تكوين المجتمع المغربي

هناك تاريخ مكتوب، هو تاريخ السلالات الحاكمة والملوك، تاريخ المعارك الظافرة أو الخاسرة، ضد المنافسين المحليين أو الغزاة الأجانب. إلا أن هذا التاريخ لا يعلمنا شيئا ذا بال، ما خلا بعض الوقائع التي نستطيع التقاطها وجمعها فيما بين السطور.

وبإمكاننا إعادة كتابة هذا التاريخ بواسطة أدلوجة مخالفة للسير السلالية المقدسة أو للامبريالية الاستعمارية: وقد يمدنا هذا التاريخ المجدد بالقوة التي ستمكننا من التخلص من الأداليج السابقة. غير أنه مثل سوابقه لن يعلمنا شيئا كثيرا، ما عدا اكتساب وسيلة تمكننا من تنظيم نفس الوقائع والحكم عليها، على شاكلة مغايرة.

كما أن هناك اثنوغرافية مكتوبة من طرف المحتل، انتهت إلى إثبات وجود فروق جهوية فعلية، لكنها كانت مصحوبة بنية معلنة في العمل على استغلال هذه الاختلافات من أجل التفرقة، بحجة سكونية ما سمي بالأجناس غير قابلة للانصهار فيما بينها.

وبمقدورنا اليوم إعادة كتابة هذه الاثنوغرافية، على أساس إنقاذ محصول غني من الوقائع الثابتة علميا، وإن كانت هذه الأخيرة قد سخرت سياسيا، لأهداف غير علمية. وإذن فباستطاعتنا تحويل هذا الكنز وهذا التنوع إلى ثروة ثقافية. إلا أن هذا العمل لن يؤدي في أحسن الأحوال سوى لتكوين متحف فولكلوري وإلا إلى تجميع وقائع هي بدورها غير قابلة للتجانس.

وعليه، فيظهر لنا أن المهمة الأكثر استعجالا ونجاعة هي التي تحدد كموضوع لها إيجاد التفسير عبر التاريخ، لا لكيفية تكون الأمة المغربية، الشيء الذي سيرجع بنا إلى المتاهات الأولى، ولا لكيفية تشكل الثقافة المغربية، وهو ما سيقودنا إلى المتاهات الثانية، وإنما للطريقة التي تم عليها تكون المجتمع المغربي. ذلك أن هذه الطريقة تمكننا في آن واحد من التوصل إلى فهم علمي للنوعين الآخرين من القضايا اللذين تمثلهما الأمة والثقافة.

إن مشروعا من هذا النوع لا يمكن أن يكون ثمرة عمل إنسان واحد، في يومنا هذا. وفيما يخصني فليس لي لا من الطموحات ولا من الكفاءات ما يسمح لي بانجاز هذه المهمة لوحدي. ما أنوي القيام به بكل بساطة، هو محاولة تمهيد الطريق في هذا الاتجاه، بواسطة مجموعة من المحاولات والأخطاء، لكي يصبح بالإمكان، وفي آن واحد، إعادة تأويل الوقائع المتراكمة للتاريخين الاستعماري وما قبله، ومن أجل فتح سبل جديدة أمام البحث الاثنوغرافي والسوسيولوجي، بالمغرب.

1-لماذا تختلف المجتمعات، الواحدة عن الأخرى؟

سبق لعبد الله مازوني أن أبدى تبرمه من المواقف المتميزة بالحشو، لبعض مواطنيه، حينما كتب: .«لقد أصبح من باب تحصيل الحاصل أن هناك خصوصية جزائرية، من شدة ما تكررت هذه الفكرة لدرجة أن كل شيء، أو تقريبا كل شيء خصوصي في الجزائر. الإنسان، المشاكل، الحلول، الاشتراكية، الثقافة، السينما، المسرح، الموسيقى بل وحتى البرتقال. وعلى هذا النحو، نلجأ لاستعمال النعت «خصوصي» والاسم «خصوصية» في كل المجالات، وكأنهما أداة تفسير كونية، لما لهما من مفعول سحري ودلالات ثرة».

إن التيار الفكري المدان هنا، ليس في الواقع جديدا. ومن المفارقات العجيبة التقاؤه مع التيار الذي يدعو إلى سكونية الأعراف والعادات كتبرير للجمود والمحافظة. وإن المعني الحقيقي لأقوال مثل «هكذا خلقنا» و«تلك طبيعة الأشياء» لهو تبرير تقطيع العالم على هويات مجانية من طرف المستفيدين الحاليين من هذه الوضعية. وفي العمق فإن هذا الموقف الفكري لا يعدو أن يكون تحديثنا بسيطا لخلفيات باحثي الحقبة الاستعمارية من اثنوغرافيين وفولكوريين.

إلا أن هذا لا يتنافى مع الحقيقة القائلة بالاختلاف الفعلي للمجتمعات، بعضها عن بعض، في فترات معينة من التاريخ، واتصافها بنوع من «الخصوصية». وبمعنى أنه لا يمكن مقارنتها مع أي مجتمع آخر، وكونها تسلك في تحولاتها مسارات منفردة.

ونخلص من هذا إلى أن انتقاد أسلوب النفاق –أو الهوس- الكامن في الاعتصام خلف الخصوصية الفاتنة يعتبر ممارسة ناجعة لصالح الوقاية الفكرية، شريطة الاعتراف بالواقع المنفرد لمجتمع ما، ومحاولة تشخيص هذا الواقع، بصورة أفضل، وعلى أساس بذل المجهود المطلوب من أجل تفسيره.

إن القول باختلاف المجتمعات يفرض في حد ذاته وضع التساؤلات حول الأدلوجة الثاوية خلف تأملات عالم الاجتماع أو المؤرخ، عن وعي من طرفهما أو دون وعي بها. وكان المرفوض أن يكون من واجبنا قبل الإقبال على المغامرة العلمية، التصريح لدى الجمارك الابستمولوجية للعلم بنوعية السلع الفكرية التي نحملها، تحت مظاهر الكلمات وبطاقات الفرضيات.

إن أقل المحادثات شأنا، إزاء هذه المسألة، سواء كانت بسيطة أو متعالمة، لتثير الكثير من الغرابة، وكأن لم تكن للعلوم السياسية دوما سوى إسقاطات ضعيفة على التعليمين الثانوي والعالي. هناك افتراضات، بل ومسلمات متفيهقة في هذا الخصوص. ولكي نتمكن من إدراك مداها سنعمل على عرض ديوان من الحماقات المناقضة للسوسيولوجيا، كعلم.

أ-النظرية العنصرية أو المتسترة خلف العرقية هي الأكثر ذيوعا

تؤكد هذه النظرية أن مجتمعا ما يختلف عن مجتمعنا لكون أعضائه مختلفين عنا: أي أن بيننا وبينهم فروقا طبيعية تكاد تكوون قطيعة، ثابتة ونهائية، خصوصا عندما يكون أفراده جد مختلفين عنا من الناحية الجسمانية، من جراء لون البشرة أو القامة أو نسق الشعر، أو أحيانا بسبب الاختلاف في المظاهر المرتبطة بنموذج الحياة، بل وحتى بفعل المغايرة الناتجة عن مظهر جد مؤقت مثل اللباس. وتعتبر العرقية ETHNISME بدورها مقدمة للعنصرية أو عنصرية غير مكتملة بمجرد ما تنسب لشعب ما «نفسانية أساسية» مع اعتبار هذه الأخيرة معطى أوليا بدل معالجتها على أساس كونها منتوجا مجتمعيا ليس غير. وحتى ابن خلدون لم يستطع مقاومة هذا الإغراء عندما كان بصدد الحديث عن الشعوب المغربية. أما بالنسبة للاثنولوجيا الاستعمارية فإن أوج السياسية التي كانت تنهجها قد تجلى في إقامة تعارضات من نوع التعارض بين العرب والبربر، ذلك الوهم الذي لم يعدم حتى الآن من يعتقد فيه. وما يزال بين معاصرينا اليوم من يصدر أحكاما مسبقة على سكان مدينة أو ناحية ما، لا من أجل الفكاهة، ولكن لاتخاذها أسسا للتفسير السياسي، بكل بساطة.

إن العنصرية والجنسية ETHNISME تصدران في الواقع عن تيار كامل من المواقف و«التفسيرات» حيال «طبيعة» المجتمع المغربي، شبيه جدا، في عموميته، بمنظور الكيمياء الوسطوية للعناصر المادية للكون، من حيث أنها ثابتة ومتعارضة: كالنار والماء والتربة الخ. وما ترك المجال فسيحا أمام هذه الفيتيشية FETICHISME هو غياب نظرية جدية، حتى لو كانت بسيطة، وعلى شكل خطاطة، بل حتى ولو كانت خاطئة نسبيا، إلا أنها مع ذلك معممة على نطاق واسع.

ب-أما النظرية الجغرافية فأكثر رقة: وبحسبها فإن المجتمعات تختلف بعضها عن البعض الآخر، لوقوعها داخل مناطق «طبيعية» مختلفة (هذا بدون اعتبار الخصوصية الانتروبولوجية لمفهوم المنطقة الطبيعية). وهكذا فللمناخ وللنواحي التي يعيش فيها الناس مفعول على العادات والقوانين ونظام الحكم ومستوى الحضارة. وفي هذا الإطار فإننا نجد ابن خلدون، مرة أخرى، يثير مسألة تأثير الصحراء على المجتمعات الظاعنة. كما نجد مونتسكيو مصرا على مفعول المناخ في الأمزجة وروح الشرائع. بل أننا نجد في المغرب بعض المؤلفات التي لا تغفل عن إثبات العلاقة بين المناخ والتنقل الموسمي، مع أن مجتمعات مستقرة قديمة كانت متواجدة تحت مناخات مشابهة أو أكثر قساوة بل وأكثر تعارضا. وأمام هذه الحجة يصيح أصحاب الرأي السابق: لكن الأمر يتعلق في هذه الحالة إما ببني هلال وأما بالأمازيغ أي بالعنصر الليبي-البربري. وبعبارة أخرى فإن العرقية والنظرية العنصرية تأخذان، مجددا، في الظهور.

ج. تبتدئ مرحلة التعميق النظري التعميق بظهور النظريات التطورية. وبالنسبة لهذا الأخيرة، فإن السبب في الاختلاف القائم بين المجتمعات راجع للدرجات المتباينة التي تحتلها في سلم التطور، باتجاه تحقيق التقدم الذي يتحقق عبر سلوك مسار خطي LINEAIRE ووحيد. وإذا كانت دواعي الحيطة قد حالت دون التعبير عن الأشياء بهذا الوضوح التام، فإلى ذلك يعود جوهر النظريات التطورية، على العموم. وكيفما كان الأمر فلن يعود العنصر أو الجغرافية هما المحددين لـ«طبيعة» المجتمع، وإنما يجب البحث عن جوانب لهذه المسألة في التاريخ الخاص الذي مكنه من تجميع قسط من التجارب والتقدم، على منوال مغاير (لماذا؟ وكيف؟) لبقية المجتمعات. وبما أن مفكري القرن التاسع عشر الاشتراكيين كانوا سباقين إلى تطوير هذه الأفكار فإلى التيار الفكري الاشتراكي، على العموم، ترجع مساندة هذه التطورية، الحتمية، اللارجعية والسائرة وفق خط وحيد.

د- ثم جاءت النظرية الوظيفية الأكثر تفقها، وإن كانت متهمة بالسوداوية، لتزعزع أركان هذا النسق الجميل والمتصاعد. وحسب هذه النظرية، فمرد الاختلاف الحاصل بين المجتمعات إلى مشيئة الصدفة وإلى نتائج المحاولات والأخطاء المكتنزة عبر التاريخ. فعلى شاكلة التنظيمات البيولوجية، هناك بعض المجتمعات التي تتوفر أكثر من غيرها على «قدرة» في مجال من المجالات. فقد يكون هناك ميلان نحو تضخيم المقدسات، كما قد يكون هناك نزوع تجاه التضخم التقني. وعلى هذا النحو (؟) فإن مجتمعا ما قد يكون مجرورا نحو إنتاج المزيد من السلع، في يحن يساق الآخر نحو إنتاج المزيد من الأداليج أو الديانات: ومرجع الاختلاف في هذا الشأن إلى «حاجيات» الشعوب المعنية وإلى المنافسات فيما بينها. وإذا كان هناك من تغاير بين تطور الأنواع البيولوجية وتطور «الأنواع» المجتمعية فإن العلة في ذلك تئوب إلى السرعة في إيقاعات التبدل بالنسبة لهذه الأخيرة، وعلى الأخص إلى ظواهر المثاقفة (لكيلا نسميها ظواهر التدجين) التي أصبحت تفرض نفسها كقاعدة، على مر الأيام. واستنادا إلى هذه النظرية، فإن المجتمعات حينما تدخل في علاقات فيما بينها تصبح في نفس الوقت متنافسة في هذا المجال أو ذاك، مما تنتج عنه السيطرة المتبادلة أو الكلية، ومما يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير كبير في كينونتها، جميعا.

وبالنسبة للمغرب، لم تكن هناك حاجة إلى «توظيف» هذه النظرية، ذلك أنها كانت معاشة بحدة، لدرجة صرنا معها عاجزين عن إدراك التخلف على أساس كونه سيطرة، ليس غير.

ه- ثم ظهرت البنيوية التي طمحت لأن تلعب دور الطليعة في هذا النوع من الأبحاث. وتبسيطا لهذه النظرية –التي نجدها مع الأسف، مبثوثة في نصوص عسيرة الفهم، غامضة غالبا إلى الحد الأقصى، وإن كان هذا التبسيط يحتمل إثارة الجدال مع معتنقي هذه المدرسة، فإن الفروق التي يمكن ملاحظتها بين مختلف المجتمعات ما هي إلا سطحية وثانوية. فالإنسانية واحدة، ووظائفها الأساسية مكفولة في كل مكان، تبعا لعدد محدود من الأشكال الممكنة. ومما تشترك فيه كافة المجتمعات، انتظامها وفق أشكال يحددها نظام من التعارضات الديالكتيكية، معيشة على كافة المستويات، وداخل بنيات ممثلة تمثيلا متساويا، في جميع أرجاء المعمور. كفى إذن من العلية المبتذلة، ومن المعلولات التي تظهر وكأنها مسلمات! كل ما هناك أن اللعبة المجتمعية تحتوي على عدد قليل من الأوراق والقواعد، تتوزع باستمرار وفق أشكال تبدو وكأنها متغايرة، ولكنها في الواقع جد محدودة. وبإمكان خريطة أساسية لمواقع الارتفاع والانخفاض وأماكن الامتلاء والفراغ وكذا لنقط البياض والسواد الخ… تلخيص الفلسفة برمتها، فعلى سبيل المثال هناك توزان بين الدال والمدلول: أي أن تضخيم الشكل (الطقوس والاجتماعات الرسمية) يؤدي إلى تقليص المضمون (اللغو وعدم الإخبار)، ثم أن تقليص الشعائر (الأعلام على عجل) يؤدي إلى تضخم المضمون (الشائعات) وهكذا… وعلى هذه الصورة نتعرف على مجموعة من «قوانين البندول» و«القوانين المتاضدة» المنتمية لديالكتيكية شكلانية، تلك القوانين التي تشكل اللحمة الضرورية لعدد كبير من الأبحاث الجامعية «المتأرجحة».

و-ثم عملت النظريات البنيوية-التوليدية على تعديل التطورية بواسطة البنيوية. وتبسيطا للموضوع، مرة أخرى، فإن النظريات البنيوية-التوليدية تشرح لنا على أن هناك مجالات تكدس فيها المجتمعات، إلى ما لا نهاية (الحياة المادية، على سبيل المثال) أكثر مما توازن. في حين أن هناك مجالات أخرى تعمل فيها على تحقيق التوازن، أكثر من التراكم (الشكل، الفن…).

فقبل اكتشاف الكتابة لم يكن ممكنا للعلوم والتقنيات أن تنتقل وتتراكم إلا بواسطة المواد نفسها (بما يستتبعه ذلك من خلط بين الشكل والمضمون، بين الفن والمهارة، بين الأفعال والطقوس)، وإلا باعتماد الطريقة الشفاهية التي لا تخلو هي الأخرى من الخلط. وفي المرحلة اللاحقة تميزت المجتمعات الما قبل تاريخية بمظاهرها أكثر مما تميزت بمستوياتها المادية. بمعنى أنها كانت متسمة بتضخم في الطقوس وتعقد في المقدسات والبنيات الفوقية، وبمستوى واطئ للقوى المنتجة والتكنولوجيا. إن كل هذا هو ما يفسر الهوس الاثنولوجي وحب الاستطلاع البنيوي تجاه هذه المجتمعات.

وبعد اكتشاف الكتابة، وعلى الخصوص بعد استخدامها في الأغراض الدنيوية، والتي لا علاقة لها بالمقدسات، انقلبت الآية بفعل مسلسل التراكم ذاته الذي أتاحته الكتابة. وكان من نتيجة ذلك أن حققت قوى الإنتاج والتكنلوجيا وإنتاج الخيرات المادية تقدما كبيرا بالنسبة لما تم في مجالات الشعائر والبحث عن الأشكال: الشيء الذي يفسر نزوع التطورية إلى التبسيطات.

فهل يعني هذا أن هناك مجالات تحتفظ فيها النظرية بقوتها التفسيرية، في الوقت الذي تبقى فيه اللعبة البنيوية أكثر ملاءمة في مجالات أخرى؟ لا! إن تداخل هذه المجموعات التفسيرية أشد تعقيدا لكونها تتمفصل حسب أشكالا متغايرة في كل مجتمع على حدة، وعلى مستوى كل صعيد صعيد. وكيفما كان الأمر، فإن كل حديث عن هذه المسألة يجب أن يكون منطلقا من الوقائع.

ز- بين الفولكلورية والشيماوية SCHEMATISME هناك اتجاه آخر للبحث.

كان هذا الاستطراد المدرسي، نسبيا، والمبسط إلى حد ما، ضروريا، لكون المحاولة التفسيرية التي لدى جرأة الإقدام عليها خالية من الحياد والأحكام المسبقة وكثير من المسلمات. وبعبارة أخرى، ففيما يخص هذه المسألة، نجدنا أمام ثلاث احتمالات: أما أن نستمر في الطريق التي انتهجها قبلنا علماء الانثروبولوجيا والفولكور. فنضيف ملاحظاتنا إلى ملاحظاتهم، مع قليل أو كثير من التوفيق والموهبة. وأما أن نقدم على بناء انساق تعتمد في توضيحاتها على الوقائع المعروفة مسبقا، وأما أن نغامر في الطريق المؤدية إلى التقدم في معرفة الواقع، بفتح النقاش حول النظريات انطلاقا من الحقائق.

ويظهر لنا على أن الالتجاء إلى تجميع وقائع يطبعها التشتت والعزلة، بعيدا عن النظريات السارية الآن في العالم، أمر متجاوز وفولكلوري في نفس الوقت. كما يبدو لي أن الإعلان عن نظريات غير مدعومة بالوقائع، مثله مثل انتقاء الوقائع وترتيبها، داخل هذه النظريات، مسألة على قدر كبير من الدوغمائية. وإذن فمن الضروري، كما يتراءى لي، المغامرة بالبحث عن التفسيرات للكيفية التي تم عليها تشكل المجتمع المغربي، في خصوصيته التاريخية، انطلاقا من الوقائع التي تعرفها.

وإذا كان تصنيف مجتمع ما، في مرحلة معينة من التاريخ، مسألة تبدو وكأنها ضرورة أولية بالنسبة لعالم الاجتماع أو للرجل العملي، فإن الباحث المحلل سرعان ما يصطدم بتعقد وانتشار وتزايد الأنواع، فضلا عن الأنواع المصغرة الخاصة، جهوية كانت هذه أم محلية أم مؤقتة. ومن أجل الخروج من هذه البلبلة، غالبا ما يتم اللجوء، أما إلى المونوغرافية وإما إلى الشيماوية والتعميمية، أو يقع الارتداد إلى النوع المسيطر، باعتباره محملا بالمستقبل، من الناحية التاريخية.

ودونما ريب، فمن شأن تراكم المونوغرافيات، إثبات وقائع اجتماعية ملموسة، على مستوى الزمان والمكان، يمكن استمالها في التفسيرات والتركيبات. غير أنه في الظرف الراهن، وبسبب الافتقار إلى نظرية عامة في تصنيف المجتمعات الحقيقية، فإن المونوغرافيات تغفل عن الخصوصيات المميزة لهذه المجتمعات وتعمل بالتالي على تأجيل فهمها.

ومن باب تحصيل الحاصل أن الشيماوية والتعميمية واعتبار النسق الاجتماعي السائد وحده، أمور تؤدي إلى تفقير خطير للواقع. صحيح أن هذا التفقير يبدو لحظيا وكأنه إجرائي بالنسبة للعلم، بل وعملي بالنسبة للسياسة، لتلاؤمه مع مقتضيات الممارسة. إلا أنه، فعليا، عاجز عن تصوير تعقدات الواقع، ومسؤول في أغلب الأحيان عن فشل هذه الممارسة.

وهكذا، فلن نعثر بين مختلف النعوث التي توصف بها المجتمعات القروية (تقليدية، ما قبل صناعية، ما قبل الرأسمالية، إقطاعية، مائية، قبلية، أبوية، عشائرية) وبين الحياد الظاهري لانتشار مونوغرافيات جهوية، بل وقروية، على أية مقاربة قادرة على تزويدنا بنموذج سليم للواقع. فعندما نقوم بقراءة الأدبيات السوسيولوجية والاثنوغرافية المتعلقة بالمجتمعات الفلاحية، وكذلك بغيرها، يحصل لدينا انطباع بأن هناك من جهة، نماذج لمجتمعات «أصيلة»- مثلما نقول عن البلور والمعدن أنهما أصيلان –والمقصود اتسامهما بالانسجام الداخلي، ومن جهة ثانية أمثلة عن مونوغرافيات لمجتمعات مصغرة تعج بالسمات المتناقضة، يعرضها علينا مؤلفوها للتأمل، دونما قدرة على السيطرة على تعقدات الواقع، بسبب تنافرها الداخلي المستعصي على كل محاولة تفسيرية.

ولهذه الاعتبارات، فإن موضوع هذا البحث، هو محاولة طرح مشكل تصنيف المجتمعات، على طريقة مغايرة من شأنها استشفاف الوسائل القمينة بالخروج من المأزق السالف الذكر.

وعليه فإني سأطرح للنقاش ملفا أوليا وذا طابع عام، ستتبعه فيما بعد ملفات أخرى، تحليلية أكثر، قصد التوسع في فكرة التركيبية المميزة للمجتمع المغربي. والبحث في أصله عبارة عن محاضرة ألقيت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف «جمعية الأبحاث الثقافية»، استهدفت بأسلوبها ولغتها تعميم فكرة التركيبة في بناء المجتمعات. وقد تعمدت إعطاء المناقشة طابع البساطة لضرورتين اثنين: أولاهما تتعلق بتمكين عدد ممكن من الناس من المناقشة، وثانيهما بالبرهنة على أن التبسيط لا يعني بالضرورة تفقير المفاهيم.

2-لأي شيء تصلح معرفة مجتمعنا من الناحية العملية؟

إن المسألة التي أريد أن نتساءل حولها هي كالتالي: في أي مجتمع نعيش؟ ما هي طبيعة المجتمع المغربي الحالي؟ وهذه قضية ليست بأكاديمية. إنها لا تهم عالم الاجتماع وحده، بل كلا من مواطني هذا البلد. وسواء كان ذلك عن وعي أو عن غير وعي، فإنها توجد خلف جميع المحادثات السياسية التي تجري بين أناس هذا المجتمع في لحظات الأزمات، كما في لحظات السكونية الظاهرية.

إن معرفة ماهية المجتمع الذي نعيش فيه تعني في الواقع:

– فهم ما يجري في المجتمع وجعل الملاحظات والمعلومات اليومية التي نلتقطها من الشارع أو أثناء قراءة الجريدة قابلة للإدراك.

– إدراك تطورات هذا المجتمع وتحركاته العميقة، كالتي تظهر من خلال النكث والأحاديث التي تجري داخل مقهى، والقدرة على اكتشاف ما هو في طريق الفناء أو على العكس في طريق الأوج والسيادة، مع ملاحظة ما هو بصدد النشوء والنمو. وبعبارة أخرى فإن هذا يعني الاستعداد لملاحظة التبدلات وتقييم علاماتها وفق قيمتها الحقيقية.

– التفاهم حول معنى سلوكنا الخاص. فإذا كان كل منا مكونا داخل هذا المجتمع وبواسطته، فإن معرفة هذا الأخير تكمن في القدرة على تكييف سلوكنا مع تطوره على أحسن وجه. وهذا ما لا يتم عن طريق وضع الأرائك «في اتجاه التاريخ» كما يقال، ولكن برفضنا لأن نكون لعبة وموضوع التحرك الاجتماعي وتصميمنا على أن نكون أصحاب التغير الاجتماعي وصانعيه الوعاة، بدل أن نكون ضحايا له أو مستفيدين سلبيين منه.

– البحث عن سبل لتحويل المجتمع، بالكشف عن نقط ضعفه ومكامن قوته ومقاومته وجهازه الدافع. كما تعني معرفة المجتمع توجيه أنشطته وجهة القضايا المهمة على نحو علمي والاختيار الواعي للأشياء التي سنوظف فيها جهدنا وطاقتنا، ولما سوف نوليه العناية اللازمة.

وإذن فإني اعتقد على أن معرفة المجتمع الذي نعيش فيه مسألة هامة. ومع ذلك فإننا لا نملك عنها سوى أفكار جد غامضة وجد عامة، وفي اغلب الأحيان خاطئة.

3- تعريف سالب للمجتمع المغربي

حينما تطرحون هذا السؤال: «ما هو المجتمع المغربي في سنة 1971؟» وإذا كنتم تقرؤون الجرائد المغربية أو الأجنبية وتراجعون الكتب المتخصصة في الموضوع، فإنكم ستعثرون على ألف جواب متناقض، وفي أكثر الأحيان على أجوبة غير مدققة، ولا علمية غالبا. ففي أحسن الأحوال نجد اهتماما بدراسة الخصائص الجزئية للمجتمع المغربي: وعلى سبيل المثال، فقد كانت دراسة القبيلة موضة منذ سبعين عاما. ثم أصبحت الطبقة العاملة منذ خمسة وعشرين سنة موضوعا لعدد من الدراسات. كما أن هناك دراسات قليلة، من الصنف الجاد، عن نوعية الفيودالية المغربية. إلا أن المجتمع المغربي في كليته، لم يكن يوما مدروسا، إلا بكيفية جد سطحية وجد متنافرة.

ومن حقنا أن نتساءل حول العوامل التي جعلتنا لا نملك عن مسألة بمثل هذه الأهمية سوى أجوبة لا مرضية. والواقع أن لهذه الظاهرة أسبابا كثيرة! وأهمها كون أفراد المجتمع يتكاتمون فيما بينهم حقيقة الواقع الاجتماعي، لما يمثله المجتمع من حقل لمنافساتهم، بل وميدان لمصارعاتهم من أجل الحفاظ على الحياة وتحقيق التقدم الاجتماعي. ولهذا الاعتبار يجب أن لا نفاجئ حينما نرى صاحب أسهم أو لاعبا، مثلا، يرفضان الكشف عن اللعبة التي يمارسانها، بصفة كلية: إذ يلجآن إلى إخفاء ما يعرفانه ويعمدان في أغلب الأحوال إلى ترويج أخبار ناقصة، إن لم تكن خاطئة. وقياسا على ذلك، فإن مسألة مثل طرح المجتمع كله للمناقشة هي بمثابة لعبة أشد خطورة من سابقتها.

ومن ناحية ثانية، فإن المجتمع نفسه لا يتمتع بالشفافية الكافية. فيجب على الإنسان أن يقوي على التجرد الجزئي من ذاته، ويصبح موضوعيا، من تلقاء إرادته، وأن يوجد على مسافة ما، مؤقتا، بينه وبين الواقع الاجتماعي، لكي يستطيع فهمه. كل هذا مع الإبقاء على إمكانية الرجوع إليه، قصد التأثير فيه، الشيء الذي يفقد بدونه ذلك الموقع الذي يمكنه من الملاحظة والفعل. وعلى سبيل المثال فقد كان علماء الاجتماع المنتمين لعهد الحماية قبليين نظرا لاحتياجهم للقبيلة من الناحية السياسية. إلا أن كون القبيلة حقيقة غير منازعة ليس معناه قابلية المجتمع المغربي للاختزال إلى الظاهرة القبلية. وبالمثل فغننا نجد لدى المناضل السياسي ميولا نحو النزعة العمالية، نظرا للتقييم المتميز الذي يخص به أهمية ومستقبل الطبقة العاملة، غير أن معرفة المجتمع المغربي لا تقبل الاختزال إلى دراسة «صراع الطبقة العاملة ضد أرباب العمل والامبريالية».

إن أول خطوة في سبيل إيجاد تفسير جديد للمجتمع تكمن في توجيه النقد للتفاسير السابقة ولمختلف الأوصاف المغلوطة التي أطلقت على المجتمع المغربي.

أ-يقال مثلا على أن المجتمع المغربي مجتمع رأسمالي:

وعلى العموم، فهذا معناه أن الرأسمال المالي أو التكنولوجي يمثل المصدر الأساسي للسلطة وتنظيم المجتمع، وأن قانون الربح الأقصى هو الذي يحرك الناس في هذا البلد، وأن الحساب الرشيد لمردودية التوظيفات يمثل الشكل الأمثل لأنشطة أصحاب المشاريع، وأن العمل المأجور هو النموذج العام للعلاقات السائدة بين الأشخاص داخل الإنتاج الخ…

وهذه نظرة جد قصيرة وجد ناقصة.

فمما لا شك فيه أن للرأسمال المالي أهمية كبيرة في بعض القطاعات التابعة للصناعة الكبرى، إلا أن الرأسمالية أبعد ما تكون عن تنظيم المجتمع المغربي بأكمله، وهذا مثال عن الحدود التي لا تتجاوز نطاقها في المغرب:

لا نجد ضمن سبعة ملايين من الأشخاص العاملين سوى سبعمئة ألف من المأجورين الدائمين، معناه أن 10% على الأكثر من السكان تحكمهم علاقات إنتاج من النوع الرأسمالي، أي تلك التي تربط بين رب العمل والعمال المأجورين الأحرار. ويمثل هذا الرقم الحد الأقصى. إذ يوجد ضمن سبعمئة آلاف مأجور ثلاثمئة موظف وجندي يعيشون داخل علاقات إنتاج جد مختلفة عن تلك التي يحيا داخل إطارها العمال. أما بقية السكان أي أكثر من 90% فتحكمها علاقات إنتاجية مخالفة للعلاقات السائدة بين المأجورين: التبعية الفيودالية، العمل العائلي، التعاون القبلي الخ…

ومن جهة أخرى فحتى لو فرضنا أن القطاع الرأسمالي سائد في المجتمع بأكمله، فما زال دوننا تصنيف هذه الرأسمالية: هل هي رأسمالية المانفكتورات الأولى، أم رأسمالية وطنية، هل هي رأسمالية الدولة أم رأسمالية واقعة تحت سيطرة الشركات المتعددة الجنسية الكبرى؟

ب- كما يقال على أن المجتمع المغربي مجتمع فيودالي.

وبصفة عامة فهذا يعني أن العلاقة الرابطة بين الإنسان والإنسان، بين القن والسيد، بين الخادم والمولى، بين الصاحب والسيد، هي التي تشكل المنبع الرئيسي للسلطة وتنظيم المجتمع.

وهذه رؤية صحيحة أيضا، لكنها ناقصة وغير كافية، مثلها في ذلك مثل الإجابة السابقة حينما خلصت إلى تأكيد الطابع الرأسمالي للمجتمع المغربي.

ومن المؤكد أن مسألة البيعة والوفاء الشبه الصوفي للزعيم، وكذا حقائق مثل قدرة رب عمل صغير على تسريح من يشاء دون الخضوع لقانون، والنظرة على الشغل باعتباره مستعبدا الخ… كلها لأشياء تدل على ما للنموذج الإقطاعي من أهمية كبرى. ويكفينا عقد مقارنة بين الكيفية التي يسير عليها معمل للزرابي ومصنع حديث، بين ضيعة حديثة تشغل عمالا دائمين متخصصين ويستعملون الآلات وبين الأسلوب اللاتفوندي LATIFUNDIA في استغلال الأرض، وبواسطة الخماسة أو الشركاء، لكي نعرف أن نموذج الإنتاج الإقطاعي سائد في كثير من الجهات.

لكن مع ذلك لا يفسر كل التنظيم الاجتماعي. فعلينا أن نستثني منذ الآن عشر السكان الذين قلنا آنفا بأنهم أجراء، لارتباطهم بعلاقات إنتاجية رأسمالية. إن هذه الطبقة العاملة المتمركزة في المدن وفي بعض المراكز المعدنية (50% من المستفيدين من الأمن الاجتماعي والتابعين للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، يسكنون المدن) واقعة خارج سيطرة النموذج الإقطاعي للإنتاج، إلى حد كبير. كما يجب أن نستثني مجموع الجزء الفلاحي المنظم على أساس النموذج القبلي. وبالمثل يجب سحب النساء في جزءهن الأكبر –أي نصف السكان- لوقوعهن تحت الوصاية الأبوية للأب أو للزوج.

هذا إذا اقتصرنا على العلاقات الاجتماعية. لكن تأملات من هذا النوع يمكنها الانطباق على العلاقات القانونية أيضا، أي على الحقوق . فنحن نعرف أن قسما كبيرا من المجتمع القروي يراعي، فعليا، الأعراف التقليدية والقبلية، وأن الحق الممارس في أغلب الأحيان، داخل العائلة، إنما هو حق الأب.

وعلى رفض أن القطاع الفيودالي للمجتمع المغربي يمثل كافة المجتمع، فما زالت هناك حاجة إلى وصفه. فهل يتعلق الأمر بإقطاعية من النوع الأوربي الوسطوي أو الياباني أم بإقطاعية مملوكية، أم بنوعية خاصة جدا، تتطلب بالتالي وصفا خصوصيا: القايدية المخزنية CAIDALISME MAKHZENIEN.

ج-وإذن فباستطاعتنا القول على أن المجتمع المغربي قبلي، مثلما نستطيع نعته بكونه أبويا، مع البرهنة على إمكانية وصفه، جزئيا، بكونه كذلك، ولكن في نفس الوقت على أن هذا الادعاء يحتوي الكثير من الأخطاء.

وإذن، فدون الذهاب إلى ابعد مما فعلنا، هناك العديد من الأجوبة المحتملة، إلا أنها جميعها غير مقنعة، حقيقة.

وهناك من يتخلص من المشكل بإطلاق صيغ غامضة ومركبة: مثل القول بأن المجتمع المغربي ما قبل رأسمالي. غير أن هذا التعريف غير كاف لكون هذا المجتمع رأسمالي أيضا. ثم أن هناك أشكالا مختلفة للكينونة الما قبل رأسمالية. فهل لنا أن نعتمد مثال السعودية أم السنغال؟ وهناك آخرون ممن يقولون بأن المجتمع المغربي نصف إقطاعي. لكن ما نصفه الآخر؟ وبالتالي هل هو قبلي-إقطاعي-رأسمالي أم إقطاعي-رأسمالي؟ إن هذا لا يعني شيئا ذا بال.

يجب الاعتراف بالبديهيات: إن مجتمعنا غير متجانس. لكن هل توجد، حقيقة، مجتمعات متجانسة؟ وما هو المجتمع المتجانس؟ هل من وجود لهذا النوع؟

وهل هناك مجتمعات أكثر تجانسا من غيرها؟

4-ما هو المجتمع النموذجي، المجتمع المتجانس؟

تعتمد الرؤية الأحادية للتاريخ ولتعاقب المجتمعات في الزمان على الفكرة القائلة بتعويض التشكيلات الاجتماعية، بعضها للبعض الآخر، بصفة كاملة، بمتناسبة تبدلات قد تكون أقل أو أكثر عنفا أو إصلاحات وثورات قد تكون ذات أصول خارجية أو داخلية.

وقد تم تخيل هذه التشكيلات الاجتماعية وكأنها منسجمة، وعلى صورة طرز أو نماذج مثالية، لكون هذه التشكيلات نفسها تعلن عن ذاتها على أساس كونها كذلك. وإذن فإن مختلف المظاهر والمستويات المرتبطة بالواقع الاجتماعي لهذه المجتمعات تبدو وكأن بعضها يفسر البعض الآخر. وعلى سبيل المثال يفترض على أن مستوى واطئا من التكنولوجيا والعلم (انعدام الكتابة وضعف الأدوات لا بد وأن تقابله سيادة الطاقة البشرية على سائر أنواع الطاقات الأخرى (الحيوانية والمائية والميكانيكية)، وبالتالي سيقابله إعطاء الأهمية البالغة للإنجاب والقوة الجسيمة التي سوف تكون منسجمة مع التوزيع الجنسي للعمل والعلاقات القانونية الأبوية وكذلك مع المؤسسات التي تكون لحمتها بل وحتى مع الأدلوجة (الآلهة البيتية عبادة الأموات، الاعتقاد في قدسية الدم…).

أ-فلندرس مثل الحالة الخاصة بالمجتمع الأبوي، كما يتصور كينونته هو ذاته، وكما يريد لنفسه أن يكون. ولنلاحظ نموذج الإنتاج والتنظيم السائدين حتى الآن في المغرب، على نطاق واسع، ونعني المؤسسة العائلية، خصوصا في الأمكنة التي يراد فيها مراعاة التزوج ببنت العم.

في مثل هذه المجتمعات لم تحقق الثقافة إلا تقدما بسيطا، كما أن الطاقة المستعملة بها طاقة بشرية بالأساس (المرأة تحمل جرار الماء فوق ظهرها والرجل رزم القمح). إن الكائنات البشرية هي التي تقوم بكل شيء. فالحيوانات لا تشتغل إلا ناذرا، ولا وجود للآلات (مطحنة الدقيق مدارة باليد). أما العجلة فتكاد تكون غير معروفة والحيوانات لا تجر العربات، بل تحمل حدا أدنى من الأثقال فوق ظهورها. الإنتاج ضعيف جدا، والطاقة البشرية هي الراجحة. أما العماد الأساسي للعيش والحفاظ على الحياة فمرتبط بعدد الناس الذين تجمعهم علائق التضامن. المشكل القائم إذن هو إقناع الناس بارتباط بعضهم بالبعض، لكي يقووا على مغالبة الطبيعة وإنتاج المزيد من الخيرات الاستهلاكية. ويرتكز المجتمع الأبوي على فكرة وجود علاقة صوفية مستمدة من الإنسان الذي يتيحه الأب. وإذن فكون الطفل ابنا للأب الفلاني يعتبر بمثابة الحقيقة الأساسية التي تفسر تقريبا كل الحقائق الاجتماعية الأخرى في المجتمع الأبوي. وتعتبر القرابة بالعصب، أي الذرية التي أنجبها الذكر نوعا من الأمة. فكل شيء خاضع للعائلة، والأب مصدر لجميع السلطات. فهو الذي يوزع العمل والمداخيل، وهو التشريع المطبق بمعنى أن إرادته عبارة عن تشريع. ومن هذا المنطلق نستطيع تفسير العديد من ملامح المجتمع المغربي الحالي، مثله في ذلك مثل مجتمعات أخرى ما تزال تحمل سمات المجتمع الأبوي، كأشكال الإرث والميل نحو حرمان البنات من الميراث والبكارة المحظورة وتقديس الأموات والعلاقة القائمة بين العمر والسلطة وفضل القدامى ومجموعة أخرى من الوقائع اللغوية. وكمثال على هذه الأخيرة نشير إلى أن أصل شرف آت من العمر الذي اشتقت منه كلمات جد مختلفة بالنسبة لنا ولمجتمعنا المعاصر كـ حكيم ومعمر وشريف. إننا نعثر على جميع هذه الملامح في مجتمعنا. لكن هناك سمات أخرى تتناقض معها.

ب-ولنأخذ حالة أخرى. حالة المجتمع الرأسمالي

إن تبلور العمل في صورة الرأسمال الأساسية في هذا المجتمع. ذلك أن تقدم العلم والثقافة قد أتاح اكتشاف المكائد الكفيلة بتعليب العمل الإنساني داخل الآلات، ثم أدى تعبئة عمل كتل بشرية متزايدة، باستمرار، ومتوفرة على تقانة متنامية، إلى إكراه المجتمع على ابتكار ضمان الشغل واستقرارية العمل، لكيلا يتم تبديد وتشتيت الرسملة التقنية التي تحققت في العمال. ثم أخذ المجتمع بعد ذلك في مفاوضة المأجورين الذين انتظموا شيئا فشيئا في النقابات. أما على المستوى القانوني فإن ما يميز هذا المجتمع هو قيامه على العقد، أي أنه يبحث باستمرار على تقنين علاقات القوى بين المنتجين بواسطة النصوص التشريعية والاتفاقيات والدساتير والمؤسسات. كل شيء منظم قصد تمكين الرأسمال من التراكم ولأجل تحقيق الربح. وقصارى القول أن المجتمع الأبوي كان ينتج البشر، في حين يعمل المجتمع الرأسمالي على إنتاج السلع والربح.

ج-إذا ركزنا التحليل على بعض الملامح المميزة للواقع الاجتماعي، فإننا نستطيع، بناء على الحقائق التي وفرها ما يقرب من قرنين من البحث الاثنوغرافي إنشاء عدد ضئيل (حوالي عشرة) من المجتمعات النموذجية. وإذا كان آخر تصنيف كامل، نسبيا، لأنواع المجتمعات من وضع كورفينش GURVICH، فإن المناقشات الأخيرة في كل من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا E.P.H.E ومركز الأبحاث والدراسات الماركسية C.E.R.M، حول نموذج الإنتاج الآسيوي، قد زادت شيئا ما من هذا العدد.

إلا أن حدود هذه النماذج متمثلة في عدم واقعيتها وطابعها المصطنع وسهولتها المغرية، تلك التي تدفع بالملاحظ إلى الاعتقاد في فهم شيماتيكي للنمط الذي ينتمي إليه مجتمع محدد، انطلاقا من بعض الخصوصيات. ويتجلى الخطر الآخر في ترك الملاحظ بدون أية إمكانيات أو وسائل، حينما يجد نفسه أمام خاصية لا تتجاوب مع النموذج، الشيء الذي يدفعه إلى تصور وجود أجناس وأنواع كثيرة داخل النموذج الواحد. والحقيقة البديهية هي أنه لا وجود لمجتمع نموذجي، ذلك أن تشكيلات اجتماعية منسجمة تمام الانسجام ستكون، لو كانت موجودة، بدون تاريخ وبدون تبدل، وسوف تعيد إنتاج نفسها وفق صورتها الأصلية، بدون انقطاع، تماما مثل ميكانزمات الساعة التي تسيرها حركة أبدية.

5-ما هو المجتمع المركب SOCIETE COMPOSITE

إن المجتمعات التاريخية والفعلية هي بطبيعة الحال مجتمعات متنافرة، مركبة ولا منسجمة. وتكتشف على مختلف مستويات واقعها الاجتماعي معالم متناقضة، معللة في جزء منها بمنطقها الداخلي، وفي جزئها الآخر بالتأثير الخارجي، وفي جزئها الأخير بالثوابت التاريخية، في تداخلاتها مع أنماط أخرى من التشكيلات الاجتماعية. وسرعان ما تتضح لنا استحالة إنشاء نمط لمجتمع فعلي بدون الرجوع إلى التاريخ والبيئة (وكذلك لتاريخ البيئة، بداهة). وحتى بالنسبة للمجتمعات المكون، ظاهريا، من لا شيء –وأعني المجتمع الشمال أمريكي-، أو بالنسبة للمجتمعات التي بقيت مغلقة لمدة طويلة (البداوة العربية أو الصحراوية والطوائف الجبلية) فإن نمط المجتمع الخالص أو المجتمع النموذجي غير ملائم.

ومع ذلك، فبإمكاننا أن نكشف، عند التحليل، ونبرهن على وجود ملامح تخص هذا أو ذاك من المجتمعات المرجعية. ونخلص من هذا، بسهولة إلى الطابع المركب لمجتمع الفعلي، كما لو كان –من وجهة نظر ميكانيكية صرفة- مكونا من أجزاء وأعضاء لمجتمعات نموذجية مختلفة، إما متجاوزة، تاريخيا، وإما واقعة على المحيط.

ففي المجتمع المغربي، مثلا، هناك تعايش بين الشراكة والعمل المأجور والتعاون. كما أن هناك تعايشا بين الطاقات البشرية والمائية والميكانيكية والكهربائية. ويوجد الحق الأبوي في تعايش مع التقاليد القبلية والنظام الفيودالي والتشريع القرآني والقانون العصري. وتتواجد المؤسسة العائلية مع الجماعة القروية وشبكة الأسياد والدستور. ونجد عبادة الأموات جنبا لجنب مع الممارسات السحرية-الدينية والإسلام والعلم الحديث الخ… الخ..

بإمكاننا مضاعفة الأمثلة إلى ما لا نهاية. ويظهر اطلاع سريع على حقائق الأمور أن هذه الوضعية أبعد ما تكون عن الاختصاص بمجتمع معين وعلى أن هذا التفكير عادي وعام في نهاية المطاف. والسؤال المطروح هو معرفة كيفية استعمال هذا المعتاد لكي نتمكن من بناء مسألية إجرائية لفائدة تصنيف سليم.

إن الحديث عن التعايش بين الخصائص المختلفة يخفي الطبيعة الحقيقية للعلائق القائمة بين الوقائع الاجتماعية. ومن الواضح أن إثبات هذا التعايش يعتبر لحظة نافعة وحيادية أثناء ملاحظة خاصية التعدد التي تطبع المجتمع. إلا أن الوقوف عند هذا الحد يعود بنا إلى فكرة المجتمع- «الجوطية» Société bric-à-bracحيت تتواجد جنبا لجنب الأشياء الثمينة والمنحطة، ومثلما تتعايش داخله بقايا الماضي مع التجديدات الاجتماعية-التاريخية.

والحقيقة هي أن الوقائع الاجتماعية تدخل في تأليف مع الواقع الاجتماعي على اختلاف مستوياته وتشكل أسبابا ونتائج لوقائع اجتماعية أخرى. فلا وجود لبقايا وآثار ليست لها قيمة ذاتية أو بدون تأثير على الواقع. كما لا وجود لمستحدثات لم تخلق انطلاقا من الواقع التاريخي. ومما لا شك فيه أن أداة معينة –كالشاقور الحجري مثلا- يمكن اعتبارها أثرا تاريخيا، بحيث لا يمكن استعمالها كشاقور في مجتمعنا. إلا أنها تلعب في نفس الوقت، بالنسبة لمجتمعنا دور الشاهد العلمي والمنشط الفكري الباعث على الإيمان بالتطور والتقدم، الشيء الذي يزيل عن هذه الأداة كل صفة أثرية.

إن التعايش بين وقائع اجتماعية لا متجانسة ومتباعدة تاريخيا، من الناحية الظاهرية، هو في الواقع تعايش لا سلمي. ذلك أن التضاد هو القاعدة التي تحكم العلاقات فيما بينها. ثم أن تناقضاتها تحتمل التجديد بل وحركة المجتمع نفسها. والتغيير الاجتماعي ليس تعويض نموذج للإنتاج بآخر أو تشكيلة اجتماعية بأخرى، ولكن الصراع الدائم في مجتمع حقيقي معين بين جميع مكونات هذا الأخير وعلى كافة أصعدة الواقع الاجتماعي: من التكنولوجيا إلى الايدولوجيا. أي على صعيد العلاقات الإنتاجية والاجتماعية والقانونية وعلى مستوى المؤسسات والمعتقدات وعالم الرموز… وعلى مستوى التجريد يستحيل إعطاء الأولوية لأحد هذه المستويات على الأخرى باعتباره أكثر فعالية وتأثيرا، لكون الأمر يختلف حسب الحالات. وها هنا يمكن الاستفادة من الثروات التي تتيحها الدراسات المونوغرافية.

أ-على مستوى التكنولوجيا، لنأخذ مسألة الطاقة بالمغرب.

ففي المدن نجد الطاقات الكهربائية والغاز والمازوت هي السائدة وفي طريقها نحو السيطرة التامة. كما نجد أن العربات التي تقودها الجياد (الفياكر) قد اختفت والمطاحن تشتغل بالكهرباء والأفران بالمازوت. وقد دخلت هذه الطاقات الجديدة في تنافس مع الطاقات الحيوانية والإنسانية وانتصرت عليها، نظرا لانتظام المجتمع برمته بكيفية قوت من قدرتنا على المنافسة. ثم إننا نجد التموين الذي يغطي المسافات البعيدة قد تحقق وأحيانا بفضل الاتفاقيات الدولية. كما أن التقانة اللازمة للقائمين على التجهيز الكهربائي والتسخيني أصبحت مضمونة بفضل انتشار المدارس الخ… لكن ما أن نبتعد عن مدينة الرباط ببضع عشرات الكيلومترات حتى نجد الطاقة الكهربائية في تلاشي مطرد، يتلوها في ذلك الغاز ثم المازوت نفسه، لكي تعوض بالطاقات الحيوانية أو المائية البسيطة (المراوح). ويشكل تثبيت مضخة آلية مشكلا كبيرا بسبب بعد الميكانيكيين وصعوبة التموين من حيث قطع الغيار والفيول الخ… وعلى عكس ما رأينا آنفا فإن الآلات الخشبية والطاقات الحيوانية والمائية شديدة المنافسة هنا بالقياس إلى الطاقة الحديثة. وكلما توغلنا في الجبال لاحظنا المنافسة قائمة بين الطاقتين الحيوانية والبشرية. هناك إذن نوع من التمركزية في التنافس القائم بين الطاقات والمستويات التكنولوجية في هذا البلد.

ب-ولنأخذ على سبيل المثال نية المشرع في تغيير الإيجار بالقرى (نسبة الريع العقاري ومدة الكراء…)

في لحظات محددة من التاريخ وفي مناطق معينة نلاحظ أن مميزات الإيجار المطبقة فعلا (أي النسبة والمدة) خاضعة لمجموعة من العوامل. بداهة نجدها مرتبطة بعلاقات القوى القائمة بين ملاك الأرض ومالكي قوة العمل. لكنها مرتبطة أيضا بتوزيع الأرض والتكنولوجيا ونظام الأسعار ونوع الاقتصاد (تبالي، كفائي) والتنظيم الاجتماعي (نظام الأحلاف) والايدولوجيا (قدسية الملكية) الخ… وهكذا فبإمكاننا الإتيان بالمزيد من العوامل المتحكمة في نسب ومدد الإيجارات القائمة وننطلق منها للمغامرة في تعيين العوامل الراجحة التي يجب التأثير عليها، كالتشريع الجديد المفروض بواسطة القوة العمومية، مثلا. غير أنه سرعان ما يتضح، أمام التحليل، بأن إغفال العوامل الاجتماعية السائدة فعلا أو الاختيار فيما بينها، بناء على رؤية إيديولوجية أو دوغمائية للواقع، مخاطرة كبيرة. ذلك أن الأسئلة الرئيسية التي تتطلب الجواب لا تتعلق فقط بالعلاقات القانونية ولكن بالتناقضات السائدة في المجتمع. فكيف يتطور هذا الأخير؟ وإذن فلن يمكن تناول مشكل تغيير النسب إلا بالانطلاق من المعرفة الشاملة للمتضادات الأساسية، ليس فقط على مستوى المجتمع بأكمله، ولكن على مستوى العوالم الصغيرة التي تمثلها المناطق والقرى.

ج- ولنأخذ الآن مستوى العلاقات الاجتماعية

استطيع الإتيان بنفس الوصف. ففي المدينة يوجد إجراء قارون ومختصون، يتمتعون يضمان الشغل واحترام نسبي للحقوق النقابية والضمان الاجتماعي وربما بحق الاستشفاء والتقاعد إلى غير ذلك من الأشياء التي أصبحت من متطلبات المستوى العالي للتقانة. وكلما ابتعدنا قليلا وجدنا أنفسنا أمام إجراء مؤقتين، فصليين، بدون أية ضمانة، إلا ما كان من أجرة محددة تؤخذ في آخر النهار أو عند نهاية كل أسبوعين. وكلما ابتعدنا أكثر وجدنا الشركة والخماسة، أي أجرة غير مضمونة تؤخذ من منتوج العمل بعد تأدية الديون المستحقة. وكلما زدنا توغلا وجدنا نماذج إنتاجية أخرى تميزها قنانة تكاد تكون كاملة أو عمل عائلي لا يؤدي عليه.

وبالإمكان القيام بنفس الوصف على مستوى العلاقات القانونية والإيديولوجية، بالنسبة لجميع المستويات وكافة العوامل المؤثرة في المجتمع، وصف ليس في واقع الأمر شيئا آخر غير الذي تقومون به أنتم أنفسكم، كل يوم.

لقد تتبعت في هذا الوصف خط الابتعاد عن المدينة. لكن هذا مجرد خدعة. والحقيقة، كما تعلمون جيدا، فهذا موجود في المدينة الواحدة. ويكفي أن ننتقل في مدينة الرباط من حي إلى حي لكي نمر من علاقات اجتماعية منتمية لمجتمع رأسمالي جد متقدم إلى علاقات اجتماعية فيودالية أو شبيهة بالرقية. المدينة الواحدة! ماذا أقول؟ أحيانا نجد في العائلة نفسها مالكا رأسماليا، لديه خادمة تخدمه مقابل الإعالة، على الطريقة الفيودالية، وفي نفس الوقت ولدا مناضلا تقدميا. لكن هذا موضوع سنرجع إليه فيما بعد.

إن الوقائع الاجتماعية المتبارية في المجتمع الواحد تمتلك قدرات متباينة على التنافس حسب الزمان والمكان. إلا أن هناك على المدى الطويل اتجاها نحو هيمنات لا رجعة فيها، وإن كنا أحيانا شهود تراجعات مؤقتة.

6-مجتمع مركب أم مجتمع انتقال؟

لكن لنعد إلى وصف المجتمع المغربي. نستطيع أن نقول منذ الآن على أنه مجتمع مركب، بمعنى أنه لا ينتمي لا إلى هذا الصنف ولا ذاك، بصفة أصيلة، وإنما تساهم مجموعة من النماذج الإنتاجية في تكوينه الاجتماعي. فما هي هذه النماذج الإنتاجية المتنافسة حاليا، في المغرب؟ لقد سبق أن عرضنا لها في الصفحات السابقة. الأبوي، القبلي الفيودالي، الرأسمالي. هناك الاشتراكي أيضا. إلا أن هذا الصنف من التشكيلات الاجتماعية غير موجود سوى على مستوى الأدلوجة والتنظيم السياسي. بمعنى أنه لا يتوفر لا على قواعد مادية ولا على منشآت منتجة بالمغرب. فكيف تنتظم هذه النماذج الإنتاجية الأربعة وما هي آفاق تطورها؟

ليس بوسعنا الإجابة على هذا السؤال بكيفية مبسطة جدا. لأن الأمر يتعلق بنوعية العوامل الاجتماعية المرعية والعلاقات القائمة بين المجتمع المغربي وغيره من المجتمعات في العالم. فإذا اعتبرنا المستوى التكنولوجي، مثلا، فسنجد على أن أفق المجتمع المصنع هو صاحب الهيمنة بدون منازع. فمما لا شك فيه أن المكننة والكهربة والآلية، كلها أشياء في تقدم لا يقبل المقاومة. ثم أن هذه المقدرة على المنافسة وهذا التقدم على المستويين العلمي والتكنولوجي قد أعطيا ويعطيان نتائجهما تدريجيا، طبعا، على صعيدي المكان والتنظيم المجتمعي: القانون الحديث، المدرسة، الديمقراطية، العلم، الخ… كما أنهما سيرجعان القهقرى بالخماسة والعرف والأمية والاستبداد والخرافات الخ.

غير أن هذا لا يمر دون ظهور مقاومات على بقية الأصعدة. فهناك عوامل اجتماعية أخرى لها نفس القدر من الاستقلال الذي يزودها بنوع من القدرة على المزاحمة ورفض النمط العصري. فالمؤسسات مثلا تقدس حكما إقطاعيا، وبالتالي فهي توزع السلطة لا على أساس التقانة وإنما انطلاقا من الوفاء وشبكة الزبناء وملكية الأرض. وعلى مستوى العائلة تلاحظ على أن النموذج الأبوي هو المسيطر مما يؤدي إلى خلق مقاومات نتيجة للعلاقات الاجتماعية السائدة ووضعية المرأة الخ…

وتأسيسا على هذا، فإذا شئنا وضع تعريف للمجتمع المغربي فسنكون مضطرين إلى صياغة كل ما تقدم. ومن جهتي سأقول على أن المجتمع المغربي الحالي هو، من الناحية السوسيولوجية، مجتمع قايدي مخزني، يمارس هيمنته على القبيلة الآخذة في الاندثار، وعلى الأبوية التي وجدت ملجأ لها في العائلة ووضعية المرأة. إلا أن هذه القايدية نفسها تعاني من سيطرة الرأسمالية العالمية في مجالي الإنتاج والمبادلة.

والسبب في ذلك أن الرأسمالية هنا مستوردة. إذ أن المغرب واقع في محيط الرأسمالية الدولية الكبرى التي توغلت، لمجموعة من الأسباب، لن أحللها هنا، في المجتمع المغربي، على كافة مستويات الواقع الاجتماعي، وعلى الخصوص على صعيد التكنولوجيا (بيع المعدات والتقانة) والعلاقات الاجتماعية السائدة داخل منغلقات قانونية ومؤسساتية معدودة (المدن الكبرى الساحلية).

ومع التسليم بأن كافة المجتمعات الفعلية والتاريخية مجتمعات مركبة، فهذا لا يمنع من كونها تنتمي إلى أنواع مختلفة، حسب توافقها النسبي مع النموذج-المثال.

ويمكننا في هذا المجال أن نميز المجتمعات ذات النموذج المسيطر، بحيث نستطيع القول مثلا، بأن المجتمع الشمال-أمريكي مجتمع رأسمالي، على اعتبار السيطرة المطلقة التي يمارسها النموذج الرأسمالي للإنتاج وباعتبار تحويله لحقائق مثل بقايا المجتمعات القبلية التي تعيش على الصيد في المناطق المخصصة للهنود الحمر ووقائع تابعة مثل الجماعات المتعاونة وتكافل الطوائف المرمونية وكذا مخلفات الميز الموروثة عن النظام الرقي القديم، إلى ظواهر سالبة وثانوية.

كما يمكننا أن نميز مجتمعات الانتقال مثل المجتمع الكوبي والصيني أو المجتمع الفرنسي في بداية القرن التاسع عشر، تلك المجتمعات الباحثة طواعية، عن تصفية الماضي والعلاقات الاجتماعية القديمة ونماذج الإنتاج السابقة، بغية تحقيق النموذج المثالي (اشتراكية الدولة، الاشتراكية الجماعية، الرأسمالية الليبرالية…) سواء توصلت إلى أهدافها أم لم تفعل.

وأخيرا نستطيع إطلاق اسم «المجتمعات المركبة» على بعض المجتمعات التابعة للعالم الثالث، كمجتمعنا، حيث يتميز نموذج الإنتاج السائد والمتوفر على قدر كبير من الديناميكية والقدرة على المزاحمة (الرأسمالية الدولية) بالافتقار لسلطة الدولة والاضطرار بالتالي إلى المكرور عبر مؤسسات نموذج للإنتاج وأجهزة مجتمع تابع هو المجتمع القايدي المخزني.

إن اصطلاح المجتمع المركب –المتعارض مع اصطلاحي المجتمع التابع والمنتقل- ذلك الذي وصفناه بكون سلطة الدولة والمؤسسات فيه غير موجودة في أيدي نموذج الإنتاج المسيطر فعلا، يجب أن يطلق على ما يبدو على حالة مؤقتة، وربما ثابتة، من التوازن المتأرجح، حيث التناقض بين نمو قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج من جهة وبين مستوى التنظيمات المؤسساتية والعلاقات الاجتماعية والقانونية من جهة ثانية، في نمو مطرد. وقد لا يشكل هذا الصنف من المجتمعات نسقا اقتصاديا ذا قوانين متميزة نظرا لعجزه عن القطيعة مع الماضي، من الناحية النظرية واضطراره الدائم إلى التعامل بل وتقوية هذا التعامل. والسبب في ذلك راجع إلى أن المجتمع المركب «يعمل» لفائدة نسق آخر يسلبه فائض القيمة وإلى إضاعة سلطة الدولة للوسائل الكفيلة بتحقيق الانسجام داخل المجتمع، أي للوسائل القمينة بتصفية المخلفات وتجاوزها.

لقد سبق لشارل بتهايم (CHARLES BETTLHEIM) أن سجل في كتابه «الانتقال نحو الاقتصاد الاشتراكي» ما يلي :

إن ما نسميه بـ«المخلفات» (كتعبير عن بقايا ماض لم يتوفر التاريخ على الوقت الكافي لمحوها) ليس «أجساما غريبة» عن البنيات التي تحتضنها، كما يدعى، بل نتاجا لتلك البنيات، في واقع الأمر، إذ أنها ليست أجنبية عن هذه الأخيرة. إنها بعبارة أخرى نتيجة لمجموع العلاقات المكونة للبنيات الدالة على مستوى النمو الذي بلغته قوى الإنتاج وللتفاوت في النمو الذي يطبع هذه القوى وكذلك لعلاقات الإنتاج المرتبطة بهذا التفاوت. وإذا كنا ننظر هذه «الأجسام الغريبة» وكأنها «مخلفات» فمرد ذلك إلى الخطأ في إدراك الارتباطات الداخلية للبنيات التي تنتجها، إدراكا عميقا».

ومن وجهة نظري فإن بتلهايم مخطئ عندما لم يفرق بين مجتمعات الانتقال والمجتمعات المركبة، إذ لم يقدم لنا سوى صنفين: المجتمع المعقد ذي النموذج المهيمن ومجتمع الانتقال. وأعتقد فيما يخصني على أنني قد برهنت على الطابع المميز والإجرائي لمفهوم المجتمع المركب.

وعلى ما يبدو فبإمكان مفهوم المجتمع المركب العمل على التقدم بالتصنيف الاجتماعي إلى الأمام، على النحو الذي تسمح به خطاطة أو نمط من التدرج في معرفة شيء ما، دونما قدرة على استنفاذ خصوبته. والمسألة كلها محصورة في اتخاذ إجراءات منهجية، لا ميكانيكية، تنطلق من بناء أنماط التماسك الباطني لمجتمعات متخيلة، تلك الأنماط التي تحقق لها الكثير أو القليل من الوجود الكامل، من خلال الماضي التاريخي لمجتمع بعينه. ومن شأن تحديد المستويات الحرجة للواقع الاجتماعي، داخل المجتمع التاريخي الحالي –أي تلك التي تعتبر منشأ الأزمات والمتضادات الرئيسية وعلاقات القوى السائدة- السماح بإبراز العلاقة الجدلية القائمة بين مكونات الواقع الاجتماعي-التاريخي.

والواقع أن هذه المكونات تكشف عن طبيعة اللعب بين تلك المتضادات على مستوى ثلاث أزواج رئيسية: المتضادات الشمولية القائمة بين تشكيلة اجتماعية وأخرى (مثال ذلك المجتمع الرأسمالي المصنع والمجتمع الفيودالي)، والمتضادات الخصوصية بين مستويين متماثلين لتشكيلتين اجتماعيتين مختلفتين (ومثال ذلك القانون القائم على العرف والقانون العصري، المحراث والجرار، العمل المأجور والمناصفة)، وأخيرا المتضادات الباطنية لمجتمع تاريخي فعلي بين مركبات مستوى معين (مركبات علاقات الإنتاج، مثلا) ومركبات مستوى معين آخر (مركبات العلاقات القانونية). ومن شأن موضعة هذه الأنواع المختلفة من العلاقات الجدلية –أفقيا بين مستويات مختلف التشكيلات الاجتماعية، كل منها على حدة، وعموديا بين مختلف مستويات التشكيلة الاجتماعية الواحدة، وشموليا بين التشكيلات الاجتماعية المتباينة –من شأن هذا التموضع إثراء النمط المقدم. ولا ريب في أن إحدى مخطورات هذا التحديد لأنواع العلاقات الديالكتيكية، تفقير الواقع الحي إلى حين. إذ أن مزاياه اليوم كامنة في تمكيننا من ترتيب أفضل وتصنيف أحسن واستقبال أمثل للمعطيات المونوغرافية.

وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم المجتمع المركب يساعد، على صعيد الممارسة، على الكشف عن مدى فعاليات التقدم ومقاومات المحافظة، وباختصار على توضيح اتجاه الحركة العامة. كما يتيح تحقيق تلاؤم أمثل بين الإصلاحات المزمع تطبيقها وبين تعقيدات الواقع. وعلى هذا النحو ستتغير نظرتنا للمجتمع من مجرد ساعة محكمة التركيب أو صندوق قمامة للماضي إلى البوتقة التي تنفذ من خلالها إلى المستقبل.

7-إنسان المجتمع المركب:

إن مفهوم المجتمع المركب يفتح سبلا جديدة أمام الدراسة الاقتصادية للمجتمعات المعقدة التركيب وبالطبع أمام دراستها السوسيولوجية. طالما أن موضع العلوم الاجتماعية لا يقبل الفصل، على افتراض الاختلاف بين هذه الأخيرة فيما يرجع لمناهجها. إلا أن فائدة المفهوم لا تقف عند هذا الحد، إذ يفتح المجال أيضا نحو اكتشاف سيكولوجية جديدة، هي سيكولوجية إنسان المجتمع المركب.

يعمل الناس الذين يعيشون في المجتمع المركب باستمرار على تكييف سلوكهم مع الواقع المعقد كي يتمكنوا من لعب أدوارهم داخله. فمن خلالهم تجد التناقضات التي يعج بها المجتمع حلها ويقع تجاوزها. كما أنهم لا ينقطعون عن تركيز إرادتهم ورغباتهم حول الخاصيات التي تبدو لهم سائدة، وهذا على مستويين مختلفين: المستوى الفردي والجماعي. إن الإنسان الذي غادر في الصباح بيته، حيث تمارس الزوجة عبادة الأجداد، متقلدا خنجره الفضي، كرمز للرجل الحر وللنبل والشرف التقليديين، وممتطيا دراجته النارية، كوسيلة للتنقل السريع، قصد ملاقاة موظف مأمور وقابل لأن يحصل له على قرض، بواسطة المعارف، بمناسبة الحملة الفلاحية وبفائدة محددة مسبقا، مقرون بضمانة تأخير الأداء، في حالة الكوارث التي وقع حساب احتمال وقوعها وفق قوانين الاحتمالات، ولكنها أيضا تلك الكوارث التي سيحاول إلقاء شرها بالتضرع للعلي القدير، وربما بفضل الاحتفال الجماعي (PROCESSION) متبوع بالتضحية بكبش، تقديما للقرابين… إن هذا الإنسان العادي، على العموم، والذي نجده مع اختلافات يسيرة، في كل أنحاء العالم ليس متناقضا. بل هو منطقي إلى أبعد الحدود، لانسجامه مع التعددية التي تطبع المجتمع وتجاوزه لتناقضاته عن طريق تكيفه المستمر مع جميع متطلبات الحياة الاجتماعية.

إن الإنابة عما في سلوكه من علاقات الأبوية أو القبلية أو الإقطاعية وعما فيه من دلالات على الصناعة والتوجه نحو المستقبل، عمل يؤدي في واقع الأمر إلى التعرف على طبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه. وبالنسبة للحالة التي يوجد عليها بالضبط فإنه في ذلك الصباح لم يكن عابثا حينما حاول التلاؤم مع تعقيدات الواقع وإنما عمل على توزيع مراهاناته أحسن توزيع ممكن. ولن نفهم أي شيء لتصرفاته إذا ما اكتفينا بالقول بأن المجتمع الذي يمارس فيه هذه الأدوار يغلب عليه الطابع الرأسمالي أو الفيودالي أو التقليدي. كما أننا لن نتقدم أكثر إذا قلنا بأن هذا المجتمع هو المجتمع المغربي لسنة 1971، في إحدى نواحيه، لما تفقده هذه الخصوصية من كل فائدة إجرائية.

والواقع أن المسألة الأخيرة التي أريد فحصها متعلقة بوضعية الإنسان المغربي، أي بوضعية المجتمع المركب. كيف نعيش داخل هذا المجتمع؟ كيف نقوى على التكيف داخل عالم على درجة من التعقيد، بحيث يحتوي أربعة نماذج على الأقل من المجتمعات، إن لم نقل خمسة، بالنسبة للذين يضيفون لهذه الوضعية صعوبة زائدة هي انتماؤهم الاشتراكي أو مشيئتهم في أن يكونوا اشتراكيين.

هاكم الجواب إذن! إننا مرغمون جميعا على تحقيق توازن داخل شخصياتنا وعلى إحداث توافق بين كافة هذه المجتمعات المتنافسة وشتى مميزات هذا المجتمع الذي يتخذ له يوما آلاف الأشكال التي لكل منها منطقها ومرجعها وقاموسها وتقاليدها بل وأحيانا لسانها الخاص.

وإني لأدعوكم لتشاهدوا معي منظر فلاح ذاهب لمراجعة مكتب محلي للإدارة الفلاحية، لسحب ملفه الخاص بالحصول على قرض لبناء حظيرة، بعد ما تلقى نبأ الموافقة على طلب له بهذا الخصوص. لقد خرج من بيته مرتديا جلبابا أبيض ومتقلدا خنجرا (كمية) باديا جدا للعيان، مما يرمز للرجولة الحرة أو للارستقراطية الفلاحية القديمة. ثم ما لبث أن ركب دراجته النارية بعد ذكر اسم الله، طلبا للسلامة وشهادة على الورع الديني. وحيث أن دراجته لم تنطلق جيدا فإنه كان مجبرا على تنظيف نضاحة البنزين. وواضح أن هذا عمل تقني. ثم أنه قد وضع في جراب دراجته الدجاجة التي سيهديها للمسؤول الإداري مقابل تسليمه ملفه الشخصي. وها أنه قد وصل إلى مركز الاستثمار. إلا أن الجهل بأمور المكاتب والخوف من أن يكون معرضا للإنكار، حينما يقدم نفسه بإحداهما (مشكل الهوية والرشد الاجتماعيين في المجتمع القايدي) جعله يقصد أحد أبناء العم الذي يشتغل كميكانيكي بأحد المعامل (العلاقة العائلية). غير أن هذا الأخير شرح لصاحبنا كونه مجرد عامل، مما جعل الدخول إلى المكاتب بالنسبة له أمرا غير ميسور، وبالتالي مسألة التدخل لفائدته شيئا صعبا (توزيع العمل والأدوار من النوع الرأسمالي البيروقراطي). ومع ذلك فسيحاول الاعتماد في انجاز هذه المهمة على موظف صغير تعرف عليه مؤخرا بمناسبة الإصلاح الذي أجراه على سيارته دون أن يأخذ منه مقابل ذك العمل بعد. وقد وفق صاحبنا في نهاية المطاف للدول إلى مكتب مدير المركز عد توصيات معقدة، لا داعي لا من الناحية القانونية وأمكن الاستغناء عنه جزئيا أو الاستعاضة عنها بالانتظار طويلا أمام مكتب المدير. وكما كان منتظرا فقد قدم فلاحنا دجاجته لهذا الأخير. ودونا شك فإن معرفة ما إذا كانت دجاجته مقبولة أم لا مسألة ممتعة. لكن الأمتع من ذلك تحليل معنى هذه الهدية أو هذا الأجر أو هذه الرشوة بالنسبة للفلاح. ذلك أن التداخل الوثيق بين هذه المظاهر الثلاثة يجعل من سبر أغوار نفسانيته شرطا للإجابة على السؤال. وعلى كل، ومن وجهة نظر فلاحنا، فإن مكافأة هذا الموظف المرموق والمتواجد داخل مكتب يبدو بابه صعب الاقتحام لا تقع على الدولة وحدها وإنما على عاتقه كذلك. يدخل صاحبنا أثر ذلك في محادثات حول القرض نفسه، أي حول الوضعية المعقدة لكل من القرض والمساعدة. ذلك أنه سيأخذ قدرا ماليا يتم تسديده، اسميا، بفائدة (لا شك أنه اكتسب تجربة في القروض الربوية ذات فوائد أعلى بكثير مما يطلب منه اليوم. إلا أن الربا كان مسألة لا مشروعة في حين أن الدولة، في هذه الحالة هي التي تقرض بفائدة، قانونيا وبواسطة عقد مكتوب) ويحصل في نفس الوقت على مساعدة من الدولة، قصد بناء حظيرته، لها طابع الأعطية أو المساعدة أو الحظوة. إن القرض والفائدة والأعطية والحظوة، في هذه الحالة، أشياء مترابطة أشد ما يكون الارتباط بحيث يصعب علينا معرفة ما إذا كان الأمر متعلقا بالرأسمالية أم بالفيودالية أو حتى بالاشتراكية. وكيفما كان الأمر فليس هذا كل شيء. فمازال على فلاحنا تأمين نفسه ضد الحريق والاستماع إلى شروح حول احتمال تعرض حظيرته للصواعق أو للاشتعال نتيجة إهمال الرعاة واستحالة الاستفادة من القرض في حالة مثول هذه المخاطر. عليه إذن أن يفهم مبادئ حساب الاحتمالات والإحصائيات والبروسبكتيف، في وضعية تتصف بسيادة مناخ يطبعه الغرر، وفي وضعية ثقافية يظهر المستقبل من خلالها مستحيل التوقع ما دام الإنسان يشعر بنفسه أعزل أمام الطبيعة وبإزاء اضرابه من الناس الآخرين. وأخيرا فهو ملزم بالإمضاء. إلا أن مسألة الاسم غير بسيطة لأنه وإن كان معروفا باسمه واسم أبيه في القرية التي ينتمي إليها فإن هذا الاسم سرعان ما يفتقد معناه بمجرد الارتفاع إلى مستوى الجماعة أو مركز الاستثمارات، وآنذاك سيكون بحاجة إلى الشهود وحضور المقدم بل والشيخ، الشيء الذي لا يعمل على تسهيل المهمة. إلا أن الجانب المأساوي في المسألة يتمثل في الرجوع بصاحبنا الفلاح، بغتة، إلى العصور القبلية والإقطاعية بعد ما كان يخاطب قبل حين بلغة الإحصائيات وقوانين الأعداد الكبيرة والتعاضديات.

وكما ترون فهذا واحد من الأمثلة المبتذلة اليومية، نرى من خلاله مساهمة الفلاح الدائمة في مجتمع بالغ التعقيد يستعصي عليه فهمه كلية واتخاذ سلوك منطقي واحد إزاءه، في جميع الأعمال التي يأتي بها. ونظرا لذلك فإن المصالح الشخصية هي الوحدة الفريدة التي يحدد داخلها سلوك ومعنى تصرفاته. وإن التطور الخارق الذي عرفته الفردانية في بلادنا، حاليا، ليجد مصدر تفسير هاهنا، أي في هذا الواقع الاجتماعي المعقد.

وقد تقولون بأن هذا المثال بعيد عنكم ولا يعني سكان المدن وخصوصا منهم المثقفين. فإليكم مثالا آخر.

إنها محادثة تلفونية تجري داخل أحد المكاتب الإدارية بالرباط. يتلفن عون إداري إلى موظف آخر سبق أن تعرف عليه بإحدى الثانويات، أيام الدراسة. وكان موضوع المكالمة هو طلب توظيف أحد أبناء عمومته: يلح صاحبنا على مسألة القرابة، مذكرا مخاطبه أثناء الحديث، بنبرة ولغة خاصتين، بانتمائهما معا لنفس المنطقة وربما لذات القبيلة. كما لم يغفل عن إحياء ذكرى أحد رفاق الثانوية الذي توفق في حياته الإدارية، كما يقال، والحالة أنه على اتصال مستمر به. ثم يشير بعد ذلك إلى أن الشخص الذي يقترحه للعمل إنسان يتحمل تكاليف عائلية كبيرة ويعيل ولدين وثلاث بنات. ولم يفته التلميح إلى أن هذه الخدمة سترد بمثلها: إذا قدمت اليوم لي هذه الخدمة فستحتاجني أنت غدا. إلا أن هذا لم يحل دون الحديث عن مستوى الديبلوم الذي حصل عليه ابن العم، وهو شهادة غير عالية جدا، حسب الجواب، الشيء الذي عقب عليه المخاطب بكونه يشك في وفرة وظائف شاغرة مناسبة لهذا المستوى، وإن كان سيبذل الجهد المطلوب لكي يرضي رغبة صديقه. وأخيرا وأثناء تبادل التحيات الأخيرة، بالعربية، وهي نفس اللغة التي تم استعمالها عند مبادلة الكلمات الأولى، دعا صاحبنا مخاطبه لتناول طعام العشاء. لقد أصبح هذا المشهد وإضرابه عاديا ومبتذلا إلى الحد الذي لم يعد يهتم به أحد، حتى البرامج التلفزيونية نفسها. إلا أننا لو أولينا العناية الكافية لفحص كافة دلالاته لاكتشفنا كل ذلك الغموض الراجع إلى تعقد المجتمع ومختلف أنظمته القيمية التي تتعايش وتتصارع وتتبارى داخل مجتمعنا.

عم يعبر سلوك موظفنا وهو على خط التلفون، عن الرياء أم عن الانتهازية؟ لقد لاحظناه ملتجئا إلى مجموعة من الحجج المتعاقبة، وكأنها من باب تحصيل الحاصل، لكي يتلاعب بها، عن غير وعي. وواضح أنه إذا كان من المؤكد أن لكل مجتمع معاييره وقيمه وأخلاقه. فإن إنسان المجتمع المركب يلعب على جميع النوطات وكافة النبرات. إنه يتابع أهدافه الشخصية والفردية بل والجماعية أحيانا، دون فحص ما إذا كان هذا الإجراء أو ذاك السلوك يعملان على تقوية أم هدم أخلاق ما أو منظومة من القيم بعينها. وبعبارة أخرى فإنه يستهزئ في الواقع بقيمة كل الأنساق الاجتماعية، على الرغم من افتخاره، من جهة ثانية، بكونه عصريا أو محترما للتقاليد أو «فعالا» أو اشتراكيا. إن هذه العقائد لا تستتبع، بالنسبة للكثيرين تغييرا في السلوك، في حين أن الكينونة داخل المجتمع تعني قبل كل شيء اختيار التصرف على طريقة ما. إلا أنه عندما نعيش في مجتمع مركب، يتكون لدينا ميل شخصي نحو اكتساب سلوك وأخلاق مركبة.

على أن تغيير المجتمع واختيار نمط للحياة جديد بهدف إقامة مجتمع حديث يتطلب حياة أخلاقية جديدة ويستوجب سلوكا وأخلاقا منسجمة في مجتمع يصبو للانسجام. وهذا ما يطرح إشكالية القطيعة.

ومشكل القطيعة هذا ليس جديدا. لقد اطلعت مؤخرا على فهرست ابن عجيبة وهو عالم صوفي من أصل تطواني، توفي حوالي 1810. استنكر ابن عجيبة، على طريقته الخاصة، تصرفات معاصريه، مرشدا إياهم للطريق المؤدية نحو التوحيد الكامل للشخصية (التوحيد الخاص) في اتجاه شعبي، بواسطة القطيعة مع العادات (بخرق العوائد). وإنني لعاجز عن العثور على أحسن خلاصة لصعوبة الوجود في هذا المجتمع المركب غير الصيغة المشهورة: كن حازما فستتقدم! إلا أن هذه أخلاق المجتمع الانتقالي، السائر على نهج تصفية الإنسان القديم.

بقلم: بول باسكون

تعريب أحمد حمايمو مجلة المشروع العدد 4 حزيران/يونيو 1981

——-
– 1في كتابه «الثقافة والتعليم بالجزائر والمغرب العربي». ماسبيرو، باريس 1969، صفحة 13

-2 أنظر بودرالبة وباسكون: القانون والواقع في المجتمع المركب: مدخل لدراسة النسق القانوني المغربي، نشر بالمجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع ص 17 عدد 117.

-3منشورات ماسبيرو، باريس 1968، ص 13

شارك المقالة

اقرأ أيضا