بلاغ المجلس الوطني كدش 11 يناير: احتفاء بتاريخ السطو البرجوازي على النقابة العمالية

 

صدر بيان المجلس الوطني للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، المنعقد بتاريخ 11 يناير 2023، متضمنا الديباجة التالية: “وهي لحظة رمزية مكثفة بالمعاني والدلالات، لتزامنها مع ذكرى وثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية والتي لا زالت مطلبا ديمقراطيا شعبيا، وقد شكل تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل منطلقا لإعادة ربط نضال الطبقة العاملة بالمشروع التحرري الشامل إلى جانب القوى الديمقراطية”.

يحتاج هذا تمحيصا سياسيا وتاريخيا لاستجلاء حقيقة كون تلك “اللحظة التاريخية” جزءا من فقدان الطبقة العاملة المغربية لاستقلالها السياسي والتنظيمي عن القوى السياسية البرجوازية، ما منعها من بناء حزبها الطبقي الخاص، وهي مهمة لا زالت متعثرة لحدود اللحظة. وإحدى علامة التعثر هذا احتفالُ نقابة عمالية بذكرى السطوة البرجوازية عليها.

بدأت الأجنة الأولى للحركة النقابية المغربية بالتشكل بفضل مجهودات أعضاء الحزبين الاشتراكي والشيوعي الفرنسيين. كان الشغيلة الفرنسيون هم الأعضاء الأوائل لتلك الحركة، مع العمل من أجل ضمان الحق النقابي للمغاربة، الذين كان يُطلق عليهم آنذاك “الأهالي”، الذين صدر ظهير 1938 مجرِّما انتماءهم للنقابات. لكن تلك الورقة لم تمنع شغيلة المغرب من الانخراط الكثيف في النقابة.

طيلة النصف الأول من عمر الحماية كانت الحركة الوطنية تعتبر النقابة أمرا مضرا بوحدة الأمة، وكان زعيمها آنذاك علال الفاسي يعتبر أن أي تغيير يأتي “من أسفل” مدمِّر لكنوز الحضارة حاصرا ذلك التغيير في يد الصفوة المثقفة العالمة.

لكن تطور الحركة العمالية ووزن الشيوعيين داخلها، دفع الحركة الوطنية (حزب الاستقلال أساسا) إلى اعتبارها قاعدة جماهيرية صالحٌ استعمالُ قتاليتِها من أجل انتزاع استقلال يمنح سدة الحكم للبرجوازية بتوافق مع الملكية (محمد بن يوسف آنذاك). ولتحقيق ذلك عمل الحزب على انتزاع النقابة من أيدي الشيوعيين، وقد نجح في ذلك، بسبب تأخر الحزب الشيوعي في دعم المطالبة بالاستقلال، حتى استأثرت الحركة الوطنية البرجوازية بقيادة النضال الوطني من أجله.

كان ذلك في بداية الأربعينيات حين تقدم حزب الاستقلال بوثيقة 11 يناير، التي أثارت شعورا وطنيا في المدن وانطلقت تظاهرات واجهتها سلطات الحماية بقمع شرس. أصابت تلك الحركة حزبَ الاستقلال بالهلع فأعلن بأنه لا يريد عرقلة المجهودات الحربية للحلفاء.

اختار الحزب الشيوعي المغربي تطبيق إملاءات الاتحاد السوفياتي الذي أراد الحفاظ على تحالف مع القوى الإمبريالية الغربية، مطلقا عليها نعت قوى ديمقراطية، في مواجهة الفاشية والنازية. اعتبر الحزب الشيوعي المطالبة بالاستقلال سياسة مغامرة موجهة ضد الديمقراطية لفائدة الرجعية الفاشية وضد فرنسا لصالح العدو[1]، ودافع عن فكرة أن مصلحة الشعب المغربي تكمن في ربط مصيره بمصير الشعب الفرنسي[2]. وحين استدرك الحزب الأمر وطالب بالاستقلال، قام بذلك من موقع التابع للحركة الوطنية البرجوازية والقصر.

كان تأخر الحزب الشيوعي في دعم المطالبة بالاستقلال سببا في فقدان الاتصال مع شغيلة ترى ربطا مزدوجا بين الاستغلال الطبقي وبين الاستعمار الفرنسي، وفي نفس الوقت سببا في سطوة برجوازية على النقابة العمالية، لا زالت تبعاتها مستمرة لحدود الساعة. تنوعت تلك السطوة بين أحزاب برجوازية عديدة وبين القصر.

بعد الاستقلال استمر النزاع حول الهيمنة على النقابة العمالية بين طرفين من نفس الطبقة السائدة: الملكية من جهة والحركة الوطنية البرجوازية من جهة أخرى. تمكنت الملكية من استمالة بيروقراطية جهاز “الاتحاد المغربي للشغل”، وهو ما رد عليه يسار الحركة الوطنية البرجوازية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) بمحاولة إعادة ربط النقابة بعربة الحزب. وكان المهدي بن بركة فارس تلك المهمة التي فصلها في وثيقته المشهورة “الاختيار الثوري”، بحصر القيادة السياسية في يد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في حين خص العمالَ ونقابتهم بـ”صهر معاركهم الخاصة في الأفق الشامل الذي سطره الحزب باعتباره تنظيما سياسيا بامتياز”.

سيعود قسم من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي بعد 1974) إلى تنفيذ تلك المهمة بإطلاق عملية تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، التي كان شعارها “إعادة الارتباط بين الحركة النقابية وحركة التحرر الوطني”. و”حركة التحرر الوطني” هنا، ليست إلا تعبيرات سياسية برجوازية كانت تبحث عن مكان لها في ظل الاستبداد الملكي وتنادي بمشروع رأسمالية وطنية.

استعمل الاتحاد الاشتراكي النقابة العمالية كأداة في إطار هذه الاستراتيجية القائمة على مناوشة مضبوطة مع الملكية. لكن القاعدة العمالية التقطت تأسيس الكونفدرالية للديمقراطية للشغل كفرصة للتخلص من الكبح البيروقراطي داخل الاتحاد المغربي للشغل، وكانت كدش طيلة عقدين أداة لنضالات عمالية كبيرة، منفلتة أحيانا من رقابة القيادة الاتحادية لكدش، وأحيانا كثيرة خاضعة لمساوماتها مع الملكية.

بعد عقدين ونصف من تأسيس الكونفدرالية (التي كان يُطلَق عليها “نقابة الشعب”)، انتهى مسارها إلى توقيع اتفاق بتاريخ فاتح غشت 1996، تحت الإشراف المباشرة لوزير داخلية الحسن الثاني آنذاك، إدريس البصري.

كانت المشاورات قائمة منذ إعلان صندوق النقد الدولي سنة 1995 بأن المغرب يتجه نحو سكتة قلبية متزامنة مع ملك شائخ يعرف أن أجله قد حان. مشاورات حول إشراك المعارضة الليبرالية (الاتحاد الاشتراكي أساسا) في ضمان عملية انتقال الحكم من الحسن الثاني إلى ولي عهده، وفي نفس الوقت الإشراف على مرحلة ما بعد التقويم الهيكلي والاستمرار في نفس السياسات التي فرضها صندوق النقد الدولي منذ أواسط الثمانينات، والتي كان الاتحاد الاشتراكي وذراعه النقابي (كدش) يدعيان رفضها والنضال ضدها.

كان اتفاق فاتح غشت 1996 إذن تصفية لما يمكن أن يعترض عملية الانتقال هذه، إذ التزمت قيادة كدش (والاتحاد العام للشغالين بالمغرب) بضمان السلم الاجتماعي. وبعد تولية الاتحاد الاشتراكي في واجهة حكومة أطلِق عليها “تناوبا توافقيا”، انخرطت كدش في “الأوراش الكونفدرالية” دعما لتجربة الانتقال تلك.

بعد استنفاذ الاتحاد الاشتراكي لدوره وتورطه أكثر في تنفيذ سياسات كان يُطلق عليها سابقا “لا شعبية”، أصبحت النقابة ثقلا ينقل إليه ضغوط القاعدة العمالية. بدأت عملية التخلص من جناح النقابيين، وهو ما ردت عليه قيادة كدش بتأسيس المؤتمر الوطني الاتحادي، وإنشاء الاتحاد الاشتراكي لذراعه النقابي “الفيدرالية الديمقراطية للشغل”. وكلا الحزبين تعبيرات سياسية برجوازية تستعملان النقابة العمالية لأغراض غير عمالية.

طيلة هذا التاريخ كانت قوى سياسية برجوازية تنهش جسد النقابة العمالية وتقطع أوصالها، وكل ذلك تحت شعار “ربط النضال العمالي بالمشروع التحرري الشامل إلى جانب القوى الديمقراطية”.

بعد الديباجة الرومانسية المحتفية بلحظة سطو برجوازي على نقابة عمالية، انتقل بيان المجلس الوطني لكدش إلى تناول القضايا العملية للساحة العمالية:

* “لا زالت بلادنا تعيش أزمة اجتماعية خانقة نتيجة الخيارات الاقتصادية النيوليبرالية القائمة على التوازنات المالية على حساب التوازنات الاجتماعية…”.

* “عوض التجاوب مع مطالب الطبقة العاملة… فإن الدولة المغربية مصرة على المضي في نفس الاختيارات الاقتصادية…”.

* “التنصل الواضح للحكومة من التزاماتها الاجتماعية المنصوص عليها في اتفاق 30 أبريل 2022…”.

لكن كل هذا هو نتيجة حتمية لما احتفى به بيان المجلس الوطني لكدش. فالأزمة الاجتماعية والتنمية المعاقة وتحميل الشغيلة والكادحين- ات كلفة تنمية يقطف الرأسمال ثمارها، كلها نتائج ما آلت إليه معركة التحرر من الاستعمار. إذ بسبب قيادة قوى برجوازية لذلك النضال واستعمال النقابة العمالية كلحم مدافعه، عُزل النضال الاجتماعي عن رديفه الوطني، وانتهت العملية كلها بتسوية مع الاستعمار والاستبداد السياسي (الملكية)، أرست استعمارا جديدا قائما على استعمال ثروات البلد واستغلال شغيلته من أجل إنماء رأسمالية محلية تحترم دورها في قسمة العمل الدولية المحدَّدة إمبرياليا.

لكن بيان المجلس الوطني، باحتفائه بتاريخ هذا السطو البرجوازي على النقابة العمالية، يريد الاستمرار في نفس المسار والتشكي من نتائجه المرة كالعلقم. بعد الاحتفاء بتاريخ سطو برجوازي سابق على نقابة الشغيلة (11 يناير 1944)، ينتهي بيان المجلس الوطني إلى الزهو باستمرار سطو حالي على نفس النقابة: “يهنئ ويحي الخطوة الاندماجية لفيدرالية اليسار الديمقراطي ويعتبرها لبنة في اتجاه تقوية الصف الديمقراطي التقدمي بما يخدم مشروع التغيير الديمقراطي”. ولا يخرج هذا المشروع عن الإطار الذي رسمه عبد الرحيم بوعبيد منذ منتصف السبعينيات: إصلاحات سياسية ودستورية تمنح فتات سلطة لمعارضة برجوازية مع المناداة باقتصاد رأسمالي يحترم قواعد المنافسة الشريفة ودولة الحق والقانون.

ويعبر هذا عن توجس وخوف قيادة كدش (فيدرالية اليسار الديمقراطي) من أي نضال عمالي لا يخضع لحسابات المعارضة الليبرالية (البرجوازية)، إذ أعاد البيان صيغا تكون نتيجتها كبح كفاحية الطبقة العاملة وربطها مع استراتيجية الرأسمال ودولته، بتأكيده على أن “تجاوز الوضع الاجتماعي والاقتصادي المقلق يمر بالضرورة عبر حوار وطني شامل يفضي إلى إصلاحات سياسية لبناء ديمقراطية حقيقية…”، و”المطالبة بمأسسة الحوار الاجتماعي… وحل النزاعات الشغلية على قاعدة احترام القوانين الشغيلة…”. وكانت النتيجة التنظيمية العملية لعملية الكبح هذا الصيغ المعهودة في بيانات القيادات النقابية: “تفويض المكتب التنفيذي اتخاذ المبادرات والخطوات النضالية المناسبة…”، و”دعوة الكونفدراليين- ات إلى رص الصفوف والمزيد من اليقظة…”. أي في التحليل الأخير مجنَّدون في صفوف الطبقة العاملة ينتظرون أوامر القيادة العليا المكونة من قوى سياسية ليبرالية ناقصة النزعة الديمقراطية.

إن استمرار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل منذ تأسيسها حتى الآن مكسب تاريخي كبير لشغيلة البلد. لكن هذا لا يقتصر على كدش لوحدها، فكل النقابات هي أدوات نضال للشغيلة في مواجهة عنف هجوم الرأسمال ودولته. وليس الاحتفاء ما يحتاجه شغيلة البلد بل الوقوف على نواقص وعيوب تنظيمات نضالهم. وعلى رأس هذه العيوب هيمنة قوى سياسية غير عمالية (ليبرالية وتقدمية كانت، أم رجعية) على نقاباتهم. وتخليص هذه النقابات من هذه الهيمنة هي أم المهام الملقاة على عاتق ما يمكن أن يتشكل كيسار نقابي طبقي، إلى جانب الطلائع التي تبزغ في معمعان الكفاح والنضال اليوميين.

هذا الاندماج بين طلائع الكفاح المسيسة وبين جماهير الشغيلة هو الاندماج الوحيد الذي يحق لنقابة عمالية أن تحتفي به، وليس اندماج قوى سياسية ليبرالية ناقصة النزعة الديمقراطية، جزء مهمٌ من مشروعها هو الاستمرار في أحد أوجه معاناة شغيلة البلد، أي السطو البرجوازي على نقاباتهم، وهو ما أطلق عليه بيان المجلس الوطني لكدش: “إعادة ربط نضال الطبقة العاملة بالمشروع التحرري الشامل إلى جانب القوى الديمقراطية”.

سيؤدي الاندماج بين الطلائع الكفاحية المسيسة وبين جماهير الشغيلة إلى تنفيذ مهمة تاريخية لا زالت قائمة في جدول أعمال النضال الطبقي بالمغرب: بناء حزب العمال- ات الاشتراكي الثوري، الذي سيربط تحررهم- هن السياسي (الديمقراطية) بتحررهم- هن الاجتماعي، وليس رهن الثاني بتحقق الأول بدايةً.

بقلم: أزنزار

[1]- Oved Georges, La gauche française et le nationalisme marocain, 1905-1955, P 208.

[2] – عبد الله رشد كفاح المغاربة من اجل الاستقلال و الديمقراطية  ص 348.

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا