لبنان: حركة احتجاج شعبية عميقة ضد النيوليبرالية و الطائفية. بقلم، جوزيف ضاهر المناضل-ة

المصدر: Revue L’Anticapitaliste n°113 (mars 2020)
نقله إلى العربية: فريق الترجمة بجريدة المناضل-ة الموقوفة
يشهد لبنان حاليا تعبئات لا سابق لها منذ عقود عديدة، بدأت يوم 17 أكتوبر 2019 على اثر إعلان الحكومة ضرائب جديدة، لاسيما على تطبيق الرسائل الفورية واتساب، وعلى خلفية أزمة اقتصادية متزايدة العمق. وبسرعة امتد الاحتجاج الشعبي إلى مدن البلد كافة، حتى أدت إلى استقالة الوزير الأول سعد الحريري يوم 29 أكتوبر 2019. لا يندد المتظاهرون/ات بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية للحكومة، وبتدابير التقشف وبالفساد وحسب، بل يتهمون مجمل النظام الطائفي اللبناني. وباتت كل الأحزاب السياسية الطائفة التي تشكله وتهيمن على الحياة السياسية مستهدفة.
منذ متم عقد 2000 بات لبنان مكيفا بانشطارات متنامية ناتجة عن تطبيق الاصلاحات النيوليبرالية. إذ يعيش 28% من السكان في فقر، بدخل يومي يقل عن 4 دولار. وجمدت مداخيل أفقر الأسر او انخفضت بنسبة 25 إلى 30% بين عامي 2010 و2016. كما أن نسبة البطالة عالية: ثلث فقط ممن هم في عمر العمل لديهم فرصة عمل، بينما تبلغ نسبة البطالة في فئة الشباب من 14 إلى 24 سنة متوسط 23.3% (35.7% بين الشباب ذوي الشهادات). وما بين 40 إلى 50% من المقيمين اللبنانيين محرومون من الضمان الاجتماعي ومن أي إعانة اجتماعية عمومية. وتقارب نسبة عمال القطاع اللاشكلي، اي المحرومين من كل تغطية صحية، زهاء 55%. كما أن العمال الأجانب ضحايا الهشاشة، حيث لا يستفيد ما يفوق مليون أجير، أي زهاء 20% من السكان، من أي حماية اجتماعية. وحسب دراسة صادرة عن الإدارة المركزية للإحصاءات، يعيش نصف المياومين وأكثر من ثلث مزارعي البلد تحت خط الفقر.
هذا بينما يحصل 10% الأغنى على 56% من الدخل القومي. ويستحوذ 01% الأغنى، وحدهم، أي أكثر بقليل من 000 37 شخص، على 23% من المداخيل.
سبَّب هذا الوضع سابقا مظاهرات عديدة: في مطلع العام 2011، ضمن حركة أولى من أجل إلغاء النظام الطائفي؛ و فيما بين 2011 و 2014 عبر تجمعات كبيرة وإضرابات احتجاجا على ظروف العمل ومن أجل زيادات في الأجور، وفي صيف العام 2015 ضمن الحركة الشعبية “طلعت ريحتكم” التي بدأت في إطار أزمة تدبير النفايات وأفضت أيضا إلى اتهام للنظام الطائفي والسياسات النيوليبرالية بمجملها.
وتضع الحركة الشعبية البادئة في أكتوبر 2019 النظام في قفص الاتهام بنحو أكثر جذرية. فهو موضوع تنديد صريح (كل الأحزاب بلا استثناء) بصفته مسؤولا عن تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية. يجب فهم الطائفية كأداة بيد الأحزاب السائدة الحاكمة- وبالتالي النخب السياسية اللبنانية- للتدخل إيديولوجيا في صراع الطبقات، وتوطيد تحكمها في الطبقات الشعبية وإبقائها خاضعة لقادتها الطائفيين. وسابقا، جرى إفشال أو سحق حركات احتجاجية ليس بالقمع فقط بل باستعمال الانقسامات الطائفية أيضا.
وفيما يغوص سواد السكان الأعظم في الفقر، استفادت الأحزاب الطائفية ومختلف زمر النخبة الاقتصادية من عمليات الخصخصة، ومن السياسات النيوليبرالية، ومن تحكم في الوزارات العمومية من أجل تطوير شبكات كفالة وزبونية وفساد. تدعو هذه المقاربة إلى الاعتراف بالطائفية كنتيجة للأزمنة المعاصرة بدل من اعتبارها تقليدا ثقافيا مزعوما.
بهذا المقياس، يتخذ الطابع غير الطائفي للحراك الراهن كامل بعده. ومن البليغ أن انتفاضة اكتوبر 2019 تتميز على صعيد تركيبتها الاجتماعية عن التعبئات السابقة بكونها أعمق انغراسا في الطبقات الشعبية والمأجورة مما كانت تعبئات عامي 211 و 2015 حيث كان للطبقات الوسطى الليبرالية دور أهم. كما امتد الحراك الراهن إلى كافة مناطق لبنان، ولم يقتصر على بيروت. فقد تفجرت المظاهرات في البلد برمته: طرابلس والنبطية وصور وبعلبك والذوق وصيدا وجل الديب غيرها. ولهذا الانتشار دلالة قوية: كما تعبر إحدى شعارات الحراك الشعبي (“كلّن يعني كلّن”) ، يستتبع الطعن في السياسات الاقتصادية النيوليبرالية والفساد التنديد بمجمل ممثلي النظام الطائفي. تكاثرت نداءات ورسائل التضامن بين المناطق ومختلف الطوائف الدينية منذ بداية المظاهرات، مثلا بين أحياء باب التبانة في طرابلس( ذات الأغلبية العلوية) وجبل محسن (أغلبية سنية)، حيث كانت النزاعات المسلحة عديدة في السنوات الأخيرة.
بهذا المعنى، لا يمكن فصل مطالبة الحركة الاحتجاجية بالعدالة الاجتماعية وبإعادة التوزيع الاقتصادية عن معارضتها للنظام الطائفي. تمثل هذه التعبئات العابرة للطوائف وذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية تهديدا محتملا لمجمل ممثلي النخبة السياسية اللبنانية.
استمرار منذ اكتوبر 2019
تتواصل حركة الاحتجاج الشعبية منذ 17 أكتوبر 2020. وامتدت إلى قضايا أخرى، نسوانية وبيئية واقتصادية-اجتماعية (مسألة العمال الأجانب، الخ)
قام المتظاهرون بتحركات محددة الهدف أمام المؤسسات العامة، منددين بفسادها. منها بنك لبنان، والبنوك الخاصة، والمؤسسات المرتبطة بخدمات التلفون وبتسيير نظام الكهرباء مثل مؤسسة كهرباء لبنان وأوجيرو. وكانت أماكن أخرى مسرح مظاهرات مثل ميناء زيتونة باي في بيروت وورش بناء المُجمَّع السياحي إيدن باي، كرمزين لخصخصة الممتلكات البحرية. وفي الشمال استهدفت التحركات تدبير النفايات الناقص. كما أطلقت حملات عصيان مدني، تدعو اللبنانيين إلى الامتناع عن أداء فاتورات استهلاك الكهرباء لمؤسسة كهرباء لبنان للتنديد بعجز القطاع عن تأمين تموين مستمر بالتيار، وبالامتناع عن سداد قروض البنوك تعبيرا عن رفض التقليصات التي فرضها قطاع البنوك فيما تمكن قادة ورجال أعمال من نقل ملايير الدولار نحو بنوك سويسرا منذ بداية الاحتجاج. وقامت حملة أخرى، مكونة من ناشطين يساريين، تحت اسم ” تأميم المصارف” بتشجيع ومساعدة المدخرين الراغبين في سحب أموالهم من البنوك الخاصة ونظمت نقاشات سياسية حول ضرورة تغيير جذري لسياسة البلد الاقتصادية عبر تأميم المصارف.
انتصارات ومصاعب
حققت الحركة عدة انتصارات مهمة منذ التراجع عن الرسوم التي كانت سبب انطلاقها واستقالة الوزير الأول سعد الحريري يوم 29 أكتوبر 219. منها قرار العدالة الذي يجبر شركات الهاتف النقال بإصدار فاتوراتها بالليرة اللبنانية بعد الشكاية التي تقدم بها “نادي القضاة” لدى هيئة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة. وانتخب ملحم خلف، المرشح المستقل من الحركة المدنية، على رأس نقابة المحامين، فيما فاز مرشح رابطة البقاع، المستقل المدعوم من الحراك الشعبي، في انتخابات نقابة أطباء الأسنان.
بيد أن حركة الاحتجاج تواجه تحديات عديدة، منها بالمقام الأول نقص التنظيم و أشكال التمثيل البديلة التي من شأنها أن تتصدى لهيمنة الأحزاب الطائفية والمجموعات الاقتصادية الحاكمة. ومن جهة أخرى، يطرح ضعف البنيات النقابية مشكلا متواترا. إذ أسهمت الأحزاب الطائفية بقوة في إضعاف الحركة النقابية منذ سنوات 1990، بتكوين فيدراليات ونقابات مختلفة في عدد من القطاعات بقصد كسب وزن مهيمن داخل الاتحاد العمالي العام في لبنان. ما جعل هذا الاتحاد عاجزا عن تعبئة العمال رغم تشديد السياسات النيوليبرالية وتميز بغيابه عن حركة الاحتجاج الحالية. كما تم تهميش لجنة التنسيق النقابي، الفاعل الرئيس في المظاهرات النقابية بين 2011 و 2014، باستعمال أساليب شبيهة.
وفضلا عن نقص هيكلة الحركة هذا، لا تكف الأزمة الاقتصادية عن التفاقم. فحسب بحث، شهد 220 ألف عامل/ة إلغاء فرص عملهم بشكل مؤقت أو نهائي بين أكتوبر 2019 ويناير 2020. وموازاة لهذا سقطت قيمة الليرة اللبنانية قياسا بالدولار، نتيجة قرار بنك لبنان في متم الصيف لتقليص كمية الدولار في السوق: كان الدولار يعادل 2000 ليرة فيما سعره 1507.50 ليرة، وهو السعر القار منذ العام 1997.
بيد أنه ظهرت محاولات بناء نقابات مستقلة جديدة، لاسيما ” تجمع المهنيين”، وفق نموذج السودان، والذي يضم مختلف المهن (طب، صيدلة، طب اسنان، هندسة، قانون، عمل اجتماعي، تعليم جامعي، صحافة، اقتصاد، سينما) ويقوم بدور متعاظم في المظاهرات. صرح بعض أعضائه للصحافة أنهم يسعون إلى بناء حركة نقابية مستقلة عن الأحزاب الطائفية والنيوليبرالية. تهدف هذه البنية النقابية الجديدة إلى الرقي بالقطاعات الإنتاجية في الاقتصاد، وإتاحة ظروف عمل أفضل للأجراء وتسهيل ولوج الطلاب سوق العمل. وتوجد نقابات مستقلة أخرى في طور النشوء عند الصحفيين ومستخدمي المنظمات غير الحكومية وداخل الجامعات. كما كانت المنظمات النسوية والطلابية رأس رمح المظاهرات وتدخلت بشكل منسق عبر البلد.
كما يسعى آخرون إلى التنظيم عبر كومونات مختلف المناطق تحت اسم ” كومونات 17 اكتوبر” وأخرى على صعيد الحي.
خلاصة
رفض الحراك الشعبي تعيين حكومة جديدة في منتصف ديسمبر 2019 ، لأنه يندرج في استمرار السياسات النيوليبرالية والطائفية في لبنان. وقد بدأت الحكومة اللبنانية الجديدة عملية رسمية لطلب مساعدة تقنية من صندوق النقد الدولي، فيما لمحت تصريحات سياسية للوزير الأول الجديد دياب إلى إجراءات تقشف، قائلا إن بعض القرارات الضرورية لإنعاش الاقتصاد ستكون “مؤلمة”. وفي ذات الآن لم يتوقف قمع المتظاهرين منذ مطلع السنة ، مخلفا مئات الجرحى. وتواصل القوى الطائفية والنيوليبرالية سعيها إلى احتواء وقمع حركة الاحتجاج أو الإضرار بها في هدف مشترك يتمثل في القضاء على التطلعات الأصلية إلى تغيير جذري.
رغم احتجاج شعبي أقل حدة مما شهدت البدايات، يستمر عزم المتظاهرين . ويظل مطلبهم بلا لبس ودائم الطموح: “الشعب يريد إسقاط النظام”
حي على التضامن الأممي!

شارك المقالة

اقرأ أيضا