مُشاحنات أحزاب النظام في البرلمان: ماذا وراء جعجعة السجال حول القاسم الانتخابي؟

سياسة, غير مصنف7 مارس، 2021

بقلم: أزنزار

جرى التصديق يوم 5 مارس 2021، في “مجلس النواب” على تعديل المادة 84 من القانون التنظيمي لمجلس النواب يقضي باحتساب القاسم الانتخابي على أساس المسجلين في اللوائح الانتخابية بالدائرة البرلمانية وليس المصوتين- ات يوم الاقتراع، مع إلغاء العتبة بصفة نهائية، في إعلان الفائزين في الانتخابات التشريعية (إلى جانب تعديلات أخرى).

أثار عرض مشاريع القوانين للتصويت البرلماني خلافا عميقا بين حزب العدالة والتنمية من جهة، وباقي الأحزاب المُمثلة في البرلمان من جهة ثانية، والتي توحدت باختلاف مواقعها، سواء كانت مشاركة في حكومة الواجهة أو تلعب دور المعارضة لها.

أحزاب سياسية لا فرق جوهري بينها

سياسيا: كلها أحزاب على اقتناع بمكانة الملكية كحاكم فعلي وأقصى هدفها أن تنال نصيبا في حكومة واجهة. لكن مع اختلافات وتعارضات حول شكل هذه الملكية، فأحزاب فيدرالية اليسار تطالب بنوع من إصلاح للملكية؛ يحيي الحلم القديم للحركة الوطنية بملكية برلمانية، دون أن تبلغ نفس قوة التأثير، فتمثيلها البرلماني ضعيف جدا. في حين أن كبرى الأحزاب البرلمانية مُجْمِعة على تقوية الملكية التنفيذية بأخطبوط صلاحياتها مع نشوب مناوشات مصدرها التنافس على من يتولى مناصب الحكومة المجزية. يدافع “حزب” الأصالة والمعاصرة عن ملكية تنفيذية ويرى في العدالة والتنمية تهديدا “لثوابت البلد”، فيما يريد “العدالة والتنمية” أن يخدم “ملكية تسود وتحكم” ولكن ضمن أجندات خاصة به، كحزب يُرجع فضل مكانته السياسية لقاعدة انتخابية تسانده وتنتظر منه تطبيق إصلاحات تحد من الفساد المستشري في دواليب الدولة وأن يفي بوعوده الانتخابية.

–  اقتصاديا: تنفذ هذه الأحزاب البرنامج النيوليبرالي الموصى به من طرف البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. وكلها تؤمن بأن تمكين القطاع الخاص من الشروط المناسبة ليتوسع، هو الطريق الوحيد لبناء اقتصاد البلد، وتتسابق على إزاحة ما يصنف كعقبات لأجل تقويته. فيما تعتبر الكوارث الاجتماعية والدمار الاقتصادي الذي يسحق عمال- ات وكادحي- ات المغرب مجرد عوارض جانبية لمسار لا بديل عنه. ما تختلف حوله هذه الأحزاب البرلمانية هي تفاصيل جزئية لا تمس جوهر المشروع النيوليبرالي المدمر لمكاسب الشعب المغربي، مع ما يميز أحزاب المعارضة البرجوازية (فيدرالية اليسار مرة أخرى) من مطالب بصبغ هذه البرامج بطابع اجتماعي يقلل من آثارها الكارثية ويحمي الاستقرار الاجتماعي من غضب الكادحين- ات.

تُخفي هذه الأحزاب وقوفها على نفس الأرضية الطبقية والسياسية المعادية للشغيلة والكادحين- ات، وراء اختلافات فكرية وأيديولوجية، بين مُدَّعٍ للأصالة وآخر مدافع عن المعاصرة (بل إن حزبا ملكيا يجمع بين الوجهين في اسمه: “حزب الأصالة والمعاصرة”)، مُشَكِّلَةً كلها وجها لنفس العملة: نظام الاستبداد الراعي لمصالح الأقلية المالكة والرأسمال العالمي.

يجري الاختلاف حول القاسم الانتخابي- إذن- داخل نفس الدائرة التي رسمها الاستبداد لهذه الأحزاب: التنافس حول واجهته المؤسسية دون المس بالحق الحصري للملكية في الحكم. وهو في نفس الوقت آليةٌ في يد الملكية من أجل مزيد من تحجيم القوة السياسية لحزب العدالة والتنمية.

تقدمت الأحزاب أعلاه بمذكرات حول انتخابات 2021 منذ يناير 2020، تضمنت مطالبا حول مراقبة الانتخابات ودور وزارة الداخلية وتمويل الأحزاب… إلخ. لكن أيا من هذه المذكرات لم يُشِر، آنذاك، إلى تعديل القاسم الانتخابي، ويبدو أن سعي النظام لتحجيم وزن العدالة والتنمية هو ما يقف وراء هذا المقترح.

ليس جديدا في السياق المغربي أن تتقدم الأحزاب بمذكرات للإصلاح السياسي بعد إيعاز من طرف القصر، إذ سبق لنوبير الأموي أن فضح مهزلة “الكتلة الديمقراطية” في بداية التسعينات قائلا: “المبادرة قد لا تكون إلا بوحي من الحاكمين، والحاكمون هم الذين يُفتون أن تقوم بعض الأحزاب بالمبادرات. فكل شيء يأتي إما بتوجيه أو بإيحاء، حتى ملتمس الرقابة لم يُطرح إلا بعد أن أُشعِرت بعض الأحزاب لأن لا مانع إذا ارتأت أن تلتجئ إلى مجلس النواب لتقدم ملتمس الرقابة. هذا وجه من الصورة المأساوية للمهزلة الديمقراطية التي تعرفها بلادنا”. [“من يحكم”، جريدة “حرية المواطن”، العدد 5، 22 فبراير 1992، حاوره ع. الله زعزاع].

كيفما كان المنتصر في هذه “الزوبعة داخل فنجان الاستبداد”، فإن الملكية هي المنتصر الأخير. لأنها تُصور بأن البلد ينعم بحرية التداول والصراع السياسي داخل فردوس دايمقراطي وسط جحيم من الديكتاتوريات. وهذا ما حرص محمد الحجيرة عضو الفريق النيابي لحزب الأصالة والمعاصرة على قوله في جلسة التصديق على التعديل، إذ صرح: “بعد عقد عدة اجتماعات، والكثير من النقاشات، وجدنا أنفسنا من جديد نختلف ونحن نصوت على هذه القوانين التنظيمية، فالديمقراطية هي التصويت، وما بعد التصويت مجرد خلافات لحسابات سياسية”. [https://www.pam.ma، 5  مارس  2021].

صراع حول فتات

من جهتها تستغل هذه الأحزاب هذا الأمر، لتكبير حصتها من اللُّقمة البرلمانية التي تتيحها مختلف تقنيات التصويت وطرائق توزيع المقاعد.

يجري توزيع المقاعد إما بالعلاقة مع عدد الأصوات الصحيحة، أو عدد المُصوِّتين- ات، أو عدد المُسجلين في اللوائح الانتخابية، وبناء عليه يتم تحديد عدد الأصوات التي تُخول كُلَّ حزبٍ الحُصول على مقعد انتخابي.

يتيح توزيع المقاعد بناء على عدد الأصوات الصحيحة للأحزاب الكبيرة إمكانية اكتساح أكبر عدد من المقاعد على حساب أصغر الأحزاب، عكس توزيعها على أساس عدد المُسجلين الذي يفتح باب المؤسسات أمام مختلف الأحزاب مهما بلغ حجمها.

من الناحية الديمقراطية يتيحُ التصويت حسب اللائحة، مهما تعددت طرائق توزيع المقاعد، إمكانية تمثيل نسبي لمختلف التوجهات السياسية وكذلك تباري البرامج السياسية، عكس التصويت الأحادي.

اعتمدت الملكية طيلة صراعها مع يسار الحركة الوطنية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبي، وبعده الاتحاد الاشتراكي) التصويتَ الأحادي، وكان وسيلةَ للتحكم في الكتلة الناخبة وفي نتائج الانتخابات (التصويت على الأشخاص بدل البرامج السياسية، استعمال واسع للمال… إلخ).

بعد الاستسلام التاريخي للاتحاد الاشتراكي سنة 1998، انتقلت الملكية إلى اعتماد التصويت باللائحة. أتاح لها ذلك تماثلُ البرامج الاقتصادية والاجتماعية للأحزاب واتفاقها على أحقية الملكية في الاستفراد بالحكم، مع الاستمرار في استجداء تنازلات سياسية توسِّع هامشَ المشاركة الضيقة في واجهتها المؤسساتية.

استمر تَحَكُّمُ الملكية في الحياة الانتخابية، خاصة في العلاقة مع العدالة والتنمية عبر تحجيم مشاركته في الدوائر الانتخابية، ومكنها التصويت باللائحة من فرز خريطة انتخابية يصعب معها إحراز أغلبية برلمانية قارة تضمن حكومة منسجمة.

ظهر مفعولُ هذه الآلية بعد انتخابات 2016، حيث حل حزب العدالة والتنمية في الرتبة الأولى بـ 125 مقعدا برلمانيا، لم يتمكن عبد الإله بنكيران من تشكيل حكومة، بفعل اشتراطات الأحزاب الأخرى (أي من الملكية)، وهو ما أدى إلى صرفه بعد ستة أشهر من العرقلة، ليُكلَّف عز الدين العثماني، بتشكيلها. ما أعتُبِر تراجعا عن “المنهجية الدستورية” لسنة 2011، كما اعتبر عبد الرحمان اليوسفي تولية إدريس جطو سنة 2002 تراجعا عن المنهجية التوافقية الديمقراطية.

سعي لتحجيم العدالة والتنمية

لا يخفى على أحد  مسعى الملكية لتحجيم قوة حزب العدالة والتنمية السياسية. فإحدى آليات تحكم الملكية هو إضعاف أي حزب حاز حدودا من النفوذ الجماهيري، مخافة أي تطورات مستقبلية مجهولة. ألم يتخلَّ الحسن الثاني ذاته عن “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” التي أسسها ذراعه الأيمن آنذاك محمد رضا كديرة بعد أن أدى مهمته في مواجهة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وحفز انشقاق داخل حزب صهره أحمد عصمان “التجمع الوطني للأحرار” سنة 1981؟

يُعَبِّرُ العدالة والتنمية انتخابيا، عن حالة تجذر سياسي عميق نحو الإسلام السياسي اجتاحت المجتمع منذ نهاية الثمانينيات. ورغم زعم قيادة الحزب أنها تدافع عن الملكية أكثر من الملك، إلا أن تطورات الوضع قد تدفع هذه القيادة إلى ما لم تتوقعه هي ذاتها؛ ألم تنقلب موجة التجذر الإسلامي التي غذاها التمويل السعودي ودعم الولايات المتحدة، ضدهما بعد غزو الخليج سنة 1991؟

لذلك تستعمل الملكية مختلف الأساليب لتقليم أظافر الحزب، وتعتبر تقنية القاسم الانتخابي إحداها، وهو ما أشار إليه الحزب حين “اتهم جهة غير الأحزاب بأنها تسعى إلى التحكم في العملية الانتخابية؛ لكون التنظيمات السياسية لم تتضمن مذكراتها المرفوعة إلى الداخلية التعديل المذكور، بهدف التحكم في العملية الانتخابية والتضييق على حزبهم “[1].

حزب العدالة والتنمية واعِ كل الوعي أن هذا التعديل يعبر عن إرادة الملكية، لكن خطه السياسي القائم (شأنه شأن الأحزاب المتواجدة في حكومة الواجهة) على تفادي المواجهة مع الملكية، يدفعه إلى اتهام جهات أخرى: “قال عبد الرحيم بعلي، نائب رئيس اللجنة المركزية للانتخابات لحزب العدالة والتنمية، إن القاسم الانتخابي بالصيغة التي قُدم بها من قِبل الجهات الحزبية المعنية يعد اغتيالا للديمقراطية المغربية الناشئة وإجهازا مفضوحا على مكاسب الربيع الديمقراطي المغربي، وإفراغا للعملية الانتخابية من مضمونها السياسي”[2]. وكأن تلك “الجهات الحزبية المعنية” تتصرف خارج إرادة الملكية.

تَنَافُسُ أحزابٍ ملكية

تتفق كل الأحزاب على جعل الملكية في منأى عن هذا النقاش، فالمعارضون يبررون ذلك بتناقض احتساب القاسم الانتخابي بناء على عدد الأصوات الصحيحة مع دستور 2011، في حين يرفع المؤديون حجة روح الدستور القائمة على الاختيار الديمقراطي والتعددية السياسية. هكذا تُلطخ الأحزاب أوجه بعضها البعض، في حين يبقى وجه الملكية ذو الجلال والإكرام.

أ. حزب الأصالة والمعاصرة: تناقض شكلي بين المصلحة الحزبية وخدمة الملكية

قام سجال حول القاسم الانتخابي داخل حزب الأصالة والمعاصرة، بين معارضٍ متخوف من فقدان مقاعد برلمانية في حال اعتماد أعداد المصوتين، ومؤيدٍ يبرر ذلك بخدمة “الاختيار الديمقراطي القائم على التعددية السياسية”.

لكنه محض تناقض شكلي بين الهدف الذي أُسِّسَ من أجله الحزب [إٍضعاف العدالة والتنمية] وبين وضع الحزب داخل البرلمان [تراجع عدد المقاعد]. سيتغلب الهدف الاستراتيجي في نهاية المطاف على المصلحةِ الآنية. هذا ما أشار إليه الأمين العام للحزب عبد اللطيف وهبي قائلا: “القاسم الانتخابي قبلت به رغم أنني سأخسر 20 عضوا في البرلمان ولكن من أجل إنجاح العملية الديمقراطية”[3].

لم يخف الأمين العام لهذا الحزب اتفاقه مع آلية تحكُّم الملكية في الحياة البرلمانية، أي اعتمادُ التصويت باللائحة وطريقةُ توزيع مقاعد تُفضي إلى صعوبة إحراز أغلبية برلمانية تكون قاعدة لحكومة منسجمة ومستقرة. يقول وهبي: “أن “البلقنة” لا تضر بالديمقراطية، بالقدر الذي يضر بها اختزال مكوناتها السياسية في طرف أو طرفين… وخلاف ذلك، فإن الاكتفاء بقوة حزبين فقط أمر خطير، والأخطر منه هو أنه إذا تعثر أحدهما، فسنصبح أمام مخاطر التحول إلى ديكتاتورية حزبية تقترب من نظام الحزب الوحيد”[4]. إنها اللهجة ذاتها التي تحدثت بها أحزاب الملكية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات في مواجهة حزب الاستقلال وانتهت بانتصار الملكية التي تشكل الطرف المستفرد الوحيد بالحكم.

إن ادعاءات الأصالة والمعاصرة الديمقراطية ومحاربة “احتكار التمثيلية الديمقراطية” تتكسر على صخرة كونه أداة في يد المتحكم الوحيد في السلطة بالمغرب: القصر.

ب. العدالة والتنمية: رفض بطعم الاستسلام

أعلنت الأمانة العامة للحزب في اجتماع 30 سبتمبر 2020 معارضتها توزيع المقاعد بناء على عدد المسجلين، بمبرر “كونه مخالفا للمقتضيات الدستورية والتجارب الديمقراطية “، لكن الأمر أبعد من ذلك. فالحزب متأكد أنها آلية أخرى لتقليص قوته السياسية، وهو ما أكده أحد مثقفي الحزب، بلال التليدي، بقول: “بعد انتهاء فترة جس النبض حول فكرة التداول السياسي لإنهاء قيادة العدالة والتنمية للحكومة، وبعد اليقين أن ذلك لن يتحقق بإرادة طوعية باتخاذ الحزب قرار تقليص حجم مشاركته الانتخابية، بدأت الخيارات الأخرى تشتغل، وفي مقدمتها الخيار التقني، المرتبط بطريقة احتساب القاسم الانتخابي”[5].

رغم يقين الحزب بأن الملكية هي من يقف وراء مقترح التعديل الانتخابي، إلا أن مثقفيه- على غرار بقية الأحزاب- يُنَزِّهُونَ الملكية من ذلك. فقد أشار رضا بوكمازي من فريق العدالة والتنمية البرلماني، إلى التناقض بين المقترح ودستور 2011 قائلا: “كثيرة هي المبادئ والقواعد الدستورية التي جاء بها دستور 2011، والذي في قراءته الشاملة تجده ينحو منحى تبني شروط الانتقال إلى الديمقراطية، ولعل أبرزها ما أورده تصديره من كون المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة”[6].

ويزيد بوكمازي في سرد أوجه التعارض يقول: “ويبرز هذا التعارض بشكل جلي أولا على مستوى احترام الإرادة العامة للناخبين وحقهم في تكليف الاختيار السياسي المحدد من قبلهم بناء على ما عبروا عنه من خلال المشاركة في العملية الانتخابية”[7]. وكأن الحكم الفردي الذي يحتكر السلطة الفعلية ويوجه العمل البرلماني بناء على مصالح البرجوازية وتوصيات المؤسسات المالية الدولية “يحترم الإرادة العامة للناخبين”.

وقبيل التصويت على التعديل في جلسة البرلمان الاستثنائية (2 مارس 2021)، أعلن نائب الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية” سليمان العمراني: “نأمل أن تقوم الفرق البرلمانية بالذي ينبغي انتصاراً للدستور والمصلحة الوطنية العليا التي تعلو والقواعد الدستورية على غيرها من القواعد”[8]. وهي تهديدات ألفها الاستبداد سابقا من أحزاب المعارضة الليبرالية، وهو يعلم أن أول من يرتعد عند سماعها هو من تخرج من فمه.

وفي جلسة التصويت على التعديل، رفض الحزب التصديق على التعديل. برر رئيس فريق “المصباح” بالغرفة الأولى مصطفى ابراهيمي موقف الرفض بقول: “موقف الفريق بالرفض ضد التعديل المعني وضد مشروع القانون التنظيمي لمجلس النواب برمته أملته عليه مسؤوليته في الانتصار للدستور ولعدم الإضرار بالمسار الديمقراطي الذي سلكته بلادنا منذ عقود”[9]. سيجعل هذا المبرر من الحزب قابلا عمليا بالتعديل- وإن رفضه قولا- ما دامت الملكية “صانعة الدستور والمسار الديمقراطي”، هي من يقف وراءه.

ج. الاتحاد الاشتراكي: من حزب يستجدي إصلاحات دستورية تحول إلى شحاذ صغير للمقاعد

وافق حزب الاتحاد الاشتراكي على المقترح الذي سيفتح أمامه باب العودةِ إلى البرلمان من مواقع مريحة من ناحية عدد المقاعد.

اعتبر إدريس لشكر أن “%99 من الأحزاب السياسية تريد اعتماد القاسم الانتخابي وفق عدد المسجلين في الكشوف وليس وفق عدد المصوتين كما يريد حزب العدالة والتنمية، مشيرا إلى أن هذا النظام الأخير “غير عادل وغير نزيه”[10].

يعارض- الآن- إدريس لشكر الطريقة القديمة في احتساب المقاعد بناء على الأصوات الصحيحة، بمبرر أنها أدت إلى قُطبية حزبية مُصطنعة، وهيمنة حزبين وحيدين على أكثر من نصف مقاعد البرلمان المغربي… معتبرا أن هذه الطريقة أدت إلى تضرر الكثير من الأحزاب السياسية ذات الباع الطويل في العمل الحزبي، مُشيراً إلى أن “هُناك العديد من المقاعد التي سُرقت من هذه الأحزاب لصالح أحزاب كبرى”.

يسكت الاتحاد الاشتراكي على أن الواجهة السياسية للاستبداد كلها مصطنعة ومتحكم فيها من طرف القصر. إن “ادعاء سرقة المقاعد” التي أدت إلى “تضرر الكثير من الأحزاب السياسية ذات الباع الطويل في العمل الحزبي “، محضُ تبريرٍ لتآكل أحزاب الحركة الوطنية، وكأن تقنية ما بعد الانتخابات هي المسؤولة وليس استسلام هذه الأحزاب للملكية الحاكمة وقبول تحولها أداة تنفيذ ما كانت تعارضه- قولا- في السابق.

اعتبر الحزب في موقعه على الانترنت التصويتَ على التعديلات الأخيرة انتصارا “للأغلبية المطلقة من النواب، ودفاعا عن التعددية وحماية العملية الانتخابية ومحاربة الريع”[11].

لقد انحدر الاتحاد الاشتراكي من معارضة تريد انتزاع حكومة منسجمة من الملكية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية طيلة الستينات)، إلى معارضة شرعية تريد إصلاح الاستبداد بالعمل من داخل مؤسساته قصد الوصول إلى شاطئ الملكية البرلمانية بمراكمة تدريجية لإصلاحات سياسية طيلة السبعينات حتى نهاية التسعينات، مرورا باستسلام مخزِ سنة 1998 وتَحَمُّلِ مسؤولية تنفيذ البرنامج النيوليبرالي للملكية وتجديد واجهتها الشرعية مع مسلسل “الإنصاف والمصالحة”، انتهاء بحزب انتخابوي صغير يدخل أي تحالف انتخابي يفتح له باب الولوج إلى الوزارات ودواوينها.

من أجل ديمقراطية فعلية: اختيار الشعب لشكل الحكم الذي يريد

تتفق كل الأحزاب- باستثناء حزبي النهج الديمقراطي وجماعة العدل والإحسان – على أن الملكية هي شكل الحكم الملائم بل والأكثر تقدما حتى بالنسبة للطموحات الشعبية.

تظل الانتخابات محصورة في اختيار “ممثلي” الشعب داخل مؤسسات لا سلطة فعلية لديها، سواء تعلق الأمر بالبرلمان أو بالمجالس المحلية والإقليمية والجهوية. وتبقى السلطة الفعلية خارج آلية الانتخاب والمحاسبة، ابتداء من أصغر موظف في وزارة الداخلية وأجهزة القمع انتهاء برئيس الدولة. ويعين القصر لجانا ملكية لتصريف السياسة الفعلية التي تقررها الملكية ومؤسسات الرأسمال العالمي (اللجنة الملكية لصياغة الميثاق الوطني للتربية والتكوين ولجنة المانوني التي وضعت مشروع دستور 2011… وهذا غيضٌ من فيضٍ). كما أضحى “الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية للدولة” بندا دستوريا لا يمكن لمؤسسات واجهة الاستبداد (برلمان وحكومة) المساس به بتاتا.

 

إن الديمقراطية الفعلية هي التي سيصنعها الشعب ويحصل بموجبها على حقه الحصري في اختيار شكل النظام السياسي الذي يريد والذي سيخدم مصالح الأغلبية بدل مصالح الأقلية المالكة من برجوازية وكبار الملاكين.

 

تمسكت الحركة الوطنية بعد الاستقلال بوعد محمد الخامس بإقامة ملكية دستورية، وكان ساستها من الدراية بما يكفي ليعلموا أن الوعد مجرد وعد وأن السياسة ميزان قوى. لكنهم يعلمون بنفس الحس الطبقي أن تغيير ميزان القوة يعني تدخل قوة مخيفة هي الطبقة العاملة وجمهور مفقري المدن والقرى. لذلك فضلت الحركة الوطنية الركض وراء سراب الوعد، على أن تنتزع ديمقراطية فعلية ستكون الجماهير أول من يستفيد منها.

ومنذ تمرير دستور 1962 بالقمع والتزوير، ظلت أحزاب البرجوازية لاهثة وراء سراب اقتسام السلطة مع الملكية. وأكثر هذه المطالبات جذرية [ملكية تسود ولا تحكم كما هو الحال مع فيدرالية اليسار] تُقصي الشعبَ، وتعتبر أساسا للديمقراطية: التوافقُ مع الملكية حول أفضل السبل لتدبير الوضع السياسي واستمرار استثمار الطبقات العاملة من شغيلة مأجورة وصغار المنتجين- ات.

يرفع الماركسيون- ات الثوريون- ات مطلب مجلس تأسيسي ينتزع للشعب بموجبه حقه الحصري في انتخاب ممثلين- ات قابلين- ات للعزل، تُناطُ بهم- هم مهمة صياغة وثيقة دستورية تضع السلطة في يد مالكها الحقيقي: الشعب الكادح.

تقف في وجه هذا المطلب تقاليد سياسية تخلت عنه منذ عقود، واقتصرت على المطالبة بقسط ضئيل من واجهة الاستبداد. فطبيعة هذه المعارضة ناقصة النزعة الديمقراطية تجعلها تتخوف على الاستقرار السياسي والاجتماعي مما يمكن أن يُسفر عنه انتخاب مجلس تأسيسي من صعود قوى تهدد ذلك الاستقرار.

يبرر جزء من المعارضة الليبرالية رفضها المجلس التأسيسي بسابقة تونس التي أدت إلى سيطرة الإسلاميين على الجمعية التأسيسية وعملية صياغة الدستور. يقف هذا التخوف على نفس الأرضية مع أيديولوجية المحافظين الجدد الذين يرفضون إمكانية شمول الديمقراطية لبلدان العالم الإسلامي لأنها ستحمل إلى السلطة “الحركات السياسية القومية والمعادية للغرب”، على حد قول صامويل هنتنغتون.

وهو نفس المنطق الذي جعل الملكية بعد الاستقلال ترفض أي دستور خارج منهجية المنح، حيث استحضرت سابقة الجمعية التأسيسية التونسية التي ألغت حكم الباي، وهو ما دفع المهدي بن بركة آنذاك لطمأنة الملكية بأن ما يسعى إليه هو “جمعية تأسيسية رزينة”.

لا يمكن عزو فشل التجربة التونسية إلى سيطرة الإسلاميين على الجمعية التأسيسية، بل لأن اليسار [الجبهة الشعبية] فضل أن يغرق في رتابة العمل البرلماني وصراع أيديولوجي مع الإسلاميين وصل حد التحالف مع ورثة بن علي [نداء تونس]، وحصر البيروقراطية للاتحاد العام للشغل في دور البحث عن توافقات بين قطبي الثورة المضادة [ورثة بن علي وحزب النهضة]، دورٌ نالت عنه جائزة نوبل للسلام سنة 2015. كل ذلك بدل حفز جماهير الثورة للضغط على تلك الجمعية من أجل صياغة دستور يستجيب للمطالب التي فجرتها، أو استبدالها بهيئة شعبية حقيقية وفعلية.

يعبر الإسلاميون عن حالة سياسية تخترق المجتمع، وكل رفض للديمقراطية الفعلية وآلياتها، بمبرر أن الإسلاميين هم من سيستفيد منها، سيجعل حامله يرفع شعار “أهون الشرور” الذي يفتح الباب دائما لأقبحها وأخطرها، كما حدث بالجزائر سنة 1991 وغزة سنة 2007 ومصر سنة 2013.

يجب أن تتوضح الطبيعة الطبقية والسياسية للحركات الإسلامية أمام الشعب على ضوء الكشافات الكبرى للتاريخ، وعلى الجماهير أن تكتشف حقيقة هذه الحركات بالممارسة وليس بالتخويف والترهيب.

ليس دور الثوريين- ات هو دعم الاستبداد بمبرر أنه أفضل من الرجعية الدينية، بل النضال من أجل فتح أعين الشعب الكادح على الحقيقة الطبقية والسياسية لتلك القوى وفي نفس الوقت طرح الطريق الوحيد لتحرره: الحق المُطلق في اختيار نموذج النظام السياسي وفي نفس الوقت الاقتصادي والاجتماعي الذي يريد. وهو ما سيقف ضده أي مجلس تأسيسي بأغلبية إسلامية، كما وقع في تونس (ونسبيا بمصر مع أغلبية الإخوان في مجلس الشعب). وآنذاك سيكون دور الثوريين- ات نفسه القائم داخل برلمان الاستبداد: استعمال منبر الجمعية التأسيسية لشحذ القوة الطبقية القادرة وحدها على تحقيق المطالب العمالية والشعبية، بدل الركون إلى الألاعيب الدستورية والغرق في المستنقع البرلماني بتقديم المقترحات والمقترحات المضادة.

ليس المجلس التأسيسي مطلبا ننتظر من الدولة تلبيته، بل بحاجة إلى نضال عمالي وشعبي ضمن برنامج مطالب أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية.

وبديهي أن المطالبة بمجلس تأسيس لا تعني إغفالا لما تتيحه اللحظة الانتخابية من إمكانات سياسية يجب استعمالها لإيقاظ شرائح الشعب الكادح وفتح أعينه عن الحقيقة الطبقية للاستبداد. تُعتبر مؤسسات مثل البرلمان منبرا يجب إتقان استعماله للتحريض الثوري، كما قال لينين: “لا يدخل الثوريون إلى البرلمان للقيام بعمل تشريعي عضوي بل لتدميره من الداخل فمن من المحتمل أن يكون العمل البرلماني طورا في النضال من أجل ديمقراطية حقيقية، بالنظر لدرجة وعي الجماهير وتنظيمها”. وهو ما أوضحه تروتسكي بصيغة عامة حين قال: “إنه لمبدأ عام أن لا حق لحزب ثوري في مقاطعة البرلمان طالما تعوزه قوة إسقاطه، طالما ليس قادرا على الاستعاضة عن العمل البرلماني بالإضراب العام والانتفاضة”.

أزنزار

[1]– “الداخلية” تصدم “البيجيدي” بقبول مقترح تعديل القاسم الانتخابي”، هسبريس، 07 أكتوبر 2020.

[2] – موقع حزب العدالة والتنمية، 6 مارس 2021.

[3] – “وهبي: سنخسر 20 برلمانيا في انتخابات 2021 “، العمق المغربي، 17 سبتمبر 2020.

[4] – “وهبي يكتب: القاسم الانتخابي، موقع حزب الأصالة والمعاصرة”، 7 أكتوبر 2020.

[5] –  “العتبة والقاسم الانتخابي في المغرب… هل تحرم “المصباح” من الصدارة؟”، موقع حزب الاستقلال، 14 أكتوبر 2020.

[6] – “القاسم الانتخابي بين القواعد الدستورية والأنظمة الانتخابية المقارنة”، 1 أكتوبر 2020”.

[7] – نفسه.

[8] – ” الانتخابات المغربية: نذر مواجهة برلمانية بين “العدالة والتنمية” ومنافسيه”، عادل نجدي، https://www.alaraby.co.uk، 1 مارس 2021.

[9] – “فريق “المصباح” يصوت بالرفض ضد مشروع القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب”، http://pjd.ma، 5 مارس 2021.

[10] – “العتبة والقاسم الانتخابي في المغرب… هل تحرم “المصباح” من الصدارة؟”، موقع حزب الاستقلال، 14 أكتوبر 2020.

[11] – “لجنة الداخلية تصادق بالأغلبية توسيع حالات التنافي واعتماد لوائح جهوية للنساء مع اعتماد المادة الخامسة”، 5 مارس 2021، http://www.usfp.ma.

شارك المقالة

اقرأ أيضا