ما غاية الدولة الحقيقية من استدعاء التنسيقية لجولات “الحوار”؟

هناك اعتقاد سائد بأن “الحوار” يُعقد للتفاوض حول مقترحات الدولة لحل ملف التعاقد من جهة واقتراح مطالب التنسيقية على الدولة من جهة أخرى.

إن النظر إلى مخططات الدولة وتقاريرها الصادرة حول ما تسميه “إصلاحا” للوظيفة العمومية، يُظْهِرُ- بالعكس- أن للدولة غايات أخرى من عقد “الحوار”، ما يستبعد بالتالي انتظار “حوار جدي ومسؤول” من طرفها.

غاية الدولة الحقيقة من تنظيم جولات “الحوار” هو إضفاء نوع من الإجماع حول تنزيل إجراءات مخططات قُرِّرَتْ سلفا: ما تطلق عليه “مقاربة تشاركية” وتمريرا لتلك الإجراءات من نافذة “الحوار مع الشركاء الاجتماعيين”.

و”الشركاء الاجتماعيين” هنا هم “القيادات النقابية” بالدرجة الأولى، لكن الدولة اصطدمت بواقع أن هذه القيادات لم تعد تمثل الأجيال الجديدة من الشغيلة (وهو ما اعترف به التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي)، لذلك تكيفت مع الوضع وتنازلت عن عناد عدم الحوار مع التنسيقية بمبرر “أنها ليست نقابة ذات تمثيلية” (تصريحات وزير التربية الوطنية في الموسم السابق).

تحتاج المصادقة على النظام الأساسي الجديد (“مشروع النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين”) إلى “موافقة” المعنيين المباشرين، أي جموع الشغيلة. لذلك فعقد هذه الحوارات غايته هو إعطاء انطباع وخلق رأي عام بأن الدولة لا تفرض مخططاتها دون الرجوع إلى “المقاربة التشاركية”.

وما أن تنتهي جولات “الحوار” حتى تسارع الأبواق الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية إلى إعلان توصل الوزارة إلى حل نهائي “يطفئ غضب المتعاقدين” أو “يرضي مطالب المتعاقدين”.

طيلة الموسم السابق أصرت الدولة، في وجه مطالب التنسيقية بإدماج المفروض عليهن- هم التعاقد ضمن نظام أساسي موحد إلى جانب موظفي الوزارة، على أن “الأنظمة الأساسية الجهوية” “خيار استراتيجي” وكل ما ستقدمه هو “مطابقة ومماثلة” الحقوق والواجبات الواردة في هذه الأنظمة الجهوية مع تلك الموجودة في النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية.

الآن تخرج الوزارة ما بجعبتها: حقيقة ما تعده لجسم شغيلة التعليم العمومي، أي مطابقة أوضاع المرسمين- ات مع أوضاع المفروض عليهن- هم التعاقد. لذلك اقترحت في جولة” حوار” 12 فبراير “نظاما أساسيا جديدا”. وتسعى عبر “الحوار” إلى إضفاء طابع الإجماع عليه، بدعوى “التشاور والمقاربة التشاركية”.

ولكن لا نبقى في مجال التكهنات، سنقدم ما يؤكد تكتيك الدولة المشار إليه أعلاه، استشهادات من تقارير صدرت عن الدولة أو نصائح مقدمة لها من طرف “خبراء تدبير الموارد البشرية الدوليين”:

“المراجعة التي تستند على المقاربة التشاركية… ومنها إحداث لجنة موضوعاتية لإصلاح النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، في إطار الحوار الاجتماعي“. [عبد الله الطيبي، مدير الوظيفة العمومية بوزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، المناظرة الوطنية حول “المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية”، التقرير العام، الصخيرات، 21 يونيو 2013، وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة].

“ترتكز المنهجية المعتمدة في إعداد مشروع النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين على المقاربة التشاركية، باعتماد المشاروات مع الشركاء الاجتماعيين في مختلف مراحل الإنجاز” [وزارة التربية الوطنية والتكوين المهنية، مديرية الموارد البشرية وتكوين الأطر، 16 ديسمبر 2015].

وفي مناظرة الصخيرات الوطنية (يونيو 2013) حول “المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية”، نوه Simon Gray المدير المكلف بالمغرب العربي داخل البنك الدولي بـ”المبادرة التشاركية التي تنهجها الحكومة بخصوص مراجعة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية”. وفي ذات المناظرة أكد “الخبير بلجيكي في مجال تدبير الموارد البشرية” Aranaud Vagda على “ضرورة انتهاج المقاربة التشاركية في مختلف مراحل ومحطات الإصلاح، واعتماد برنامج تواصلي دقيق لمواكبة هذه المراجعة”.

وهو نفس ما أكد عليه نيكولا بلانشيه، مستشار ورئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى المغرب في ختام زيارته إلى المملكة، إذ قال: “نظام التعاقد في قطاع التعليم يُمثل فرصة إذا كان متفاوضا عليه وتم في ظروف توفر الحماية، ويمكن أن يكون مفيداً من أجل تسهيل مواجهة التحديات المطروحة”. [هسبريس- 03 أبريل 2019].

غاية الدولة إذن ليس “التوصل إلى حلول متوافق عليها ترضي مطالب المفروض عليهن- هم التعاقد” بل إضفاء مشروعية الإجماع على هجومها على الوظيفة العمومية عبر آليتي “الحوار” و”المقاربة التشاركية”.

فماذا تعد إذن الدولة للوظيفة العمومية- وضمنه للمفروض عليهن- هم التعاقد- وهي تستدعي تنسيقيتنا للحوار؟ هذا ما لا تخفيه الدولة وتصرح به دون مواربة في تقاريرها.

وللاختصار سنكتفي بثلاثة استشهادات:

“الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة 2018- 2021، نجاعة إدارية في خدمة في خدمة المواطن والتنمية” الصادرة عن وزارة إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، إذ تتعهد الدولة حرفيا بـ”إصلاح منظومة الولوج إلى الوظائف العمومية من خلال إعادة النظر في طرق التوظيف والبحث عن أحسن السبل لاستقطاب الكفاءات بالوظيفة العمومية تكريسا للبعد المهني”.

وفي “تقرير حول الموارد البشرية” ملحق بـ”مشروع قانون المالية لسنة 2019″ صادر عن وزارة الاقتصاد والمالية، تعهدت الوزارة بـ” تفعيل وأجرأة النصوص التنظيمية المرتبطة بالتشغيل بموجب عقود وبحركية الموظفين داخل الوظيفة العمومية”.

ومرة أخرى طبعا، ليس هذا إلا تنفيذا لالتزامات الدولة مع البنك العالمي، الذي أوصى في تقرير له بعنوان “المغرب في أفق 2040، الاستثمار في الرأسمال اللا مادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي- 2017″ بـ” تعزيز الأنشطة التي تم إطلاقها بغية تشجيع الحركية داخل الإدارة وتوسيع نطاق اللجوء إلى التعاقد“.

ما الفائدة إذن من حضور تنسيقيتنا لجولات “الحوار” هذه؟ وما الفائدة من إصرار القيادات النقابية على المطالبة بـ”حوار جدي ومسؤول”؟ في وقت لا تخفي فيه الدولة غاياتها الحقيقية من تنظيم هذا الحوار.

الحوار الحقيقي الواجب تنظيمه في هذه الظرفية، هو حوار بين حلفاء النضال وكل أقسام الشغيلة المستهدفة بالهجوم الموحد الذي تنفذه الدولة وترعاه مؤسسات عالمية مثل البنك العالمي.

هناك شعار يعبر عن المطلوب منا كتنسيقيات ونقابات الشغيلة وهو “الحقوق تنتزع ولا تعطى”، ويمكن أن نكمله بـ”لا تستجدى”. فقط نضالنا الموحد كشغيلة، تنسيق نضالات تنظيماتنا (تنسيقيات ونقابات) هو ما سيجبر الدولة على الاستجابة لمطالبنا.

بقلم، شادية الشريف

شارك المقالة

اقرأ أيضا