اليسار والنضال الاجتماعي: من دروس مسيرة كادحي ايت بوكماز

الافتتاحية, سياسة30 يوليو، 2025

شهد المغرب يومي 9 و10 يوليو 2025 حدثا كفاحيا بالغ الدلالة، وحافزا قويا لتفكير مناضلي اليسار ومناضلاته. ففي اليومين سار كادحو 33 قرية في آيت بوكماز نحو مدينة أزيلال، مركز الإدارة الإقليمية، لإسماع صوتهم الصادح بمطالب اجتماعية بسيطة بقدر ما تعبر عن تفاقم المسألة الاجتماعية بالمغرب. طريق، وشبكة انترنت، وطبيب، ومدرسة جماعاتية، وملعب كرة قدم… ومطالب غيرها بالبساطة عينها. أي حياة إذن تعيش الجماهير الشعبية في آيت بوكماز والحالة هذه؟ إنها صورة عن مغرب “النموذج التنموي الجديد”، علما أن الهضبة السعيدة لها حظ من الموارد الطبيعية، فما بالنا بالمناطق القاحلة المهملة.
أصر الكادحون على بلوغ مدينة أزيلال، مع أن رئيس جماعة تبانت، الذي يحظى لديهم بتقدير عال بفعل قربه منهم ونزاهته، اقترح عليهم الاكتفاء بالاحتجاج محليا. وكان عزم الجماهير معقودا على السير إلى العاصمة، في حال تصامم المسؤولين في أزيلال عن سماع صرختهم. بلغ العزم الشعبي على تنظيم المسيرة مستوى اضطرار رئيس الجماعة إلى الانضمام إليها، وأداء دور في قيادتها، ولسان حاله يقول:مكره أخاك لا بطل، إلى جانب اللجنة التي تمثل كل القرى المشاركة.
إتجه موكب كادحي آيت بوكماز نحو أزيلال بإصرار لا يلين، تخطى الحواجز القمعية، بعد سد قوات النظامية طريق السيارات، متحملا مشاق السيرفي الطريق الجبلي في عز الصيف، مستقويا بالتضامن الشعبي على طول المسار، وفي محطة المبيت بقرية آيت محمد حيث هب المواطنون بكل عفوية لتزويد المشاركين في المسيرة بالأكل والأغطية، بينما رفضت السلطات إيواء المحتجين المسنين في بنايات عمومية.
دخلت جماهير بوكماز الشعبية، معظمها شباب، مدينة أزيلال يوم 10 يوليو، ظافرة، حيث فرضت المسيرة الشعبية ما رفضه عامل الإقليم سابقا، أي الاجتماع مع ممثلي الجماهير الشعبية، المنتدبين من القرى الثلاث والثلاثين. اجتمع المسؤول الأول بالإقليم مع 28 من ممثلي الدوارير، بعد أن طلبت السلطة 10 فقط للاجتماع مع رؤساء المصالح وليس مع العامل.
أدرك المسؤول الإقليمي جسامة ما هو بصدده، وخشية تقدم المحتجين إلى بني ملال، وربما إلى الرباط، واتخاذ المسيرة بعدا أعظم في مغرب على فوهة بركان اجتماعي، فسارع إلى تلبية بعض المطالب المستعجلة (الطبيب، وشبكة انترنت)، مع وعد بتلبية سائر المطالب.
كتب كادحو آيت بوكماز صفحة مشرقة من تاريخ الكفاح الشعبي، لامعة بنوعية التنظيم ودرجة إحكامه، وبالطابع التمثيلي الأرقى من المعتاد، تنضاف إلى بطولات أهالي طاطا وإيفني- آيت باعمران، وصفرو، وبوعرفة، وجرادة والريف… والقائمة أطول من أن تُحصر.
بات هذا النضال الشعبي بالعالم القروي، بنوع مطالبه وأشكال تنظيمه ونضاله، سمة للوضع بالمغرب منذ منتصف التسعينات، بعد عقود من سبات تخللته انفجارات جرى إخمادها بشراسة القمع.
صعدت موجه الكفاح الشعبي هذه في ظرفية كان يتهيأ فيها اليسار التاريخي المهيمن (اتحاد اشتراكي ونظائره) للانتقال إلى أدوار تنفيذ السياسات التي وصفها طيلة عقود باللاشعبية. فلم يكن لأحزاب اليسار دور في حفز نضالات كادحي- ات القرى والبلدات ومدها برؤية (مطالب إجمالية وأشكال تنظيم ديمقراطية…) واستراتيجية، مع أنه كان لمناضليه في القاعدة، في حالات عديدة، دور فعال.
وقد عصفت مشاركة المكون الرئيس لليسار التاريخي في حكومة واجهة، استُعمِلت لتسريع سياسة نيوليبرالية مدمرة اجتماعيا، بمصداقية اليسار ومجمل رصيده الشعبي التاريخي، وصبت مياه المصداقية في طاحونة تيارات الحركة الإسلامية، التي لا تتقدم ببديل اقتصادي وسياسي لما هو قائم، بقدر ما تريد تدبيره بطريقة أخرى. فزادت عزلة اليسار عن النضالات الشعبية وتعمقت. تجلى الأمر أيما جلاء في حراك الريف. وها هي مسيرة آيت بوكماز، المتسمة بـ”صفر يسار” تؤكد هذه العزلة، التي باتت تمثل أحد أوجه أزمة اليسار اليوم.
يقف اليسار إزاء وضع ضعفه العام بصفوف مشتتة، وانعدام أي ميل إلى تعاون يجد له تجسيدا في تدخل موحد في النضالات الشعبية. وبلا تحرج جرى دفن “الجبهة الاجتماعية المغربية”، بحيث كفت حتى عن دور مساندة الكفاحات الشعبية ببيانات التضامن.
المسألة الاجتماعية عنصر جيني في هوية اليسار، بمكوناته الإصلاحية والجذرية على السواء، وقد انتسب تاريخيا إلى الاشتراكية، هذا المذهب الذي يضع حل المسألة الاجتماعية في مقام مبررالوجود. لكننا اليوم، إذ نعاين درجة تفاقم المسألة الاجتماعية، بزحف رأس المال الكاسح على الخدمات الاجتماعية، واستشراء البطالة وهشاشة التشغيل، وتفاقم تفاوت الدخل… إلخ، نعاين أيضا غياب اليسار في النضالات الاجتماعية كقوة متدخلة بمنظورها، بمنهجية وحدوية، لتطوير مقدرة الفعل الجماعي لدى الجماهير الشعبية، ومدها برؤية سياسية إجمالية.
قسم من اليسار الإصلاحي انهار، وابتعد ما تبقى منه كليا عن تطلعات الجماهير، واندمج بعمق في آلية النظام السياسية. أما ما ثبت على موقف معارض فلم يفلح في شغل المساحة السياسية الناجمة عن ذلك الانهيار، وليس ثمة لحد الآن ما ينبئ بسيره على نحو ذلك.
الحالة الراهنة لتسيير قوى اليسار المهيكلة، والعلاقة بينها (قيادات الحزب الاشتراكي الموحد، وفيدرالية اليسار، والنهج الديمقراطي العمالي) لا توحي بأي جنوح إلى وحدة الفعل في ساحة النضال الاجتماعي حاليا. لكن المسافة بين تنظيمات اليسار في القاعدة ليست بنفس الاتساع القائم بين القمم. وعلى هذا المستوى السُّفْلي يمكن ويجب العمل، الآن وهنا، على بناء وحدة عمل اليساريين/ات بقصد الاندماج في الديناميات النضالية الشعبية، وتخصيبها وتطويرها. نجاح تجارب نضال الجماهير الشعبية فوق كل الاعتبارات الخاصة بهذا التنظيم أو ذاك، وكل تغليب لمصلحة حزبية ذاتية مضر بالنضال الشعبي، وبالتالي بمجمل اليسار، ومفيد إما لقوى معادية لتطلعات الجماهير الكادحة (خصوصا الإسلامية)، ولكن بشكل أكبر لمبادرات الدولة المدعية الاهتمام بأوضاع الكادحين (سياسة إحسان عمومي يطلق عليها حماية اجتماعية).
أن يمتد زهاء أسبوع بين الاعلان عن العزم على تنظيم مسيرة آيت بوكماز ويوم تنفيذها، دون أن يتحرك أي من مكونات اليسار، أمر يدعو إلى دق ناقوس الخطر. لقد اكتملت دورة من تاريخ اليسار المغربي المناضل، والجيل الذي بناه منذ ستينات القرن الماضي يتوارى لأسباب طبيعية، والحاجة إلى دماء جديدة فتية ماسة للغاية. ولن تتدفق هذه الدماء إلا بالانصهار في الكفاحات الشعبية بروح وحدوية تجد تجسيدا لها في العمل اليومي يدا في يد. لا خيار لليسار غير هذا النهج الوحدوي أو الاندثار. فلنعمل جميعا لترجيح البناء الوحدي ليسار مناضل، متماسك بكل تنوعه ضد السياسة البرجوازية المعادية لتطلعات الجماهير الشعبية.

جريدة المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا