فاتح نوفمبر 1954: ذكرى انطلاق الثورة الجزائرية

بيانات11 يناير، 2015

مساندة الأممية الرابعة للثورة الجزائرية
المناضل-ة عدد: 31

في الفاتح من نوفمبر يحيي الشعب الجزائري ، ومعه كل أنصار الحرية والعدالة الاجتماعيةـ ذكرى انطلاق الثورة الجزائرية التي كانت الأكثر تقدما في الكفاح ضد الاستعمار بالمنطقة المغاربية. وقد حظي نضال الشعب الجزائري المضطهد بمساندة أممية كان في طليعتها مناضلو الأممية الرابعة.

لإلقاء الضوء على إحدى انصع صفحات التضامن الأممي ننشر فيما يلي نصوصا عن اوجه مساندة الماركسيين الثوريين للثورة الجزائرية . المادة التالية مقتطف بتصرف من مقال مطول بعنوان “الرفيق بابلو و الأممية الرابعة و حرب الجزائر بقلم PATTIEU Sylvain في موقع la breche numerique

الاممية الرابعة تقيم مصنع أسلحة قرب القنيطرة بالمغرب

خلال حرب الجزائر كانت أول شبكة تشكلت لمساندة جبهة التحرير الجزائرية مرتبطة بالفرع الفرنسي للأممية الرابعة، الحزب الشيوعي الأممي بارتباط مستمر مع الأممية. فقد دعم الفرع الفرنسي المنظم حول بيار فرانك جبهة التحرير الوطني باعتبارها قيادة الانتفاضة الجزائرية، لأن التروتسكيين يؤيدون مطالب استقلال الشعوب المستعمرة، لكن أيضا لأنهم كانوا يأملون زعزعة النظام الرأسمالي الفرنسي و جعل “ثورة المستعمرات” تمتد إلى أوربا. علاوة على الأنشطة” التقليدية” لــ”حاملي الحقائب”، قامت الشبكة التروتسكية بعمليتين كبيرتين بحفز من ميشال رابتيسMichel Raptis المعروف باسم بابلوPablo، وهو من قادة الأممية من أصل يوناني. جرى إنشاء أول مصنع أسلحة لفائدة جبهة التحرير الوطني الجزائرية في المغرب بدءا من العام 1960، مع متطوعين من مختلف الجنسيات . وحاول بابلو صناعة أوراق بنكية فرنسية مزيفة لصالح جبهة التحرير الوطني، ما أدى إلى اعتقاله و محاكمته في أمستردام . وقد استقر بابلو و أنصاره بالجزائر بعد استقلالها حتى انقلاب بومدين في العام 1965، وكان بابلو أحد مستشاري بن بلة.

ولد ميشال رابتيس في العام 1911 بالإسكندرية في مصر، لكن واديه كانا يعيشان في اليونان منذ 1916، كان طالبا في اثينا في مدرسة البوليتكنيك حيث حصل على دبلوم مهندس مديني. انضم في العام 1928 إلى مجموعة شيوعية منشقة و شبه سرية و انحازت بسرعة إلى المعارضة اليسارية للستالينية. وكان بابلو قريبا من بانتليس بوليوبولوس القائد التاريخي للتروتسكية اليونانية الذي أعدمه الجيش الايطالي. وانتمى بدءا من العام 1934 إلى المنظمة الشيوعية الأممية باليونان التي ضمت مختلف المجموعات الشيوعية المنشقة. التقى عام 1936 من ستكون رفيقة حياته هيلينا مسؤولة الشبيبة الشيوعية. اعتقل رابتيس في العام ذاته بعد انقلاب الدكتاتور ميتاكساس، ونفي إلى جزيرة. اطلق سراحه في 1937 وطرد من اليونان و استقر في باريس. شارك في مؤتمر تأسيس الأممية الرابعة عام 1938 مندوبا عن الفرع اليوناني. عندها اصبح معروفا باسم بابلو، و افاد المجموعات التروتسكية الفرنسية بتجربته في العمل السري.
على طريق مساندة جبهة التحرير الوطني الجزائرية ج.ت.و.ج

كانت الانتفاضة التي انفجرت يوم 1 نوفمبر 1954 بالجزائر بداية حرب دامت 8 سنوات، وكانت مفاجأة للتروتسكيين كما للحكومة ، لكنها كانت للأولين مفاجأة سارة. كان مناضلو أقصى اليسار بفعل نزعتهم الأممية ميالين إلى مساندة مطالب استقلال الشعوب المستعمرة، خاصة أن مبدأ “الانهزامية الثورية” يعتبر كل ضربة لامبريالية بلدهم تعني تقدما للثورة. ربطت الأممية الرابعة صلات بمختلف حركات الاستقلال التي تطورت: دعمت نضالات تحرر الفيتنام و الجزائر رغم ان قيادة الثورتين كانت بيد وطنيين. فيما يخص الجزائر كانت الصلات مع مصالي الحاج القائد التاريخ للحركة الوطنية الجزائرية صلات قديمة. أيدت الأممية الرابعة بلا تردد مطالب الاستقلال التي تقدمت بها جبهة التحرير الوطني – ج.ت.و- مع ايلاء اهمية كبيرة للدينامية التي انطلقت. يقول بابلو في تقرير داخلي للحزب السيوعي الأممي:” ان فصلا جديدا قد انفتح في نضال تحرر تلك البلدان… وان هذا التحرر لا يمكن وقفه”

الأممية الرابعة، اول شبكة مساندة لـ ج.ت.و.ج

فور اتخاذ قرار مساندة جبهة التحرير الوطني الجزائرية ربطت الصلات بسرعة مع فرعها بفرنسا. وذلك عبر ايفان كريبو Yvan Craipeau، الذي كان وجها بارزا بالحركة التروتسكية الفرنسية ، وكان سكرتيرا لتروتسكي في العام 1933، وقائدا لانشطة التروتسكيين بفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية. وكان انسحب من الحركة سنة 1948 بمبرر عصبويتها اثر فشل محاولة توحيد مع الشبيبة الاشتراكية المنشقة عن حزبها. اتصل به مسؤول من جبهة التحرير الوطني (ج.ت.و) طالبا منه “مساعدة ملموسة” فربط له كريبو الصلة بقيادة الحزب الشيوعي الأممي في شتاء 1954-1955. في العلاقة مع الجزائريين، كانت سيمون مينغيه Simonne Minguet تمثل المكتب السياسي للحزب الشيوعي الأممي و رابتيس [بابلو] يمثل الاممية الرابعة . كانت جبهة التحرير تسعى إلى الانغراس في المتروبول حيث حركة مصالي الحاج المنافسة منغرسة على نحو افضل، و تروم اقناع العمال الجزائريين الذين يعملون بها. و استفاد الجزائريون من دراية التروتسكيين في العمل الدعاوي و التوزيعي. فاسندوا لهم أول جريدة لجبهة التحرير اسمها “مقاومات جزائرية” طبعا وتوزيعا.

فيما يخص التوزيع، كان المناضلون التروتسكيون يودعون رزم المناشير او الجرائد لدى تجار او حانات متعاونة مع جبهة التحرير الوطني كما لو كانوا يسلمون بضائع. ام الطبع فقد كان بيار افوت Pierre Avot عامل عضو الحزب الشيوعي الأممي و عشير سيمون مينغيه مكلفا بهذه المهمة الصعبة: كان المطلوب ايجاد اصحاب مطابع مستعدين لغض الطرف عما يفعلون. ثم تكلف بيار افوت فيما بعد بمطبعة متنقلة في اماكن سرية عديدة. . كما كان هنري بونوا Henri Benoîts العامل لدى مصنع رونو للسيارات ، عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقة مع الجزائريين فيما يخص أغلب الأنشطة ” المادية”، فيما كان بابلو في مستوى آخر يلتقي قادة فرع جبهة التحرير بفرنسا . وكانت الاتصالات تتم بوجه خاص مع مسؤول طالب مكلف بالصحافة، محمد حربي المؤرخ المعروف اليوم، وله كتب مرجعية عن جبهة التحرير

سرعان ما تجاوزت الخدمات التي يسديها التروتسكيون إعداد “مطبوعات” جبهة التحرير حيث انضافت اليها توفير أوراق هوية مزورة و نقل و ثائق عبر الحدود ، لا سيما بفضل يعقوب مونيتا Jacob Monetta ، المناضل النقابي الألماني عضو الأممية الرابعة، ، الذي كان يعمل بسفارة ألمانيا الاتحادية في باريس و يتوفر على حقيبة دبلوماسية. كانت العلاقات جيدة وقد دعي مسؤول من جبهة التحرير إلى مؤتمر 11 السري للحزب الشيوعي الأممي في ديسمبر 1955.

في خضم هذا العمل، اعتقل بيار فرانك في 12 ابريل من قبل المخابرت الفرنسية DST، ونظم الحزب حملة تضامن انضمت اليها شخصيات من قبيا ادغار موران و فرانسيس جانسون و سارتر و لوران شوارتز … واطلق سراح كل المناضلين التروتسكيين في 9 مايو 1956، و الغيت المتابعات لنقص الادلة الكافية على تعاونهم مع جبهة التحرير الوطني.

ظهرت خلافات داخل الحزب بين إنصار التزام الحذر ومن يريدون الانخراط أبعد في دعم جبهة التحرير، كان بابلو زعيم هؤلاء. لكن الحزب كان متفقا على ضرورة ” ليس فقط مساندة سياسية بل أيضا مساندة مادية قدر الإمكان للنضال الثوري”، لكن تباينت الآراء حول أين يقف “قدر الإمكان” هذا. اصبح بابلو أكثر فاكثر المنشغل بمسائل المستعمرات و شبكات التضامن التروتسكية مع الجزائريين، و بات هو من يحدد “قدر الامكان” ذاك. استقر عام 1958 في هولندا، و التقى بانتظام بقادة جبهة التحرير الوطني مع مركزة أنشطة الأممية الرابعة المتعلقة بالتضامن مع الثورة الجزائرية. و ساهم في هذا العمل فرعا الاممية في المانيا وفي بلجيكا. وكان لويس فونتين، عامل مصنع، و بيار افوت مداومين بالفرع الفرنسي انشغلا بالمطبعة السرية لصالح جبهة التحرير الوطني وكذا بصنع اوراق الهوية المزورة.

الاممية الرابعة تقيم مصنع أسلحة قرب القنيطرة بالمغرب

كان بابلو يعتبر ثورة المستعمرات إحدى أولويات الأممية، لا بل كان يعتبر ثورة المستعمرات مركز الثورة العالمية، ويلح بوجه خاص على الجوانب العملية المترتبة عن ذلك.

و كانت لبابلو علاقات حارة مع قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وكانت متبادلة وكان يأمل ان تتطور جبهة التحرير في اتجاه ماركسي لينيني و حتى استقطاب مناضلين جزائريين إلى الاممية الرابعة

كان هذا مشروع مصنع السلاح ثمرة تعاون وثيق بين التروتسكيين و ج.ت.و الجزائرية. فكرة هذا المصنع اقترحها بابلو على الجزائريين و قبلوها. كانت ج.ت.و تواجه مصاعب للتزود بالأسلحة الضرورية للثورة. وقد كانت تفجيرات غريبة قد قتلت عددا من مهربي الأسلحة الذين كانوا يبيعون السلاح لـج.ت.و، ولم يكن شك في مسؤولية المخابرات الفرنسية في الامر. وقد فتش الجيش الفرنسي بواخر تعلم علما انجليزيا تنقل السلاح لج.ت.و ، و أصبح التزود يجري بصعوبة. [جبهة التحرير الوطني الأسطورة والواقع محمد حربي ترجمة كميل داغر دار الكلمة- بيروت ]

اشترت ج.ت.و مزرعة كبيرة قرب القنيطرة بها صفوف أشجار ليمون استعملت لتغطية الأنشطة السرية للمصنع: توحي المظاهر من خارج أنها مصنع مربى ليمون. تكلف بابلو ورفيق له يوناني باستقدام الآلات ( مخرطات، مفرزات المعدن، منجر آلي) من بلدان الشرق. وقدم لعون التقني مهندسون قريبون من الأممية الرابعة، و أصبح المصنع جاهزا للعمل في مطلع العام 1960 في خمس وحدات مشتتة. كان المصنع على صورة مختلف السلاكات المستعملة: المخرطات من الصين، وعدد آخر من الالات اليوغسلافية و التشيكية و لباس العمال أمريكي ولباسهم الداخلي صيني. أما العمال فمن مختلف البلدان و كلهم عمال مؤهلون أغلبهم جزائريون، لكن التروتسكيين وأعضاء شبكات اخرى داعمة لج.ت.و (لاسيما شبكات المانية) قدموا وحدة عمال. وكان رئيس المشغل هولنديا. وكانت ثمة مجموعة تروتسكيين ارجنتينيين و واحد من اليونان و المانيين بلا انتماء سياسي و انجليز يعملون ايضا في المصنع. بعد نقاشات طويلة اقنع بابلو رفاقه الجزائريين بمشاركة عمال فرنسيين ، فكان عامل فرنسي يصنع السلاح لج.ت.و. اسمه لويس فونتين من الفرع الفرنسي كان هاربا بعد اكتشاف الاستخبارات للمطبعة السرية. كان خرج إلى المانيا حيث تكلف به فرع الأممية هناك، و تطوع للذهاب إلى مصنع السلاح، حيث تكلف الفرع الألماني تكلف بسفره إلى المغرب و اعطاه بطاقة تعريف مزورة. و رغم مشاكل مع الشرطة المغربية في المطار تكلفت به ج.ت.و بالرباط و أرسلته إلى المصنع. وكان الوحدة التي عين بها تضم زهاء 100 عامل بما فيهم الحراس. كان العمال ينامون في أكواخ خشبية عل بعد كيلومترات من المصنع، و ينقلون إليه ليلا في شاحنات مغطاة. و يسد عليهم بعيدا عن العالم الخارجي، و لهم الحق في جولة بالشاحنة مرة كل شهرين أو ثلاث إلى شاطئ البحر. وكان غير الجزائريين أكثر حرية ،و كان لوي فونتين يلتقي بابلو بانتظام في الرباط.

كان المصنع يعد مدافع و رشاشات وقنابل. لم تكن أسلحة من جودة ممتازة لكن ج.ت.و باتت تصنع أسلحتها لجيش التحرير الوطني. و قد زار بوصوف وزير الحرب في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المصنع، كما زاره بابلو لإلقاء خطاب بمناسبة صنع الرشاش الـ5000 . اشتغل لويس فونتين سنتين في هذا المصنع حتى استقلال الجزائر.

كان إسهام الاممية الرابعة ولا سيما فرعها الفرنسي ، لانشاء المصنع المغربي لج.ت.و، يمس النقطة الحساسة في التضامن مع الجزائريين. فالاسلحة المصنوعة فيه معدة للاستعمال ضد جنود فرنسيين. ولم يرتبك التروتسكيون في هذا المجال بترددات جعلت البعض من حاملي الحقائب يرفضون نقل أسلحة. لم يكن الدعم “انسانيا” فقط او سياسيا بل عسكريا. وهذا دعم لا معادل له مقارنة بباقي شبكات الدعم مع كل العواقب المترتبة عنه.

الأممية الرابعة تسهم في محاولة تمويل جبهة التحرير الوطني

خرط بابلو الأممية في عمل آخر له عواقب هامة. يتعلق الأمر بصنع عملة مزورة لفائدة جبهة التحرير الوطني . ينسب علي هارون فكرة هذا لمشروع إلى شخصه و إلى عمر بوداود قائد فرع ج.ت.و في فرنسا عام 1958. كان إصدار “الفرنك الجديد” من طرف دوغول، و إعادة طبع إشارة 100 فرنك جديد على ورقة 10000 فرنك في أصل المشروع ، و بهذه المناسبة سيتم ترويج كمية كبيرة من الأوراق الجديدة، و اعتبر الجزائريان ان هذا السياق يتيح ترويج عملة مزيفة. كانت الفكرة قد راجت داخل ج.ت.و في السنة السابقة من طرف شرشالي الحاج لكن دون تتمة. كان هدف الجزائريين مزدوجا: توزيع العملة الزائفة بين كل المهاجرين بفرنسا سيتيح ترويج مبالغ كبيرة في وقت وجيز نسبيا و بذلك استعادة اوراق غير زائفة. لكن من جانب آخر كان بوداود وهارون يأملان أيضا على نحو أكثر جرأة و حتى قليل المعقولية زعزعة الاقتصاد الفرنسي. وبجميع الأحوال يبقى المشكل الرئيسي طبع العملة. لجأت ج.ت.و إلى بابلو، ما يدل على مدى ثقة الجزائريين في التروتسكيين في أمور من هذا النوع.

تردد بابلو لحظة ما، و استشار من كانت له به أفضل العلاقات، محمد حربي . لم يكن هذا الأخير متحمسا للمشروع، وكان على خلاف مع فرع ج.ت.و بفرنسا لدرجة انه سيستقيل خلال 1958. وقد نصح بابلو بتجنب المغامرة، حيث اعتبر لوجيستيك ج.ت.و غير مأمون، إذ أن أطرها كانت تحت رقابة بوليسية شديدة ، و حظوظ نجاح العملية ضئيلة . كما خشي في حال اكتشاف العملية أن ُيطرد بابلو من فرنسا إلى بلده اليونان حيث يهدده خطر جسيم. لكن ما سيجري لاحقا سيدل أن أوجه الضعف لم تكن من جانب ج.ت.و. .

كانت السرية المطلقة شرطا فلم يفاتح بابلو كامل الأمانة العالمية للأممية في الموضوع : لم يخبر سوى إرنست ماندل و بطريقة التلميح فقط. استند بابلو على سالومون سانتن Salomon Santen من قادة الأممية الهولنديين وعضو الأمانة العالمية. و توجها معا إلى صاحب مطبعة فوضوي بأمستردام سبق لهم أن اشتغلوا معه لطبع أوراق تعريف مزورة. الفوضوي اسمه البيرتوس اولدريش Albertus Oeldrich ، عضو سابق بالألوية الأممية [1]، ومقاوم خلال احتلال النازية لهولندا. وكان اولدريش هو صاحب مطبعة الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في أمر العملة الزائفة.

اتخذ القرار السياسي من طرف قيادة ج.ت.و في مارس 1959 ، و بدا بابلو تنفيذ المشروع. بحث سانتن واولدريش عن الآلات المختصة، من طابعة أوتوماتيكية و آلة قطع وطابعة اوفست. وكان كل ذلك كله جاهزا في نوفمبر 1959. يبقى مشكل الورق. في يناير 1960 قبلت شركة بامستردام بيع 1000 كلغ. وتمكن هيلموت شنيفايس Helmut Schneeweiss ، وهو عامل ألماني طارده النازيون خلال الحرب وحماه التروتسكيون، من إيجاد مقر للمطبعة في مدينته Osnabrück بألمانيا .

كل اللوازم جاهزة لا تنقص غير أوراق بنكية كنموذج. اتصل بابلو ببيار افوت و طلب منه حزمة أوراق بنكية فرنسية مع حزام بنك فرنسا. اقتضت السرية عدم إخبار افوت بمسألة تزوير العملة. لم يكن عمر بوداود هو المكلف بعملية طبع العملة المزورة بل احمد عباس و اضطلع بمهمته بدقة كبيرة. لكن لا يمكن لاولدريش ان يشتغل وحده و ساعده شنيفايس و هوبرتوس هومب Hubertus Hompe وهو صديق هولندي مختص في الطباعة. يظل اولدريش وهومب في المطبعة طيلة الأسبوع بألمانيا ولا يدخلان إلى أمستردام سوى في نهاية الأسبوع. لكن كل الاحتياطات كانت بلا جدوى لأن هومب المطرود من المطبعة الوطنية بأمستردام بسبب خطأ فادح كان جسوسا بوليسيا لدى المخابرات الهولندية. كان اولدريش، و دون أن يخبر بابلو والجزائريين، قد لجأ إليه لصنع أوراق التعريف الزائفة ثم لصنع العملة. تدخل البوليس فيما كان العمل سائرا على نحو جيد. وكان منتظرا سحب الأوراق البنكية يوم11 يونيو.

يوم 10 يونيو الساعة 16 اعتقلت الشرطة الألمانية في المختبر السري اولدريش و هومب و شنيفايس، وفي اليوم ذاته استنطقت الشرطة الهولندية بابلو و سانتن بمنزلهما بأمستردام، و أخير ا في الساعة 22 اعتقل احمد عباس في كولونيا. استنطق البوليس كل المشتبه بهم: اولدرش اعترف مقابل الوعد البوليسي الكلاسيكي بأن أقواله ستكون لصالحه في المحاكمة. بينما أنكر بابلو وعباس كل شيء.لم يتبع الأوربيون والجزائريون نفس خط الدفاع. تلقى عباس تعليمات لإنكار كل شيء و عدم جعل القضية محاكمة سياسية. لم يكن فرع ج.ت.و يرى أن مثل هذه المحاكمة مناسبة في ألمانيا. فيما قررت الأممية الرابعة بالعكس الانخراط في حملة تضامن لمساندة بابلو و سانتن خلال محاكتمهما في أمستردام من 21 يونيو إلى 28 عام 1961.

سببت القضية اضطرابا في الأممية لأن بيار فرانك و ليفيو مايتان اعتبرا الأمر نزعة مغامرة. لكن اللحظة كانت لحظة تضامن وليس تصفية حسابات، لا سيما أن الأمر ليس مجرد تضامن مع مناضلين بل استثارة تضامن مع الأممية الرابعة: كان خط الدفاع هو التالي: يتبنى بابلو المساندة السياسية للثورة الجزائرية، وينكر أي تورط في مسألة العملة الزائفة، المعتبرة لعبة بوليسية. و ما سهل المهمة أن الأوراق البنكية لم تطبع بعد. كما سعى التروتسكيون إلى تحويل المحاكمة إلى محاكة للاستعمار أي إلى منبر سياسي.

كانت حملة تضامن عالمية شاركت فيها اسماء بارزة من قبيل سالفادور اليندي، المرشح الاشتراكي للرئاسة و الرئيس لاحقا في التشيلي، و مايكل فوت قائد حزب العمل البريطاني و خصم مارغريت تاتشر لاحقا في انتخابات 1983 و شخصيات من البيرو و نيوزيلندا واليسار الهولندي.

اثناء المحاكمة أكثر المتهمان من التصريحات السياسية لإثارة الانتباه إلى الأوضاع في الجزائر. وحضر شهود ذوو اعتبار مثل المؤرخ اسحاق دويشر و نائب برلماني بريطاني و محام واستاذ بلجيكيين شهدا حول ممارسات الاستخبارات …

كما كان مايتان وفرانك ايضا شاهدين، وقد اوقف رئيس المحكمة فرانك لأن تدخله كان مرافعة ضد الاستعمار الفرنسي . انهى ميتان و سانتن كلامهما ب” عاشت الثورة لجزائرية ! عاشت الأممية الرابعة !” . وحكم على المتهمين ب15 شهرا سجنا وهو حكم خفيف قياسا بالتهم. وحكم عباس و شنيسفايس بسنتين سجنا و اولدريش بسنتين ونصف.

تحولت محاكمة امستردام رغم ج.ت.و إلى مناسبة لمساندة أنصار أوربيين للثورة الجزائرية وبفضل دعم عالمي تحول فشل تام لعملية إلى نجاح سياسي .

هامش

[1]:الألوية الأممية : مجموعات المتطوعين المعادين للفاشية الذي قاتلوا إلى جانب الجمهوريين ضد الوطنيين بقيادة فرانكو إبان الحرب الأهلية الاسبانية بين 1936 و 1938. كان متطوعو الألوية الأممية قادمين من 53 بلدا، وقد عددهم ب59 ألفا قتل منهم 15 ألفا في المعارك.[المترجم]

شارك المقالة

اقرأ أيضا