حركة العدل والإحسان تلتقي مع أرباب العمل ودولتهم في غاية تدجين منظمات الشغيلة

سياسة19 مارس، 2024

بقلم مصطفى البحري

النقابات صنف من منظمات الطبقة العاملة يقاوم يوميا النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم. يقاومه لأنه يرتكز على استغلال هذه الطبقة، التي بجهودها تدور آلة الإنتاج والنقل والإدارة والخدمات، وذلك من أجل تحسين أوضاعها المادية والمهنية ومجمل مناحي حياتها، وكذا من أجل مجتمع بديل خلو من الاستغلال. لهذا يمثل الموقف من هذه المنظمات النقابية، وكيفية اعتبار دورها، أحد زوايا النظر الرئيسة التي تتيح إدراك حقيقة أي مشروع سياسي.

فما موقف حركة العدل والإحسان من منظمات الطبقة العاملة النقابية؟  هذا ما أجملته في فقرة ضمن وثيقتها السياسية ليوم 6 فبراير 2024. يمكن تلخيص ذلك الموقف بكونه برجوازيا لا يختلف جوهريا عن موقف أحزاب البرجوازية بمختلف تنويعاتها، من حزب الاستقلال إلى الاتحاد الاشتراكي، مرورا بحزب الأصالة والمعاصرة. نفس منظور نقابة التعاون الطبقي، لا الكفاح الطبقي، بتلفيف ديني ليس إلا.

يوجد أنصار حركة العدل والإحسان بمختلف المنظمات النقابية المغربية، لكن ليس برؤية للعمل النقابي مغايرة للخط السائد، بل بسلوك مساير بوجه الإجمال. بمعنى أن أنصار هذه الجماعة لا يمارسون معارضة بوجهة نظر نضالية بديلة لما دأبت عليه القيادات النقابية من تعاون مع أرباب العمل ودولتهم لتأمين استقرار نظام الاستغلال. وليس في الأمر ما يثير استغرابا لأن حركة العدل والإحسان لا تنطلق من محورية نضال الطبقة العاملة ضد نظام الاستغلال القائم، حيث يتمثل جوهر موقفها في الاعتراض على النظام السياسي من وجهة نظر دينية. وهذا الضرب من الاعتراض إنما يفضي إلى الحفاظ على قهر الطبقة العاملة بلبوس سياسي لن يكون سوى استبدادا، في آخر المطاف ضربا من السلطة المدافعة عن البرجوازية وأرباحها، ولنا في سلطة رجال الدين في إيران، التي تسجن النقابيين وتقتلهم، مثال ساطع عن ذلك.

 تتدخل حركة العدل والإحسان بقطاعها النقابي بخطاب يتشكى من هضم حقوق الأجراء، موجهٍ إلى الدولة، ضمن اعتراض على نوع السلطة القائمة، وليس على نظام الاستغلال بحد ذاته، ضد الدولة التي لا تسهر على تطبيق تشريعات الشغل، وليس ضد الطبقة البرجوازية كقوة اجتماعية تستغل طبقة الشغيلة.وتطرح مطالب لتحسين أوضاع الشغيلة، ليس من منطلق أن ذلك التحسين يقوي مقدرة نضال طبقة الأجراء، بل من باب تضميد جراح فرط الاستغلال لضمان دوام نظامه.

تعرض الوثيقة السياسية فهم الحركة للنضال النقابي على النحو التالي: “يعتبر العمل النقابي واجهة أساسية للدفاع عن حقوق الشغيلة ضد الجور والظلم والاستغلال والإقصاء الاجتماعي، والإسهام في تحقيق السلم الاجتماعي والتعبئة الاقتصادية، والحفاظ على التوازن بين قوة العمل والقوة الضاغطة للمشغل، وبين مؤسسات الدولة (برلمان وحكومة) المسؤولة عن إرساء وتطبيق القوانين التي تخدم الصالح العام”. وفي مقام آخر من الوثيقة توضيح إضافي لمفهوم الجماعة للنقابة العمالية، إذ تقول: “وندعو لتجاوز منطق الصراع المنتصر للمصلحة الخاصة إلى منطق التعاون لتحقيق المصلحة العامة لكل الأطراف، الأمر الذي يفرض ضرورة تنسيق الجهود بين النقابات والدولة والقطاع الخاص في إطار حوار اجتماعي حقيقي وعادل وممأسس ومنتج”.

إنه نَظَرٌ سبق أن لخصصه مؤسس الجماعة بقول: “ويجب أن تسلك (النقابة) أسلوبا غير أسلوب الإضراب والعنف الذي تسلكه نقابات الرأسمالية وأصحاب الشغل… نقابات تفاوض، وتضغط معنويا وقانونيا، لا نقابات رفض وتخريب. وعلى الدولة أن تقدر المصلحة وتحمي العسيف لتلتقي بواجبها في الجمع بين مصلحة الأمة كلا ومصلحة المستضعفين عضوا حيويا في الأمة”.

تعريف ستبتهج له كل جوقة الأحزاب البرجوازية، حتى التي في حكومة الواجهة، وسينال توقيع كل رب عمل يسمو على مصلحته المباشرة ليعي مصلحة طبقته برمتها.  جوهر هذا التعريف ليس مصلحة الشغيلة، المناقضة لمصلحة رأس المال، بل مصلحة استقرار نظام الاستغلال بتلطيفه قدر الإمكان، وتأمين “السلم الاجتماعي”، هذا الشرط الأساسي لتراكم رأس المال [التعبئة الاقتصادية في قاموس حركة العدل والإحسان]. وليس ما سمته الفقرة “الصالح العام” غير المصلحة العامة للرأسماليين، مغلفة بأضاليل قديمة قدم نظام الاستغلال الرأسمالي، ونحن هنا بصدد صيغة منها بلبوس ديني ليس إلا.

المشكلة في نظر الوثيقة السياسية هي أن الاستبداد السياسي يعرقل أداء هذه الوظيفة المسندة للعمل النقابي. ترى الوثيقة أوجه عرقلة الاستبداد لدور النقابات في القمع، وفيما تسميه “استقطاب النقابات” وإضعافها واستعمالها لتمرير سياساتها ضد العمال.

ما تتغاضى عنه الجماعة هو أن قمع الحركة النقابية إنما تمليه بوجه الضبط ضرورات فرض “سلم اجتماعي”. أتجهل الجماعة أن احتواء القيادات النقابية والاستعانة بها لتمرير سياسات الدولة البرجوازية هو بالضبط وسيلة “تحقيق السلم الاجتماعي والتعبئة

الاقتصادية”. تسعى الجماعة إلى الظهور كنصير للحركة النقابية، لكنها تتبنى نفس منظور الاستبداد لدور النقابات. وليس لجوء الاستبداد إلى القمع سوى عند تعذر انصياع الشغيلة “للسلم الاجتماعي”. فيوم تكون العدل والإحسان بالسلطة ستقمع الشغيلة لفرض “السلم الاجتماعي” وهذا عين ما تمارسه كل الأنظمة البرجوازية ذات الايديولوجيا الدينية عبر العالم.

 وإتماما لما تعرضه الوثيقة كنقد لواقع الحركة النقابية، خصت الحياة الداخلية بالفقرة التالية: “تشكو بعض النقابات من غياب الديمقراطية الداخلية، حيث تفرض القرارات بشكل فوقي، ويعمد إلى إسكات الأصوات المعارضة واستبعادها، وإلى التعامل بانتهازية مع المطالب العمالية. وقد أسهم هذا الواقع في تشتت النقابات، وتراجع ثقة الأجراء في إطاراتها، وضعف مصداقية العمل النقابي”.

ليس في رؤية الحركة للنقابة أي تماسك منطقي، فتغييب الديمقراطية في النقابات ليس لشر كامن في طبيعة القيادات، بل هو أحد مستتبعات السعي إلى فرض “السلم الاجتماعي” على الشغيلة. هذا السلم الذي ترى فيه الجماعات أحد غايات العمل النقابي.

 لا تتصرف البيروقراطيات النقابية بتعسف، وبمصادرة حتى حرية التعبير عن الرأي المعارض، سوى لأن “السلم الاجتماعي”المزعوم يتعارض مع الدفاع الفعلي عن مصلحة الشغيلة وبالتالي لا بد من فرضه بإعدام الديمقراطية بمختلف السبل. تريد حركة العدل والإحسان أن تدغدغ مشاعر استياء الشغيلة من إعدام الديمقراطية في منظماتهم، وتظهر بذلك بمظهر مدافع عن الديمقراطية، لكنها تتبنى ما لا تقوم له قائمة إلا بإعدام الديمقراطية، أي “السلم الاجتماعي”.

 وصفات الحركة لما تسميه “تجديد روح الحركة النقابية “لا تخرج طبعا عن تصور لدورها كوسيلة لضبط الطبقة عاملة ضمن علاقات الاستغلال، ضبطا يخفض أكلاف “نزاعات الشغل”، بما فيه تكوين الطبقة العاملة “سياسيا وقانونيا ومهنيا… دون نسيان المجال الأخلاقي القيمي”.

ولا تفيد في شيء كل تأكيدات الحركة على الديمقراطية في النقابات طالما ينعدم وعي بجذر تغييبها، أي خط “السلم الاجتماعي” الملازم للفئة البيروقراطية المتحكمة في النقابات.  وما يوحي في كلام حركة العدل والإحسان بتجاوز لضيق أفق العمل النقابي، بدعوتها إلى ما تسميه” الحفاظ على البعد التحرري للعمل النقابي”، ليس سوى ترديد لما درجت عليه تاريخيا المعارضة البرجوازية الممارسة هيمنة على الحركة النقابية. فما جرى اعتباره بعدا تحرريا في تاريخ النقابة بالمغرب إنما كان سطوة سياسية للقيادة البرجوازية للحركة الوطنية على منظمة الطبقة العاملة، سواء إبان الاستعمار أو ما سمي “محاولة الانخراط في بناء الدولة”.

فلا بعد تحرري للعمل النقابي إلا باستقلال تنظيمه عن البرجوازية، دولة وأحزابا، والسير خارج أي سطوة سياسية، نحو أهدافها الخاصة، بأدواتها الخاصة، منها حزبها المستقل.

خلاصة القول ليست رؤية حركة العدل والإحسان للعمل النقابي غير تنويع من التصورات البرجوازية التي تخشى كفاح الشغيلة بمنظور طبقي مستقل، فتسعى إلى إدراج النقابة العمالية أداة من أدوات “السلم الاجتماعي” و”الحوار الاجتماعي”. نقابة “السلم الاجتماعي” ما هي إلا تواطؤ القيادات النقابية مع المشغلين ضد مصالح الطبقة العاملة. اخر مثال “حوار “النظام الأساسي في التعليم الذي ولد أعظم حراك لشغيلة هذا القطاع.

وضعية المجتمع هي وضعية حرب اجتماعية لضرب مكاسب الشغيلة وزيادة الأرباح، وبالتالي فالدور الوحيد الذي تري البرجوازية ودولتها إسناده للبيروقراطيات النقابية هو أن تكون ناطقا باسمهما لدى الشغيلة والدفاع لديها عن التضحيات المراد تحميلها للشغيلة ومساعدتها عند الحاجة على بلوغ ذلك. ولم تأت الوثيقة السياسة للجماعة بما يخرج عن هذا الإجماع البرجوازي.

شارك المقالة

اقرأ أيضا