أحداث 14 دجنبر 1990: مقتطف من كتاب
بقلم: علاء الدين راجي
دأبت جريدة المناضل-ة على السعي لكشف صفحات من تاريخ كفاحات الطبقة العاملة بالمغرب. وذلك بنشر العديد من النصوص والوثائق المؤرخة لمعارك وتطورات، منذ بدايات الحركة العمالية بالمغرب في العقد الثالث من القرن العشرين. وفتحت الجريدة جسر تعاون مع الفقيد شكيب أرسلان، لكن الموت اختطف هذا الباحث المجتهد في تاريخ الحركة العمالية بشقيها السياسي والنقابي. وتكثفت جهود نشر الادبيات التاريخية العمالية إبان صدور المناضل-ة اسبوعيةً. سنعمل على جمع تلك المادة في مصنف واحد لتيسير العمل بها.
على المنوال ذاته نعرض ادناه مقتطفا عن احدى أكبر النضالات العمالية في مغرب القرن الماضي، عنينا إضراب 14 دجنبر 1990 العام، المتخذ بحكم السياق والقوى الحافزة له طابعا سياسيا. وغني عن البيان ان زاوية النظر في هذا المقتطف إنما تعني مُعتمِدها، واثقين في الحس النقدي للقارئ/ة.
جريدة المناضل-ة
نص المقتطف:
عرف السياق الدولي سنة 1990 ارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق الدولية، إضافة إلى الجفاف الذي مس الدول الكبرى المنتجة للحبوب، فتزايد طلب الدول على رؤوس الأموال من طرف الزبناء التقليديين والدول الجديدة التي تخلت عن النظام الاشتراكي.
أما على المستوى الوطني، فأدت سياسة التقويم الهيكلي التي اعتمدتها الحكومة المغربية خلال عقد الثمانينات إلى تراجع النفقات العمومية ذات الطابع الاجتماعي، فترتب عن ذلك انخفاض متوال للقدرة الشرائية للمواطنين، وانتشار البطالة إضافة إلى تنامي التجمعات الحضرية بسبب الهجرة القروية، والاستقرار في أحياء سكنية مهمشة بضواحي المدن.
وفي هذا السياق أشار الملك الراحل الحسن الثاني في كلمة ألقاها في أكادير أمام المنتخبين بالأقاليم الجنوبية، إلى أن الخطوات الاقتصادية لسنة 1990 ستتركز على ثلاث محاور رئيسية :
– تجنب المس بالقدرة الشرائية للمواطن المغربي.
التمييز في مجال النفقات بين ما هو ضروري أو مستعجل وبين ما يمكن تأجيله.
المحافظة على وثيرة التطور الاقتصادي.
وورد في هذه الكلمة: “إن الاقتصاد يقتضي بالضرورة متابعة المجهودات، والتقشف لا يمكن أن يمس ثروات البلاد وآفاقه المستقبلية، فالاقتصاد والتقشف يعني اتخاذ التدابير الضرورية متى تطلبت الظروف والزمان إلى ذلك.[1]
وفي ظل هذه الوضعية الاجتماعية المتردية، التي أسفرت عن عقد من نهج سياسة التقويم الهيكلي [2] . بادرت الكنفدرالية الديمقراطية للشغل أثناء اجتماع لمجلسها الوطني يوم 7 أبريل 1990، إلى الإعلان عن خوض إضراب عام يوم 19 أبريل 1990 ، وندد الاتحاد العام للشغالين بالمغرب في بلاغ يوم 20 أبريل بتدهور وضعية العمال والاختيارات اللاشعبية للحكومة، والمس بالحريات النقابية والطرد التعسفي [3]. فاضطرت الحكومة إلى فتح مفاوضات مع مختلف النقابات أيام 13 و 14 و 15 أبريل، فنتج عن ذلك تأجيل الإضراب مقابل التزام الحكومة بدراسة المطالب النقابية المرتبطة أساسا باحترام الحقوق النقابية وتسوية ملف الموقوفين والمطرودين لأسباب نقابية والزيادة في الحد الأدنى للأجور.
إلا أن عدم التوصل إلى نتائج ملموسة بعد دخول النقابات في مفاوضات مع الحكومة أدى إلى صدور بيان عن المكتب التنفيذي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل بتاريخ 12 شتنبر 1990 يقول فيه: إن اللجنة الحكومية المنتدبة للحوار لم تلتزم بتنفيذ ما اتفق عليه من تسوية أوضاع جميع المطرودين من مختلف الفئات في ماعدا حالات قليلة ومن نهج الحوار على مستوى القطاعات والجهات بين الإدارات وأرباب العمل من جهة والنقابات العمالية المهنية من جهة أخرى ….. و بالعودة إلى قرار إضراب 19 أبريل 1990 ودواعي التأجيل، يتضح مرة أخرى أن الحوار الحكومي لم يكن إلا مناورة لربح….الوقت [4]
وصدر عن المكتبين التنفيذيين للكنفدرالية الديمقراطية للشغل والإتحاد العام للشغالين بالمغرب في اجتماع استثنائي يوم الثلاثاء 27 نونبر 1990، بيان يدعو إلى إضراب عام لمدة 24 ساعة يوم الجمعة 14 دجنبر 1990. ويشير إلى الأسباب المعلنة لخوض هذا الإضراب، وتتلخص في اعتبار جهاز الحكومة يسعى إلى المس بالمكتسبات الاجتماعية، وممارسة أسلوب يعتمد على الطرد الفردي والجماعي للعمال، ومعاداة حق الممارسة النقابية وحق التفاوض حول المطالب العمالية. كما يقدم البيان تلخيصا للمطالب الأساسية: “… نعلن باسم الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والكنفدرالية الديمقراطية للشغل عن شن إضراب عام لمدة 24 ساعة يوم الجمعة 14 دجنبر 1990 في مجموع التراب الوطني، وفي جميع القطاعات العمومية وشبه العمومي وفي القطاع الخاص… وتتعلق المطالب المقدمة بالجوانب الآتية:
احترام ممارسة الحقوق النقابية والتعجيل بتسوية ملف الموقوفين والمطرودين
الزيادة في الأجور طبقا لزيادات الأسعار
الزيادة في الحد الأدنى للأجور وتعميمه على مختلف القطاعات.
الزيادة في مختلف التعويضات العائلية، السكن التنقل، التمدرس
الزيادة في التعويضات التقنية والمهنية للموظفين والمستخدمين المرتبين في السلاليم الدنيا (من1 إلى 9)
مراجعة جذرية لنظام الاقتطاعات الضريبية عن الأجور
ترسيم العمال والأعوان في مختلف القطاعات
ضمان حق الشغل والتعويض عن البطالة
التعجيل بإخراج مدونة الشغل
إصلاح النظام العام للوظيفة العمومية ومختلف القوانين الأساسية القطاعية
تعميم الانخراط في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي
دمقرطة المؤسسات الاجتماعية من خلال الإشراك الديمقراطي الممثلي العمال والموظفين في التسيير والمراقبة والتوجيه لكل من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والتعاضديات والمقتصديات وهيئات الشؤون الاجتماعية في مختلف المؤسسات
– تحسين نظام التقاعد والمعاشات”.
واستعرضت إحدى الصحف الوطنية الوضعية العامة التي أدت إلى شن إضراب عام، وتتلخص في إقفال المعامل وتشريد مئات العمال وغياب سلطة وزارة التشغيل الإخلال بالتعهدات والالتزامات من طرف بعض المستثمرين الأجانب. إضافة إلى غياب رادة الأجهزة الرسمية لدعم الانتماء النقابي واتهامها بالتواطؤ ضد كل انتفاضة عمالية[5].
وتمثل رد فعل السلطات العمومية في إصدار وزارة الإعلام يوم 5 دجنبر، بلاغا حول الحوار ومنع الإضراب العام تقول فيه … إن الوزير الأول سيرأس لجنة وزارية لمتابعة البحث المعمق للمطالب النقابية …. تؤكد الحكومة أن أي حوار لا يمكن أن تحت الضغط والتهديد بالإضراب… إن الدعوة إلى الإضراب العام غير مقبولة. علاوة على أن قانون الوظيفة العمومية ومتطلبات السير العادي والدائم للمصالح العمومية الحيوية تتعارض مع الإضراب ستعقد اجتماعات اللجنة الوزارية مع النقابات والمشغلين والمنظمات الاقتصادية والمهنية بمقر الوزارة الأولى ابتداءا من يوم السبت 8 دجنبر على الساعة العاشرة صباحا. [6]
وعقب البلاغ الحكومي صدر بيان عن المكتبين التنفيذيين للكنفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب بعد اجتماع استثنائي يوم الخميس 6 دجنبر 1990 يندد بالبلاغ الحكومي الذي يمنع حق الإضراب، يقولان فيه: “… أن الحكومة تخرق مقتضيات الدستور …. وذلك لمحاولتها مصادرة حق الإضراب إعلانا عنه وممارسة له … إن الحكومة في الوقت الذي تعمل على إيهام الرأي العام بتمسكها بالحوار مع النقابات تصادر حقا أساسيا ومشروعا وهو حق الإضراب …. وبناء على هذا فإن المكتبين التنفيذيين إذ ينددان بقوة هذا التأويل الحكومي الخاطئ لمبدأ حق الإضراب …… يتشبثان بحق ممارسة الإضراب …. يدعوان الطبقة العاملة في جميع القطاعات والجهات إلى المزيد من التعبئة والاستعداد لإنجاح الإضراب العام المشروع المقرر خوضه يوم الجمعة 14 دجنبر 1990، وذلك في جو من المسؤولية واليقظة والالتزام”. [7]
وفي نفس السياق وجه الكاتب العام للاتحاد العام للشغالين بالمغرب عبد الرزاق افيلال إلى الوزير الأول برقية جاء فيها: توصلت صباحه الأحد 9 دجنبر 1990 على الساعة 8 و15 دقيقة ببرقية استدعاء للمكتب التنفيذي للاتحاد العام للشغالين بالمغرب لحضور اجتماع مع الحكومة بمكتبكم بالرباط.
يجب التذكير بأننا حريصون على حضور كل الاجتماعات مع مخاطبينا بصورة مشتركة مع أعضاء المكتب التنفيذي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل، وإننا متمسكون بموقفنا القاضي بضرورة خلق شروط مفاوضات جادة وذات مصداقية وعلى رأسها سعي الحكومة لتهديدها للعمال والموظفين والمواطنين، وتأويلها لحق الإضراب. ومن أجل احترام كل حقوق النقابية والحريات الأساسية قررنا خوض إضراب عام يوم 14 دجنبر 1990 …[8]
واضطرت الحكومة تحت ضغوطات المركزيات النقابية المتمسكة بمشروعية حق الإضراب، إلى التراجع عن منع هذا الحق في جلسة للبرلمان بتاريخ 11 نونبر 1990. فأكد الوزير الأول عز الدين العراقي في خطابه أمام البرلمان أن حق الإضراب يضمنه الدستور، إلا أنه اعتبر الإضراب العام له مدلول أوسع وأخطر مما جعل الحكومة ترفضه، وأضاف في كلمته الإعلان عن زيادة في الأجور والتعويضات الاجتماعية والتأكيد على استعداد الحكومة لمواصلة الحوار مع مختلف النقابات. [9]
وعبر كل من حزبي الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن مساندتهما لقرار الإضراب العام الذي دعت إليه المركزيتان النقابيتان (١. ع. ش.م ك.د.ش). وترجع الأسباب التي دفعت هذين الحزبين لتأييد الإضراب العام، إلى اقتناعهما برفض الحكومة للحوار وعدم الاستماع إلى الأحزاب أو النقابات قصد تفهم مشاكل العمال والعمل على حلها.[10]
وفي يوم 14 دجنبر 1990، تميزت الأجواء بالهدوء في مدينة الدار البيضاء، بينما انفجرت الأوضاع ابتداء من بعد الزوال لهذا اليوم، في كل من فاس وطنجة ومكناس والقنيطرة وبني ملال وعين توجطات وسوق السبت وسيدي قاسم والرباط، وذهب ضحية اندلاع الأحداث 42 قتيلا ومجموعة من الجرحى وخسائر مادية مهمة، إضافة إلى متابعة حوالي 713 شخصا أمام القضاء. [11]
فبخصوص مدينة فاس وقعت مواجهات عنيفة بين متظاهرين من تلاميذ وطلبة وشباب عاطل وبين قوات الأمن، حيث عمد المتظاهرون إلى صب غضبهم على كل أشكال الترف والبذخ، وممارسة عمليات نهب وتخريب وإحراق الحافلات والسيارات الخصوصية. وتم سقوط حوالي 20 من الضحايا، كما وقعت اضطرابات أقل حدة في مدينة طنجة والقنيطرة [12].
أما بالنسبة لمدينة طنجة اندلعت يوم 14 دجنبر مواجهة بحي بني مكادة بين القوات العمومية ومجموعة من الشباب تضم عددا من التلاميذ، وأدت المواجهة إلى إحراق سيارة وتخريب وكالة بنكية، واضطرت القوات العمومية إلى تطويق الحي لمنع امتداد المظاهرات إلى الحي الصناعي، وتمكنت السلطات من تهدئة الوضع في نفس اليوم. وعموما يصعب تحديد هوية المتظاهرين بدقة، فلم تكن العناصر المتطرفة من الطلبة واليساريين وراء أحداث 14 دجنبر، بحيث يصف أغلب المحللين المنتفضين بأنهم شباب عاطل ومهمش يسكن الأحياء الفقيرة بالمدينة. [13]
وحسب مصادر المعارضة الحزبية والنقابية أدى تنفيذ الإضراب الذي دعت إليه كل من الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب يوم الجمعة 14 دجنبر 1990 إلى تباين نسبة نجاحه حسب القطاعات والجهات. كما لم تسجل أية حادثة في النصف الأول من هذا اليوم تبعا لطلب المركزيات النقابية من مناضليها والمتعاطفين معها عدم الالتحاق بمقرات عملهم، وتراوح المعدل الوطني للمضربين حسب معطيات المعارضة صباح يوم الجمعة حوالي 75% وحسب القطاعات تراوح ما بين 30 و90% [14].
وفي مدينة الرباط والدار البيضاء ظل سير بعض المصالح الحيوية كالإدارات والمستشفيات والأبناك والسكك الحديدية ومصالح البريد عاديا باستثناء المؤسسات الجامعية التي عرفت إضرابا شبه عام للأساتذة.
وحرصت مجموعة من رجال الأمن على مراقبة بعض الكليات بالرباط لمنع تظاهرات محتملة للطلبة الذين يعتبرون الفئة الاجتماعية الأكثر تسييسا.
هذه القطاعات وبسبب جو ورغم اعتبار الحكومة أن الإضراب كان فاشلا، بحيث لم يطبق الإضراب في القطاع الخاص وقطاع الإنتاج الصناعي، بسبب ضعف تواجد ” ك.د.ش وإ.ع.ش.م ” في العنف والتخويف الذي رافق الإعلان عن الإضراب، وتراجع إ.م.ش” المتغلغل في القطاع الخاص، فإن حجم المواجهات العنيفة في بعض المدن قدم دليلا على أن لا النقابات التي دعت إلى الإضراب ولا السلطات تمكنا من منع الشباب المهمش من النزول إلى الشارع [15].
وأوردت جريدة العلم معلومات حول استمرار الإضراب العام في كثير من المدن والجهات بالمغرب لمدة ثلاثة أيام في ظل جو مشحون بسبب الأحداث الدامية التي خلفتها تدخلات عنيفة لأجهزة السلطات العمومية قصد تكسير الإضراب، مما نتج عنه ضحايا وإصابات وتضاعف جو التوتر بسبب اعتقال العديد من النقابيين في كثير من المناطق. [16]
وأصدرت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال بيانا يوم 16 دجنبر 1990 تقول فيه: ….. إن الحكومة باستعمالها وسائل التهديد والضغط والإكراه بدل الاستجابة للمطالب العمالية تتحمل كل المسؤولية عن الحوادث الدامية المؤسفة التي عرفتها عدد من المدن المراكز والقرى بمختلف أنحاء المغرب ….. كما أصدر المكتب السياسي للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بيانا يؤكد فيه تحميل الحكومة كامل المسؤولية في هذه الأحداث وجاء فيه: “إن المكتب السياسي……. يتأسف لما صاحب هذه المبادرة النضالية المشروعة للمركزيتين النقابيتين من استفزازات ومناورات من أطراف ترتب عنها أحداث دموية مؤلمة سقط أثناءها عشرات الضحايا ورافقها حملة من الاعتقالات والمضايقات …..[17]
وعقد المكتبان التنفيذيان لكل من الإتحاد العام للشغالين بالمغرب والكنفدرالية الديمقراطية للشغل، ندوة صحفية مشتركة يوم الأحد 16-12-90، فألقى “نوبير الأموي”
تصريحا مشتركا قال فيه …… رغم التأكيدات الحكومية على لسان الوزير الأول وأعضاء الحكومة من أنهم متشبثون بالحوار والمفاوضة مع المنظمات النقابية ودستورية حق الإضراب ومشروعية ممارسته مما اعتبرناه تراجعا في الموقف الحكومي، خاصة أمام مجلس النواب الشيء الذي كان وراء استجابتنا لجلسة الحوار لنفاجأ بحقيقتين:
- إن المفاوضة التي تتم لأول مرة منذ عشرات السنين خالية من أية إجابة عن المطالب الأساسية …. كان موقفنا حاسما من أننا نرفض مفاوضة بهذه الطريقة ….
- الحقيقية الثانية، بعد أن لم تقنعنا الحكومة بوعودها، وتهربت من توقيع برتكول حول المطالب الملباة، بدأت تنكر من جديد حق الإضراب والإضراب العام وتقدم تهديدات مقنعة.
وبالرغم من تقديمنا في جلسة ثانية يوم الخميس 90/12/13 حدا أدنى لا يمكن التنازل عنه كمطالب مستعجلة واقعية وقابلة للتحقيق بتكلفة ممكنة، فإن موقف الحكومة تملص من أي التزام.
وكانت الخلاصة أننا من جهتنا سنحترم كنقابيين حرية العمل لمن أراد ممارسته وأن تحترم الحكومة حق الإضراب لمن استجاب له من العمال، بعد أن تمسكنا بحق ممارسته يوم 14 دجنبر 1990
للأسف، فإن الحكومة واصلت حملة التهديد المادي والمعنوي على عموم الموظفين، وجندت كل إمكانية الدولة والجماعات وصادرت شاحنات الخواص الكبرى والصغرى، لتكسير الإضراب في العديد من المدن حاشدة إليها قوى تضامنية هائلة في لباس ميداني ومدني، كما عملت على تسخير السواق في النقل الحضري لتشغيل الحافلات، وملئها في الساعات الأولى بالأعوان والطواف بها في مختلف أحياء المدينة لإيهام العمال والمواطنين من أن الإضراب العام غير ناجح… نسجل أن الاستجابة للإضراب كانت واسعة في أهم القطاعات والمؤسسات الإنتاجية والخدمات بنسبة تفوق….. %80″. [18]
وبعد زوال يوم الاثنين 17 دجنبر 1990 عقد مجلس النواب جلسة للاستماع إلى تصريح الحكومة حول الإضراب العام وما رافقه من أحداث. وتضمن التصريح تقديم الحكومة الأرقام تبرز ضعف الاستجابة لقرار الإضراب العام، والمطالبة بتكوين لجنة وطنية لتقصي الحقائق حول الأحداث التي شهدها يوم الجمعة 14 دجنبر. فجاء رد رئيس الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية …. كنا ننتظر من تصريح الحكومة هنا في مجلس النواب… أن تقدم لنا الأسباب الحقيقية الأولية على الأقل التي أدت إلى الحوادث وعدد القتلى، وعدد الجرحى وعدد المفقودين وعدد الخسائر المادية. أما أن تترك الموضوع الخطير والمؤلم الذي يهم إزهاق النفوس البشرية وأرواح الأبرياء، وتتحدث لنا عن أرقام نجاحها التي أعطتها لنفسها، فهذا شيء لا نقبله، ونرفضه ونعتبر أن الحكومة جاءت هنا لامتصاص الغضب الشعبي بإعلانها الرسمي عن طلب تكوين لجنة وطنية للتقصي، حددت فيها وحدها وبإرادتها عدد الممثلين عن الجهاز التشريعي… [19].
كما ورد ضمن التصريح الحكومي حول الإضراب العام اتهام التنظيمات السياسية بعدم تأطيرها للشعب، وإعلان وزير الداخلية والإعلام أن هناك تواطؤا خارجيا وراء الأحداث التي عرفتها بعض المدن المغربية بمناسبة الإضراب العام. إضافة إلى أن الإضراب لم تكن من أهدافه تلبية مطالب العمال، وأن الحكومة خلال مفاوضاتها مع مسؤولين عن نقابتي الإتحاد العام للشغالين بالمغرب والكنفدرالية الديمقراطية للشغل وجدت أنهم كانوا يريدون الإضراب من أجل الإضراب.
وتجسدت بعض مواقف الحكومة من أحداث 14 دجنبر 1990 ضمن التفسيرات المقدمة من طرف لجنة البحث والتقصي، بحيث ركزت على العوامل التالية [20]:
- مناخ التوتر الناتج عن عوامل دولية (حرب الخليج) وداخلية (دعم تحقيق نتائج الحوار)، وأنه تم التصعيد من خلال الإعلام المسموع والمقروء
- استغلال الدعوة إلى الإضراب من طرف عناصر ذات سوابق قضائية أو التي كانت تسعى لتصفية حسابات مع قواعد النظام.
- وجود نقط مشتركة بين مضربي فاس وطنجة وتتمثل في خروجهم من مناطق سكنية غير لائقة، بالإضافة إلى مشاكل البطالة والهجرة القروية والكثافة السكانية
- التدابير غير الملائمة المتخذة من قبل السلطات المحلية وعدم اتخاذ التدابير الوقائية الكافية.
- ضعف تجهيز قوات النظام بالأجهزة المضادة للانتفاضات.
وردا على الجوانب التي وردت ضمن التصريح الحكومي، أكد رئيس الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية على أنه: “… تكلمت الحكومة عن التأطير واتجهت إلينا بصفة خاصة أننا لا نؤطر الشعب، وادعت أننا كلنا مقصرون ونتحمل المسؤولية جميعا … ولكن عن أي تأطير تتحدث هذه الحكومة، وأي تأطير تريد؟ تأطير الجمعيات… التي تولد و في أفواهها ملاعق من الذهب… الحكومة مصممة من أول يوم على أن إضراب 14 دجنبر 1990 هو إضراب غير نقابي، و لغير دواعي اجتماعية و لم تستطع إلى الآن أن تصف لنا هذا الإضراب … وأن تحدد الغاية من الدعوة له… وهذا يفسر ضعف الحكومة وقصورها عن الوصول بالحوار إلى مداه و نؤكد للحكومة أنه ليست هناك مطالب تعجيزية … استعملت الحكومة نغمة التلويح بمن يريد المس من الداخل والخارج، ونغمة التحريض الكبير، وفتح البحث والتحقيق والتهديد بالوقوع تحت طائلة العقاب والتآمر مع أجهزة إعلام أجنبية. نغمة رفع العصا هذه نرفضها الحكومة لا تبدع أعمالا سريالية، الحكومة لها مسؤوليتها، ويجب ألا تتكلم مع نواب الأمة بالمرموز. نحن في المعارضة الوطنية لن نقبل التخلي عن قيمنا ومبادئنا والتشبث بمؤسساتنا وإذا كان هناك تحقيق حكومي ضد أي كان، فلتعلنه الحكومة ولتقدم نتائجه إلى القضاء [21] ……
إن إضراب 14 دجنبر 1990 شكل محطة بارزة لرفض السياسة الحكومية التي دأبت منذ عقد السبعينات على مطالبة العمال بمزيد من التضحيات، في الوقت الذي تقدم تسهيلات مثالية لفائدة مالكي الرأسمال. وهذا ما يؤكده أحد أعضاء المكتب التنفيذي ا.ع.ش.م) …… لقد ضحينا عندما طلب منا إقرار السلم الاجتماعي لمدة 15 سنة لقد وفينا بالتزاماتنا وشاركنا في المسيرة الخضراء… لكن أجورنا بقيت متدنية وتراجعت قدرتنا الشرائية وارتفعت التكاليف. لقد تحملنا وصبرنا لكوننا نعتبر دائما سيادة البلاد ووحدته الترابية فوق كل اعتبار. لكن هناك حدود لأن هذه الوضعية ستؤدي إلى تدميرنا …. ولما نعلن الإضراب نقوم بذلك في إطار حقوقنا الدستورية لتقويم الوضعية وضمان عيش كريم للمواطن..[22] …..
يستنتج أنه رغم ما تضمنته المطالب المعلنة في إضراب 14 دجنبر 1990 من مطالب اقتصادية، فإن الدوافع السياسية المتمثلة في التعبئة التي مارستها المعارضة لتحسيس الرأي العام بهذا الحدث، وتداخل التبريرات السياسية والاقتصادية، فضلا عن تدخل زعماء الأحزاب السياسية داخل البرلمان، وتركيزهم في شرحهم لأهداف الإضراب على أنها ترمي إلى دمقرطة البلاد وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية لمختلف شرائح الطبقة العاملة كل هذه الأمور أدت إلى إضفاء طابع سياسي على هذا الإضراب.
خصوصا أنه على المستوى السياسي استطاعت المعارضة من خلال تحريك جبهة النضال الاجتماعي، إرغام السلطة على فتح مفاوضات لمراجعة الدستور وتقديم ضمانات الإجراء انتخابات حرة وديمقراطية، وبالتالي التمهيد لانطلاق دينامية سياسية جديدة.
وفي هذا السياق يفهم حرص النظام السياسي على منع استخدام الأحزاب السياسية للإضراب، بحيث يشكل هذا الأخير أداة تتحرك من خلاله الأحزاب السياسية داخل الحقل الاجتماعي، وتؤدي إلى إحداث اضطرابات وتفجير الأوضاع في الأحياء الحضرية المهمشة. [23]
أما على مستوى المطالب الأجرية فلم يؤدي الإضراب إلى تحسن ملموس في الظروف المادية للعمال، إلا أنه أدى إلى عودة القضايا الاجتماعية إلى الواجهة بعد أن تم تغييبها لعدة سنوات. [24]
إضافة لتدعيم المطالبة بنهج سياسة تقوم على أسس ديمقراطية حقيقية، واحترام حقوق الإنسان والاستجابة لمطالب التكوين وتشغيل الشباب، بحيث أصبح مشكل دفع الأجور ثانويا أمام مشاكل ضمان الشغل.
وفي هذا الإطار يفهم دعوة الملك الراحل الحسن الثاني في خطاب يوم الأربعاء 2 يناير 1991 إلى ضرورة وضع الحكومة لإطار عام لميثاق اجتماعي، يحقق سلما اجتماعيا لمدة أربعة أو خمسة سنوات، مع التأكيد على تشجيع الحكومة للنقابات والمشغلين قصد توقيع اتفاقيات جماعية في كافة القطاعات وعلى كافة المستويات. خصوصا أن المغرب مقبل على تصفية قضية الصحراء ويتحتم عليه اتخاذ الحيطة والحذر.
ونص الخطاب على تدابير اجتماعية لإرساء السلم الاجتماعي، وتتعلق بالزيادة بنسبة 15% في الحد الأدنى للأجور، ورفع التعويضات العائلية وبعض التعويضات الاجتماعية، إضافة إلى تشغيل 40.000 إلى 50.000 من حاملي الشواهد خلال ستة أشهر وتشغيل 100.000 كل سنة. فضلا عن فتح الحوار كل سنة لتمديد حصيلة المرحلة السابقة ووضع خطة للمرحلة المقبلة. 25-
المصدر : الحركة النقابية والنزاعات العمالية الكبرى في المغرب ما بين 1956 و1996، أطروحة لنيل الدكتوراة في القانون العام، علاء الدين راجي، السنة الجامعية 2009-2010، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاجتماعية. أكدال-الرباط
إحالات:
1- انظر: C.E.D.I.E.S.informations N°1721 du (24 Mars1990)تجدر الإشارة أن الترجمة شخصية.
2- للمزيد من التفاصيل حول تأثير سياسة التقويم الهيكلي على الوضعية الاجتماعية
أنظر: محمد بنلحسن التلمساني: «حصيلة التقويم الهيكلي وتأثيرها على المجالات الاجتماعية وعلى التشغيل بالمغرب” الحوليات المغربية للاقتصاد، عدد 16، 1996، ص: (465).
3- Jean-Claude Santucci et Benhlal Mohamed: < chronique Maroc» A.A.N,Tome XXIX, 1990,Editions du : أنظر C.N.R.S.Paris, p:719.
4- أنظر: جريدة الاتحاد الاشتراكي الصادرة بتاريخ: 1990/9/14
5- أنظر: جريدة العلم عدد 14731 الصادرة بتاريخ 3-12-1990
6- أنظر: Albayane du 6/12/1990
7- أنظر: جريدة الاتحاد الاشتراكي الصادرة بتاريخ 7-12 (90). 185
8- أنظر: جريدة العلم الصادرة بتاريخ (10-12 – 90)
9- أنظر: جريدة البيان الصادرة بتاريخ 13-12-90
10- ساندت اللجنة المركزية واللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال موقف الإضراب العام كما صدر قرار عن المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لتأييد الإضراب. أنظر: جريدة العلم عددي 14728 (30-11- 90) و(90-11-29) 14727
11- عزیز خمليش” الانتفاضات الحضرية في المغرب” م. س ص : 110
12- أنظر Albayane du 16 et 17/12/90
13 -Mohamed Madani: << les turbulances urbaines au Maroc ». In l’Etat et les quartiers populaires au Maroc :de la marginalisation à l’émeute:habitat spontané et mouvements sociaux. . Ed. Codesria: Dakar, 1995;p: 150
14-Albayane- du 15/12/90
15- أنظر Mohamed Madani: « les turbulances urbaines au Maroc » op.cit. p: 145
16- أنظر: جريدة العلم عدد 14745 الصادرة بتاريخ 17-12-90
17- أنظر: جريدة العلم عدد 14745 الصادرة بتاريخ 17-12-90
18- أنظر: جريدة العلم 90-12-18 عدد 14746 الصادر بتاريخ
19- أنظر العلم عدد 14748 الصادر بتاريخ 20-12-90
20 -انظر: Mohamed Madani: << les turbulances urbaines au Maroc» In l’Etat et les quartiers populaires au maroc de la marginalisation à l’émeute, Habitat spontané et mouvement sociaux, Ed.Codesria Dakar, 1995. p: 156.
21- أنظر: جريدة العلم عدد 14748 الصادرة بتاريخ 1990-12-20
22- أنظر: L’opinion du 1/12/90
23- انظر: Abdelghani Abouhani: << Mouvements syndicaux et émeutes urbaines » op.cit.p: 171
24- بخصوص عودة القضايا الاجتماعية إلى الواجهة بعد أحداث 14 دجنبر 1990 والتي كانت مغيبة بحجة الاهتمام بقضية الوحدة الترابية. انظر: Mounia, Bennani- Chraïbi: << Soumis et rebelles: les jeunes au Maroc >> Editions le fennec,casablanca, 1994,p: 284.
25- ورد مقتطف من الخطاب الملكي ضمن مجلة C.E.D.LES الناطقة بلسان الفيدرالية العامة للمقاولات المغربية انظر: C.E.D.I.E.S informations N° 1760 du 05/01/1991.
اقرأ أيضا


