قبل خمس سنوات: اغتيال محسن فكري: دروسٌ من أجل مستقبل الكفاح العمالي والشعبي

سياسة, غير مصنف30 أكتوبر، 2021

بقلم: محمود جديد

في اليوم الثامن والعشرين من شهر أكتوبر من العام 2016، قُتل محسن فكري، الشاب ذو 31 ربيعا، مطحونا في شاحنة قمامة، دفاعا عن مصدر عيشه. القتل وبهذه الطريقة كان الشرارة، مثل البوعزيزي في تونس، لانطلاق موجة سخط واحتجاج عارمة، هزت المغرب، ثم تعمقت وتجذرت في الريف. فكان حراك الريف صفحة نوعية ضمن مسيرة كفاح عمالي وشعبي نامية منذ ثلاثة عقود بوجه هجوم برجوازي امبريالي متصاعد.
سياسة دولة المغرب المدمرة لطفيف المكاسب الاجتماعية، تسارعت عبر السنين، مُنذ الشروع في تطبيق مل يسمى “برامج تقويم هيكلي” بإيعاز من المؤسسات المالية الامبريالية في مطلع سنوات 80، هذه السياسة فاقمت المسألة الاجتماعية، باستشراء البطالة والعمل الهش وتدهور الخدمات العامة من تعليم وصحة، وتعاظم معضلة السكن، وانسداد الأفق بوجه الشباب،الخ. وهي سياسة تم فرضها بمؤسسات “ديمقراطية” زائفة، وتواطؤ قوى “نضال ديمقراطي” زائفة، وبالقمع الممنهج.
قاوم ضحايا هذه السياسة بما أوتوا من أدوات نقابية، ومنظمات كالجمعية الوطنية لحاملي الشهادات المعطلين، ولاحقا مختلف مجموعات خريجي الجامعة المحتجين أمام مبنى البرلمان، وبعض ما تبقى من تنظيم طلابي، وبأشكال كفاح محلية في العالم القروي المنكوب.
هذا الأخير شهد تصاعد موجة نضالات منذ منتصف سنوات 90، برز فيها اقليم خنيفرة وازيلال والجنوب الشرقي. ثم في منتصف العقد الاول من سنوات 2000، تفجرت بؤر نضال شعبي، في طاطا وإيفني في 2005. وشهدت سنتا 2006 و 2007 نضالات تنسيقيات مناهضة الغلاء، وبرز منها بوجه خاص تجربة كادحي مدينة بوعرفة الممتنعين عن أداء فاتورات الماء، وانتفاضة صفرو في سبتمبر 2007. ثم تجدد حراك إيفني- ايت باعمران بقوة أشد في 2008، ومخيم كديم ايزيك الشعبي في أكتوبر 2010، ومسيرة تنغير التاريخية في ديسمبر 2010. وكان انطلاق السيرورة الثورية بالمنطقة من تونس إيذانا بتحفز النضال العمالي والشعبي في المغرب. فكان التململ في الساحة النقابية بإضرابات عمالية، واستعداد لمباشرته بعدد من القطاعات، فسارعت الدولة إلى استباق الموقف. فقد كان اول ما قامت به الدولة، قبل كل شيء، هو استدعاء القيادات النقابية إلى منزل محمد المعتصم، مستشار الملك، وتلى ذلك تسوية العديد من المشاكل المهنية العالقة في القطاع العام كما الخاص. وكانت أكبر زيادة في تاريخ المغرب في أجور الموظفين. وبهذا النحو نجحت الدولة في تهدئة أخطر جبهة مواجهة: خطر الطبقة العاملة ذات القدرة على شل الإنتاج والنقل والإدارة، هذا الشل لو تضافر مع حراك 20 فبراير الشعبي لجعله حركة ثورية تدك نظام الاستغلال والاستبداد، ولأصبحنا اليوم نعيش في مغرب مغاير.
هي مسيرة من النضال العمالي و الشبابي والشعبي، أتينا على ذكر معالم بارزة منها، كانت مقدمة لحراك الريف في سياق اغتيال محسن فكري. ونحن اليوم نحيي بقلوب دامية ذكرى طحنه، نحيي عاليا مناضلي الريف في سجون نظام الاستبداد والاستغلال، وكافة كادحي الريف وشبابه الصامدين، ولا نرى من كيفية للوفاء لتضحياتهم ولتضحيات الشغيلة المناضلين/ات و كادحي القرى، سوى بتأكيد بعض دروس هذه المسيرة النضالية، لا سيما أننا ندخل فترة تصعيد العدوان الطبقي عبر تعميق وتشديد السياسة النيوليبرالية تحت مسمى “نموذج تنموي جديد”، بأدوات مجددة، من برلمان وحكومة واجهة، في ظل استغلال الازمة الصحية الناتجة عن كوفيد-19 لتشديد القبضة القمعية وخنق كل صبوات النضال العمالي و الشعبي.
طاقة النضال العمالي والشعبي متدفقة بشكل دوري، مستفيدة من دروس الثمانينات. لم يعد الرد الشعبي مجرد تفجير للغضب باستهداف رموز الاغتناء الفاحش ورموز السلطة القمعية، ما كانت الدولة ترد عليه بأشد قمع وبإطلاق الرصاص، مثلما جرى في يونيو 1981 و ديسمبر 1990. أصبح النضال الشعبي المستفيد من تجربة المعطلين أفضل تنظيما، عبر مسيرات سلمية ذات مطالب واضحة، حتى وإن غلب عليها طابع محلي. وطبعا تلازمت سلمية الاحتجاج الشعبي، مع دفاع ذاتي منظم بوجه القمع.
منظمات النضال العمالية، وهي نقابات مهنية لا تحمل أي مشروع مجتمعي بديل، بات دورها الكابح بارزا. فقد امتنعت طيلة عقود عن تعاون نضالي وثيق مع جمعية المعطلين ومختلف مجموعاتهم. فمع أن النضال من أجل الحق في العمل من صلب علة وجود النقابات، اكتفت الأجهزة الوطنية لهذه هذه الأخيرة بأشكال مساندة للمعطلين (لاسيما استعمال المقرات) كانت سعيا لرفع الحرج أكثر مما هي ممارسة لوحدة النضال الطبقي. وبرز هذا بسطوع،على امتداد تنامي نضال كادحي المناطق المهملة، وإبان حراك 20 فبراير ومجمل دينامية عامي 2011-/2012 النضالية.
هذا الدور الكابح ناتج عن الدمج المتزايد لقمم النقابات في الدولة عبر العديد من مؤسسات الدولة، وعبر إشراكها في تمرير الهجمات على الاجراء/ات: مشروع مدونة الشغل، التغطية الصحية المتضمنة فضيحة رامد (المساعدة الطبية للمعوزين)، الاضرار بالمتقاعدين، بما سمي “إصلاحا: عبر “اللجنة الوطنية” و “اللجنة التقنية”، الزحف التدريجي على مكاسب نظام الوظيفة العمومية، الموقف المريب من مشروع المنع العملي للإضراب و قانون النقابات….
ولا حاجة للتنبيه إلى أن وعي حقيقة القيادات النقابية إنما يزيد من أهمية العمل داخل النقابات ما دامت هي الملاذ الأول للأجراء المسحوقين بآلة الاستغلال الرأسمالي. هذا فضلا عن أهمية التنسيقيات القطاعية و الوطنية التي هي جزء لا يتجزأ من الحركة النقابية.
وإذ انتفت جسور نقابية نحو حركة النضال الشعبي، ومختلف الحراكات المحلية، وحراك 20 فبراير، وحراكي الريف وجرادة، فمرد ذلك إلى ضعف نوعي متمثل في غياب معارضة نقابية تدفع في اتجاه مضاد لسياسة القيادات القائمة على مسايرة الدولة في تدبيرها للمسألة الاجتماعية، ومنها أوضاع الشغيلة، وهو غياب ناتج عن قصور منظور النضال في النقابات لدى معظم اليسار المنتسب الى الطبقة العاملة، وهذا شأن آخر لا يتسع له المقام.
أدى انعدام حزب يساري منغرس عماليا وشعبيا إلى استمرار الطابع القطاعي والمشتت لنضالات الأجراء، ولم يكن “للإضرابات العامة” التي دعت إليها القيادات النقابية لتنزع هذا الطابع إذ أفرغها التحكم البيروقراطي من كل محتوى كفاحي. ولنفس السبب، لم تتجاوز نضالات الحراكات الشعبية طابعها المحلي، وجزئية مطالبها، بوجه سياسة برجوازية شاملة متكاملة. وتؤدي قطاعية النضال العمالي، ومحلية النضال الشعبي، إلى مأزق العزلة بفعل غياب تضامن ونضال موحد، وقد تجلى هذا بكل مأساوية في حراك الريف-جرادة. ومن جهة أخرى يحول غياب طابع وطني موحد (الطابعين القطاعي والمحلي) دون الإرتقاء السياسي للنضالات، ومن ثمة انعدام مشروع بديل اجمالي عن النظام الاقتصادي-الاجتماعي القائم وملازمه السياسي. يعني هذا كله غياب استراتيجية، وهو الوجه الآخر لغياب حزب نضال عمالي وشعبي..
لا شك أن محلية النضال الشعبي تُعزى أيضا إلى توجس سليم من التحكم البيروقراطي، والاستعمال الانتهازي للنضالات من قبل قوى سياسية، منها الإصلاحي ومنها مدعي الجذرية. فقد كانت التجربة الفريدة لنضال موحد على صعيد وطني، أي تنسيقيات مناهضة الغلاء في 2006-2007، قد اصطدمت بتقاليد معظم اليسار غير الديمقراطية. وإن اقترنت تجربة النضال الوطني تلك بسعي للتحكم الفوقي، فما يجب التخلي عنه ليس الطابع الوطني بل الجنوح البيروقراطي، وذلك بالتدبير الديمقراطي للنضالات اعتمادا على الجموع العامة الديمقراطية ذات السيادة، وتشكيل قيادات منتخبة ديمقراطيا بناء على أرضيات برنامجية، وتأمين حرية التعبير والنقد، ورفع الوصاية عن النساء…
اعترضت تجاربَ نضالية، لا سيما حراكَ 20 فبراير، مصاعبُ وخلافاتٌ بصدد نوع العلاقة في ساحة النضال مع تيارات الاسلام السياسي. فثمة من ينصهر معها، لاغيا كل نقد ومسافة حذر، خالطا الرايات، بمبرر وحدة الهدف (مناهضة “المخزن”)، وثمة من يرفض كل علاقة بها، ولو كلف الأمر نسف النضال، بحجة ظلامية تلك القوى ورجعيتها، واستبدادية مشروعها السياسي. ولا سبيل لتفادي ضرر الموقفين الخاطئين سوى بانتهاج ما دلت خبرة الحركة العمالية العالمية على صوابه: اتفاقات عرضية، محض عملية، وليس تحالفا دائما تحت راية “مناهضة عدو مشترك”. وجلي أن تأمين وحدة نضال الطبقة العاملة، واستنهاض اقسامها المتأخرة، ولم شمل منظماتها المتنافرة، أعظم اهمية من تعاون محتمل على هدف عملي آني مع قوى تمثل قوى طبقية أخرى.
تمكن النظام من إخماد حراك الشعبي الريف، بعزله، ثم قمعه. وكذلك شأن حراك جرادة. لذا تتمثل إحدى مهام النضال مستقبلا في العمل على إضفاء الطابع الوطني على الاحتجاج والمطالبة الشعبيين، بتفعيل التضامن، والمسارعة إلى ربط أواصر التعاون النضالي بين مختلف بؤر الكفاح، وهي مهمة يجب أن يستوعبها المناضلون/ات الصامدون في لحظة الركود التي نجتازها منذ قمع حراك الريف، وعمقها استغلال الدولة لجائحة كوفيد، لوأد كل شكل احتجاج والغاء أبسط الحريات. وهذا يتطلب تحضيرا منذ الآن، بإيجاد سبل تواصل المناضلين/ات لاستخلاص دروس الماضي واستشراف المستقبل.
في العقدين الاخيرين، طرأ تقدم طفيف في التعبئات الشعبية من ناحية التنظيم في القاعدة، والتواصل مع الجماهير الشعبية. وأحدث مثال ما شهدت مدينة جرادة إبان حراكها. ولا شك أن أعظم دروس الريف هو الأهمية الحاسمة للتنظيم الذاتي، أي في الأحياء وفي أماكن العمل، بشكل مواز ومستقل عن ما قد يكون من تنظيمات تقليدية من نقابات وجمعيات، وأحزاب. وفي هذا الاتجاه يتعين علينا بذل القصارى لحفز مبادرات التنظيم، وتأمين طابعها الديمقراطي، أي التسيير الذاتي للأنشطة والنضالات الذي يفسح في المجال للنساء و للشباب دون وصاية مهاما كانت ذرائعها. فقد سهل مسعى النظام في إخماد حراك الريف اعتماد التعبية على زعيم كان له الفضل في المبادرة وحشد الجماهير، لكن الاعتقال أبان بسرعة حدود القيادة الفردية غير القائمة على بنيات تنظيم شعبي تحتي ديمقراطي.
تميزت الحراكات الشعبية بانتشارها في مدن وبلدات متوسطة وصغيرة، فيما بقيت التركزات الحضرية الكبرى بعيدة عن الدينامية النضالية، ما خلا طنجة التي شهدت أقوى تعبئات حراك 20 فبراير، ونضالات جماهيرية ضد غلاء الماء والكهرباء في العام 2015، وربما أيضا ما شهدت مراكش في العام 2012 في نفس المضمار.
يتطلب هذا الوضع تفكيرا، وتقييما لتجارب النضال بالمدن الكبرى، وما يعيق تطورها، وسياسة النظام لضبط الوضع فيها. وأكبر الاسئلة طبعا هنا هي الدار البيضاء.
من جهة أخرى يغيب الشباب، كفاعل دينامي قوي، منذ تمكن النظام بالمناورات والتنازلات من تفكيك حركة الشباب المعطلين. كما أدت سياسة الدولة في التعليم الجامعي، بـ”الاصلاحات” المتتالية، وبقمع النضالات، إلى اضمحلال التنظيم الطلابي فيما فاق عدد طلبة التعليم العالي المليون. ما أسباب هذا الوضع وما سبل الانعتاق منه نحو أفاق نضال ينهض فيها شباب الطبقات الكادحة بدوره كاملا؟ هذا سؤال يضاف إلى سؤال المدن الكبرى.
ليست المطالب الآنية، نقابية كانت أو اجتماعية، ومن أجل الحريات، غير منطلق النضال. وليس من شأن تحقيقها سوى أن تحسن أوضاع المعيشة في حدود لن تتوانى البرجوازية ودولتها عن السعي لتضييقها. وتظل أعظم فوائد النضال من أجلها التمرس واكتساب الثقة في المقدرات الذاتية. أما ضمان حياة لائقة للشعب الكادح، خلو من صنوف الاستغلال والاضطهاد، و في بيئة سليمة فيتطلب مشروعا مجتمعيا بديلا. وهذا غائب كليا لدى الحركة النقابية كما لدى حركة النضال الشعبي. فكل ما ترفع بعض مكونات الحركة النقابية لواءه من عناصر بديل لا يتعدى ترميما “اجتماعيا” للرأسمالية التابعة القائمة، وسعيا لتطهيرها من شوائب الريع وانتهاك قواعد اقتصاد ليبرالي، وإصلاح نظامها السياسي (الملكية البرلمانية).
لا فكاك من جحيم الرأسمالية التابعة إلا بتحرر يحقق السيادة الوطنية، بكسر قيود الارتهان للمؤسسات المالية الدولية وللاتحاد الاوربي (ما يسمى شراكة)، والسيادة الشعبية عبر مجلس تأسيسي، ويحل المسألة الاجتماعية بتشريك الاقتصاد وتسييره الذاتي من قبل المنتجين/ات مع مراعاة تامة للمتطلبات الإيكولوجية.
تدقيق هذا البديل، وتثقيف طلائع النضال به، وبناء أدوات النضال من أجله، مهمة ملحة ستفتح أفقا للنضال العمالي والشعبي، عوض المناوشات الظرفية التي وإن عطلت أحيانا الهجوم البرجوازي لا تمنع استمراره.
توجد داخل منظمات النضال القائمة، لاسيما العمالية، وخارجها من ناشطي الحراكات الشعبية، من يؤرقهم، رجالا ونساء، التفكير في مستقبل النضال العمالي والشعبي. اليهم/هن نتوجه بالأفكار أعلاه آملين تعميق النظر فيها في ضوء تجاربهم/هن.

شارك المقالة

اقرأ أيضا