أعطاب الحركة النقابية عقبة بوجه نضال عمالي وشعبي نوعي يستدعيه تعزز الاستبداد واشتداد الاستغلال
منذ مطلع العام الجاري حتى فاتح مايو، اجتازت الحركة النقابية المغربية محطات بالغة الدلالة، كاشفة لحالتها ولمرامي عدوها الطبقي. محطات بليغة يتوجب على مناضليها/تها التفكير الجماعي للاستفادة من دروسها تسلُّحا للقادم من هجمات، ليس كل ما شهدنا غير مقدمة لها.
فبعد عملية “حوار اجتماعي” بقصد تقنين/ تقييد حرية الإضراب، أفلح “الشركاء الاجتماعيون”، في تمرير أكبر مصيبة من المتفق عليه منذ أبريل 2022، ألا وهي تجريد الشغيلة من أداة النضال المتمثلة في الإضراب بإحاطته بجملة شروط و قيود لم تترك منه سوى الاسم. وقد تطلب ذلك من القيادات النقابية التظاهر بالاعتراض بالمعهود من “تحركات” وكلام بيانات تستعيض بهما عن تعبئة فعلية لقوى الطبقة العاملة لاكتساب مقدرة صد العدوان. فقبول القيادات مساعدة الدولة البرجوازية، في إطار الشراكة معها، على نزع سلاح الشغيلة جلي، لمن يريد أن يرى، منذ ظهور أولى مشاريع تقنين حرية الإضراب قبل زهاء 25 سنة. مشاريع توالت مؤكدة عزم الدولة على الانقضاض على تلك الحرية، وتحيُّنها الفرصة لتوجيه الضربة القاضية. فلم يُشْرع في العملية المؤسسية لإخراج قانون الإضراب في أيام حراك 20 فبراير، ولا إبان حراك الريف و لا في أشهر حراك التعليم، فتلك كلها فترات تحسن فيها ميزان القوى لصالح الشغيلة وعامة المقهورين/ت بنحو قد يجر على الدولة البرجوازية ويلات لم تخطر لها على بال. وقد تجلى تصنع الاعتراض على قانون الإضراب في أسطع صوره في الارتجال المفضوح لما سُمي إضرابا عاما بنحو لا مسؤول، غايته الوحيدة تسجيل القيادات لكونها قامت بواجب الدعوة الى النضال، وزادت الطين بلة بأكاذيب نسب المشاركة في الإضراب، نسب لم يسخر منها الوزير البرجوازي بقدر ما سخر منها حجم مشاركة الشغيلة في مسيرات فاتح مايو، هذه التي أبانت بوضوح تام ما جنته سياسة التعاون الطبقي مع الخصم على مقدرات الطبقة العاملة التنظيمية. ولتسجيل النصر بلغة الإمعان في إذلال المهزوم، كانت مصادقة مجلس المستشارين على قانون الإضراب يومين قبل “الإضراب العام” بالذات.
وإن كانت هذه الهزيمة بلا معركة قد كشفت عجزنا عن صيانة سلاح الإضراب، في علاقة الصراع مع الخصم الطبقي، فقد جاء المؤتمر الثالث عشر للاتحاد المغربي للشغل، المرتجل في زمن قياسي لم يكن له نظير طيلة تاريخ المنظمة، ليعري من جديد مشكلاتنا الداخلية، بإبراز استفحال مشكلة التدبير الديمقراطي للتنظيم. فبقرار غير مبرر، و لا حتى معلن بكيفية مسؤولة، تم منع مناضلين عماليين منهم قادة بارزون، من المشاركة في ذلك المؤتمر. لم يكن القصدُ من إبعاد الرفاق الأربعة خشيةً ما من إقناعهم للمؤتمرين بأفكار وأراء بديلة للخط النقابي الرسمي، لأن المؤتمرين غير قابلين أصلا لأي إقناع بالنظر إلى أنهم منتقون بقصد تجديد مبايعة القيادة ليس إلا. وجلي أن غاية هذا المنع، الذي طال الرفيق عبد الحميد أمين لثالث مرة، إنما هو تأكيد الحدود المرسومة لكل يسار داخل الاتحاد المغربي للشغل، حدود الانصياع لخط القيادة، والاقتصار على تنفيذه. وضدا على تمنيات الرفاق ضحايا العسف البيروقراطي، وحتى على أوهام تيقن أحدهم أن ” أغلبية المؤتمرين والمؤتمرات سيعارضون هذا الأجراء الذي يمس بمبادئ مركزيتنا”، صودق على وثائق المؤتمر بالإجماع، وكذا على تجديد ولاية الأمين العام. فما الدرس من هذا الإجماع؟ إلى أين مع انعدام أصوات أخرى داخل الاتحاد معارضة لمجريات المؤتمر الثالث عشر ؟ حالة إعدام الديمقراطية التي ترعرع فيها الاتحاد، وتواصلت عقودا، مقبلة على الاستمرار الى الأبد. ومن المؤشرات السلبية البارزة في حدث “المؤتمر” أن الانتقاد اقتصر على قرار إبعاد الرفاق متجاهلا سيرورة تحضير المؤتمر برمتها (إعداد الأدبيات ونقاشها، انتخاب المؤتمرين/ت، قرارات المؤتمر …)، وها قد مضت ثلاثة أشهر بعد المؤتمر ولا تقييم، ولا جواب على سؤال ما العمل؟ غير مواصلة العمل كأنه لا مشكلة ثمة، وبالتالي الانحناء لكل ضغط بيروقراطي نحو مزيد من الانحناء.
ثالث ما كشف جانبا من الحالة المؤسية لمنظماتنا العمالية فاتح مايو وما سبقه من “حوار اجتماعي”. الدولة مدركة لمدى الضعف الذي آلت اليه النقابات، فهزأت منها بدعوة القيادات إلى “حوار اجتماعي” أياما قلائل قبل 1 مايو. أفادت قيادة الاتحاد المغربي للشغل أن “ممثلي الحكومة طلبوا مهلة لدراسة المطالب”، فيما جاء في بلاغ الكنفدرالية الديمقراطية للشغل أن “رئيس الحكومة أكد الالتزام بتنفيذ الالتزامات والاتفاقات القطاعية وبالنظر في باقي المطالب وعقد اجتماع آخر قبل فاتح مايو”. فكان الوفاض الخاوي، ودليلٌ، لمن يحتاجه، على إفلاس خط “الشراكة الاجتماعية” المفروض بديلا عن النضال الطبقي. وكانت مسيرات فاتح مايو استعراضا لضعفنا، كميا ونوعيا، في سياق نضالي مطبوع بكفاحات فصائل شغيلة من الصفوف الخلفية، أي قطاعات الهشاشة، حيث النضال من أجل أجور في وقتها هو الغالب ، أي آخر خطوط الدفاع، بينما فصائل الطبقة النوعية، في قطاعات الإنتاج و النقل والخدمات، منطوية على نفسها تحت ضغط مستوى البطالة و الهشاشة، ومفعول البناء النقابي القطاعي ضيق الأفق، المكرس لأنانية مهنية لا ترقى الى وعي الحاجة الى نضال يحرك الطبقة برمتها، لا سيما بالنظر إلى جسامة القادم من هجمات.
بهذه الحالة الإجمالية التي كشفتها المحطات الثلاث، تسير طبقتنا لتلقي ضربات إضافية مع بداية ما يسمونه الدخول الاجتماعي، حيث سارع الوزير السكوري إلى التلويح بفتح ملف التقاعد، وتعديل مدونة الشغل، وقانون النقابات. وهذا طبعا ضمن السياسية الاجمالية المعادية للشغيلة.
أول ما يستوجبه سيرنا إلى معارك جديدة في حالة ضعف هو التفكير فيما حل بنا: نقاش واسع لأسبابه ولسبل استنهاض القوى.
ولا يَعتبر هذا التركيزَ على الحركة النقابية (وهي شكل تنظيم شغيلة المغرب الرئيسي حاليا) محضَ نزوع ايديولوجي ماضوي غيرُ الغافلين، أو المتغافلين، عن مكانة طبقة الشغيلة الجوهرية في أي نضال ضد الاستبداد والاستغلال. فركود الساحة السياسية، ونجاح النظام في تدبير وضع اجتماعي شديد التفجرية بفعل الغلاء و البطالة وشدة الاستغلال، إنما يفسره غياب الطبقة العاملة عن تلك الساحة. وكل اقتحام لها من قبل الشغيلة إنما يكون بتوسيع أفقهم النضالي، عبر توسيع نضالهم اليومي بضم قطاعات لا تزال خارج التنظيم، وتطويره بتحريره من الضيق الذي حصرته فيه سياسة البيروقراطية بمنطق “الشراكة والحوار الاجتماعيين”، وبمنهجية عزل قطاعات النضال النقابي عن بعضها البعض، وإعدام الديمقراطية الداخلية.
ليست المسارعة إلى رمي كل ناقد للبيروقراطية بتهمة السعي الى بديل عن هذه الاتحاد النقابي او ذاك، أو بجريرة تبخيس العمل النقابي، سوى تهرب من الجواب على الأسئلة الحارقة التي يطرحها، ويعيد طرحها كل يوم، واقع الحركة العمالية المغربية. وإن النضال من أجل مغرب الحرية و الكرامة و المساواة الاجتماعية يمر عبر استنهاض الحركة العمالية وتطويرها سياسيا، وسوى هذا عمل سيزيف ضمن الإطار الذي تحدده تلك البيروقراطية، وبالتالي تفويت الفرصة الوحيدة الفعلية لبناء القوة الكفيلة بإنهاء الاستبداد والاستغلال.
اقرأ أيضا