سنقرئك فلا تنسَ: تلك الدولة لن تبقى! بقلم، الطبيب المصري طاهر مختار المعتقل بتهمة المشاركة في ثورة يناير

(1)

“قلت لكم مرارا ..

..

..

إن المدافع التي تصطف على الحدود .. في الصحاري

لا تطلق النيران .. إلا حين تستدير إلى الوراء

إن الرصاصة التي ندفع فيها

ثمن الكسرة والدواء:

لا تقتل الأعداء

لكنها تقتلنا .. إذا رفعنا صوتنا جهارا

تقتلنا وتقتل الصغارا”

 

ورغم مرور السنوات العديدة بعد كتابة أمل دنقل لهذه الكلمات فإن تلك الرصاصات التي يشتريها من يحكمونا بثمن خبزنا ودوائنا مازالت تقوم بمهمتها التي جلبوها لها؛ مازالت تقتلنا كما قتلت وستقتل الكثيرين منا، كلماته التي رددها منذ ذلك الوقت لم تكن وحدها مجدية لتوقف تلك الرصاصات عن اختراق أجساد من يشبهوننا؛ لتتردى أجسادهم في حفر الموت فيكتب الخلود لذكرى بعضهم ويكتب النسيان للأغلبية كما هي الأغلبية المنسية دائما وفق تقاليد عالم يضع قواعده من يحكمونا، ولا كانت تلك الأبيات كافية لتوقف تلك الرصاصات عن اختراق عقولنا؛ لتترك بصمتها الأزلية عن أحلام حاول المجرمون قلتها في رؤوس أصحابها عندما هبوا لإنشاد ترنيمتهم الأبدية باسم الإنسان.

 

(2)

والإنسان هو مبدأ الحكاية، ومُبتَغَى الأسطورة، وأنا هنا لا أتحدث عن حكاية حلم قديم بالخلود خلف الزمان، ولا عن أسطورة رجل خارق بقوة “سوبرمان”، بل أتحدث عن حكاية حلم قد يبدو أبسط كثيرا ولكنه في الواقع أصعب وأكثر تعقيدا؛ حلم العدل والمساواة لكل بني الإنسان،  حلم بنظام يسوده العدل والمساواة ويكون الإنسان واحتياجاته وحقوقه هم أعمدته وأسسه.

 

أما السوبرمان سواء أكان حاكما أو منقذا معارضا، سواء كان ضد قوى شر خيالية أو ضد ظلم واقع فهو لا يخدم سوى المنظومة الفكرية لواقع الظلم، المنظومة المبنية على تقديس الفرد الخارق، لتأتي الأسطورة بذلك الخارق المنتظر الذي ينقذ البشرية مع أن البشرية لن ينقذها سوى الجهد والنضال والإرادة الجماعية لبني البشر.

 

(3)

ولم يخل واقعنا من سوبرمان مُنتَظَر تبعا للمنظومة الفكرية السائدة؛ نعم كان مُختَلا، ونعم كان يعمل أمام الجميع قائدا لجيوش قوى الشر والظلام، ولكن هذا لم يمنعه من أن يحاول إقناع من يتلهفون على منقذٍ خارقٍ منذ سنين لن يتم إنقاذهم ـ في عقولهم بالضرورة ـ سوى على يديه أنه هو رجلهم المُنتَظَر، فإذا به في عيونهم منقذا خارقا، يحمل لهم كل الآمال وتشتد حاجتهم له للخلاص كلما اشتد بهم الألم، متجاهلين وهم يتردون في غياهب حلمهم الآثم أن المنقذ الذي “فوضوه” ونصبوه سوبرمان هو نفسه سبب آمالهم في عالم سعيد التي لا تتحقق وسبب آلامهم التي تشتد بهم، هو نفسه ذلك من حذرهم منه أمل دنقل من قبل، هو من يأخذ من ثمن خبزهم ودوائهم عنوة ليشتري بعرقهم المدافع والرصاصات ليحكمهم بها ثم يسرقهم ويظلمهم وإن رفعوا صوتهم جهارا احتجاجا .. يقتلهم بها.

 

(4)

صوت يزمجر في المدينة: إنا أعطيناك الخلاص، اتبع المُخَلِّص وارقص على جثامين الناس ..

 

ثم يكمل نفس الصوت: وكلما ارتبكت الأفكار في رأسك وهزتك التناقضات كف عن التفكير ولا ترى إلا ما نريك إياه وأكمل في طريقك معنا، ولا تتردد، إن المُخلّص لا يحب المترددين، وإلا ستجد من يرقص على جثمانك الذي بدأ يحمل تلك الأفكار التي بدأت تنمو في ثنايا رأسك، تلك الرأس لم تعد معنا في كل ما نفعل؟! تلك الرأس لا تلزمنا .. واسأل السياف!

 

صوت آخر في نفس المدينة يتهادى بطيئا ولكن واثقا وسط الطرقات: إنا أعطيناك الأمل .. إنا أعطيناك الخلاص .. إنا أعطيناك الثورة ..

 

 

(5)

قضاء يرتل آيات البطش باسم النظام؛ سبّح باسم الدولة، وإلا ستنهال عليك اللعنة .. عظّم أعمال الحاكم، وإلا فالإعدام هو الحاكم ..

 

هو ـ بالتعريف ـ قضاء الحاكم!

 

 

(6)

قالها مرارا فلم يسمعوه، ليتملكه الإحباط والكمد حتى وفاته، وكأنه يدرك أن ما قاله سيستمر وسيتكرر أيضا بعد وفاته، فإذا به يحذرنا من الحلم بعالم سعيد ..

 

“وليس ثمّ من مفر ..

لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد !

وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى ..

و دمعة سدى !”

 

(7)

ـ “دولة الظلم ساعة .. ودولة العدل إلى قيام الساعة” أصحيح ما قالوا؟

 

أم صحيح ما قاله أمل دنقل أن “لا تحلموا بعالم سعيد”؛ فدولة الظلم ـ بكافة صورها ـ باقية .. وتتمدد؟

 

= مجددا لقد نسوا شيئا مهما!

 

(8)

دولة الظلم باقية .. باقية ..

إلى قيام الثورة!

 

وإن يوما في الثورة .. بألف يوم مما تعدون ..

 

سيتغير في الثورة كل شيء بما في ذلك الدولة والنظام السياسي وانحيازاته، العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، علاقات العمل والإنتاج، منظومة العدالة، أهداف المجتمع .. ونحن كذلك .. سنتغير مع تجارب الثورة الكثيفة التي نخوضها ـ كما تغيرنا كثيرا وتغيرت طبيعتنا وأفكارنا بالفعل مع ثورة يناير رغم أنها مجرد بروفة لثورة كبيرة مرجوة ـ وسنتغير مع تغير الواقع  الذي ستنجزه الثورة؛ نعم اليوم بألف يوم وربما أكثر، فما يُنجَر في أيام الثورة المعدودة في المجتمع ربما وغالبا لا يُنجَز في نفس عدد الأيام مضروبا في ألف فيما سواها!

 

(9)

انفجار عظيم .. ما  بعده لن يكون كما كان قبله .. أنا لم أقل جديدا هذه هي طبائع الأمور!

فهل يَعقِل من يحاولون الوقوف أمام ثورة يناير ما يفعلون؟ اليوم هم بالفعل استطاعوا التصدي للثورة حسب موازين القوى المادية، ولكن ماذا عن الأفكار؟ ماذا عن الوعي الذي تقدم؟ ماذا عن مئات الألوف ـ إن لم يكن الملايين ـ الذين عرفوا حقيقة عدوهم؟ ما قبل الثورة النظام كان مسيطرا بالقوة وبأفكاره المهيمنة، اليوم النظام يسيطر بالقوة، بينما الأفكار لم يعد يملكها تماما، الأفكار تتطور وتتسع دائرتها بعد أن علم الكثيرون وسيعلم من هم أكثر: أن الدولة هي العدو، أن الجيش والقضاء والشرطة ما هي إلا أدوات للقمع والحفاظ على نظام الاستغلال والفساد والاستبداد، ومن يحاولون التصدي للثورة يؤكدون ذلك أكثر كل يوم ويرسخونه في العقول باستخدام دولتهم بكل أجهزتها للقمع، القمع بلا منطق، فالمنطق والأفكار المتماسكة لم تعد مساحة متروكة لهم بعد أن علم الكثيرون الحقيقة!

 

فهل ستبقى تلك الدولة كثيرا؟ هل ستدوم سيطرة القوة المادية لدولة الجنرالات على الأفكار التي  تناثرت في كل مكان وتناقلتها العقول والأفئدة مع ذلك الإنفجار العظيم؟!

 

سنقرئك فلا تنسَ: تلك الدولة لن تبقى!

 

ولكن تذكر: الثورة لا تتم بدون تحول الأفكار الثورية لقوة، ولا تنتصر دون تحول تلك الأفكار لقوة منظمة.

 

(10)

أترى حين أنهب وطنك  ..
ثم أسرق منك ثورتك ..
هل تطيعني؟
هي أشياء لا تشترى!

ذكريات الثورة بينك وبين رفاقك  ..
الميادين التي تنتفض ضد الغاز والرصاص  ..
شهداء صفك .. أصدقاؤك المعتقلين  ..
دماؤك التي تختلط بدماء أقرانك  ..
تلك الأحلام التي لا حدود لها  ..
هل نسيتها ؟
ذلك الشفق ..
الذي رأيت فيه فجر جديد ..
طالما حلمت به ..
فوجدته  ..
مازال غروب ليوم قديم ..
ظننته مضى  ..
رحلتك لم تنتهِ  ..
انتفاضتك لم تكتمل ..
أحلامك لم تزل معلقة  ..
تدور في الفلك الواقع بين أفكارك وإرادتك  ..
فهل ستكملها؟
تذكر: حلمك لم يعد لك  ..
كما هو وطنك لم يكن ـ يوما ـ لك ..
حلمك الآن حلم لآخرين يبحثون عن وطن يكون لهم  ..
لم يعد لك حتى حق التراجع  ..
تلك رفاهية لم تعد لك  ..
صمودك لم يعد مجرد فضيلة ..
بل هو الخط الفاصل بين الحياة والموت  ..
فهل ستصمد؟

 

وقبل أن أنسى:

سنقرئك فلا تنسَ: تلك الدولة ـ دولة الجنرالات ـ لن تبقى!

 

(11)

حبوا ما شئتم .. اكرهوا ما شئتم .. وقدسوا ما شئتم .. ولكن إن تصادم ما شئتم مع الإنسان فلا تقدسوا سوى الإنسان! وقدسوا من أجله كل من/ما يقف في صفه .. قدسوا الثورة باسمه .. ولكن بدون رسم صور مثالية لها .. فالثورة هي حدث مرتجل خارج المألوف لتغيير الواقع الصعب المألوف، الثورة هي حفر طريق صعب وشاق في صخر الواقع المزري والقاسي من أجل الإنسان ومستقبل الإنسانية.

 

قدّسوا الإنسان وكرموه بالثورة .. دون أن تقسوا عليه وترسموا صورة مثالية له أيضا .. لا قديسين على الأرض .. والإنسان لا يحتاج أن يكون قديسا حتى تُقدّس حقوقه؛ فقط يحتاج أن يكون إنسانا في مجتمع إنساني كالمجتمع الذي نَزود دفاعا عنه وعن قيمه وأفكاره حتى يأتي يوم مولده من رحم ثورة مأمولة التحقيق وإن كانت غير مأمونة الطريق.

 

وتذكروا أن الواقع المزري الذي نعيش فيه ـ وليس أحلامنا التي نقاسي في سبيلها ولا تتحقق ـ  هو سبب مأساتنا الكبرى!

 

(12)

بأحلام الثورة التي نحملها .. أقول:

عفوا أمل دنقل:

لن نلوم الحلم!

وسنظل نحلم بعالم سعيد ..

فخلف كل قيصر يموت: حلم جديد ..

وخلف كل ثائر يموت: ثوار يكملون الطريق ..

وأحلام بألف جدوى .. تجاوز المستحيل ..

..
..

ف”لن نصالح”!

و ..

سنقرئك ـ مجددا ـ فلا تنسَ: دولة الجنرالات لن تبقى!

شارك المقالة

اقرأ أيضا