حين تقتل الفيضانات الفقراء: النيوليبرالية تحوّل المدن المغربية إلى مصائد موت
بقلم، سي. حر. دوف.
طبعا، ما جرى في مدينة آسفي «فيضانات» و«تقلبات مناخية» لكن نتائجه الكارثية في الأرواح والخسائر ليست «قضاءً وقدرًا»، بل نتائج إهمال الدولة بكل ما في الكلمة من معنى. إهمال تتحمل مسؤوليته الدولة وسياسات تتبناها أنتجته. إنه تاريخ طويل من الإهمال المقصود. فوفق المعطيات الرسمية، خلّفت الفيضانات إلى حدود الآن 37 قتيلًا[1]، وعشرات المصابين، من بينهم حالتان في وضعية حرجة، إضافة إلى مئات المنكوبين الذين دُمِّرت مساكنهم الهشة وممتلكاتهم القليلة. غير أن ما يجري تداوله ميدانيًا، بعيدًا عن بلاغات التطمين، يشير إلى حصيلة أثقل بكثير في الأرواح والإصابات والخسائر، خصوصًا داخل الأحياء الشعبية التي تُركت لمصيرها.
لكن الحيوات التي فقدناها في آسفي لا يمكن اختزالها في الأرقام، ولا في مشاهد الدمار وحدهما. إننا أمام نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية واجتماعية حوّلت المدينة (المجال الحضري) إلى فضاء طبقي غير صالح للحياة بالنسبة للفقراء. أقيمت أحياء بأكملها في مجاري السيول، بلا صرف صحي، بلا حماية، بلا مراقبة للبناء، لأن الدولة اختارت، عن وعي، أن تُراكم الفقر بدل أن تقتلع أسبابه، وأن تدبّر “الهشاشة” بدل أن تنهيها. هنا، تصبح الكارثة آلية لاستعراض الدولة واستثمارها للتطبيل لما تسميه إنجازات في محاولة لكبح السخط واحتوائه، وهكذا يغدو الموت عقوبة جماعية للفئات الكادحة.
في آسفي، كما في غيرها من المدن المغربية[2]، القتل ليس مسؤولية السيول؛ بل مسؤولية النموذج النيوليبرالي القائم على التقشف، وخدمة الديون، وتفكيك الاستثمار العمومي، وخوصصة كل شيء، بما في ذلك الحق في السكن الآمن والمدينة القابلة للعيش. أدى هذا النموذج نفسه إلى إضفاء الطابع القروي على المدن (أريفة المدن)، ونشر الفقر دون حقوق، وتحويل المجال الحضري إلى حقل تجارب للفوضى العمرانية، بينما تُحمى مصالح الرأسمال والعقار وتُترك الأجساد الفقيرة في الواجهة الأولى للمخاطر.
من هنا، فإن فاجعة آسفي ليست استثناءً، بل حلقة جديدة في سلسلة كوارث اجتماعية يُعاد إنتاجها كل مرة باسم “الاستثمار” و”الاستقرار” و”الواقعية الاقتصادية”. وما لم تُسمَّ الأمور بأسمائها، وتُحدَّد المسؤوليات السياسية بوضوح، سيظل الفقراء هم ضحايا الأزمات، وستظل الكوارث تحصد أرواحهم، مرة بالفيضانات وغيرها من الكوارث، ومرة بالإهمال، ودائمًا بالصمت الرسمي.
أكيد أن الأمطار تقتل الناس، لكن أضرارها تشتد بسياسات السوق والمديونية وأريفة المدن التي دفعت العمال والكادحين للسكن في مجاري الخطر. لا يتعلق الأمر، حين تجرف الفيضانات بيوت الفقراء في المغرب، بغضب الطبيعة، بل بعنف الدولة والسوق متجسّدًا في كوارث طبيعية. إنها ليست كارثة فحسب، بل نتيجة منطقية لنموذج تنموي يعرف جيدًا من يضحّي به ومن يحميه. فالمدينة التي تغرق اليوم لم تُبنَ لتسكنها الأغلبية الكادحة في آمان، بل لتنعم الأقلية باستثمارها ومراكمة الأرباح.
باستحضار ما وقع بمدينة أسفي، يحق القول إن أحدا لم يمت لأن السماء أمطرت كثيرًا؛ بل مات الناس لأنهم أُجبروا على السكن في مجاري الأودية، ولأن الدولة انسحبت من الحماية، ولأن الميزانيات وُجّهت لسداد الديون بدل إنقاذ الأرواح، ولأن النيوليبرالية حوّلت الحق في السكن إلى امتياز، والوقاية إلى كلفة غير مربحة.
لقد انكشف التدهور الاجتماعي هذه المرة بفعل كارثة مناخية. وتتكرر هذه المعضلة لأن المحاسبة معدومة، ولأن الضحايا هم دائمًا من الطبقات نفسها: عمال، وعاطلون، ومهاجرون قرويون، ونساء وأطفال في هوامش المدن التي جرت أريفتها.
أولًا: النيوليبرالية وتفكيك الوقاية العمومية
ليس تفكيك الوقاية العمومية في المغرب انطباعًا سياسيًا، بل واقع تؤكده الأرقام. ففي الوقت الذي تتصاعد فيه المخاطر المناخية، ظل الإنفاق العمومي المخصص للبنيات الوقائية والبيئة هامشيًا مقارنة بباقي الالتزامات المالية للدولة[3]. الميزانية الموجهة مباشرة لقطاعات البيئة، والماء، والوقاية من المخاطر الطبيعية ضئيلة ولا ترقى لردم هول الخصاص المزمن.
استمرت السياسات النيوليبرالية في ضخ الموارد لمشاريع كبرى موجهة “لجذب الاستثمار”، دون اعتبار حقيقي لكلفتها البيئية والاجتماعية. بينما تمول برامج تهيئة الأودية والحماية من الفيضانات غالبًا على نحو متقطع، وتُرحَّل أو تُقلَّص هذه التمويلات عند أول ضغط مالي. كما حال ميزانيات قطاعية أخرى كان مفترضا أنها موجهة لما يسمى الجانب الاجتماعي من تلك السياسات.
إنها مفارقة صادمة، فحياة الناس أرخص من مشاريع رياضية ضخمة، استعدادًا للكان والمونديال، كما حدث مع مشاريع سابقة مثل مشروع التي جي في الشهير، حيث تُفضّل الدولة مشاريع “فيلة بيضاء” على حماية المواطنين. إنه نموذج متواصل التنفيذ ترعاه الدولة، شهدنا أمثلة لا تحصى عنه، نذكر بعضها على سبيل المثال: جرادة، الحسيمة، الجنوب الشرقي… نفس السياسات، ونفس الاستغلال، ونفس الكوارث البيئية والاجتماعية، وخنق الحريات…
ثانيًا: الديون العمومية… حين تُغرق الفوائد ما لا تغرقه الأمطار
يبلغ الدين العمومي المغربي اليوم زهاء 70٪ من الناتج الداخلي الخام، فيما تبتلع خدمة الدين سنويًا ما بين 25 و30٪ من الميزانية العامة. يوضح هذا المعطى وحده سبب هشاشة الاستثمار الاجتماعي والبيئي. فكل درهم يُوجَّه لسداد الفوائد يترجم تقشفا في توفير شبكات التطهير السائل، وتهيئة مجاري الأودية، وحماية القرى والمدن، على السواء، من السيول، وتشجير المناطق الهشة. بهذا فإن الديون أداة سياسية لإعادة إنتاج الوضع القائم على حساب الطبقات الشعبية المسحوقة.
ثالثًا: «أريفة المدن»… حين يجري إضفاء الطابع القروي المتسم بالهشاشة على الفضاء الحضري
يعد ما يسميه باحثون «أريفة المدن» من بين أخطر نتائج السياسات النيوليبرالية: أي تحويل المدينة نفسها إلى فضاء يعيد إنتاج شروط العيش القروي الهش، بدل تجاوزها. لا تُدمج المدن النيوليبرالية الوافدين الجدد، بل تقصيهم إلى هوامشها عبر توسّع عمراني بلا تجهيز حقيقي، وأحياء شعبية تفتقر إلى الصرف الصحي والطرق المعبدة، ومساكن هشة (مؤخرا، قُتل 22 شخصا وإصابة 16 بجروح متفاوتة الخطورة إثر انهيار مبنيين سكنيين متجاورين في مدينة فاس) مبنية في مجاري الأودية أو الأراضي المنخفضة.
لقد دمرت السياسات النيوليبرالية بالفعل شروط العمل والعيش القرويين، فدفعت آلاف الأسر إلى الهجرة نحو المدن، لكن بدل إدماجها في نسيج حضري محمي، تركت الدولة التهيئة للقطاع الخاص، فكانت النتيجة تمدنًا فقيرًا؛ غياب قنوات تصريف مياه فعّالة، وتتحول الأزقة إلى أودية موسمية لتصبح البيوت الهشة مصائد موت. بالتالي لم تعد الفيضانات حدثًا طبيعيًا، بل نتيجة هندسة اجتماعية للإهمال.
رابعًا: التغير المناخي
يساهم المغرب بنسبة ضئيلة في الانبعاثات السامة العالمية (0.2 %)، لكنه من أكثر البلدان عرضة لآثار التغير المناخي. يضعه هذا التناقض في قلب إشكالية العدالة المناخية. إن من يتحمل مسؤولية التغير المناخي هي الرأسمالية المعولمة، وصناعاتها الكبرى في الشمال العالمي. مسؤولية تاريخية أدت إلى هشاشة شديدة في بلدان الجنوب العالمي، وتحميل الأعباء الثقيلة للضحايا غير المسؤولين عن التغير المناخي ومستتبعاته.
ينتج عمال آسفي وعاملاته الثروة ويدفعون الثمن: الفوسفاط والطاقة والمليارات تتجمع في يد أقلية، وسكان المدينة الفقراء يغرقون في الفقر والتهميش والتلوث. لقد كشف الفيضان هشاشة البنيات التحتية، وفضح إهمال الدولة التي تركت الناس فريسة للكوارث، بينما مجمع المكتب الشريف للفوسفاط يواصل الربح دون حساب، وهو أحد المسؤولين عن الكارثة البيئية التي حلت بالمدينة ومحيطها.
من الحداد إلى التنظيم
الحداد على الضحايا واجب، لكنه لا يكفي. ولن يغير البكاء سياسات التعمير، ولن يوقف منطق المديونية، ولن يحمي الأحياء الشعبية من الغرق مستقبلا. إن ما نحتاجه هو تحويل الغضب إلى قوة اجتماعية منظَّمة. فالمأساة ليست أسفي وحدها، بل قضية سياسية على صعيد وطني: الحق في المدينة، وحق السكن الآمن، وحق الحماية من كوارث صنعتها عقود من السياسات النيوليبرالية بأيدٍ نظام سياسي يرعى مصالح أقلية اغتنت وتملك وسائل الحماية والتأمين والإفلات من هول الكوارث.
ينبغي أن نسأل من قرّر ترك الأحياء بلا صرف صحي؟ من سمح بالبناء في مجاري الأودية؟ من اختار سداد الديون بدل حماية الناس؟ فلن تُمنح العدالة المناخية في المغرب من فوق، بل تُنتَزع من تحت: من الأحياء الشعبية، من القرى المنسية، من ضحايا «أريفة المدن». وحده التنظيم العمالي-الشعبي، والنضال الاجتماعي–البيئي، قادر على كسر حلقة الغرق المتكرر، وأبعد من ذلك إسقاط السياسات النيوليبرالية لأنه لا خيار، فإما أن نواجه هذا النموذج الآن، أو نتركه يواصل تحويل كل شتاء إلى موسم جنائزي للفقراء، ونترك تلك السياسات نفسها تعمق الجراح أكثر فأكثر.
لا يحتمل ما وقع في آسفي مزيدًا من الانتظار ولا بيانات مقتصرة على التضامن فقط. تفرض هذه اللحظة الخروج من منطق التلقي السلبي إلى منطق الفعل الجماعي المنظم. المطلوب تحرك عاجل لقوى اليسار المناضل والنقابات العمالية، ولجان الأحياء الشعبية، والجمعيات المناضلة، والحركات الاجتماعية، من أجل فرض المحاسبة، وانتزاع الحق في السكن الآمن، والبنيات التحتية، والحماية من الكوارث، باعتبارها حقوقًا لا مِنحًا. إن الحيوات المفقودة لن تتحول إلى قوة تغيير إلا إذا صارت قضية جماعية، منظمة، ومستمرة؛ أما الصمت والتفكك، فلن ينتجا سوى كوارث جديدة وأسماء جديدة في قوائم مصائب استبداد ورأسمالية تابعة ومتخلفة.
********************
[1] أعلن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بآسفي أنه على إثر السيول الفيضانية التي شهدها إقليم آسفي مساء أمس الأحد 14 دجنبر 2025 والتي أدت إلى وفاة حوالي 37 ضحية في حصيلة مؤقتة، أن النيابة العامة فتحت بحثا في الموضوع بواسطة الشرطة القضائية للوقوف على الأسباب الحقيقية لهذا الحادث الأليم والكشف عن ظروفه وملابساته.
[2]السنة الماضية لقي أشخاص مصرعهم بإقليم طاطا، إثر فيضانات وسيول شهدها الإقليم، مساء السبت 07 شتنبر 2024، نتج عنها انهيار عدد من المنازل وقطع طرق، ومفقودين…
[3] مشتتة على عدة قطاعات وزارية: هناك تقديرات تحصرها بين 1 الى 1.5 في المئة من الميزانية. وهناك ايضا مخصصات وزارة البيئة التي مثلث سنة 2024 0.5 في المئة من الميزانية العامة. نعود مستقبلا للموضوع بتدقيق واف
اقرأ أيضا


