كتاب: عندما كان لسان يسمى فرناندو. حياة مناضل أممي مغربي في حرب الغوار السلفادورية
بقلم: لوسيل دوما
ترجمة: م. إسماعيل
على امتداد سنوات 1980، توجه العديد من الشباب الثوريين/ت، من مختلف البلدان، إلى السلفادور لدعم نضال شعب هذا البلد ضد أوليغارشية شرسة مدعومة من الإمبريالية الأمريكية.
انضم العديد منهم/ن إلى صفوف جبهة فارابوندومارتي للتحرير الوطني (FMLN) في حربها الغوارية، بينما دعم آخرون السكان، لا سيما في مجالي الصحة والتعليم. كان هؤلاء الأمميون يأتون بشكل أساسي من أمريكا الجنوبية وأوروبا. ولكن ماذا كان يفعل بينهم لسان الدين بوخبزة، المعروف باسم فرناندو في منظمة حرب الغوار، والذي كان بالتأكيد الأفريقي الوحيد والعربي الوحيد في صفوف الجبهة؟ كيف قرر هذا الطبيب المغربي الشاب السفر إلى السلفادور والانضمام إلى صفوف مقاتلي حرب الغوار؟ ما هي الذكريات التي احتفظ بها رفاقه في النضال؟ في أي ظروف لقي حتفه؟
يحاول هذا الكتاب أن يجيب على هذه الأسئلة، وأن ينقذ من النسيان تجربة خاصة من تجارب النضال الأممي الثوري، خاضها مناضل مغربي لم يتردد في عبور المحيط الأطلسي ليضيف حصاته الصغيرة إلى التاريخ البطولي للشعب السلفادوري.
قضت المؤلفة، لوسيل دوماس، أكثر من 45 عامًا من حياتها في المغرب. شاركت في نشر العديد من المؤلفات الجماعية ونشرت العديد من المقالات حول حياة البلد الاقتصادية والاجتماعية.
مقدمة
لم يكن ثمة في المغرب فرناندو؛ فذلك الذي كنت أعرفه كان يسمى لسان الدين، أو لسان لدى أصدقائه. كان ذلك في متم سنوات 1970 ومستهل سنوات 1980. رأيته دوما مع صحابه، وجميعهم طلاب في الرباط، عاصمة المغرب. كانوا يأتون من تطوان، بشمال المغرب، وكان متابع للدراسات الطبية، ونشيطا جدا وينشط في الحركة الطلابية، ضمن “الطلبة القاعديين”، كما كانوا يُسمون آنذاك، بعد أن حظرت الحكومة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أ.و.ط.م).
كانت القمع شديدًا في المغرب في تلك السنوات، وسُجن العديد من المناضلين، وكان الأمر يتطلب قدرًا كبيرًا من الشجاعة لمواصلة النضال، في حركة كانت فضلا عن ذلك تضعف تبعا لوتيرة القمع، والخوف وظهور حركات إسلامية تحظى بتشجيع السلطة بقصد طرد اليسارويين من الجامعات.
كان لسان يتحدث الإسبانية، ويحب أن يأتي إلى منزلي للاستماع إلى كبار الأغنية بأمريكا اللاتينية وكبيراتها، لأن بيتي كان من القلائل حيث توجد أسطوانات – نعم، كانت تلك أيام أسطوانات الفيني – لميرسيدس سوسا، وفيوليتا بارا، وفيكتور خارا، وأتاهوالبا يوبانكي، وجوديث رييس، وكيلابايون وغيرهم كثير.
بعد أن أنهى دراسته، كف عن القدوم إلى منزلي، ولم أعرف إلا لاحقًا أنه غادر إلى أمريكا الوسطى. كنت أتخيله في نيكاراغوا، لكنني علمت بعد سنوات أنه مات في حرب الغوار في السلفادور.
لم أفكر في البحث عما قد يكون فعل لسان إبان إقامته في أمريكا الوسطى إلا بعد ذلك بوقت طويل، في العام 2012، عندما سافرت إلى بوليفيا والتقيت جورجينا، وهي مقاتلة سابقة في جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني (FMLN) في السلفادور. تنامى فضولي أكثر عندما عثرت، في أثناء بحثي على الإنترنت، على صورة من بين آلاف صور اخرى على صفحة Equipo Maíz¹[1]، مصحوبة بملاحظة وجيزة تقول ما يلي:
لسان الدين بوخبزة
فرناندو
طبيب مغربي
طبيب للسكان المدنيين ومقاتلي حرب الغوار، توفي في أثناء أداء وظائفه في 19 يناير 1987.
ووجدت أيضًا على الإنترنت قصيدة، يستحيل العثور عليها اليوم، تمجد شهداء الصراع المسلح في السلفادور وتتحدث عن ”المغربي الذي لا يعرف أحد شيئًا عنه“.
استغرق الأمر مني سنوات للوصول إلى فرناندو، للعثور على أثره، ومعرفة السبل التي سلكها، والأماكن التي عاش فيها. إن مساره، بما مناضل أممي خارج العالم العربي، مسار استثنائي، بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون على هذا الجانب من المحيط الأطلسي، في القارة الأفريقية. سعيت إلى إعادة بناء هذه القصة، ليس لي فقط، باسم صداقتنا السابقة، بل لأنني أعتقد أنها جزء من تاريخ بلده، وذاكرته الجماعية، وأن من المهم أن يبقى لها أثر. وبالنحو ذاته، تمثل قصته حبة رمل صغيرة في تاريخ شعب السلفادور وكفاحه البطولي ضد الأوليغارشية والإمبراطورية الأمريكية الشمالية.
حصلت، بفضل موقع Nicaragua internacionalista[2]، الرامي إلى استعادة تاريخ وذاكرة الأمميين الذين ذهبوا للقتال في نيكاراغوا والسلفادور، على الصور الأولى وأسماء بعض رفاقه، المستعدين ليس فقط للإدلاء بشهاداتهم، بل حتى لمساعدتي في تقفي آثار لسان في أمريكا الوسطى. وانطلاقا من هناك، وقد بات بيدي طرف خيط يتيح فك الكبة، بحثت عن عائلته وأصدقائه في المغرب. ثم اقتفيت أثره، وعبرت بدوري المحيط الأطلسي للتعرف على السلفادور، ومقابلة المقاتلين الذين عرفوه في حرب الغوار، وسبر التاريخ المأساوي لهذا بلد أمريكا الوسطى الصغير هذا، والشجاع والمقاوم. بهذا النحو، التقيت العديد من أبطال هذه القصة، العاملين هم أيضاً من أجل استجلاء تام لهذا النضال ولذكرى من فقدوا حياتهم من أجل مُثل العدالة والحرية والكرامة لشعبهم. لقد بذلوا قصاراهم لمساعدتي في إكمال بحثي عن فرناندو، الاسم الحركي الذي اختاره لسان، وفي إتاحة لقائي أولئك الذين شاركوا حياته.
كانت الحقبة التي عاشها لسان/فرناندو حقبة ديكتاتوريات، وقمع ضارٍ للشعوب المناضلة، حقبة العمل السري، على ضفتي المحيط الأطلسي، في المغرب كما في السلفادور. الأمر الذي لا يُيسر، طبعا، البحث. إذ ليس ثمة سوى نزر قليل من وثائق الأرشيف، إن لم تنعدم كليا، ولا بد من الاكتفاء بذاكرة الشهود. لقد مضى أكثر من ثلاثين عامًا، وبدأ الكثير من الأشياء يندثر. وفضلا عن ذلك، ليست ذاكرة زيد هي ذاكرة عمرو، وكلاهما تعبّر عن نفسها بذاتية جلية. لذلك تلقيت شهادات متباينة جدًا في بعض الأحيان، لا بل متناقضة. أتاحت لي بعض الأحداث التاريخية، أحيانا، استعادة التسلسل الزمني وواقع الأحداث. لكن لم أستطع، في حالات عديدة، سوى تسجيل مختلف الروايات، دون إمكان الجزم بشأن أيها أقرب إلى الحقيقة.
لذا، ليس ما ستقرأون سيرة حياة لسان الدين بوخبزة الشاملة، بل مقاربة لما كان تجربة متميزة جدا من النزعة الأممية الثورية لمناضل مغربي. كما ليس القصد هنا عرضا نقديا، بل تتبع لمساره استنادًا إلى شهادات الأشخاص الذين عرفوه وشاركوه لحظات من حياته. لذا، تكتنف الصورة المقترحة هنا مساحات ظلال وذاتية قوية، هي ذاتية أصدقائه ورفاقه، وأنا منهم.
يعتمد القسم الأول على بعض الذكريات الشخصية، وعلى مقابلات أجريت بين العامين 2013 و2020 في عدة مدن في المغرب وأيضاً في الخارج، مع بعض أفراد عائلته والعديد من أصدقائه الذين عرفوه إبان سنوات دراسته (المدرسة الثانوية والجامعة) – ندير، ونبيل، وعبد الرحمن، وعبد الحق، وعلي، ومصطفى، ومراد، ورضوان، وخولة[3]³ – وعلى مقال عبد الله منصوري[4]، أفضل المقالات القليلة عن لسان الدين بوخبزة توثيقا[5] . إنه بالاستناد إلى هذه المواد، سأحاول رسم ملامح الشاب الذي كانه، وفهم كيف ولد مشروعه لمشاركة الحياة اليومية لمقاتلي حرب الغوار السلفادوريين… حتى الموت.
وسأتتبع، في القسم الثاني، أثره في السلفادور، والأشخاص الذين عرفهم، والأماكن التي زارها، وما فعل هناك، والحياة التي عاش، والمكان الذي دُفن فيه، وكيف تحدى الموت، مساهما في نضال شعب لم يكن يعرفه، واحدا من بين العديد من المناضلين الأمميين الذين نهضوا كما يجب بالتزامهم بحرية الشعوب حتى النهاية. كانت ظروف التحقيق مختلفة جدًا في المغرب والسلفادور.
أفلحت في المغرب في العثور على مجموعة كاملة من أصدقائه وصديقاته، الذين عرفوه بدرجات متفاوتة، بعضهم-هن تعرفوا عليه فقط في المدرسة الثانوية أو الجامعة، بينما شاركه آخرون السكن، والنضال في صفوف الشباب الطلاب، وأمسيات الادخنة التي أمضوها في إعادة بناء العالم، وأمله في تغيير الأمور، أو حتى محاولاته المتلمسة لتحديد الاستراتيجية الواجب نهجها. كان الأمر في جميع الأحوال يتعلق، بالنسبة لهذه المجموعة من الأشخاص، بعودة إلى تاريخ يمتد إلى أربعة عقود، إلى ماضٍ انقضى، ونُسي جزئياً، تذكره البعض بحنين بينما طوى آخرون هذه الصفحة نهائياً. أبدى الكثيرون ثقة كبيرة إزائي، وتحدثوا معي عن أمور لا تزال بالغة الحساسية. واكتفى آخرون ببعض العموميات، ولم يستطيعوا أو لم يرغبوا في العودة إلى تلك السنوات الرهيبة من تاريخ البلد، التي تركت أثراً عميقاً على هذا الجيل من المغاربة. من الواضح أن بعضهم لم يتغلبوا بعد على مخاوفهم.
كان سياق تحقيقي في السلفادور مغايرا تماماً. إذ لا تزال سنوات الحرب الأهلية جزءاً من تاريخ البلد الحديث، وقد تركت أثراً دائماً على الحياة السياسية والأسر والأفراد. كان المحاربون القدامى الذين قابلتهم، رجالاً ونساءً، فخورين جداً بالحديث عن معاركهم، وكانوا أيضاً يسعون للبحث عن الحقيقة وتفاصيل ما حدث إبان تلك السنوات. فقدت جميع العائلات تقريباً واحداً أو أكثر من أفرادها، ولا يزال ثمة أطفال يجهلون مصير آبائهم، ولم يتم العثور على عدد لا يحصى من الجثامين. لذلك كان منهجي هو منهجهم أيضاً، وتعاونوا معي بنحو تام. هذا مع أنني أدرك أن معظمهم قد بالغ في وصف الجانب البطولي من معاركهم، مفضلا التزام الصمت بشأن الجوانب الأكثر وضاعة، المحتمة في حرب صعبة كهذه.
لا توجد في كلتا الحالتين أي وثائق أرشيف يمكن الاعتماد عليها، وحتى لو حاولت مطابقة جميع الشهادات قدر الإمكان، تظل القصة التي اسردها هنا قصة ذاتية للغاية، حيث تُضاف ذاتيتي إلى ذاتية الشهود. تكتنف الصورة المقترحة هنا مساحات مظلمة عديدة، ولا تزال القصة المروية تحتوي على ثغرات كثيرة تتطلب مزيدًا من البحث والتحقيق لسدها جزئيًا على الأقل. نأمل أن يحفز هذا العمل آخرين على مواصلة هذا عمل السيرة الذاتية والتاريخ هذا.
إذا كان لسان الدين، بلا ريب، المناضل الوحيد القادم من أفريقيا والعالم العربي لينضم إلى صفوف جبهة فرابودومارتي للتحرير الوطني، فلم يكن المغربي الوحيد الذي عانق مثال التضامن الأممي هذا. نذكر أشهرهم المهدي بن بركة، القوة المحركة لمشروع مؤتمر منظمة القارات الثلاث، الذي كان يهدف تحديدًا إلى توحيد نضالات شعوب أمريكا والآسيوية والأفريقية، والذي عُقد في كوبا في يناير 1966، ولكن في غياب المهدي، المختطف في باريس في 29 أكتوبر 1965 والمغتال وفق سيناريو، لا يزال غير واضح حتى اليوم، يضم عملاء سريين وعملاء فرنسيين، ومسؤولين مغاربة كبار.
يشير عبدو، الذي أمضى مع لسان سنوات الدراسة الثانوية والجامعية، واليوم متقاعد، إلى الصلة المحتملة بين زيارة إرنستو تشي جيفارا للمغرب، بدعوة من عبد الله إبراهيم، واهتمام لسان بأمريكا اللاتينية وكوبا. وبالمثل، فإن الدور البارز الذي أداه المهدي بن بركة في تنظيم مؤتمر منظمة القارات الثلاث، الذي عقد في كوبا بعد اغتياله في عام 1966، قد أثر عليه:
” طبعت كوبا، في مكان ما، أذهان الناس، كان من الممكن إقامة علاقات مع العالم الأمريكي اللاتيني، ولذلك أعتقد أن لسان هو ثمرة العلاقات التي نسجت بنحو خجول لأن بن بركة أعوزه وقت للذهاب أبعد من ذلك[6]“
لقد سار لسان/فرناندو، بوعي أو بدونه، على خطاه، من المغرب إلى السلفادور، مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين، وجعل من اوتوبيا منظمة للقارات الثلاث حقيقة عاشها في أعماق جسده، حتى الموت.
===============
إحالات:
[1] https://equipomaiz.org.sv. لم تعد الصفحة المحتوية هذه الملاحظة متاحة. تقوم هذه المؤسسة بعمل مثير للإعجاب في استعادة الذاكرة، ولا سيما الذاكرة الفوتوغرافية، لمقاتلي حرب الغوار ومقاتلاتها الذين ماتوا في المعركة. وتنشر كل عام تقويمًا محيَّنا مع صورهم. وطبعا يوجد فرناندو بينهم.
[2] https://nicaraguainternacionalista2016.wordpress.com/
[3] نظراً لبعض الموضوعات الحساسة المعروضة في هذه المقابلات، جرى تغيير أسماء الأشخاص الذين تمت مقابلتهم.
[4] عبد الإله المنصوري، بوخبزة .. غيفارا العرب الذي حملته فلسطين لمواجهة اليانكي. هسبريس . [30-10-2018]
https://www.hespress.com/histoire/410416.html
[5] انظر المراجع.
[6] مقابلة مع عبدو، تطوان. تروي زكية داود زيارة تشي المضطربة إلى المغرب في عام 1959 في كتابها:
Zakia Daoud, Abdallah Ibrahim, Histoire des rendez-vous manqués, Casablanca, La croisée des chemins, 2018, pp. 152-153.
اقرأ أيضا


