ربطُ التّرقي بالمردُودية: وراء الكلام المعسول تكثيف لإستغلال شغيلة التّعليم

تجرى على قدم وساق جلساتُ “الحوار” بين النقابات الأكثر تمثيلية ووزارة التعليم، بهدف إعلان “نظام أساسي جديد” مع نهاية الموسم الدراسي في يوليوز القادم، والتزمت القيادات النقابية بقاعدة الامتناع عن عرض مُجريات التّفاوض على الشغيلة، باستثناء ما صنف “إيجابيا”، بمعنى ضرب طوق الحصار على ما تعده الدولة لدك مكتسبات تطلبت تضحيات كثيرة لأجل انتزاعها.

يترافق التواطؤ لإخفاء المعلومات الجوهرية على المعنيين المُباشرين مع تسريبات مُجزأة حول أمور بعينها، يرى فيها ضيقوا الأفق من النقابيين أنها لا تكتسي الخطورة، والحال أنها سم زعاف.

عِوَض رفع مُستوى وعي شغيلة التعليم بشرح  مرامي الدولة من وراء مقترحاتها، تستعمل القيادات النقابية تخلف الوعي النقابي وتديمه وتستند عليه لتبرير مصادقتها على مجمل النظام الأساسي القادم، والذي سيكلف الشغيلة التعليمية غاليا. فدورُ النّقابيين الدّيمقراطيين هو قول الحقائق وكشف الخداع للارتقاء بوعي الشغيلة لفهم ما يخطط له ومواجهته.

إن المعالم الكاملة لـنظام أساسي جديد“،  مُتضمنة في ركام”تشريعات ودراسات” صدرت تباعا طيلة العشرين سنة الماضية منذ “ميثاق التربية”، وأيضا في تقارير المؤسسات الاستشارية التي خلقتها الدولة (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المجلس الأعلى للتربية والتكوين، المجلس الأعلى للحسابات… إلخ).

يصر من تجندهم الدولة لتطمين الشغيلة، على كون “النظام الأساسي الجديد” سيحسن من أوضاع موظفي التعليم، ويحافظ على المكاسب، و لن يكون إلا في إطار “نظام 2003″، بل ويرد بعضهم بصفاقة وتشنج على كل من ينبه لكارثية مستقبل الوضع النظامي لشغيلة التعليم والوظيفة العمومية بصورة عامة.

لن يصمد إنكار شركاء الدولة النقابيين طويلا، فبلاغ الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي-* الذي أعقب لقاء النقابات الخمس، يوم الأربعاء 11 ماي 2022 مع الوزارة،  والمتضمن إشارة لمعايير قياس الأداء المهني للمُدرسين:  في البداية طُرح تشخيص النظام الحالي لتقييم الأداء المهني وفق النظام الأساسي لـسنة: 2003  من يقيم من؟  المفتش؟ المدير؟ ..وطرحت الوزارة للاستئناس تجارب تعليمية دولية من خلال أنظمتها الأساسية في مجال تقييم الأداء المهني“.

حمل هذا البلاغ أهم ما يستهدفه هذا الهجوم؛ خفض تمويل التعليم وكُتلة الأجور، في كل هذه الجلبة المحدثة حول “الإصلاح”: “ربط الترقي بالمردودية، وقد سطرت الوزارة حسب منطوق البلاغ، خطوطا ثلاثة من أجل الإقناع، لتسييج ما يجب أن تسفر عنه جلسات المحطة الثالثة: عدم”فعالية” نظام الترقي الحالي، والجهة التي ستقوم بتقييم الأداء والتجارب الدولية. هذه هي  الذرائع نفسها، طبق الأصل، التي تضمنها تقريرا المجلس الأعلى للتربية والتكوين الصادران بتاريخ 31 نونبر  2021، لتبرير مراجعة منظومة الترقي.. ونقلها محاورو الوزارة إلى الاجتماع المذكور. و هذا ما سنحاول معالجته فيما يلي:

التحكم في كتلة الأجور

تحت تقل المديونية والتي تجاوزت 92 في المائة من الناتج الداخلي الخام، تعمل الدولة على  استرجاع ”توازناتها الماكرو اقتصادية” بمزيد من إجراءات التقشف. حيث يسهر تقنيو الجهات المُقرِضة بالوزارات المغربية على إدخال هذه الإجراءات (في النظام الأساسي المنتظر إقراره في التعليم مثلا).

يعترف أحد تقريري المجلس الأعلى للتربية والتكوين دون تحايل :”أن التحكم في كتلة الأجور  رئيسي بالنسبة للسلطات العمومية، بل هو التزام من المغرب تجاه صندوق النقد الدولي في إطار خط الائتمان و السيولة”.1  ولكي يتم تمرير الهجوم، يجب إلباسه لبوس الإصلاح، وادعاء العزم على القطع مع ممارسات غير ذات”فاعلية”  كتبايُن الأجور في نفس القطاع.

يقارن التقرير بين أجور الأساتذة في المغرب ومثيلتها في بلدان أخرى متسائلا: أوَلم يبدأ  كل أساتذة الابتدائي مسارهم ب 4768 درهما؟ ويدعي التقرير  أن هناك أجيال مازالت تمارس، بدأت مسارها ب 2300 درهم وأخرى ب 2800 درهم. والأمر نفسه يسري على الثانوي التأهيلي والإعدادي مع بعض الاختلافات.

يدعي كذلك، بأن أساتذة الابتدائي ينهون مسارهم المهني بأجرة 11199 درهم وأساتذة الإعدادي ب 11299 درهم وأساتذة التأهيلي ب 13747 درهم.2  هذا صحيح من وجهة نظر واحدة، إذا تعلق الأمر بجيل الأساتذة الخاضعين للنظام الأساسي لموظفي التعليم، وأغلبهم تقاعد دون أن يصل إلى هذا السقف، وبحلول سنة 2030  لن يشكلوا إلا 50 ألف أجير من مجموع أجراء التربية والتعليم. تريد الوزارة خفض ذلك السقف ومنع الجيل الجديد من أجراء التعليم من بلوغه.

آخر ما شحذ به واضعو التقريرين نصل إجرائهم المرتقب، ارتفاع أجور الشغيلة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي للفرد3 بالمقارنة مع بلدان أخرى. لا يذكرون بالناتج المحلي للمغرب وعدد سكانه كما لا يذكرون بالناتج المحلي الإجمالي وعدد سكان البلدان موضوع المقارنة. كما لا يذكرون بسقف نسبة كتلة الأجور من الناتج الداخلي الخاص الموصى به من قبل صندوق النقد الدولي “المُلْتَزَمُ به من لَدُنِ المغرب”.

عدم فعالية نظام الترقي الحالي

في أحد التقريرين، كما في وثائق أخرى مثل” الرؤية الإستراتيجية” التي وضعت الكفاءة والاستحقاق في صلب إصلاح نظام تدبير المسار المهني للأساتذة، ودعت إلى”وضع شبكة جديدة للترقي بحسب كل هيئة”4 ، ويُسنِد التقرير ما توصل إليه من تبرير بما عبر عنه الأساتذة  من الحيف الذي طالهم جراء النظام الحالي، ما يُعَدُّ مؤشرا على أن الدولة في الوظيفة العمومية ماضية في القيام بما يقوم به الرأسمالي في مصنعه تجاه العمال عديمي التنظيم، وخلق انطباع كما لو أن انتقاد محدودية عدد مرات الترقي، خلال المسار المهني، نابع من المعنيين مباشرة.5  فما جدوى جلوس النقابات مع الوزارة إذن منذ دجنبر إلى 11 ماي 2022 وما سيليه؟

يبني التقنيون كذلك حصنهم من كون النظام الحالي ونظام 1985 قد أضرا بالأجراء الذين جرى توظيفهم في السلالم 6 و7 و8.  هنا لم ينورنا التقرير بعدد من تَبقَّ من أولئك ممارسا ولم يُحَل بعد على التقاعد، وإن بقوا، هل سينصفهم ما يُعِدون؟ بما في ذلك “إصلاح نظام التقاعد؟ ” أم سيفاقم معاناتهم مع تقدمهم في السن؟

إن “الفعالية” مفهوم اقتصادي قعد له منظرو الاقتصاد الليبرالي من أجل المصانع ومزارع القطن، وزرع في حقل التربية والتعليم كغيره من المفاهيم، ويجاور مفاهيم أخرى إلى حد أنه لا يذكر إلا وذكرت معه الإنتاجية، المردودية والنجاعة…  وهو يعني قدرة الشخص، مجموعة أو نظام، على بلوغ الأهداف التي حددت له-هم، بتعبير كمي، كيفي، بسرعة، بتكلفة أو مردودية…  ما ينعته أصحاب التقرير بعدم الفعالية هو عمل الأستاذ، ويلزم ربط أجره بما حققه كما في المصنع.  هذا ما تقصده الدولة عندما تتحدث عن نقل علاقات الشغل القائمة في القطاع الخاص إلى الوظيفة العمومية، أي تعميم قاعدة اعتصار أكبر قدر من العمل مقابل أقل قدر من الأجور والحقوق الاجتماعية، وببساطة واجبات متعاظمة وحقوق متضائلة.

 التجارب الدولية

تجري المكافأة والأجور والترقي حسب التجارب الدولية، كما اختارها قضاة المجلس الأعلى للتربية والتعليم بعناية، إما بالمساهمة في البحوث، من خلال نتائج التلاميذ، متوسط أداء المدرسة في امتحانات التلاميذ، والنتائج التي يحصل عليها التلاميذ في الاختبارات.  سرعان ما يغرق القضاة في بحار من التناقض حيث “يوجد عدد قليل من الدراسات التي تظهر أن الفوارق بين النتائج المدرسية للتلاميذ على الصعيد الدولي ترتبط برواتب الأساتذة”7 . يلجأ الأساتذة في الصين، الشيلي، الهند، كينيا، المكسيك، باكستان والبيرو إلى التركيز على إعداد التلاميذ لإحراز نقط جيدة في الامتحانات، حتى يتمكنوا من الحصول على مكافآت مادية، أكثر مما يركزون على باقي كفايات التلاميذ”.8  و”يُهملون الأهداف التعليمية والتربوية الأخرى التي لا تقل أهمية.  ويحذر القضاة بعد هذا من أن “العديد من الأبحاث تُلفت النظر إلى الآثار الوخيمة لاستخدام النقط التي يحصل عليها التلاميذ لتقييم أداء الأساتذة.”  ويختمون بأن “الدراسات لم تفض إلى نتائج حاسمة.”  ورغم ذلك، سيتشبث ممثلو الوزارة بـ”الانفتاح على سبل أخرى لتحسين الآفاق المهنية للأساتذة”.9

التقويم والتأطير التربوي في يد أطراف غير تربوية

إن السبب الحقيقي في “أزمة”  التقويم والتأطير التربوي كما جاء في التقرير، كون التحكم في كتلة الأجور أساسي بالنسبة للدولة. لقد أغلقت مراكز تكوين المفتشين من 1999 إلى 2009 وأغلقت سنوات متفرقة بعد ذلك، وأحيل العديد من هؤلاء على التقاعد، ولا نعلم إن سمحت الدولة  لعدد آخر بالمغادرة الطوعية، وقد أصبح عددهم 1641 خلال موسم 2019/2018 بعد أن كان  1990 مفتشا تربويا خلال موسم 2012/2013، بالمقابل زاد عدد الأساتذة الجدد الذين جرى  توظيفهم بعد 2017، وزادت نسبة التأطير للمفتش التربوي في المتوسط لتصل 170 أستاذا موسم 2018/2019 بعد أن كانت 145 أستاذا موسم  2012/2013.

يتذرعون كذلك بكثرة مهام هذه الهيأة التي لم تحدد بدقة في المذكرات  (114-115) والنظام الأساسي والقرار( 3521/17).10 ،  فمن خلق كثرة المهام ولم يدققها في المذكرات والمقررات التي أصدرها؟

“المشكل” إذن ليس في القائمين بالعملية أو في كفاءتهم، بل اختلاق ذلك لأسباب حساباتية. يريد الأوصياء تجريد هيئة التفتيش من مهمة تقييم المعلمين وتأطيرهم تربويا، وسيجعلونها في يد مكاتب الدراسات والخبراء وجمعيات الآباء بنقرات على الهواتف الذكية مقتصدة في “الكلفة” لهذا هم يطرحون سؤال: من سيُقيِّم؟

تمنح الوزارة عبر أكاديمياتها أموالا لأطراف غير تربوية أسست شركات ربحية للمتجارة في التكوينات. كان الأجدى أن يتكلف المفتشون التربويون بها، بالنظر لمعرفتهم بالحاجات الحقيقية، ولاتصالهم المباشر بالميدان. لصوص المال العام يفضلون الحل الأول لما سيكون لهم من نصيب.

نقاش أوهام شائعة في صفوف الشغيلة

بسبب الصعوبات والتعقيدات الكامنة في الآليات الحالية للترقي (أي مؤشرات رفع الصنف والدرجات لتحسين الوضع المادي أو الوظيفي)، يعلق الكثيرون أمالهم على الانقلاب الذي تعده الدولة لإقبار نظام التقويم الحالي، والذي يعتبر حصيلة عقود من النضال ومراكمة المكتسبات.

إن القبول بإقبار تلك المكاسب بحجة الإختلالات الموجودة ينم عن اعتقاد خاطئ بأن الأمر يتعلق بتغيير قوانين ومقاربات لا بنضال حول الأجر مقابل العمل ووثيرته، وهي بمجملها قضية الشغيلة الجماعية حتى وان تلبست بمسارات الشغيلة الأفراد.

هدف الدولة هو نقل ما راكمته من تجارب تكثيف استغلال العمال في المقاولات الخاصة، والتي تدرس في تخصصات “تدبير الموارد البشرية”، ونقلها، إلى الوظيفة العمومية، وهذا غير ممكن إلا بالقطع مع أساليب التقييم الحالية. الصائب هو أن تحدد أوجه قصور ومكمن التعقيد في الآلية الحالية للتقويم، ومن ثمة التقدم ببدائل نقابية، وليس رمي الطفل مع المغطس فتلك جريمة، وربما، عن سبق إصرار.

يجب رفض أي ربط للأجور بالأداء وكل آليات احتسابه المستقاة من القطاع الخاص، والتي ستجعل من التعويضات والترقيات شأنا فرديا مرتبطا بأداء الموظف، وبالمقابل يجب الدفاع عن المعايير الجماعية لاحتساب الترقية والنضال من أجل إلغاء التراجعات التي لحقت الحق في الترقية وعلى رأسها الترقية بالشهادة.

بقلم : ي.ف

إحالات

1 مهنة الاستاذ في المغرب، تقرير المجلس الاعلى للتربية و التكوين، ص 15.

2 نفس المرجع ص 78، 79

3 نفس المرجع ص 84

4 نفس المرجع ص 75

5 نفس المرجع ص 79

6 نفس المرجع ص 76

7 نفس المرجع، ص 77.

8 نفس المرجع ص 77

9 نفس المرجع ص 86

10 نفس المرجع ص 46-49

* انظر بلاغ الجامعة الوطنية للتعليم – التوجه الديمقراطي-

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا