“الرأسمالية آكلة لحوم البشر” قد تدمر شروط بقائها … وشروط بقائنا

النساء25 يونيو، 2022

مقابلة مع نانسي فريزر [+]

استجوبها: مارتن موسكيرا [++]

يناير 13, 2022

مارتن موسكيرا: في كتابكِ المرتقب نشره العام المقبل (1)، قمتِ بتوضيح ما تسمينه “مفهوما موسعا للرأسمالية”. لماذا تحتاج المفاهيم الحالية للرأسمالية إلى توسيع؟ هل تركز بشكل ضيق للغاية على الرأسمالية بما هي نظام اقتصادي؟

نانسي فريزر: نعم، تماما. لقد طورتُ المفهوم المُوسَّع للرأسمالية من أجل الابتعاد عن صيغ الماركسية التي تعتبر النظام الاقتصادي الأساس الحقيقي للمجتمع، بينما تتعامل مع الباقي على أنه مجرد “بنية فوقية”. في هكذا نموذج، تكون السببيةُ ذاتَ وِجهةٍ وحيدة، من القاعدة الاقتصادية إلى البنية الفوقية القانونية والسياسية. وهذا غير كافٍ بتاتا. أقترح إعادة التفكير في علاقة النظام الفرعي الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي وشروط تحقيقه الضرورية – السيرورات والأنشطة والعلاقات المعتبرة غير اقتصادية، ولكنها ضرورية للغاية لاقتصاد الرأسمالية، مثل إعادة الإنتاج الاجتماعية والطبيعة غير البشرية والممتلكات العمومية biens commun.

وهذا يُعقِّدُ ترسيمة الأساس-البنية الفوقية. إن القول بأن شيئا ما خلفيةٌ لا غنى عنها يعني استحالة اشتغال النظام الاقتصادي الرأسمالي في غياب هذه الشروط “غير الاقتصادية”: قدرة الرأسمالية على شراء قوة العمل وتشغيلها، والحصول على المواد الأولية والطاقة، وإنتاج السلع وبيعها مع ربح، ومراكمة رأس المال -لا يمكن أن يحدث أي من هذا. وبالتالي، فإن لهذه الظروف وزنها الخاص، فهي ليست “ظواهر عابرة” بسيطة.

دعونا نأخذ مثال إعادة الإنتاج الاجتماعية، أي الأنشطة – المسندة غالبا بها للنساء خارج الاقتصاد الرسمي –التي تتيح عيش البشر الذين يشكلون “قوة العمل”. على سبيل المثال، الولادة والرعاية والتنشئة الاجتماعية وتعليم الأجيال الجديدة، ولكن أيضا الحفاظ على لياقة العمال البالغين الواجب السهر على إطعامهم ونظافتهم ولباسهم وراحتهم من أجل العودة إلى العمل في اليوم التالي … كل هذا ضروري لاشتغال الاقتصاد الرأسمالي. وقد أثبتت النسويات اللواتي يطبقن ما يسمى بنظرية إعادة الإنتاج الاجتماعية – وهي تنويع من النسوية الماركسية – ذلك بالفعل. إذا اخْتلَّت إعادة الانتاج الاجتماعية، يتضرر الإنتاج. وهذا يعني أن تراكم رأس المال محدود بفعل علاقات القرابة العائلية، ومعدلات المواليد، ومعدلات الوفيات، إلخ. وبالتالي فإن الأمر أكثر تعقيدا من سببية أحادية الاتجاه.

وينطبق الشيء ذاته على الظروف الطبيعية أو البيئية. يفترض الإنتاج والتراكم الرأسماليين مسبقا توافر العناصر المادية التي يعتمد عليها الإنتاج -المواد الأولية ومصادر الطاقة والتخلص من النفايات. إذا تعرضت هذه الظروف للخطر، فقد يؤدي ذلك أيضا إلى عرقلة الإنتاج.

نشهد الآن مثالا على ذلك مثيرا للاهتمام مع كوفيد-19، وهو اختلال بيئي، على صعيد ما. أصبح الفيروس تهديدا للبشر بواسطة مرض حيواني المنشأ، بفعل انتقال من الخفافيش إلى البشر عبر أنواع وسيطة، ربما البنغول، وربما نتيجة لهجرات الأنواع الناجمة عن المناخ و “التنمية”. كانت النتيجة انكماشا هائلا للنظام الاقتصادي بأكمله. إن كوفيد-19 مثال جيد جدا على هذه السببية المعاكسة.

مارتن موسكيرا: كما أشرت، ليست الرأسمالية نظاما اقتصاديا مستقلا تماما، بمعنى أنها تعتمد على ظروف خارجة عن نطاقها بطريقة أو بأخرى. ولكن حتى لو كانت كل هذه المجالات مستقلة نسبيا عن بعضها البعض، يمكن دوما للنظام الاقتصادي الفعل في المجالات الأخرى وتحويلها. أليست إحدى خصوصيات الرأسمالية مقدرتها على تكييف مجالات خارجة عنها، مثل الطبيعة؟

نانسي فريزر: هناك شيء خاص في الاقتصاد الرأسمالي يمنحه دينامية سببية كبيرة، إنها ضرورة مراكمة رأس المال وإنماء “القيمة” دون حدود. ليس الاقتصاد الرأسمالي، كما نعلم، اقتصادا يكسب فيه المرء المال ثم يجلس ويستمتع بالحياة في قصره الجميل ويستهلك كل شيء. هناك ضرورة إعادة استثمار تروم توليد كميات أكبر باطراد من فائض القيمة، ومزيدا دوما من الأرباح، ومزيدا دوما من رأس المال. إنها قوة جبارة، تحرض أصحاب رؤوس الأموال على تخطي الحدود، ومحاولة ثني الظروف غير الاقتصادية لإرادتهم. لكن قدرتهم على القيام بذلك ليست مطلقة. فهي تخضع لمقاومات، بما في ذلك من قبل طبيعة ذات ايقاع تطور خاص، وفقَ جدولها الزمني الخاص. إن زمانية إعادة الإنتاج الإيكولوجية ليست، في نهاية المطاف، تحت السيطرة الرأسمالية. لذلك يجوز منطقيا الحديث عن مجالات “مستقلة نسبيا”، توصف بأنها “غير اقتصادية”.

ولكن اندفاع الرأسمال إلى التوسع إكراهٌ غاشمٌ وأعمى، راسخ في النظام. إنه أشد بأساً بكثير من إرادة البشر الأفراد الذين يملكون رأس المال وثمة ما يحثهم على إنماء قيمته – عل تنفيذ “إرادته” بنحو ما. إن لهذا المحرك من القوة ما جعله ينجح في إعادة تشكيل أسسه الخاصة (الأسرة، الطبيعة، أشكال الدولة، إلخ)، وإن كان الأمر ضمن حدود معينة، كما أسلفت للتو. ما أحاول أن أقترحه هو أن الماركسيين محقون تماما في التأكيد على ما لدينامية التراكم من مقدرة وقوة تكوينية. ولكن من الخطأ التعبير عن هذه الفكرة بتصور لسببية وحيدة الاتجاه بين الأساس والبنية الفوقية. ثمة مقاومة كثيرة، لأن لدى هذه الظروف العامة قواعدها وزمانيات إعادة انتاجها، ولأنها تحمل قيما “غير اقتصادية” يتمسك بها الناس وتؤثر على أفعالهم.

مارتن موسكيرا: كما أشرت، تعد أزمة كوفيد مثالا مأساويا على كيفية تفاعل هذه العوامل الخارجية بطرق معقدة مع الرأسمالية، ما يؤدي إلى نوع من الأزمات الرأسمالية التي وصفتها بأنها “متعددة الأبعاد”. من ناحية أخرى، أوحيتِ أيضا بأن طور الرأسمالية الراهن، النيوليبرالي والمطبوع بالأموَلة [+]، يجتاز، بالأقل منذ العام 2008، أزمة-ربما نهائية-قد تعني تحولا تاريخيا إلى شكل مختلف من أشكال تراكم رأس المال. كيف تقيمون الأزمة الحالية؟

نانسي فريزر: أود أن أسلط الضوء على العديد من النقاط الضمنية بالفعل في الطريقة التي تطرح بها السؤال. أحدها وجوب تمييز الأزمات القطاعية عن الأزمات العامة. تعني الأزمة القطاعية أن أحد المجالات المهمة في نظام تراكم رأسمالي معين، أو طور معين من التطور الرأسمالي، مختل وظيفيا بشكل جلي، بينما تبدو القطاعات الأخرى تُبلي بلاء حسنا إلى حد ما. على هذا النحو، غالبا ما نميل إلى اعتبار الأزمات الاقتصادية أزمات قطاعية. يمكن للمؤرخين إتيان أمثلة عديدة عن هذه الأزمات القطاعية المتعلقة بمجال واحد من المجتمع. لكن هذا يختلف عن الأزمة العامة للنظام الاجتماعي برمته. يوحي مفهوم الأزمة العامة بالتقاء أو بتحديد تضافري لمآزق واختلالات رئيسة عدة. لا يتعلق الأمر بقطاع واحد، بل بجميع، أو ما يكاد يكون جميع، قطاعات المجتمع الرئيسة المتأزمة والتي تفاقم أزماتها بعضها البعض. كان هذا هو الحال سنوات 1930، على سبيل المثال.

وأظن أننا نشهد حاليا أزمة عامة من هذا الطراز. طبعا، شهدنا أشكال أزمات اقتصادية حادة، مثل شبه الانهيار المالي في 2007-2008. ورغم ما قد يبدو من عثور حكامنا على طريقة لمعالجتها، لم يتم حل هذه الأزمة حلا حقيقيا. إذ تظل الأمولة المتفشية قنبلة موقوتة. ولكن مصاعبنا الاقتصادية تضافرت، كما يبين التقرير الأخير للفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ، مع أزمة أخرى بالغة الخطورة، بل وكارثية: ألا وهي الاحترار العالمي. أزمة بيئية كانت تغلي لفترة طويلة وأصبحت الآن ملموسة. وتدرك ذلك قطاعات متنامية من سكان العالم، حتى تلك التي كانت محمية نسبيا من أسوأ آثارها.

وثمة أيضا، كما أَسْلَفْتُ، أزمة إعادة إنتاج اجتماعية، تختبر أو تستنفد قدراتنا على توليد البشر ورعايتهم ودعمهم: رعاية الأطفال والمسنين، والتعليم والرعاية الصحية. وفيما تتخلي الدول عن الخدمات العمومية، ويُجبرنا انخفاض الأجور على تكريس المزيد من الساعات للعمل المأجور، يمتص النظام الوقت والطاقة اللازمين لأعمال الرعاية. وبالتالي فهذا القطاع يمر أيضا بأزمة، خاصة في حالة حدوث جائحة. يمكن القول إن كوفيد قد فاقم بشدة أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعية القائمة أصلا. ولكن يصح القول أيضا إن أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعي القائمة مسبقا (بما في ذلك سحب الاستثمارات من البنية التحتية للصحة العمومية والمنافع الاجتماعية) قد أدت إلى تفاقم آثار كوفيد على نحو حاد.

وأخيرا، نواجه أيضا أزمة سياسية كبرى. يتعلق الأمر، على صعيد ما، بأزمة حكم، ما يعني أنه حتى الدول القوية مثل الولايات المتحدة تعوزها القدرة على حل المشاكل التي يولدها النظام. إنها منهكة ومشلولة بسبب الحواجز، وتجاوزتها الشركات متعددة الجنسية التي استولت تقريبا على جميع الهيئات التنظيمية وأقرَّت تخفيضات ضريبية ضخمة لنفسها وللأغنياء. لقد سمحت الدول، المحرومة من الدخل لعقود، بانهيار بنيتها التحتية واستنفدت مخزوناتها من السلع العامة الأساسية، كما شهدنا بخصوص الأقنعة أو الوزرات الصحية. إنها، بحكم تعريفها، عاجزة على معالجة قضايا مثل تغير المناخ، المتعذرة تسويتها بأي إطار قانوني. والنتيجة أزمة حكم حادة على المستوى الهيكلي. ولكن ثمة أيضا أزمة سياسية على مستوى آخر، أزمة هيمنة بالمعنى الذي نحته غرامشي: السخط واسع النطاق على السياسة الحالية، والأحزاب السياسية القائمة والنخب التي تشوهت صورتها بسبب ارتباطها بالنيوليبرالية، وكذا ظهور شعوبية غير ممكن تصورها من قبل-بعضها ذو حمولة تحررية كامنة، والبعض الآخر بعيد عنها بكل حزم.

النتيجة هي أننا اليوم إزاء تشابك أزمات متعددة: أزمة اقتصادية، وأزمة إعادة إنتاج اجتماعية، وأزمة إيكولوجية، وأزمة سياسية بمعنيين. في رأيي، يُضاف كل هذا إلى أزمة مجتمع رأسمالي إجمالية. تظهر آثارها في كل مكان، هنا أولا، وهناك، ثم في مكان آخر، كسرطان نقيلي. ولا يؤدي أي جهد لمعالجة أزمة سوى إلى أزمات أخرى، ما يؤثر على قطاعات ومناطق وسكان آخرين، إلى أن تطال الجسم الاجتماعي برمته. لقد باتت تجربة الأزمة الاجمالية جلية لكثير من الناس، لكن ذلك لا يعني أنها ستُنتج فورا قطيعة كاملة أو حلا ثوريا. يمكن، مع الأسف، أن تستمر الأزمات الرأسمالية عقودا. يمكن القول إن نصف القرن العشرين الأول بأكمله، حتى هزيمة الفاشية متمَّ الحرب العالمية الثانية، لم يكن سوى أزمة عامة طويلة الأمد للرأسمالية الليبرالية الاستعمارية. قد نكون، والحالة هذه، إزاء طريق طويل.

مارتن موسكيرا: يبدو أن كوفيد حد بالتأكيد من قدراتنا التنبئية. ومع ذلك، يبدو مهما النظر في سيناريوهات مستقبلية مختلفة بناء على الميول الحالية – ولو لمجرد التفكير في كيفية توجيه أفعالنا نحو سيناريوهات تحررية أكثر، وتجنب السيناريوهات الكارثية.

نانسي فريزر: أحاول التفكير في السيناريوهات المحتملة، مع التأكيد على أنني لا أقوم بتوقعات. وأود أن أبدأ بسؤال ما إن كانت الأزمة الراهنة أزمة “نمو” أم أزمة “عصر”. هذا تمييز ندينُ به لمدرسة بينغهامتون (2). فأزمة عصر هي أزمة الرأسمالية في حد ذاتها. ويتطلب حلها تجاوز هذا النظام، والاستعاضة عنه بشكل جديد من المجتمع، غير رأسمالي أو ما بعد رأسمالي. وفي المقابل، أزمة نمو تخص “نظام تراكم” معين، أو طور من أطوار تاريخ الرأسمالية وهي قابلة للحل، على الأقل مؤقتا، باستعاضة عنه بنظام جديد – مغاير ولكنه يظل رأسماليا. وفي هذه الحالة، لن يجري الغاء التقسيمات المؤسسة للنظام، بين إنتاج سلع وإعادة إنتاج اجتماعية، و”الشأن الاقتصادي” و “الشأن السياسي”، والمجتمع البشري والطبيعة غير البشرية، والاستغلال ونزع الملكية، بل ستعاد  في صيغة أخرى “فقط”.

توجد هذه الانقسامات، بشكل أو بآخر، في جميع أطوار الرأسمالية؛ لكنها بؤر تناقضات. تنطوي كل واحدة منها على ميل نحو الأزمة (الاقتصادية أو البيئية أو الاجتماعية أو السياسية) لا يمكن سوى أن يؤدي، عاجلا أم آجلا، إلى مشاكل. بوسع نظام معين أن يلطف هذه التناقضات أو يخففها مدةً ما، ولكن ليس إلى الأبد. ينتهي بها الأمر إلى تفجر معلن، ويدخل النظام في أزمة مفتوحة، تُطلق بحثا محموما عن حل وصراعات حادة حول الشكل الذي ينبغي أن يتخذه هذا الحل. لكن ليس بوسع من يعيشون هذه الصراعات التيقن من النتيجة: أنظام جديد داخل الرأسمالية أم بديل بعد رأسمالي؟ يصبح الأمر واضحا لاحقا فقط، بفضل المسافة الفاصلة عن الحدث.

حتى الآن، تبين أن جميع الأزمات الاجمالية في تاريخ الرأسمالية كانت أزمات نمو “ليس إلا”. أدت الأزمة الاجمالية للمرحلة التجارية إلى النظام الليبرالي الاستعماري في القرن التاسع عشر، الذي أدت أزمته بدورها إلى النظام الدولة الدولتي في منتصف القرن العشرين، الذي أفسح المجال بدوره لرأسمالية الأمولة في العصر الراهن. في كل حالة، نزع النظام الجديد مؤقتا فتيل أزمة نمو سلفه قبل أن يقع في أزمة نمو خاصة به. بيد أن العديد من الفاعلين الاجتماعيين اعتقد، في كل حالة، أن ما يشهده من أزمة الأزمة كان أزمة عصر، سوف ستنتهي بإلغاء الرأسمالية. لكنه استهان بمقدرة النظام على الابتكار، وعلى التحول الذاتي.

يجب استحضار هذا التاريخ عند سعينا إلى فهم وضعنا الخاص. فقد تكون بعض أوجه أزمتنا الراهنة ذات صلة بالنمو، أي خاصة بالنظام القائم على الأمولة. ولكن ربما ليس كلها. مجال البيئة هو ما يجعلني أعتقد أننا قد نكون إزاء أمر مغاير، أي أزمة عصر حقيقية، يتطلب حلها تخطي الرأسمالية نهائيا.

إذا كان الأمر كذلك، ثمة عدة سيناريوهات محتملة. بعضها مرغوب، مثل الاشتراكية البيئية الديمقراطية العالمية. وبطبيعة الحال، يصعب أن نصفها بدقة، ولكن بوسعنا أن نفترض وُجوب تفكيك “قانون القيمة”، وإلغاء الاستغلال والاستحواذ على الملكية، وإعادة اختراع العلاقة بين المجتمع البشري والطبيعة غير البشرية، وبين إنتاج المواد والرعاية، وبين “الشأن السياسي” و “الشأن الاقتصادي”، وبين التخطيط الديمقراطي والأسواق. وسيكون هذا، ضمن جملة الإمكانات المتاحة لنا، “الحل الجيد”. وفي الطرف الأقصى الآخر، ثمة بعض الحلول غير الرأسمالية المرعبة حقا: تقهقر مجتمعي هائل تحت حكم رجال أقوياء مندفعين إلى الحروب أو نظام مستبد عالمي. هناك أيضا، بالطبع، احتمال ثالث متمثل في عدم حل الأزمة بتاتا، واستمرارها ببساطة في التهام المجتمع لذاته بنحو مفرط إلى أن ينعدم ما يمكن اعتباره إنسانيا.

كما أسلفت، أنا لا أقوم بأي توقع. لكني سأقول إن كانت هذه خياراتنا الراهنة، يُستحسن أن نشرع في الكفاح بشجاعة من أجل السيناريو الأول. وهذا يعني العمل على بناء كتلة هيمنة جديدة بديلة من شأنها توحيد كل القوى ذات الحمولة التحررية وراء مشروع مجتمعي-بيئي. وقد سعيت، في مقال حديث في مجلة New Left Review  (3)، إلى عرض هذه الاستراتيجية وشرح أساسها الاستدلالي. تتمثل فكرتي في وجوب تصور هكذا مشروع على أنه مناهض للرأسمالية وذو بعدٍ بيئي: مناهض للرأسمالية لأن للرأسمالية ميلا بنيويا نحو الأزمة البيئية وهي المحرك الاجتماعي والتاريخي الرئيسي لتغير المناخ. وذو بعد بيئي لأن التناقض البيئي للنظام وثيق الارتباط بسائر تناقضاته (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية) ولا يمكن حله بتجاهلها. لذلك، يجب على المناضلين البيئيين العمل المشترك مع من يناضلون من أجل حقوق الشغيلة وسبل العيش والأمن الغذائي، ومن أجل إعلاء شأن أعمال الرعاية والاستثمار العمومي في مجال إعادة الإنتاج الاجتماعية، وضد طرد المهاجرين وإقصائهم، وضد نزع الأراضي، والاستبداد، والقمع العنصري الإمبريالي.

ما يجعل مثل هذا التحالف ذي البعد البيئي ممكنا من حيث المبدأ هو الواقع “العملي” المتمثل في رسوخ جذور مجمل هذه الشرور الاجتماعية في نفس النظام الاجتماعي -أي الرأسمالية. ويمكن، أو بالأحرى ينبغي، النظر إلى هذا النظام على أنه العدو المشترك لمختلف شركاء التحالف، والمرمى المشترك لمختلف نضالاتهم. لو تبنت تيارات الايكولوجيا السياسية، المنقسمة حاليا، موقفا مناهضا للرأسمالية لأمكن أن تجمع قوها وتضمها إلى قوى الحركات الاجتماعية “غير البيئية”. أفكر في الحركات من أجل نمو سلبي decroissance[++]، والعدالة البيئية، والسياسة الخضراء الجديدة Green New Deal ، التي تشقها اليوم خلافات. بنظري، تمتاز كل منها بألمعية حقيقية، ولكن أيضا بأوجه قصور معيقة. أراهن على إمكان تطوير الألمعية وتصحيح القصور إذا أخذت هذه التيارات مكانها في كتلة هيمنة مضادة ذات بعد بيئي ومناهضة للرأسمالية. في هذه الحالة، لن تبدو برامجها الخاصة، مثل السياسة الخضراء الجديدة، كغايات في حد ذاتها بقدر ما ستبدو “استراتيجيات اشتراكية انتقالية” (لاستعارة صيغة تروتسكية قديمة) في سبيل تغيير أكثر جذرية يمكن أن نسميه “الاشتراكية البيئية الديمقراطية”.

بجميع الأحوال، يستحيل جزم دقيق بشأن ما سيحدث وتوقيته، لأن الأمر متوقف طبعا على ما يفعل الناس. ما أقوم به شخصيا في اللحظة الراهنة هو سعي إلى استجلاء ديناميات الأزمة الراهنة بأبعادها المختلفة. أروم رسم صورة للكلية الاجتماعية حيث يمكن للمناضلين/ات المحتملين أن يدرجوا فيها مشاغلهم المختلفة وإلاَّ تجنح، بغير ذلك، الى البقاء بطابعها الجزئي والمُذَرَّر. آمل، بهذا النحو، إتاحة فكرة عن موقع، وكيفية، اندماج تلك المشاغل المتباينة في اللوحة الاجمالية؛ وآمل كذلك جرد قائمة بالقوى الاجتماعية المتواجهة. وهدفي الأوسع نطاقا عمليٌّ ألا وهو توضيح كيفية تعبئة هذه القوى وهذه المشاغل بأقصى قدر من الفعالية كي يتم بلوغ حل تحرري للأزمة.

مارتين موسكيرا: يُشبهُ ما تصفينه استراتيجية شعبوية، أي فكرة تَكَوُّن المجتمع من مصالح أو مشاغل جزئية بطبيعتها، وكون التحدي متمثلا في جمع هذه المصالح المختلفة لتصبح بهذا النحو عاملا سياسيا متماسكا. لقد تحدثت أيضا بشكل إيجابي عن الشعبوية اليسارية في الماضي، ولكن يبدو أن الأحداث الأخيرة توحي أنها، بما هي حركة، محدودة الجدوى السياسية. في المقابل، يبدو أن الشعبوية اليمينية تحقق نتائج “أفضل”.

نانسي فريزر: بدأت أفكر بجدية في الشعبوية عقب حملة “احتلوا وول ستريت”. لقد أدهشني جدا خطاب 99٪ و1٪، وهو جوهر الشعبوية. إنه، على الرغم من افتقاره إلى صرامة الخطاب الطبقي التحليلية، في متناول الإدراك فورا، وقوي عاطفيا. وكم هي مدهشة سرعة انتشار هذا الخطاب في الولايات المتحدة الأمريكية. يرجع ذلك جزئيا إلى تضخيم بيرني ساندرز له إلى حد كبير، متحدثا عن “نظام” جرى “تزويره” لصالح “طبقة أصحاب الملايير”. تبين أن كلمة – “مزور” – هذه قوية بشكل لا يصدق. سمة لم يدعها دونالد ترامب تُفلت، وتملكها لاحقا محملا إياها معنى مغايرا.

ومهما يكن من أمر، كان تفشي الخطاب الشعبوي في عالم السياسة الأميركي مذهلا للغاية. لم يُبشر هذا بتصدع كبير في الهيمنة النيوليبرالية وحسب، بل قطع أيضا مع خطاب الخصوصية المميزة السائد وسط بعض الدوائر “اليساروية”، التي عملت عندئذ على تقسيم المقولات السياسية الجماعية (مثل “النساء”) إلى وحدات صغيرة ومنفصلة على نحو متزايد. كان الحديث عن “99٪” مقابل “1٪” يسير في الاتجاه المعاكس، نحو تحالف أوسع. وهذا ما جعلني أفكر في اهتمام متزايد ببناء تحالف يساري جامع في الولايات المتحدة الأمريكية. بدا الأمر معبراً عن حاجة ملحة لدى الناس، ربما دون إدراك ذلك، إلى تحليل مِحْوَرُه الروابط، تحليل قد يتيح تجاوز تشرذم اليسار وبناء جبهة موحدة – كل هذا بدا لي علامات إيجابية.

وفي الآن ذاته، أوجب استيلاء ترامب على الخطاب الشعبوي تمييز الشعبوية اليسارية عن الشعبوية اليمينية. تقترح كل منهما صورة للتراتبية الاجتماعية، محددةً مَن بالأعلى ومَن في الأسفل، من يشد بخناق الآخر. لكن النمطين مختلفان تماما. فالشعبوية اليسارية ثنائية، تقسم المجتمع إلى مجموعتين: نخبة أوليغارشية صغيرة تجمع ثروة هائلة على حساب السواد الأعظم، ومن هنا جاء مشروعها لتعبئة “الــــ 99٪” ضد “ال 1٪”. وعلى النقيض من ذلك، فإن رؤية الشعبوية اليمينية ثلاثية، تقسم المجتمع إلى ثلاث مجموعات. في القمة توجد النخبة “مصاصة الدماء”، وفي الأسفل البروليتاريا الدنيا “الطفيلية”، وبينهما، “الشعب” الفاضل فريسة لكليهما.  تستهدف الشعبوية اليمينية إذن 1٪، وحتى المهاجرين، والأشخاص الملونين، والأقليات الجنسية، إلخ. إنها رؤية مغايرة تماما، سواء للمجتمع أو للمشروع السياسي.

الفرق الثاني هو أن الشعبوية اليمينية تحدد أعداءها بعبارات خصوصية وجوهرية. على سبيل المثال، يسمي بعض مؤيدي ترامب من بالأعلى بـ “العصابة الدولية اليهودية المعتدية جنسيا على الأطفال”، في حين تصف من بالأسفل “مغتصبين مكسيكيين” أو “سود كسالى”، وهما هدفان جرى تمييزهما بشكل ملموس، من الناحية الثقافية. وفي المقابل، يحدد الشعبويون اليساريون العدو وظيفيا، استنادا على دوره في النظام الاجتماعي وبالتالي الحديث عن “وول ستريت” أو “طبقة أصحاب الملايير”. صحيح، طبعا، أن المصطلحات الوظيفية قد تنزلق إلى مصطلحات هُوياتية، كما هو الحال حين تتحول “وول ستريت” إلى “مصرفيين يهود”. لذلك لا يوجد جدار مطلق بين الشعبويتين، ويجب على اليسار أن يكون حذرا، ويتصدى لأي انزلاق محتمل. لكن هذا التباين، مثل سابقه، مهم سياسيا وأخلاقيا. ودعونا لا ننسى أن علم الاجتماع الثنائي “الوظيفي” لدى الشعبوية اليسارية أقرب إلى الحقيقة من نزعة اليمين الهوياتية الثلاثية. ففي ظل الرأسمالية المعاصرة، تصادر الأمولة في الواقع حقوق السواد الأعظم، لكن “البروليتاريا الدنيا” لا تهاجم “الشعب” حقا.

والسؤال التالي هو حول إمكان أن تُفيد الشعبوية اليسارية، المحددة على هذا النحو، كتشكيل انتقالي يحرز انتصارات، ويوسع نطاقه، ويعمق انتقاداته المجتمعية، ويصبح جذريا. وأيضا، هل بوسعها تثقيف الناس في أثناء النضال، بتوضيح النظام الذي يحاربون، وبشرح دقيق لمكمن الزور في هذا النظام؟ أعتقد أن الشعبوية اليسارية توفر مدخلا سهل الولوج في الصراع الطبقي. أنا أقل ثقة في مقدرتها على النجاح في بلورة فهم حقيقي لكيفية عمل “النظام” بالفعل وما يجب القيام به لتغييره. أظن أن هؤلاء الشعبويين سيكونون بحاجة لمساعدة من الماركسيين بخصوص هذه النقاط الأخيرة. لكن سنرى.

ومع ذلك، أتفق معك تماما على أن حصيلة الشعبوية اليسارية ليست مثيرة للإعجاب قياسا بمنافستها اليمينية. من المؤكد أن الشعبوية اليمينية كانت أنجح في كسب دعم عدد كبير من الناس والاحتفاظ به. لكن جزءا من المشكلة يكمن في الدور المخزي للأحزاب والقادة الاشتراكيين الديمقراطيين والاشتراكيين ظاهريا في تثبيت النيوليبرالية أو ترسيخها بعدد من البلدان: بيل وهيلاري كلينتون في الولايات المتحدة، وتوني بلير في إنجلترا، وجيرهارد شرودر في ألمانيا. تطورت الشعبويتان ردا على هذه الكارثة، لكن التنويع اليساري كافح لتمييز نفسه عن “النيوليبراليين التقدميين” الذين جلبوا الأمولة، رغم أنه حاول جذب قاعدة الطبقة العاملة التي هجرت هذه الأحزاب.

لا أرى، بجميع الأحوال، أي استراتيجية أخرى ممكنة. من الأهمية بمكان أن يجتهد اليسار في جذب شرائح الطبقة العاملة الداعمة الآن للشعبوية اليمينية. إنها عملية حساسة. فمن ناحية، يجب ألا نُخليًّ شبرا واحدا للعنصريين الصريحين الذين يشكلون جزءا منها. ومن ناحية أخرى، ينبغي ألا نفترض أن شرائح الطبقة العاملة هذه تشكل الأغلبية الساحقة من ناخبي ترامب أو جايير بولسونارو. إذا فعلنا ذلك، فإن اللعبة منتهية. يجب بدلا من ذلك، أن نبدأ بافتراض إمكان جذب اليسار جزءا كبيرا من هؤلاء الناخبين بواسطة الشعبوية اليسارية. ونحن نعلم حقيقة أن العديد منهم صوتوا منذ أمد غير بعيد لشخصيات مثل لولا وباراك أوباما، وفقط حين تحطمت آمالهم توجهوا صوب اليمين. ما يمكن لشعبوية يسارية ويجب عليها فعله هو التحقق من صحة تظلماتهم المشروعة، مع تقديم تفسير مختلف لما يكمن وراءها، وشرح من فاعل التزوير وما موضوعه، ولماذا يعتبر التركيز على البروليتاريا الدونية المحتقرة طريقا مسدودا، ولماذا لن يكونوا أبدا أقوياء بما يكفي لهزم الجاني الحقيقي (رأس المال العالمي والمالية العالمية) إذا دعموا أحزابا تقسم الطبقة العاملة. وبعبارة أخرى، فإن أفضل أمل في هذه المرحلة هو شعبوية يسارية من شأنها أن تتحول، مع مضي الوقت، إلى حركة اشتراكية من نوع جديد.

مارتن موسكيرا: كيف يندرج الصراع الطبقي في تطور الشعبوية اليسارية هذا نحو حركة اشتراكية؟ رُبَّ قائل إن تأكيد الشعبوية على توحيد التناقضات المتعددة في “شعب” رمزي لا يتوافق تماما مع الاشتراكية، أو على الأقل مع صيغتها التي تتصور سلطة الطبقة العاملة على أنها “بنيوية”، أي بدءا من الإنتاج، حيث بوسع للعمال استخدام تأثيرهم كمنتجين لتحقيق مكاسب سياسية.

يبدو أن تفكيرك فيما تسمينه “الصراعات الحدودية” (4) يحتوي على بعض الإشارات. يحصل انطباع بأن “الصراعات الحدودية” هي ما يبدو عليه الصراع الطبقي في سياق مفهومك الأوسع للرأسمالية. أليس الأمر كذلك؟

نانسي فريزر: كان ثمة تاريخيا، بالأقل داخل الماركسية التقليدية وكذلك الحركات الاشتراكية والنقابية الرئيسة، ميل إلى النظر إلى الصراعات الطبقية بمعنى ضيق، أي كصراعات في أماكن الإنتاج بشأن معدل فائض القيمة المستخرج من استغلال العمال المأجورين في المصانع، وتوزيعها. وبطبيعة الحال، يُفترض أن تمتد هذه النضالات خارج المصنع، وتتخذ بعدا سياسيا وتهتم بقضايا أخرى أكثر عمومية. لكنني ما زلت أعتقد أن هذا التصور للصراع الطبقي، الذي يتعلق أساسا بالعمل المأجور في سياق صناعي، لا يزال رؤية مؤثرة للغاية.

دفع هذا التصور للصراع الطبقي الكثيرين إلى معارضة ما تسميه شانتال موفي وإرنستو لاكلاو “الجوهرانية الطبقية”، بحجة أن الصراع الطبقي ليس هو شكل النضال الوحيد في المجتمعات الرأسمالية، وأنه لا يحتكر ما يشكل رؤية صائبة للمجتمع. ويقول مستنكرو هذه الجوهرانية الطبقية إن الاشتراكيين والماركسيين لا يحتكرون تعيين جميع أشكال القمع والظلم. في الواقع، شهدت المجتمعات الرأسمالية نضالات كبيرة ضد العمل غير الحر والتابع، وضد مختلف أشكال القمع أو الهيمنة الأخرى، والتي تتجاوز معايير الصراع الطبقي التقليدية. وبعبارة أخرى، يتمثل أحد المواقف في القول بأن “الصراعات الطبقية لها معنى محدد للغاية، وبالتالي يجب علينا التحقق من النضالات غير الطبقية، التي تمثل شيئا آخر”.

ولكن يمكن، من وجهة نظر أخرى، القول إن المشكلة نابعة من التعريف الضيق للصراع الطبقي. وبالعودة إلى مفهوم الرأسمالية الموسع الذي كنا نتحدث عنه في بداية مقابلتنا، يمكننا النظر إلى الصراعات الطبقية في ضوء مختلف. ومثلما ليست الرأسمالية مجرد اقتصاد، لا يقتصر الصراع الطبقي على مكان الإنتاج. إذا جرى فهم الرأسمالية ككلية شاملة لهذه الشروط الأساسية، الضرورية للأماكن عالية التخصص حيث يتراكم فائض القيمة على حساب العمل المأجور المستغل، يمكن أيضا فهم أن إعادة الإنتاج الاجتماعية هي بنفس القدر مكون أساسي للنظام ولطريقة ترتيب عناصره. وإذا قيل الشيء نفسه عن الطبيعة والممتلكات العمومية ومقدرات الضبط والأشكال القانونية التي نعتبرها سياسية، فيمكن تماما أن تكون النضالات المتعلقة بهذه المجالات هي أيضا نضالات مناهضة للرأسمالية، أو على الأقل نضالات تتعلق بالمكونات الأساسية للنظام الرأسمالي. إذا جرى توجيهها بالطريقة الصحيحة –وطبعا، ليس هذا هو الحال دائما -يمكن فهمها أيضا على أنها صراع طبقي.

في الواقع، كانت النضالات من أجل إعادة الإنتاج الاجتماعية، تاريخيا، جزءا من الصراع الطبقي. هذا ما يكمن وراء مطلب الحركة النقابية القوي المتعلق بأجر عائلي. كان هذا المطلب، بكل معنى الكلمة، نضالا من أجل ظروف العمل المأجور ونضالا من أجل ظروف إعادة الإنتاج الاجتماعية والحياة المنزلية. اتضح أنه حل لم يكن دائما ممتازا للنساء أو لأقسام الطبقة العاملة التي لم تُعتبر أبدا مؤهلةً للحصول على أجر عائلي. لكن يمكن تبين أن الأمور قد تتعقد بسرعة كبيرة بحسب الطريقة التي نتحدث بها عن الصراع الطبقي.

لذا، يتمثل أفضل حل في إعادة تعريف الطبقة والصراع الطبقي بطريقة أوسع. ولكن، يجب في الآن ذاته الانتباه جدا لتمييز ما يعنيه القول بأن هناك معنى مغايرا للصراع الطبقي. أقول هذا وأنا منشغلة بوجه خاص بالأمر التالي: ينبغي إيجاد أفضل السبل لتعزيز أنواع التحالفات العريضة التي نحتاجها للتصدي للسلطات القوية جدا والراسخة الواجب مواجهتها وتفكيكها.

يبدو للوهلة الأولى أن اعتبار كل هاته الصراعات، المتباينة ظاهريا، صراعات طبقية أمر يفتح باب إمكانات: نحن جميعا على نفس المركب، ونواجه نفس العدو. ولكن إذا سلكنا هذا الطريق، مُتَبَنِين رؤية أوسع للرأسمالية – وبالتالي رؤية أوسع للصراع الطبقي والصراع ضد الرأسمالية – فإنه يتعين علينا أن نكون منتبهين جدا لطرق عدم تناغم هذه النضالات الفوري. إنها مهمة العمل السياسي، وهي فعلا عمل صعب. وهذا يعيدنا إلى فكرة الشعبوية اليسارية: نحن بحاجة إلى إرساء ميثاق يوضح كيف تترابط هذه النضالات وتتداخل، وكيف تميل طرق معينة لبنائها إلى خلق مُخرجات محصلتها عديمة الفائدة، يمكن تجنبها بواسطة نهج مختلف.

لشرح المقصود بالصراعات الحدودية، أقدم أحيانا منظور كارل بولايني. دون استخدام هذا المصطلح، حدد بولايني بوضوح الصراعات الحدودية بين ما أسماه السوق ذاتية الضبط(يمكننا ببساطة أن نقول الاقتصاد) والمجتمع. ما هو مثير للاهتمام ومثمر في هذا المقاربة هو فكرة أن المعركة لا تدور فقط حول كيفية توزيع فائض القيمة. يتعلق الأمر بمعرفة ما الذي سيحدد قواعد الحياة. إنها مسألة ما إذا كان رأس المال، في مجتمع معين، طليق العنان أم لا.

يثير هذا أسئلة عميقة بشأن من لديه القدرة بالفعل على تشكيل قواعد الحياة في المجتمع. إنها الأسئلة الجاري سحبها خلسة من الأجندة السياسية في المجتمعات الرأسمالية ويتم تخويلها، من وراء ظهورنا، لرأس المال ولمن يؤول إليهم مراكمته.

يعني الحديث عن الصراعات الحدودية محاولة تجاوز مسائل التوزيع للتطرق لمسألة تنظيم قواعد الحياة الاجتماعية. تشير الصراعات الحدودية إلى أن المشكلة الحقيقية والأساسية هي معرفة أين نرسم الخط الفاصل بين المجتمع والطبيعة، بين العمل المأجور والأنشطة الأخرى المتعلقة بالعناية بالجماعات والعلاقات الأسرية، إلخ. وتتلخص هذه الأسئلة في: ما هي الحدود المشروعة التي يمكن للأسواق أن تعمل داخلها؟ ما هي الأشياء التي يمكن شراؤها وبيعها بشكل مشروع؟ أعتقد أن الهدف من الحديث عن الصراعات الحدودية هو القول إن هذه القضايا كانت دائما موضع اعتراض في المجتمعات الرأسمالية. ليس أنها بديل للصراعات الطبقية، بل أن الصراع الطبقي يتخذ أحيانا شكل صراعات حدودية، والصراعات الحدودية تتخذ أحيانا – عندما تسير الأمور على ما يرام –شكل الصراع الطبقي.

ترجمة المناضل-ة

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

[+]: الأمْوَلة = financiarisation= عملية إخضاع نظام الانتاج، أولا وقبل كل شيء، وحتى حصريا، لأهداف المردودية المالية، أي أهداف ترمي إلى خدمة الأرباح وتحصيل فوائض قيمة متنامية باطراد في البورصة لفائدة مالكي الأسهم، الذين تتعاظم قوتهم بواسطة المؤسسات المالية بقدر ما يجري إفقار الأجراء وإضفاء الهشاشة على وضعهم [م] [++]: النمو السلبي= décroissance   مفهوم سياسي واقتصادي واجتماعي يطعن في فكرة كون زيادة الثروات المنتجة تفضي إلى زيادة الرفاه الاجتماعي.  ترمي نظرية النمو السلبي إلى تقليص انتاج المواد والخدمات وخفض الاستهلاك بقصد الحفاظ على البيئة

=+++++++++++++++++

* نانسي فريزر: أستاذة الفلسفة والسياسة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية. نشرت باللغة الفرنسية:

Qu’est-ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution (La Découverte, Paris 2005, réed. 2011),

Le féminisme en mouvements (La Découverte, Paris 2012)

Domination et émancipation. Pour un renouveau de la critique sociale (dialogue avec Luc Boltanski, présenté par Philippe Corcuff, Presses universitaires de Lyon, collection Grands débats : Mode d’emploi, Lyon 2014).

Elle a co-écrit (avec Arjun Appadurai, Zygmunt Bauman, Bruno Latour, Eva Illouz, Ivan Krastev, Paul Mason, Pankaj Mishra, Robert Misik, Oliver Nachtwey, Donatella della Porta, César Rendueles, Wolfgang Streeck, David Van Reybrouck et Slavoj Žižek, à l’initiative de Heinrich Geiselberger) L’ ge de la régression (éditions Premier Parallèle, Paris 2017),

بيان من أجل نسوية 99٪، ( باشتراك تشينسيا  أروتسا  Cinzia Arruzza * تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya)

مترجم بموقع المناضل-ة: https://www.almounadila.info/archives/10610

مارتن موسكيرا: أستاذ في جامعة بوينس آيرس، وعضو في هيئة تحرير مجلة Revista Intersecciones ، ورئيس تحرير مجلة جاكوبين أمريكا اللاتينية، وناشط في Democracia Socialista (فرع نصير للأممية الرابعة في الأرجنتين). نشرت هذه المقابلة لأول مرة في ترجمتها الإسبانية من قبل جاكوبين أمريكا اللاتينية في 16 يونيو 2021 (https://jacobinlat.com/2021/06/16/nuestra-unica-esperanza-es-un-populismo-de-izquierda-que-evolucione-hacia-el-socialismo/) ثم في 10 سبتمبر 2021 باللغة الإنجليزية بواسطة جاكوبين. الترجمة عن الإنجليزية من قبل JM.

إحالات

  1. Nancy Fraser, Cannibal Capitalism : How our System is Devouring Democracy, Care, and the Planet – and What We Can Do About It (Le capitalisme cannibale : Comment notre système dévore la démocratie, le care et la planète – et ce que nous pouvons faire pour y remédier), à paraître chez Verso en mars 2022.
  2.  Voir: Jason W. Moore, Capitalism in the Web of Life. Ecology and the Accumulation of Capital (Verso Books, London 2015) et Jason W. Moore, Raj Patel, A History of the World in Seven Cheap Things. A Guide to Capitalism, Nature, and the Future of the Planet (University of California Press, Berkeley 2017)

.3. Nancy Fraser, « Climates of Capital », New Left Review n° 127 de janvier-février 2021.

  1. تقصد نانسي فريزر بـ”الصراعات الحدودية” النضالات “الثقافية” (النسوية، البيئية، والشعوب الأصلية، إلخ، والتي تهدف إلى الحفاظ على مجالات الوجود غير الاقتصادية)، التي تقترح التفكير فيها كشروط للتحرر. انظر: نانسي فريزر، «Derrière l’antre secret de Marx. Pour une conception élargie du capitalisme », Les Temps modernes n° 699, juillet-septembre 2018, pp. 2-25.

 

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا