الأممية الرابعة: أربعون سنة بعد تأسيسها

تاريخ الأممية11 يناير، 2015

ينقسم تاريخ الأممية الرابعة بوضوح إلى طورين: طور أول كان امتدادا لمرحلة “اجتياز الصحراء” المديدة التي عرفتها المعارضة اليسارية [11] وطال من عام 1938 حتى منتصف الستينات. وطور ثان بدأ مع منتصف الستينات وخاصة مع مايو 1968 [12] ودخلت فيه الأممية الرابعة مرحلة نمو سريع. ويمكن إيجاد تعبير عددي عن هذا النمو في كوننا اليوم نجمع في صفوفنا عشرة أضعاف عدد الأعضاء الذي كنا عليه عشية مايو 1968 (عندما كان عددنا يساوي من حيث الجوهر عددنا في عام 1938 وفي عام 1948، بعد أن عوضنا الخسارة التي أصبنا بها نتيجة انشقاق سنة 1953 [13] وخيانة حزب لانكا ساما سمايا [14] في سري لانكا).

كيف يمكن تفسير المرحلة الطويلة من النمو البطيء جدا التي عرفتها الأممية الرابعة؟ أهي ناشئة عن مغالطة ما ملازمة لـ”التروتسكية”؟ عن خطيئة أصلية نظرية أو سياسية (نظرية “الدولة العمالية”، “اللينينية”، “الدوغمائية التاريخية”، “التحريفية”)؟ مثل هذا التفسير لتاريخنا تناقضه حجتان حاسمتان.

في المقام الأول، نجد أن جميع الذين أدانوا “خطايانا الأصلية” بشدة –وهم في منتهى التنوع والتناقض- و إدعوا أنهم قادرون على تخطيها في الممارسة، لم يفلحوا بأي شكل من الأشكال، خلال مرحلة 1938-1965، في بناء منظمات أقوى نوعيا من أهم فروع الأممية الرابعة. فقد اشتركوا كليا في الركود التاريخي للمنظمات الماركسية الثورية.

لا قفزة إلى الأمام

في الواقع، ما من تنظيم من بين المنظمات التي أجرت قطيعة حاسمة مع الاشتراكية الديموقراطية و الستالينية، نجح في تحقيق قفزة إلى الأمام نحو حزب بروليتاري جماهيري في أي مكان من العالم، بصرف النظر عن التكتيك الخاص الذي اتبعه هذا التنظيم أو ذاك (نترك جانبا مثال حركة 26 يوليوز [15] في كوبا، الذي هو مثال خاص قد يجرنا إلى مناقشة ليست بضرورية في إطار هذا المقال).

ونجد في المقام الثاني أن “خطايانا الأصلية” المزعومة لم تعق بأي شكل من الأشكال نمونا السريع بعد منتصف الستينات. صحيح أن هذا النمو لم تشهده أقوى المنظمات التروتسكية وحدها. بل عرفته أيضا منظمات أخرى عديدة مما يسمى بـ”أقصى اليسار”. لكننا هنا أيضا نرى أن ما من فرق نوعي، في أي مكان من العالم على الإطلاق، بين النمو التنظيمي لأقوى “تجمعات أقصى اليسار غير التروتسكية” وأقوى فروع الأممية الرابعة.

إن الخلاصة جلية بالتالي: فإن مرحلة “اجتياز الصحراء” الطويلة لم تنشأ عن عيوب كامنة في “التروتسكية”. بل كان سببها الأساسي سببا موضوعيا، أو عكس بالأحرى ذلك الوجه من الوجوه “العامل الذاتي” الذي يصبح عاملا موضوعيا بالنسبة للمنظمات الصغيرة. إن جيلا من البروليتاريا العالمية بأكمله دخل الصراع الطبقي في نهاية الحرب العالمية الثانية بمستوى من الوعي الطبقي المتوسط أوطأ نوعيا من المستوى الذي ساد في مرحلة تشكل الأممية الثالثة في 1914-1923.

الانبعـاث الحتمــي

لقد فهمنا أيضا على وجه صحيح طبيعة ما يسمى ب”طفرة ما بعد الحرب” المحدودة تاريخيا، وحتمية انبعاث أزمات فيض الإنتاج الدورية حتى ولو تم تلطيفها بشكل “إنحسارات” بواسطة التقنيات التضخمية التي تتقنها الرأسمالية المتأخرة، تلك الأزمات التي سوف تميل للسبب آنف الذكر بالذات إلى خلق أزمة متصاعدة في النظام النقدي العالمي وتساهم بالتالي في تقريب أجل أزمات خطيرة ومعممة، تؤدي إلى مرحلة طويلة من النمو الاقتصادي الأضعف بكثير والبطالة الجماهيرية المزمنة، إن لم تؤد إلى ركود صريح.

وقد فهمنا الأزمة الأساسية الطويلة الأجل للنظام الإمبريالي الدولي والتعاقب الحتمي لانتفاضات أوسع فأوسع من قبل عبيد المستعمرات ضد أسيادهم الأجانب. وبفضل نظرية الثورة الدائمة فهمنا عجز البرجوازية والبرجوازية الصغيرة الكولونياليتين عن قيادة سيرورة التحرر هذه إلى انتصارها النهائي. ولم نفاجأ بأن حصيلة الانتفاضات الكولونيالية كانت في معظم الأحيان إنتقالا من السيطرة الإمبريالية المباشرة إلى السيطرة غير المباشرة، طالما أن البروليتاريا ذاتها لم تنتزع الهيمنة في السيرورة الثورية، ولم تستول على السلطة ولم تبن دولا عمالية بالتحالف مع الفلاحين الفقراء.

بيد أن هذا الفهم لم يجرنا إلى إساءة تقدير الأهمية العظيمة للنضالات ضد الإمبريالية التي شارك فيها ملايين الشغيلة الخاضعين لاستغلال مضاعف، حتى وإن تطورت هذه النضالات تحت قيادات برجوازية صغيرة قومية. ولم يجرنا إلى أي موقف لا مسؤول من الامتناع السياسي تجاه تلك النضالات. لقد فهمنا ومارسنا كليا ذلك المبدأ الأساسي في اللينينية القائل أن واجب الماركسيين الثوريين في البلدان الإمبريالية هو منح كل دعمهم لجميع النضالات المناهضة للإمبريالية، خاصة تلك النضالات التي تخاض ضد حكامهم الإمبرياليين الخاصين، بصرف النظر عن النواقص السياسية والاجتماعية لأولئك الذين يقودون تلك النضالات في الوقت الراهن.

منذ عام 1948، وبخلاف اتجاهات عديدة جدا بهرها التزايد الظاهري في نفوذ البيروقراطية السوفياتية، فهمنا كليا أن تطورات ما بعد الحرب كانت تطلق دينامية أزمة متنامية للستالينية في أوروبا الشرقية وفي الاتحاد السوفياتي. فلم تفاجئنا أحداث سنوات 1953، 1956، 1968 و1970 [16]، أمّا التوقع غير الحكيم الذي صدر بعد الحرب العالمية الثانية عن أنصار عقائد رأسمالية الدولة والجماعية البيروقراطية، والقائل أن “تعلقنا” بتحليل تروتسكي للستالينية والبيروقراطية الستالينية والمجتمع السوفياتي والدولة السوفياتية سوف يقودنا “حتما” إلى “الاستسلام للستالينية”، هذا التوقع لم تدعمه الوقائع على الإطلاق.

ففي كل نزاع نشب، في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي والصين، بين الجماهير المضطهدة من جهة، والبيروقراطيات الحاكمة من الجهة الأخرى، وقفنا بمنتهى الصراحة وبلا تردد إلى جانب الجماهير ضد مضطهديها. وقد أتاح لنا أيضا هذا الموقف كسب نفوذ وأنصار في صفوف “المعارضة الجديدة” الناشئة في تلك البلدان.

لا تناقض

إن الذين يشاركون الستالينيين وسائر أنواع البيروقراطية الفكرة الخارقة القائلة أن جميع النزاعات الاجتماعية والسياسية في عالم اليوم ينبغي رؤيتها في منظار النزاع بين “القوتين الجبارتين”، إن هؤلاء فقط يرون تناقضا بين موقفنا المبدئي الداعم للثورة السياسية في البلدان التي تسيطر عليها البيروقراطية وتصميمنا الذي لا يقل وضوحا ومبدئية على الدفاع عن الاتحاد السوفياتي وسائر الدول العمالية المتبقرطة في كل نزاع عسكري جزئي أو شامل بينها و الإمبريالية.

فنحن نعتقد أن إعادة إدخال نمط الإنتاج الرأسمالي إلى البلدان التي أزيل فيها، لو حصلت لشكلت خطوة هائلة إلى الوراء بالنسبة للشغيلة المعنيين وللإنسانية جمعاء.

جميع هذه الواقف للأممية الرابعة مبنية على نظرية موحدة في التاريخ وفي الصراع الطبقي الدولي، تضمنها البرنامج الذي تبناه مؤتمرنا التأسيسي والذي ليس بالذات سوى امتداد للوثائق التي تأسست عليها الأممية الثالثة الشيوعية. إننا لمقتنعون أكثر من أي وقت مضى بأن الرأسمالية انتهى دورها التاريخي التقدمي مع انفجار الحرب العالمية الأولى على أبعد تقدير. وأن بقاءها، بصرف النظر عن أطوار مؤقتة من النمو الاقتصادي الجديد، بات يعرض البشرية لآفاق كوارث أعظم فأعظم، ليست آوشفيتز وهيروشيما [17] سوى مقدمتين لها وليس احتمال حرب عالمية نووية سوى إحدى أخطر إمكانياتها. فقد أصبح الخيار “اشتراكية أم همجية” واقعا راهنا حارقا. وهذه المعضلة سوف تحلها حصيلة الصراع الطبقي على الصعيد العالمي.

لقد احتيج إلى مرحلة طويلة من الفورات و النجاحات الجزئية الجديدة لكي ينبعث جيل جديد من الكوادر الشابة العمالية والمثقفة تحرر تدريجيا من أثار الهزائم الماضية الأكثر تثبيطا للمعنويات. وقد احتيج إلى الالتقاء بين ظهور هذه الطليعة المتجذرة سياسيا وصعود جديد قوي لنضالية عمالية ذات اندفاع معاد للرأسمالية بوضوح، لكي تصبح فكرة بناء أحزاب عمالية ثورية جديدة فكرة مقبولة من جديد في شرائح أوسع بين شرائح الطبقة العاملة. ولما حصل هذا الالتقاء، وقد رمزت مايو 1968 إليه، تسارعت بالفعل سيرورة نمو الأممية الرابعة و”اليسار الثوري” بوجه عام.

فهل أن الوثائق التي تأسست الأممية الرابعة عليها وتطويرها اللاحق، أولا من قبل تروتسكي في كتاباته بين 1938 و1940 [18] ثم في الوثائق الرئيسية التي تبنتها مؤتمرات الأممية المتلاحقة، هل أنها سلحت الماركسيين الثوريين بما جعلهم يفهمون الخطوط الرئيسية لتطور العالم بعد الحرب العالمية الثانية ويتدخلون فيها بشكل صحيح؟ يمكننا اليوم أن نجيب بثقة عن هذا السؤال: أجل بصورة عامة، وبالرغم من أنه كان ثمة بعض الاستثناءات.

فبينما تأخرنا في فهم الاستقرار النسبي للرأسمالية الغربية اثر الهزائم التي لحقت بالطبقة العاملة في سنوات 1947-1951 [19] (من خلال مسؤولية الستالينية والاشتراكية الديموقراطية بصورة أساسية)، كنا بالأحرى سريعين في فهم الدينامية العامة لنمو الاقتصاد الرأسمالي الدولي المتسارع وآثاره المتضاربة على الصراع الطبقي.

فهمنا بوجه خاص أن شروط الاستخدام الكامل والأجور الواقعية المتصاعدة لم تحل دون انفجارات دورية للنضالات العمالية المعادية للرأسمالية.فهذه النضالات كانت العواقب الحتمية للأزمة المتنامية في علاقات الإنتاج الرأسمالية، التي رأينا أن تضافر الانحدار العام للنظام الاجتماعي والنمو الاقتصادي المتسارع مؤقتا سوف يزيد من حدتها ولن يضعفها، وتوقعنا أن موضوعتي الرقابة العمالية وتنظيم العمال الذاتي العامتين – مع امتدادهما لتشملا شرائح مضطهدة أخرى في المجتمع- سوف تكونان في وسط هذه النضالات المعادية للرأسمالية.

ولو أردت أن ألخص في عبارة واحدة الحصيلة السياسية لعمل الأممية الرابعة منذ مؤتمرها التأسيسي، لقلت: أيا كانت الأخطاء السياسية التي ارتكبتها الأممية حول هذا لموضوع الظرفي أو ذاك –وأنه لمن المحتم على الماركسيين أن يرتكبوا أخطاء، فالمهم أن تصحح بأسرع ما يمكن وأن تفهم الأسباب التي أدت إلى ارتكابها- فإن برنامجنا وتراثنا قد سمحا لنا بأن نقف في الجانب الصحيح من المتاريس في مطلق نضال جماهيري نشب منذ عام 1938 [20].

أليس هذا “الهاجس” في “الطهارة البرنامجية” ضعفا أكثر منه قوة؟ ألم يكن مصدر إنشقاقات عديدة داخل الأممية الرابعة، غالبا ما كانت مبنية على خلافات بيزنطية حول التفسير “الصحيح” للكتاب المقدس؟ ألم يصبح عائقا في وجه ظهور “يسار ثوري موحد” يتجاوز “الانقسامات القديمة التي تخطاها التاريخ”؟ هذه بلا شك إحدى الحجج الرئيسية التي تستعمل ضد الأممية الرابعة اليوم في تجمعات شتى من أقصى اليسار غير التروتسكي.

إن اتجاهات تحليلية عديدة مختلفة تتداخل في هذا النوع من المحاجة. وليس دوما سهلا التمييز بينهما.

إذا كان المقصود هو أنه لا يوجد “برنامج نهائي وناجز لجميع العصور”، أي أن الماركسية ليست “نظاما مغلقا”، فالقائل لا يعدو كونه يقتحم أبوابا مشرعة. والحال أن ما من نصير جدي للأممية الرابعة ينكر مثل تلك الحقيقة البديهية. فبقدر ما الحياة هي حركة، أي تغيير، تحصل دائما تطورات جديدة وغير مرتقبة. وبعد تردد وارتباك وصراع، يتم القبول بتحاليل جديدة وضمها إلى البرنامج. هكذا تجر المشكلات الجديدة أجوبة جديدة تغني الماركسية. وقد تجر أحيانا التطورات الجديدة إلى ضرورة إعادة النظر في أجوبة معطاة على مشكلات قديمة ظهر أنها أكثر تعقيدا مما ظن بها أصلا.

لا نجد أي صعوبة في فهم ما تقدم. فقد حاولت الأممية الرابعة أن تدلي بمساهماتها في إغناء فهم ماركسي لما استجد في العالم منذ عام 1938. وسوف يظهر التاريخ إذا كانت هذه المساهمات صحيحة أو لا.

لكن إن سلمنا بذلك، تبقى ثمة إشارات تنبيه أساسية للـ”مبدعين” المفرطين في جسارتهم. ففي المقام الأول، ثمة تماسك داخلي في الفهم الماركسي للمجتمع البرجوازي وللرأسمالية وللاشتراكية والصراع الطبقي والدولة، وبالتالي للتاريخ العالمي بمعنى عام. وإذا انتزعت أحجار هامة من أساسات البناء، قد ينهار بأكمله. أما القبول بمثل هذا الانهيار بدون تبرير، بدون حجج نظرية متماسكة وبراهين تجريبية هامة على صعيد نظام الفكر ككل، بل كنتاج عرضي لبعض المراجعات الهامشية، فهو موقف غير مقبول علميا وغير مسؤول اجتماعيا، يؤدي إلى نتائج سياسية كارثية.

شيء أن نقول أن المشكلات الجديدة تتطلب أجوبة جديدة. وشيء آخر تماما أن ننسى أن المشكلات “القديمة” لا تزال إلى حد بعيد ترافقنا حتى اليوم، وأن الأجوبة “القديمة” المعطاة عن تكل المشكلات “القديمة” لا تزال، حتى إثبات آخر، قابلة جدا للتطبيق اليوم. كيف يمكن لأقلية صغيرة من الثوريين أن تعالج مشكلة كسر هيمنة القادة الإصلاحيين على الغالبية العظمى من العمال؟ هي ذي مشكلة واجهت الماركسيين الثوريين لأكثر من ستين سنة خلت. إننا نعتقد أن الأجوبة “القديمة” التي أعطاها لهذه المشكلة كل من لينين والأممية الثالثة الشيوعية في مرحلة 1921-1923 و تروتسكي (في كتاباته عن ألمانيا وفرنسا وإسبانيا) لا تزال مناسبة كليا اليوم. ليس البرنامج الماركسي الثوري سوى تدوين تجربة تراكمت خلال 150 عاما من النضال الطبقي البروليتاري الدولي. فإن رمي هذه الدروس من النافذة، بحجة أن مشكلات جديدة قد نشأت أيضا، هو أيضا عمل ينم عن انعدام كلي للمسؤولية النظرية.

ولا جدوى في أن يحاول أحد إعطاء أساس “مادي” لهذا الانسحاب إلى الانتقائية المبتذلة أو التجريبية، بقوله “أن برنامجا جديدا لن يكون سوى حصيلة صعود جديد للنضالات الجماهيرية وبناء منظمة ثورية أقوى من الحالية”. فما الذي يسمح بالافتراض أن تجارب “جديدة” في الصراع الطبقي سوف تتخطى دروس تجربة الصراع الطبقي في روسيا 1917-1927 وفي ألمانيا 1905-1923 و إيطاليا 1914-1927 وإسبانيا 1931-1939 وفرنسا 1932-1940 وبريطانيا 1914-1931، على سبيل المثال، تلك التجارب التي يستند إليها برنامجنا؟

النقاش الحقيقي

إنه لمحتم أن يستحيل قيام تنظيم موحد فعال بين أولئك المستعدِّين للتضحية بمصالح العمال وتنظيمهم الذاتي بحجة مطلق نظرية يمكن تصورها (الأولية المزعومة للأهداف المعادية للإمبريالية على النطاق العالمي، نظريات “أهون الشرين” في وجه”الأخطار الفاشية”، نظرية “العوالم الثلاثة”، الخ) وأولئك الذين يرون أن مهمتهم المركزية هي التدخل في جميع النضالات الجماهيرية لتطوير ثقة العمال بأنفسهم وقدرتهم على العمل والتنظيم والاتحاد في النضال، تلك الشروط التي تستحيل بدونها الثورة الاشتراكية.

وانه لحتمي أن خلافات أساسية في الرأي حول طبيعة الدولة البرجوازية وضرورة تحطيمها، أو حول طبيعة الإمبريالية وواجب دعم نضال ضحاياها التحرري، خلافات مثل هذه تجعل التعايش في تنظيم واحد مستحيلا في عصر من الثورة والثورة المضادة.

فالنقاش الحقيقي يتمحور وسوف يتمحور حول هذه المسائل الملموسة في السياسة البروليتارية الثورية الراهنة، أيا تكن محاولات نقادنا لتحويله إلى نقاش جانبي حول موضوع مصطنع في ما يزعم عن “البلاء التاريخي للتروتسكية” (أو الأممية الرابعة). وحالما وأينما مالت الخلافات حول جميع تلك المسائل الجوهرية في البرنامج والسياسة الثوريين، مالت إلى الزلزال، سوف تحفز سيرورة التجمع حفزا لا يقاوم، بصرف النظر عما إذا كان هذا التيار أو ذاك من تيارات “أقصى اليسار” ينتسب إلى الأممية الرابعة، التي ليس في صفوفنا من هو مستعد للتضحية بها لأن بناء منضمة أممية له معنى برنامجي في نظرنا.

هل أن وجود منظمة أممية كالأممية الرابعة هو بحد ذاته، في هذه المرحلة، عائق في وجه بناء منظمات ثورية قومية أقوى؟

إن التاريخ قد دحض هذه الحجة على الصعيد “المبتذل” في الاختيار التجريبي. ثمة ستة فروع على الأقل من فروع الأممية الرابعة تتمتع اليوم بقوة تنظيمية وعددية شبيهة بقوة حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا. وسوف يصل هذا العدد إلى عشرة على الأرجح في المستقبل القريب.

أما الحجة الجانبية القائلة أن الدخول في منظمة أممية من الطراز “التروتسكي” تجعل المنظمات الثورية القومية معرضة لـ”عدد لا يحصى من الانشقاقات المطبوخة دوليا”، فقد دحضها التاريخ دحضا أقوى أيضا.

والحال أن الأممية الرابعة لم تشهد، منذ خمسة عشر عاما حتى اليوم، أي انشقاق دولي –هذا بالرغم من العديد من الصراعات التكتلية الطويلة والعنيفة بالأحرى. في الواقع، إن إنشقاقات قومية عديدة أحبطت أو هي قيد الإحباط، من خلال ثقل وضغط وحدة الأممية ونموها.

وإذا قورن هذا السجل بما حصل خلال المرحلة ذاتها لبعض منظمات “أقصى اليسار” غير التروتسكية –خاصة، وليس حصرا، الماويين والماويين الوسطيين- بدا الفرق باهرا.

كوننا تخطينا على ما يبدو –دقوا على الخشب- نزعتنا الماضية إلى الانشقاقات اللا مسؤولة (التي لم تكن مستقلة عن النمو البطيء جدا والنزوع اليائس لدى العديد من الرفاق والاتجاهات والتكتلات إلى “السير على حدة”، إلى تجربة أي تكتيك خاص ظن أنه يسمح بتجاوز الركود)، كوننا تخطينا تلك النزعة ليس متعلقا فقط بازدياد قوتنا. إنه متصل أيضا بتمسكنا الحريص بقواعد ثابتة للدفاع عن الديموقراطية الداخلية، وهي قواعد تنظيمية تقتضي حق تشكيل الإتجاهات و التكتلات، والحق في مناقشات علنية دورية، أي العودة إلى ما كانت المركزية الديموقراطية عليه حقا في الأممية الثالثة حتى عام 1923 على الأقل، بتطهيرها ليس من “تراصية الكتلة الواحدة” الستالينية وحسب، بل أيضا من الزينوفييفية.

فالحقيقة، خلافا لأسطورة تدافع عنها جميع بيروقراطيات الحركة العمالية، هي أن الديموقراطية الداخلية والنقاشات الواسعة وصراعات الإتجاهات والتكتلات التي يتبعها انضباط طوعي في الممارسة مبني على قرارات الأكثرية، بعيدة عن أن تكون “ترفا” يجر إلى “الانشقاقات والشلل”، تزيد إلى حد كبير من تماسك وفعالية منظمات الطبقة العاملة.

بيد أن أساس النقاش حول “جدوى” أو “عدم جدوى” التنظيم الأممي، عند المستوى الراهن من قوة المنظمات الثورية القومية وضعفها، ليس مسألة “مبتذلة” تختص بالفعالية وبالجدوى المباشرتين، بل هو إحدى المسائل الأساسية في النظرية الثورية، يمكن حتى اعتبارها أهم مسألة واجهت الاشتراكيين الثوريين منذ بداية القرن.

فإن عصر الإمبريالية عصر اقتصاد عالمي وسياسة عالمية وصراع طبقي دولي وحروب عالمية وثورة وثورة مضادة عالميتين. هو ذا الأساس الموضوعي لوجود الأممية الرابعة. وعلى كل من أراد أن يشكل جديا بضرورة بناء حزب ثوري قومي وحزب ثوري أممي في آن واحد منذ البداية، أن يتناول ذلك الميل الموضوعي.

فلذلك الميل وجهان يكمل أحدهما الآخر. الوجه الأول موضوعي “صرف”. فإن تطور الطابع الدولي للقوى المنتجة وللرأسمال وللعمل، يؤدي إلى تطور الطابع الدولي الموضوعي للصراع الطبقي. وقد أصبح هذا الواقع حقيقة بديهية في عصر “الشركات متعددة الجنسية”. والحال أن عددا متزايدا من مواضيع الصراع الطبقي حتى في مستواه اليومي، ناهيكم بمستواه الثوري، يطرح في آن واحد في بلدان عديدة ويخص شغيلة وعمالا وفلاحين فقراء وطلابا ومثقفين من بلدان عديدة. بالتالي، فأي تأخر في بناء منظمة قومية ومنظمة أممية في آن واحد يضعف بالملموس قدرة المنظمة القومية ليس على فهم ما يجري وحسب، بل خاصة على التدخل بشكل صحيح بما فيه التدخل في بلدها الخاص.

المبعوثون

قد يبدو مفارقا للمنطق أن تلجأ منظمات شيوعية “قومية” إلى تقليد الطريقة الزينوفييفية في انتداب مبعوثين. غير أن لحظة تفكير تبين أن ذلك ليس بصدفة على الإطلاق. حيث أن التنظيم الذي ينحصر في منظمات قومية، شأنه شأن الذي ينحصر في جهاز بيروقراطي، يضطر إلى البحث عن بدائل لما هو بالنسبة للماركسي، وفي نهاية المطاف، الأسلوب “الطبيعي” الوحيد في العمل في الصراع الطبقي الدولي: بناء كادر دولي، ينضج من خلال تجربته الخاصة التي تكون المشاركة فيها ديموقراطية ومناقشتها نقدية، وتكون مستندة إلى برنامج مشترك وممارسة مشتركة.

أما وجه المشكلة الآخر فهو أكثر “ذاتية”. وهو أن أية محاولة لبناء منظمات ثورية قومية قبل بناء أممية –أي الأطروحة القائلة بضرورة بناء “الجدران قبل السقف”- تقود إلى بناء منظمات شيوعية “قومية” بالاستقلال بعضها عن بعض: أي بناء الجدران بدون تخطيط مسبق للمنزل وللسقف أو حتى للجدران ذاتها. وأنها لمعجزة حقيقية إذا نشأ منزل عن مثل هذه المساعي غير المتصلة.

فالمنظمات الشيوعية “القومية” المبنية بلا تماسك برنامجي وسياسي في ما بينها، وخاصة بلا عمل وتجربة مشتركين بصورة دائمة وجارية، سوف تميل حتما إلى تطوير فروقات برنامجية وسياسية عميقة في ما بينها. والحال أنه ليس بمفكر مادي من يعتبر أن هذه الفروقات ليست مرتبطة على الإطلاق بالشروط الخصوصية والمصالح المباشرة الخصوصية لشرائح خصوصية من الشغيلة المأجورين في بلدان مختلفة. فإن رفض بناء المنظمتين الثوريتين القومية والأممية في آن واحد يؤدي إلى تفاقم خطر الانحرافيين البيروقراطي والقومي سواء. إن المنظمات الشيوعية “القومية” تقود إلى نظرية وممارسة “الاشتراكية في بلد واحد” – أي لا اشتراكية في أي بلد.

وأننا لمدركون تمام الإدراك أن الأممية الرابعة، كما هي قائمة اليوم، بعيدة عن أن تشكل الأممية الشيوعية الجماهيرية الجديدة التي يقتضيها انتصار الثورة العالمية. وسوف يكون العديد من الاندماجات والتجمعات –والانشقاقات في المنظمات الجماهيرية القائمة- ضروريا قبل أن نصل إلى تلك الأممية الجماهيرية

العقبات

نحن ندرك أيضا أن فروعنا في بلدان هامة عديدة ليست هي أقوى منظمات “أقصى اليسار”. فإن وضعا كهذا يخلق دون شك عقبات إضافية في طريق نمو فروعنا. غير أن ثمة واقعا لا ينكر هو أننا المنظمة الأممية الوحيدة القائمة –وهي موجودة في أكثر من ستين بلدا، بما فيها جميع البلدان الهامة. هذا الواقع بذاته في غاية الأهمية.

فعندما تم تأسيس الأممية الرابعة قبل أربعين عاما، كانت ثمة منظمات على يسار الاشتراكية-الديموقراطية و الستالينية أقوى من نوانا الصغيرة بأضعاف، وذلك في بلدان رئيسية من وجهة نظر الصراع الطبقي. كانت تتألف من كوادر نتجوا حقا عن النضالات الجماهيرية وكانت فخورة بجذورها في التراث القومي للحريات العمالية في بلدانها الخاصة. نذكر منها فقط، على سبيل المثال، البورديغيين في إيطاليا والبراندريين في ألمانيا والحزب العمالي للتوحيد الماركسي (بوم) في إسبانيا وحزب العمال المستقل في بريطانيا والحزب الاشتراكي العمالي الفلاحي في فرنسا.

أمّا اليوم، ففي كل بلد من هذه البلدان، نجد أن بقايا هذه المنظمات التي كانت هامة في إحدى المراحل قد تقلصت إلى ظل ماضيها المجيد أو توارت كليا. أمّا فروع الأممية الرابعة في كل بلد من هذه البلدان، فأقوى بكثير من تلك المنظمات. في جميع هذه الحالات، أدت الخصائص “القومية” –فضلا عن نواقص برنامجية هامة- إلى تطورات قومية، منفصلة ومستقلة عن تيار الماركسية الثورية الرئيسي، الذي يعبر عن مصالح البروليتاريا العالمية الأساسية والمتماثلة. وقد تبين بالتالي في الأجل الطويل، أن تلك التطورات القومية، بعيدا عن أن تكون مصدر قوة، غدت مصدر انحطاط وانحدار حتميين. يجب التأمل في هذا الدرس بجد.

إرنست ماندل

[1] المعارضة اليسارية تكتل في الحزب البلشفي أسسه تروتسكي سنة 1923 لمقاومة الانحطاط الستاليني الذي بدأت تتضح معالمه في الحزب والدولة في الإتحاد السوفياتي. وهي امتداد لنضال بدأه لينين بالتحالف مع تروتسكي سنة 1922، ضد البيروقراطية وضد ممثلها ستالين (كان أحد شعارات المعارضة “تنفيذ وصية لينين”). ثم تكونت بدءا من منتصف العشرينات معارضات في الأحزاب الشيوعية الأخرى اجتمعت سنة 1930 لتأسيس “المعارضة البلشفية-اللينينية الأممية”، التي مهدت لتأسيس الأممية الرابعة سنة 1938.

[2] انتفاضة مايو 1968 في فرنسا، التي بدأت إنتفاضة طالبية وتطورت إلى إضراب عام لعشرة ملايين عامل وعاملة، دام أسبوعين.

[3] سنة 1953 انشق عن الأممية الرابعة فرعها الأمريكي وغالبية فرعيها الفرنسي والإنكليزي، إلى جانب تجمعات صغيرة أخرى. وفي العام 1963، انعقد مؤتمر توحيدي بين الأممية والتنظيم الأمريكي (حزب العمل الاشتراكي) وتنظيمات أخرى.

[4] حزب لانكا ساما سمايا تأسس في سري لانكا (سيلان) قبل الحرب العالمية الثانية وتطور إلى أن أصبح أهم حزب عمالي في الجزيرة وأكبر فروع الأممية الرابعة. غير أنه انحرف عن برنامجه في بداية الستينات حتى انتهى إلى الدخول في ائتلاف حكومي مع حزب بندرانيكه البرجوازي، الأمر الذي أدى إلى فصله عن الأممية الرابعة. وقد انشق عنه عدد من الثوريين يشكلون اليوم فرع الأممية في سري لانكا وهم يقودون أهم إتحاد نقابي عمالي في الجزيرة يضم حوالي 40 ألف عامل.

[5] الحركة التي أسسها فيديل كاسترو في الخمسينات والتي انبثقت منها قيادة الثورة الكوبية.

[6] حركات وانتفاضات الطبقة العاملة ضد النير البيروقراطي في ألمانيا الشرقية (1953) والمجر (1956) وتشيكوسلوفاكيا (1968) وبولونيا (1956و1970)

[7] إشارة إلى مجازر النازية وإلى إلقاء الإمبريالية الأمريكية قنبلتين نوويتين على اليابان.

[8] اغتيل تروتسكي في غشت/(أغسطس) 1940 على يد عميل للمخابرات الستالينية.

[9] في إيطاليا وفرنسا بوجه خاص حيث نزعت القيادات الستالينية السلاح من أيدي الشغيلة وسلمت السلطة للبرجوازية التي ما لبثت أن انقضت على الحركة العمالية بما فيها الأحزاب الستالينية ذاتها، وفي اليونان حيث تدخل الجيش البريطاني ليعيد الملكية ويسحق المقاومة الشيوعية التي تخلى عنها ستالين ولم يقدم لها أي دعم.

[10] قد يظن أن هذا بديهي، لكن يكفينا أن نذكر مناسبتين من تاريخنا العربي بين مناسبات أخرى عديدة في التاريخ العربي والعالمي، وقفت فيهما الأممية الرابعة في الجانب الصحيح بينما وقفت الأحزاب الستالينية في الجانب الآخر المضاد، مناسبتين هما تقسيم فلسطين وانطلاق الثورة الجزائرية.

[11] المعارضة اليسارية تكتل في الحزب البلشفي أسسه تروتسكي سنة 1923 لمقاومة الانحطاط الستاليني الذي بدأت تتضح معالمه في الحزب والدولة في الإتحاد السوفياتي. وهي امتداد لنضال بدأه لينين بالتحالف مع تروتسكي سنة 1922، ضد البيروقراطية وضد ممثلها ستالين (كان أحد شعارات المعارضة “تنفيذ وصية لينين”). ثم تكونت بدءا من منتصف العشرينات معارضات في الأحزاب الشيوعية الأخرى اجتمعت سنة 1930 لتأسيس “المعارضة البلشفية-اللينينية الأممية”، التي مهدت لتأسيس الأممية الرابعة سنة 1938.

[12] انتفاضة مايو 1968 في فرنسا، التي بدأت إنتفاضة طالبية وتطورت إلى إضراب عام لعشرة ملايين عامل وعاملة، دام أسبوعين.

[13] سنة 1953 انشق عن الأممية الرابعة فرعها الأمريكي وغالبية فرعيها الفرنسي والإنكليزي، إلى جانب تجمعات صغيرة أخرى. وفي العام 1963، انعقد مؤتمر توحيدي بين الأممية والتنظيم الأمريكي (حزب العمل الاشتراكي) وتنظيمات أخرى.

[14] حزب لانكا ساما سمايا تأسس في سري لانكا (سيلان) قبل الحرب العالمية الثانية وتطور إلى أن أصبح أهم حزب عمالي في الجزيرة وأكبر فروع الأممية الرابعة. غير أنه انحرف عن برنامجه في بداية الستينات حتى انتهى إلى الدخول في ائتلاف حكومي مع حزب بندرانيكه البرجوازي، الأمر الذي أدى إلى فصله عن الأممية الرابعة. وقد انشق عنه عدد من الثوريين يشكلون اليوم فرع الأممية في سري لانكا وهم يقودون أهم إتحاد نقابي عمالي في الجزيرة يضم حوالي 40 ألف عامل.

[15] الحركة التي أسسها فيديل كاسترو في الخمسينات والتي انبثقت منها قيادة الثورة الكوبية.

[16] حركات وانتفاضات الطبقة العاملة ضد النير البيروقراطي في ألمانيا الشرقية (1953) والمجر (1956) وتشيكوسلوفاكيا (1968) وبولونيا (1956و1970)

[17] إشارة إلى مجازر النازية وإلى إلقاء الإمبريالية الأمريكية قنبلتين نوويتين على اليابان.

[18] اغتيل تروتسكي في غشت/(أغسطس) 1940 على يد عميل للمخابرات الستالينية.

[19] في إيطاليا وفرنسا بوجه خاص حيث نزعت القيادات الستالينية السلاح من أيدي الشغيلة وسلمت السلطة للبرجوازية التي ما لبثت أن انقضت على الحركة العمالية بما فيها الأحزاب الستالينية ذاتها، وفي اليونان حيث تدخل الجيش البريطاني ليعيد الملكية ويسحق المقاومة الشيوعية التي تخلى عنها ستالين ولم يقدم لها أي دعم.

[20] قد يظن أن هذا بديهي، لكن يكفينا أن نذكر مناسبتين من تاريخنا العربي بين مناسبات أخرى عديدة في التاريخ العربي والعالمي، وقفت فيهما الأممية الرابعة في الجانب الصحيح بينما وقفت الأحزاب الستالينية في الجانب الآخر المضاد، مناسبتين هما تقسيم فلسطين وانطلاق الثورة الجزائرية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا