ماركس و أزمة الرأسمالية الراهنة

اقتصاد9 يناير، 2015

إلى أي مدى يمكن استعمال أدوات التحليل الماركسية لفهم الأزمة الراهنة؟ ليس الماركسيون وحدهم من يطرح هذا السؤال. فحتى قبل اندلاع الأزمة، كانت الصحافة الاقتصادية تحيل دوريا إلى النقد الماركسي للرأسمالية. ففي كتابه المنشور عام 2005، بعنوان كارل ماركس أو روح العصر، قال جاك أتالي: اليوم فقط يجري طرح الأسئلة التي أجاب عليها ماركس. و بجريدة فاينانشل تايمز ليوم 28 ديسمبر 2006 تساءل جون ثورنيل قائلا:” كيف يمكن فهم الرأسمال دون قراءة كتاب ماركس، الرأسمال؟”.

لكن هذه الإحالات لا تكفي لتجاهل اعتراض مشروع تماما مؤداه: أليس تبني كتاب من القرن التاسع عشر لتحليل واقع اليوم مجازفة بالسقوط في جمود عقائدي؟ هذا الاتهام وارد، ويمكن بناؤه انطلاقا من مسلمتين، تكفي إحداهما لجعل الإحالة إلى ماركس باطلة. لا غنى و الحالة هذه عن دحض كلا المسلمتين.

ما الذي ُيبقي ماركس راهنيا ؟

المسلمة الأولى أن علم الاقتصادي أنجز، منذ عهد ماركس، تقدما نوعيا متعددا، وحتى أحدث تغيرا لا رجعة فيه. فحسب شارك Charles Wyplosz ويبلوز المختص بالاقتصاد: “من المعروف مثلا أن البطالة ناتجة جزئيا عن كلفة عمل مرتفعة جدا، و أن نظام التقاعد التوزيعي غير ممكن في سياقنا الديمغرافي، و أن ضغطا ضريبيا قريبا من 50% من الناتج الداخلي الإجمالي مصدر تقهقر اقتصادي و اجتماعي و أشياء أخرى”

إن كان هذا صحيحا يكون التحليل المركسي متجاوزا من قبل علم الاقتصاد. إن هذا التصور ” لعلم الاقتصاد”: بما هو علم، وبكل حال بما هو علم موحد يتقدم بشكل مستقيم، تصور يستدعي الدحض. فبخلاف الفيزياء مثلا، تواصل نظريات اقتصادية مختلفة التعايش في صراع. فما اعتبره ويبلوز أمرا “معروفا” يندرج في العقيدة النيولبرالية الأشد دغمائية و يبقى طبعا قابلا للنقاش.

إن الاقتصاد السائد، المسمى نيو كلاسيكيا، مبني على نظرية لا تختلف جوهريا عن نظريات المدارس السابقة للماركسية وحتى السابقة للكلاسيكيين. فالنقاش المثلث بين الاقتصاد “الكلاسيكي” (ريكاردو) و الاقتصاد ” المبتذل” ( ساي أو مالتوس) و نقد الاقتصاد السياسي (ماركس) نقاش مستمر بنفس المضمون. وقد تطور ميزان القوى القائم بين هذه الأقطاب الثلاث، لكن ليس وفق ترسيمة إلغاء تدريجي لنظريات تسقط شيئا فشيئا في النسيان. باختصار لا يفرض الاقتصاد السائد سيطرته بسبب معارفه الخاصة به، بل حسب ميزان قوى إيديولوجي و سياسي أعم.

للاكتفاء بمثال واحد، يمكن الإشارة إلى نقاش راهني حول ما يسمى « فخاخ البطالة ” ، ويقصد بها أن تعويضات عن البطالة سخية جدا تثني العاطلين عن العودة إلى العمل، و تمثل بذلك إحدى أسباب استمرار البطالة. و الحال أنها الحجج ذاتها التي استعملت في بريطانيا للطعن في القانون حول الفقراء (في 1832). إنها إذن مسألة اجتماعية لم يتمكن أي تقدم للعلوم من حسمها.

المُسلمة الثانية هي زعم أن رأسمالية اليوم مختلفة نوعيا عن الرأسمالية التي درسها ماركس، أي أ، تحاليله قدتفيد لفهم رأسمالية القرن التاسع عشر، لكنها مغلوطة تاريخيا بفعل التحولات الحاصلة مذاك في بنيات الرأسمالية و آلياتها.

طبعا ليست رأسمالية اليوم شبيهة، في أشكال وجودها، لتلك التي عاصرها ماركس. لكن البنيات الأساسية لهذا النظام لم تتبدل. ويمكن، على العكس، الجزم أن الرأسمالية المعاصرة اقرب إلى اشتغال ” صاف” مما كان ” العصر الذهبي” الممتد من الحرب العالمية الثانية حتى منتصف سنوات 1970.

عند تبنى وجهة النظر المزدوجة هذه ( غياب تقدم متراكم ” للعلم” الاقتصادي، و عدم تبدل البنيات الرأسمالية)، يصبح جائزا تطبيق الترسيمات الماركسية اليوم. لكن لا يمكن الاكتفاء بصيغة مختزلة و دغمائية تقضي بإدخال الواقع الراهن في قالب مفاهيمي ماركسياني [ نسبة إلى ماركس الشخص] يجب البرهنة أن في الأمر فائدة، وانه يتيح فهما أفضل للرأسمالية المعاصرة، هذا ما يسعى النص التالي إليه مستعملا بعض الأمثلة.

بماذا تفيد نظرية القيمة؟

تقع نظرية القيمة العمل في صلب التحليل الماركسي للرأسمالية. إنه من الطبيعي، و الحالة تلك، البدء بها إذا أردنا تقييم جدوى الأداة الماركسية في فهم الرأسمالية المعاصرة. يمكن تلخيصها بإيجاز بالفكرة التالية: العمل البشري هو المصدر الوحيد لخلق القيمة. يقصد بالقيمة هنا القيمة النقدية للسلع.

نواجه عندها لغزا حقيقيا، لم تزله تحولات الرأسمالية، إذ ينتج العمال كامل القيمة لكنهم لا يحصلون سوى على قسم منها في شكل أجور، بينما يذهب الباقي إلى الربح. يشتري الرأسماليون وسائل إنتاج ( آلات، مواد أولية، طاقة، الخ) و قوة العمل، وينتجون سلعا يبيعونها و يحصلون في نهاية المطاف على مال أكثر مما استثمروا في البداية.

الربح إذن هو الفرق بين سعر التكلفة و سعر بيع ذلك الإنتاج. هذه المعاينة تفيد كتعريف لكن لغز مصدر الربح يبقى قائما بالكامل. حول هذا السؤال الأساسي يبدأ ماركس تحليله للرأسمالية في كتاب رأس المال. كان كبار كلاسيكيي الاقتصاد الرأسمالي قبل ماركس ينهجون نهجا مغايرا متسائلين عما يحدد السعر النسبي للسلع: لماذا ،مثلا، يعادل سعر طاولة سعر خمسة سراويل؟ بسرعة كان الجواب الذي فرض نفسه هو أن نسبة 1 إلى 5 تعكس وقت العمل الضروري لإنتاج سروال أو طاولة. هذا ما يمكن أن نسميه الصيغة الابتدائية لقانون لقيمة العمل.

فيما بعد، سعى هؤلاء الاقتصاديون ” الكلاسيكيون” إلى تجزيء سعر سلعة. فعلاوة على سعر المواد الأولية، يضم هذا السعر ثلاث فئات كبرى، الريع و الربح و الأجر. تبدو هذه الصيغة ” الثالوثية” متساوقة جدا: الريع هو سعر الأرض، و الربح سعر الرأسمال، و الأجر سعر العمل. ومن ثمة التناقض التالي: من جهة تتوقف قيمة سلعة ما على كمية العمل الضروري لإنتاجها ، لكنها، من جانب آخر، لا تضم الأجر وحده.

و يزداد التحليل تعقيدا عندما نلاحظ أن الرأسمالية تتميز بتشكل معدل عام للربح، أي بعبارة أخرى وجود ميل إلى أن يكون للرساميل نفس المردود أيا كان فرع استثمارها. و لم ينجح ريكاردو في تدليل هذه الصعوبة. و اقترح ماركس حله، وهو في الآن ذاته حل عبقري و بسيط ( بالأقل من زاوية نظر لاحقة). فقد طبق على قوة العمل، تلك السلعة المتميزة، التفريق التقليدي، الذي تبناه، بين قيمة استعمال و قيمة تبادل.

الأجر هو سعر قوة العمل المعترف به اجتماعيا في لحظة معينة بما هو ضروري لإعادة إنتاجها. بهذا المعنى يكون التبادل بين الأجير الذي يبيع قوة عمله و الرأسمالي علاقة متساوية بوجه عام. لكن قوة العمل لها خاصية متميزة – تكمن في قيمتها الاستعمالية- خاصية إنتاج القيمة. يتملك الرأسمالي مجموع تلك القيمة المنتجة، لكن لا يعيد منها سوى جزءا، لأن تطور المجتمع جعل الأجراء قادرين، خلال وقت عملهم، على إنتاج قيمة أكبر من تلك التي سيسترجعون في شكل أجر.

سنفعل مثلما فعل ماركس في مطلع كتاب رأس المال و نرى في المجتمع ” تراكما ضخما للسلع” ، أنتجها كلها العمل البشري. يمكن تقسيمها إلى “ركامين”: يتكون الأول من المواد و الخدمات المطابقة لاستهلاك العمال، و الثاني مكون من مواد ” البذخ” ومواد الاستثمار ويطابق فائض القيمة. و إن وقت عمل هذا المجتمع برمته قابل بدوره للتقسيم إلى حصتين: الوقت المكرس لإنتاج “الركام” الأول يسميه ماركس العمل الضروري، وذاك المخصص لإنتاج الركام الثاني هو العمل الفائض. هذا التمثيل بسيط في عمقه لكن بلوغه يستوجب تبني وجهة نظر اجتماعية.

هل تتيح الدائرة المالية الاغتناء في حالة نوم؟

خلق كل من الغبطة البورصية و أوهام ” الاقتصاد الجديد” الانطباع بإمكان “الاغتناء في حالة نوم”، أي باختصار أن الدائرة المالية قد أصبحت مصدرا مستقلا للقيمة. ليست أشكال التخيل الخادع هذه، الخاصة بالرأسمالية،أصيلة. ونجد لدى ماركس كل العناصر الضرورية لنقدها، لاسيما في تحاليل الجزء الثالث من كتاب رأس المال المخصصة لتقسيم الربح بين الفائدة و ربح المقاولة. كتب ماركس مثلا: ” في ثمتله الشعبي يُعتبر الرأسمال المالي، أي الرأسمال الذي ُيدر فائدة، رأسمالا بذاته، الرأسمال بامتياز” [2].

فهو يبدو فعلا قادرا على جلب دخل، باستقلال عن استغلال قوة العمل. لهذا، يضيف ماركس قائلا: ” بالنسبة للاقتصاديين المبتذلين الذين يسعون إلى إبراز الرأسمال كمصدر للقيمة و لخلق القيمة، يمثل هذا الشكل نعمة، لأنه يجعل مصدر الربح غير متعرف عليه و يمنح نتيجة عملية الإنتاج الرأسمالي- المفصولة عن العملية ذاتها- وجودا مستقلا.” [3].

تعتبر الرؤية التبريرية لفرع الاقتصاد هذا المجتمع سوقا معممة، يدخلها كل واحد حاملا “مخصصاته” ليعرض في السوق خدماته في شكل “عوامل إنتاج”. البعض يعرض عمله، و آخرون الأرض، و ثلة أخرى تعرض الرأسمال، الخ. طبعا لا تقول هذه النظرية أي شيء عن الساحرة التي وهبت كل فرد تلك “المخصصات” الأصلية، لكن القصد جلي: إبراز أن الدخل الوطني مبني بتجميع مداخيل مختلف “عوامل الإنتاج” وفق عملية تميل إلى إضفاء التساوق عليها. يختفي الاستغلال لأن كل عامل من عوامل الإنتاج ُيكافأ حسب إسهامه الخاص.

لهذا النوع من الترسيمة مزايا، لكنه ينطوي أيضا على مصاعب. منها مثلا، يتعلم أجيال طلاب الاقتصاد أن ” المنتج يرفع ربحه إلى أقصاه”. لكن كيف يجري حساب هذا الربح؟ انه الفرق بين سعر المنتوج و كلفة و سائل الإنتاج – أي الأجور لكن معها “كلفة استعمال” الرأسمال. هذا المفهوم الأخير، الحديث نسبيا، يلخص لوحده مصاعب العملية، لأنه متوقف في الآن ذاته على أسعار الآلات و على معدل الفائدة.

لكن إذا كان سعر الآلات قد سُدد و الفوائد مدفوعة [دخل رأس المال]، فما هو هذا الربح الذي ُيرفع إلى أقصاه؟ السؤال مهم بقدر ما أن هذا الربح، بعد ” رفعه إلى أقصاه”، يجب أن يكون صفرا [ لان مكافأة عوامل الإنتاج سبق حسابها]. و إن لم يكن صفرا تنهار نظرية التوزيع النيو كلاسيكية لأن الدخل يصبح أكبر من مكافأة كل من “العوامل”.

الطريقة الوحيدة لتدليل هذه الصعوبة، بالنسبة للاقتصاد السائد، هي تجزيئها إلى قطع و إتيان أجوبة مختلفة حسب المناطق المطلوب استكشافها، دون تأمين أي تماسك إجمالي، هذا التماسك المستحيل سوى بنظرية قيمة ما أعوزه إليها.

لتلخيص هذه المصاعب، التي تعيد إلى نقاش ماركس، تتأرجح النظرية السائدة بين موقفين متعارضين. يتمثل الأول في مماثلة الفائدة مع الربح – و الرأسمال المقترض بكامل الرأسمال المستعمل- لكنه لا يفسر وجود ربح مقاولة. والموقف الثاني يتمثل في تمييزهما، لكن ذلك يؤدي إلى استحالة إنتاج نظرية للرأسمال موحدة. كل تاريخ النظرية الاقتصادية البرجوازية عبارة عن ذهاب و إياب بين هاذين الموقفين المتناقضين، ولم تتم تسوية هذه المسألة بتطور “العلم الاقتصادي”.

لهذا تكتسي نظرية القيمة العمل أهمية خاصة لمعالجة سليمة لظاهرة إضفاء الطابع المالي financiarisation. إن تمثلا واسع الانتشار يقول إن للرساميل باستمرار خيار الاستثمار في دائرة الإنتاج أو أن توظف في الأسواق المالية، و أنها تحتكم بين الاثنين حسب المردود المرتقب في كليهما. لهذه المقاربة فضائل نقدية لكن لها عيب الإيحاء أن ثمة وسيلتين بديلتين لكسب المال. و في الواقع لا يمكن الاغتناء في البورصة سوى على قاعدة اقتطاع من فائض القيمة [ استغلال العمل المأجور]، على نحو يجعل للآلية حدودا، إنها حدود الاستغلال، و يتعذر أن تغذي حركة التثمير بالبورصة ذاتها بلا نهاية.

من وجهة نظرية، يجب أن تكون أسعار البورصة مرتبطة بالأرباح المتوقعة. كانت هذه العلاقة تشتغل جيدا في فرنسا. هكذا كان مؤشر بورصة باريس، بين 1965 و 1995، يتطور متزامنا مع الربح. لكن هذا القانون جرى خرقه بجلاء في النصف الثاني من التسعينيات، فمؤشر CAC40 مثلا تضاعف ثلاث مرات، الأمر الخارق جدا .

و يجب تفسير انقلاب البورصة كشكل من إعادة الأمور إلى نصابها يقوم به قانون القيمة الذي يشق طريقه دون اكتراث بالموضة الاقتصادية. عودة ما هو واقعي تحيل في نهاية المطاف إلى استغلال العمال الذي يمثل “الأساس” الحقيقي للبورصة. إن نمو الدائرة المالية، وما تدر من مداخيل، غير ممكن سوى بتناسب صحيح مع ارتفاع فائض القيمة غير المتراكمة، ولكلاهما حدود جرى بلوغها.

التراكم و الأزمات الدورية

تقترح النظرية الماركسية حول التراكم و إعادة إنتاج الرأسمال إطار تحليلا لمسار نمط الإنتاج الرأسمالي. فلهذا الأخير مبدأ فعالية خاص، لا يمنعه من الاصطدام بانتظام بتناقضات (تمكن حتى الآن من تجاوزها). جعله تاريخه يجتاز أطوار مختلفة تقربه من أزمة منظومية، طاعنا في مبدأ اشتغاله المركزي، دون أن يمكن مع ذلك استنتاج حتمية انهياره النهائي.

نبدأ بمدح قائم على مفارقة: الرأسمالية هي، في تاريخ الإنسانية، أول نمط إنتاج برهن على هكذا دينامية . يمكن قياس ذلك ،مثلا، بالازدهار غير المسبوق لإنتاجية العمل منذ منتصف القرن التاسع عشر، ما جعل ماركس يقول إن الرأسمالية قامت بتثوير قوى الإنتاج. هذا الأداء العالي نابع من ميزتها الأساسية التي هي تنافس الرساميل الخاصة بدافع السعي إلى أقصى مردود.

يفضي هذا التنافس إلى ميل دائم إلى تراكم الرأسمال. هذا التنافس يقلب دوما أساليب الإنتاج و المنتجات ذاتها و لا يكتفي بزيادة نطاق الإنتاج. و لهذه المؤهلات مقابل متمثل في مصاعب هيكلية في الاشتغال تتجلى في أزمات دورية.

يمكن رصد تناقضين مركزيين مطلقا يجمعان ميلا إلى فيض التراكم من جهة، و إلى فيض الإنتاج من جهة ثانية. الميل إلى فيض التراكم مقابل للتنافس: يجنح كل رأسمالي إلى الاستثمار كي يكسب حصصا من السوق، إما بخفض أسعاره، أو تحسين جودة سلعته. وهو محفز إلى ذلك بقدر ما السوق واعدة و المردود مرتفع. لكن مجموع هذه الأفعال، العقلانية عند اتخاذ كل منها على حدة، تفضي على نحو شبه آلي إلى فيض التراكم. بعبارة أخرى، ثمة إجمالا فيض قدرة إنتاج قائمة، و تاليا فيض رأسمال متعذر تفعيله بمردود كالسابق. ما ُيكسب في الإنتاجية يؤدى عنه زيادة في الرأسمال الضروري لكل منصب عمل، هذا ما كان ماركس يسميه التركيب العضوي للرأسمال.

الميل الثاني متعلق بإمكانات التسويق [إمكانات بيع]. يؤدي فيض التراكم إلى فيض الإنتاج، بمعنى إنتاج فيض من السلع قياسا بقدرة السوق على امتصاصها. ينتج هذا الاختلال عن نقص استهلاك نسبي، كلما لم يخلق توزيع المداخيل القدرة الشرائية الضرورية لتصريف الإنتاج. كان ماركس درس مطولا شروط إعادة إنتاج النظام، التي يمكن إيجازها بقول إن الرأسمالية تستعمل محركا بزمنين: هي بحاجة إلى الربح، طبعا، لكنها بحاجة أيضا إلى بيع فعلي للسلع، على نحو يتيح فعلا ذلك الربح، أي “تحققه”.

بين ماركس أن تلك الشروط ليس مستحيلة مطلقا، لكن ما من ضمانة لاستيفائها على الدوام. ينطوي التنافس بين الرساميل الفردية دوما على خطر فيض التراكم، ومن ثمة خطر اختلال توازن “فرعي” الاقتصاد: فرع إنتاج وسائل الإنتاج ( مواد الاستثمار، طاقة، مواد أولية ، الخ)، وفرع إنتاج مواد الاستهلاك.

لكن المصدر الرئيس للاختلال هو صراع الطبقات: لكل رأسمالي كامل المصلحة في خفض أجور عماله، لكن إذا جمدت كل الأجور، تنقص فرص البيع. يجب عندئذ إعادة توزيع الربح الحاصل بفضل تجميد الأجور نحو شرائح اجتماعية أخرى تستهلكه معوضة بذلك نقص استهلاك الأجراء.

هكذا، يتسم اشتغال الرأسمالية بعدم انتظام جوهري. و يخضع مسارها لنوعين من الحركة ليس لهما نفس المدى. ثمة من جانب دورة الرأسمال المفضية إلى تعاقب منتظم للازدهار و الانحسار. و تندرج هذه الأزمات الدورية، الواضحة إلى هذا الحد أو ذاك، في الاشتغال “الطبيعي” للرأسمالية. إنها “أزمات صغيرة” يخرج منها النظام على نحو آلي: طور الانحسار يفضي إلى تبخيس الرأسمال و يخلق شروط الانطلاق من جديد. و الاستثمار هو محرك هذه التقلبات الآلية على نحو ما.

دورات قصيرة وموجات طويلة

لكن للرأسمالية تاريخا لا يقوم فقط بتكرار هذا الاشتغال الدوري المفضي إلى تعاقب فترات تاريخية، مطبوعة بمميزات خاصة. تفضي نظرية الموجات الطويلة التي طورها ارنست ماندل إلى رصد زمني ملخص في الجدول التالي:

تعاقب الموجات الطويلة

موجة طويلة طور توسع طور انحسار

رقم 1 1787-1816 1816-1847

رقم2 1848-1873 1873-1896

رقم3 1896-1919 1920-1945

رقم4 1945-1975 1974-2007

1974-2007 سنوات الثلاثين المجيدة الرأسمالية النيوليبرالية

هكذا، تشهد الرأسمالية، على وتيرة أطول، تعاقب أطوار توسع و أطوار انحسار. يستدعي هذا العرض التركيبي بعض التدقيقات. أولها أنه لا يكفي انتظار 25 سنة أو 30 سنة. يتحدث ماندل عن موجة بدل دورة فلأن مقاربته لا تندرج في ترسيمة عادة ما ُُتنسب- و ربما عن خطأ- إلى كوندراتييف [5] ، من الحركات المنتظمة و المتناوبة للأسعار و الإنتاج.

تتمثل إحدى العناصر الهامة لنظرية الموجات الطويلة في القطع مع تساوق الانعطافات، فالانتقال من طور التوسع إلى طور الانحسار انعطاف “داخلي النمو”، بمعنى انه ناتج عن آليات داخلية للنظام. فيما الانتقال من طور الانحسار إلى طور التوسع هو، بالعكس، “خارجي النمو”، غير آلي، و يفترض إعادة تشكل البيئة الاجتماعية و المؤسسية. الفكرة الأساسية هنا أن الانتقال إلى طور التوسع ليس معطى مسبقا، و انه يتعين إعادة تشكيل “نظام إنتاج” جديد. و يستغرق هذا الوقت الواجب، ومن ثمة فهو ليس دورة شبيهة بالدورة الظرفية التي يمكن ربط مدتها بمدة حياة الرأسمال القار.

لهذا، لا تولي هذه المقاربة أي أولوية للاختراعات التكنولوجية: تقوم التحولات الاجتماعية (ميزان القوى بين الرأسمال و العمل، درجة التشريك، شروط العمل، الخ) بدور أساسي في تحديد نظام الإنتاج الجديد هذا. وطبعا لمجرى الموجات الطويلة علاقة مع معدل الربح. لكن الأمر لا يعني أن طور التوسع ينطلق آليا فور بلوغ معدل الربح عتبة ما. هذا شرط ضروري لكن غير كاف. يجب أن يأتي النحو الذي يتجدد به معدل الربح جوابا مناسبا لمسائل أخرى متعلقة بوجه خاص بالتحقق [الأسواق]. هذا ما يجعل تعاقب الأطوار غير معطي مسبقا.

هكذا، يجب على الرأسمالية أن تعيد دوريا تحديد كيفيات اشتغالها و تقيم “نظام إنتاج” مستجيب على نحو متماسك لعدد من المسائل المتعلقة بالتراكم و إعادة الإنتاج. يجب بوجه خاص تركيب أربع عناصر:

– نمط تراكم يحدد كيفيات التنافس بين الرساميل و علاقة الرأسمال-العمل.

– التكنولوجيا: نموذج من قوى الإنتاج المادية

– الضبط الاجتماعي: قانون العمل، الحماية الاجتماعية، الخ.

– نموذج من قسمة العمل الدولية.

معدل الربح مؤشر تركيبي جيد على ازدواج زمانية الرأسمالية هذه. فهو على المدى القصير يتقلب مع الدورة الظرفية، فيما تلخص حركاته على المدى الطويل الأطوار الكبرى للرأسمالية. و ينعكس إرساء نظام إنتاج متماسك في الحفاظ عليه في مستوى عال “مضمون” تقريبا.

بعد مدة، يتدهور هذا الوضع بفعل التناقضات الأساسية للنظام، وتكون الأزمة دوما و في كل مكان مطبوعة بانخفاض هام لمعدل الربح. و يعبر هذا الانخفاض عن عجز مزدوج لدى الرأسمالية عن إعادة إنتاج درجة استغلال العمال و تأمين تحقق قيمة السلع. و ينعكس الإرساء التدريجي لنظام إنتاج جديد في استعادة سريعة، إلى حد الحد أو ذاك، لمعدل الربح.

هذه الكيفية هي التي تبدو لنا مفيدة لإعادة صياغة قانون ميل معدل الربح إلى الانخفاض: لا ينخفض هذا على نحو مستمر، لكن الآليات التي تدفعه إلى الانخفاض تفضي دوما إلى التغلب على ما كان ماركس يسميه الميول المضادة.

هكذا تظهر بشكل دوري الحاجة إلى إعادة تشكيل نظام الإنتاج. يمكن في آخر المطاف تلخيص المقاربة الماركسية للدينامية الطويلة للرأسمال على النحو التالي: الأزمة أكيدة لكن الكارثة غير أكيدة. الأزمة أكيدة بمعنى أن كل ما تخترع الرأسمالية من تدابير، أو ما يُفرض عليها، لا يمكن أن تلغي على الدوام الطابع مختل التوازن و المتناقض لاشتغالها. وحده الانتقال إلى منطق آخر قد يفضي إلى ضبط قار. لكن ما يطبع تاريخ الرأسمالية من أزمات دورية لا يعني بأي وجه أنها تتجه حتما صوب انهيار نهائي.

في كل من هذه” الأزمات الكبرى” الاختيار مفتوح: إما إطاحة الرأسمالية أو وثبة جديدة بأشكال تكون عنيفة إلى هذا الحد أو ذاك (حروب ، فاشية) و ناكصة (انعطاف نيوليبرالي). هذا هو الإطار الذي يجب فحص مسار الرأسمالية المعاصرة فيه.

بقلم: ميشال هوسون

تعريب المناضل-ة

———————–
إحالات

1. Charles Wyplosz, « Inculture française », Libération, 26 Mars 1998, http://gesd.free.fr/wyplo98.pdf

2. Le Capital, Livre Troisième, Tome II, Editions Sociales, 1970, p. 42

3. Idem, p. 56.

4. Ernest Mandel, Long waves of capitalist development, Verso, 1995

5. Nicolas D. Kondratieff, Les grands cycles de la conjoncture, Economica, 1992.

6. Pour une présentation plus détaillée, voir : Christian Barsoc, Les rouages du capitalisme, La Brèche, 1994, http://hussonet.free.fr/rouages.pdf.

7. Pour un exemple d’application, voir Michel Husson, « Le néolibéralisme, stade suprême ? », à paraître dans Actuel Marx.

شارك المقالة

اقرأ أيضا