث أدلى كل طرف بالوثائق التي تثبت ملكيته قبل أن يقضي القضاء بالحكم لصالح أعضاء التعاونية، وهو ما مكنهم من تفويت جزء من هذا العقار عن طريق مسطرة نزع الملكية لتشييد مشروع المدينة المذكورة.

“اعتصام الكرامة” ماي 2016

بعد يأس سكان القرية من استرجاع الأرض بسلوك طريق المساطر القضائية، سيدخلون مند يوم 8 ماي في اعتصام مفتوح على هذه الأرض. وبعد أشهر قليلة، سينطلق حراك الريف بعد اغتيال الشهيد محسن فكري في أكتوبر 2016، وستدرج قضية أرض تلارواق في الملف المطلبي لهدا الحراك.

القرية التي حاصرت حوامة وزير الداخلية

فرض حراك الريف على الدولة إرسال “وفد وزاري” بدعوى “التواصل مع الساكنة”. ولأن المنطقة عانت من تهميش الدولة لعقود لم يجد وزير الداخلية طريقا صالحة لمرور سيارته، وفضل التحليق عبر حوامة (هيليكوبتر).

حط الوزير بمقر جماعة إساكن يوم 23 ماي 2017 للقاء “منتخبي” المنطقة وجمعياتها، ووزع من الوعود الكثير( وعد ببنيات سوسيوثقافية وسياحية…)، دون تكليف نفسه الاستماع لمطالب سكان تجاوز اعتصامهم سنة.

اكتفى الوزير بإرسال مبعوث للمعتصمين من أجل التحاق بعضهم بالفندق الوحيد بالمنطقة، لكن المعتصمين الذين وصل غضبهم مداه، التحقوا بمكان تواجده وحاصروه، ومنعوا حوامته من التحليق.

اعتقال ابن القرية “صلاح لشخم”

صلاح ابن القرية الشاب، ولد سنة 1991، بمدشر “آيت الراضي”، ابن أسرة فقيرة من أربعة إخوة.

خريج النضالات الطلابية، بلحية متناثرة شبيهة بتلك التي كانت على وجه تشي جيفارا. كان هدا الشاب في مقدمة نضالات القرية، ومنخرطا في حراك الريف مند انطلاقه.

بعد مسيرة نحو مدينة الحسيمة 24 ماي 2017 جرى إيقافها  قرب وادي “أورينكا” من طرف قوى القمع، نظم اعتصام على الطريق. سيفتح حوار بطلب من وزير الثقافة آنداك محمد الأعرج، وهو ما استجاب له ممثلوا لجنة السكان.

أسفر اللقاء عن وعد بالاستجابة لمطالب السكان، على أساس أن الاجتماع التفصيلي الذي سيشمل الوزارات المختصة سيعقد بعد دلك بأيام.

اعتقل لشخم معية ثلاث من رفاقه، وهم متوجهون إلى الحسيمة، لاستكمال جمع كل ما تعلق من وثائق الأرض، استعدادا للحوار المرتقب. تبين أن الأمر كله محض استدراج لصالح لشخم ورفاقه لمدينة الحسيمة لاعتقالهم، ثأرا لوزير الداخلية عبد الواحد الفتيت الذي خدشت هيبته.

تخليد الدكرى الثالثة لمعتصم “الكرامة”

من داخل السجن دعا المعتقل صلاح لشخم لتخليد الدكرى الثالثة للمعتصم، تحت شعار “الأرض- المعتقل- الخبز- السلام”، يوم 29 يونيو 2019.

نظم اليوم الاحتفالي والاحتجاجي بشكل جيد: خيام منصوبة، ومنصة الاحتفال تواجهها كراسي مستعدة لاستقبال سكان القرية والقادمين من عدة مناطق.

في مدخل ساحة الاحتفال، صففت كتب خزانة ابن القرية المعقل صلاح لشخم: كتب أدبية (روايات وأشعار)، وكتابات ماركسية وحول العلمانية والتاريخ… إلخ.

–         قرية تعج بالحياة

عشرات الأطفال يجرون هناك وهناك، يلتفون حول الحبال التي تحد منطقة الاحتفال ومتحلقين حول المنصة، مؤدين رقصات لبنانية على أنعام “عهد الله ما نرحل، عهد الله نجوع ونموت وما نرحل”. إنها قرية لها مستقبل.

ووسط كل هده الغبطة الطفولية، لم تنعدم أوجه مأساة تعانيها طفولة المغرب المنسي: وقف طفله اسمه حاتم في حدود الثماني سنوات يبحلق أعينه في ورقة تحمل مقتطفات من أقوال صلاح لشخم. سألته عن المكتوب لكنه أجاب بأنه لا يستطيع القراءة. لما سألته عن السبب أجاب برفض والده، وفسر شاب من القرية دلك ببعد المدرسة عن القرية.

–         أسر معتقلي الريف في واجهة الحضور

لم تحضر كل أسر معتقلي الريف، فقد فضل بعضها حضور انشطة حزبية في مدينة الرباط. لكن حضور أمهات محمد جلول وسليمان حكيمي والأبلق كان رائعا بكلماتهن العفوية النابعة من أعماق المأساة ولكن بقلوب مليئة بالإيمان بمستقبل أفضل.

بعد كلمات أمهات المعتقلينن تناول الكلمة شباب قدموا من كليات وجدة وتطوان وسلوان وفاس، للتعبير عن تضامنهم مع نضال القرية مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين وعلى رأسهم صلاح لشخم.

ولأن هؤلاء الشبان الطلاب كانوا يقدمون كلماتهم بلغة عربية فصيحة وبحركات ملائمة للساحة الطلابية، كان فلاح يصفق بحبور وبعينين ضاحكتين عند انتهاء كل كلمة صائحا: “فعلا إنها مسرحية رائعة”.

–         لقاء بعامل على الهامش: أفكار خاطئة حول العمل النقابي

على هامش اللقاء، كان هناك عامل قدم من سطات، يشتغل في مصنع لصنع سراويل النسيج، وأصله من الجنوب الشرقي (سكورة)، ملتحفا براية أمازيغية: إنها ملامح المغرب الشعبي مختزلة في شخص واحد.

يشتغل إلى جانبه ما يقارب 500 عامل دون انتماء نقابي. وعن سبب دلك، أجاب العامل بأن النقابة لا فائدة منها للعامل. ومع تقدم النقاش، أدلى بأفكار متناقضة حول العمل النقابي: “النقابة في صالح أرباب العمل، لأن النقابة تحث على الإنتاج وعدم التوقف عن العمل، هدا ما أخبرنا به ممثلو الشركة في دورة تكوينية حول العمل النقابي”. مقدما أمثلة عن نمادج “نقابيين” يستغلون مشاكل العمال للحصول على مغانم مادية، بالاتجار في ملفاتهم.

لقد استطاعت آلة الدولة الإعلامية الجبارة زرع أفكار مناهضة للتنظيم العمالي في عقول العمال، ولكنها لم تستطع منع هدا العامل من القدوم للتضامن مع نضال فقراء الفلاحين.

–         احتجاج واحتفال

يتهيء للقادم إلى تلا وراق أن الأمر احتفال بعيد من الأعياد، وليس احتجاجا على نزع أرض ونضالا من أجل إطلاق سراح المعتقل. ولكن ليس هدا إلا تناقضا ظاهريا، فالكادحون يحتفلون بالاحتجاج، والنضال عيدهم.

قدمت فقرات فنية، كانت أحلاها قطعة مسرحية ميمية أداها أطفال القرية حول معاناة الشعب الفلسطيني، وكانت منصة المسرح مقابلة لعلم فلسطيني كبير. إنه شيء رائع أن ينبثق التضامن مع مأساة الإنسان الفلسطيني من عمق جبال الريف، ولن يضاهيه إلا رفع الراية الأمازيغية في قرى فلسطين وجبالها رمزا للتضامن بين الشعوب المقهورة.

قضية تلا وراق: سؤال السلطة والثروة

تختصر قضيتا الأرض والمعتقل بقرية تلاوراق كامل سؤال السلطة والثروة بالمغرب. من يمتلك السلطة السياسية يمتلك الثروة الاقتصادية وينزع من الكادحين وسائل إنتاج قوتهم لتحويلهم إلى يد مأجورة لدى أرباب العمال (الزراعيين والصناعيين).

تعتبر الأرض مسألة جوهرية بالنسبة للرأسمال الأجنبي والمحلي، وتؤكد تقرير البنك الدولي أن الاستثمار يواجه عائق تعقد المساطر العقارية التي تمنعه من الولوج إلى الأرض.

يشهد المغرب كله حركة انتزاع الأراضي من أصحابها (فقراء الفلاحين) لتحويلها إلى سلعة وتسهيل استغلال ثرواتها الباطنية؛ الماء بالنسبة للزراعة الرأسمالية، المعادن والطاقة والغابات.

إنها مفارقة أن تطالب دولة باعت “الوطن” سنة 1912، دولة أرساها الاستعمار ومنحها السلطة سنة 1956، فلاحين ورثوا هده الأرض مند قرون، بأوراق تثبت ملكيتهم لها.

إن نضال فقراء فلاحي تلا وراق هو نفسه نضال سكان إيميضر ضد شركة مناجم، ونضال النساء السلاليات بجبال الأطلس المتوسط والكبير، ومقاومة سكان سوس انتزاع أراضيهم واستملاكها لكبار المستثمرين.

كل هؤلاء يواجهون الرأسمال المحلي والأجنبي وسلطة الدولة التي تمثله. وجوابا على الشعار الداعي للفصل بين السلطة والثروة الدي ترفعه أحزاب ليبرالية تدعي اليسارية (وهي أحزاب برجوازية في التحليل الأخير)، يطرح نضال الكادحين جواب: “كل السلطة وكل الثروة للشعب”.

وحدة النضال العمالي والشعبي: مفتاح النصر

لمادا استطاعت الدولة دائما التغلب على احتجاجات كادحي العالم القروي؟ بكل بساطة،  بسبب عزلة القرية عن الحياة الاقتصادية الكبرى للبلد، ولأن سكان القرى لا يتعدون الثلاثين بالمائة، في حين أن السبعين بالمائءة في المدن لا زالوا لم يلتحقوا بالمجابهة الطبقية بالشكل المطلوب.

التحاق العمال بالنضال، هو الدي سيحسم الصراع بين الرأسماليين ودولتهم، وبين الكادحين بمختلف شرائحهم الاجتماعية.

على طلائع النضال القروي أن تضع نصب أعينها هده المهمة المركزية: تحقيق أوثق تحالف بين نضال فقراء الفلاحين وبين جماهير العمال وفقراء المدن. دون دلك ستتبدد موجات النضال القروي في احتجاجات كبيرة يجري احتواءها بالقمع والمناورة.

المراسل

شارك المقالة

اقرأ أيضا