كوريا الشمالية: الأزمة الكورية والولايات المتحدة الأمريكية وانعدام استقرار الجيوسياسية الأسيوية وانتشار الأسلحة النووية

بلا حدود28 يناير، 2018

استأنفت الولايات المتحدة الأمريكية الهجوم في شرق آسيا أثناء الأزمة الكورية؛ أما الصين، فقد فقدت المبادرة مؤقتا. إن الامبريالية الأمريكية بعيدة كل البعد عن كسب المعركة، لكنها حققت انتصارات دالة تلقي بتأثيرها على كل المنطقة – وأبعد منها بكثير، خاصة بفعل ما تثيره من تسارع في وتيرة سباق التسلح النووي. تتطور موازين القوى الجيوسياسية باستمرار في هذا الجزء من العالم.

لم تحدث حقا إعادة تموضع الولايات المتحدة الأمريكية في «محور» آسيا والمحيط الهادئ في ظل رئاسة أوباما، رغم إعلان بدأها منذ مدة طويلة. أقدم دونالد ترامب على فك الارتباط مع هذه المنطقة الرئيسية، عبر الانسحاب من اتفاقيات التبادل الحر التي يجري التفاوض حولها (الشراكة عبر المحيط الهادئ -TPP) وبالتالي ترك المجال مفتوحا في هذا الميدان للصين التي تبذل جهودا، لما فيه مصلحتها، مع تحقيق نجاح أكيد، من أجل توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP).

بمناسبة الأزمة الكورية، عاود دونالد ترامب المبادرة، وهذه المرة على المستوى العسكري، حيث تفوق الولايات المتحدة الأمريكية هو الأكثر سحقا. هذا الشخص لا يمكن فهمه وطريقته في اساءة استعمال موقع التواصل الاجتماعي تويتر أو الشتم مزعجة ومضحكة على حدو سواء. لكن لا ينبغي على معركة الديوك بين ترامب وكيم إخفاء ما هو أساسي: هجوم الولايات المتحدة الأمريكية جدي ومتواصل وبات يحدث عواقب وخيمة.

كان نقطة توازن بين الأطراف المتنازعة تشكلت في شرق آسيا. وكانت بيكين الطرف المبادر في بحر الصين الجنوبي بفضل وزنها الاقتصادي وبفعل احتلالها العسكري للمجال البحري. كانت واشنطن تمتلك زمام المبادرة في الشمال بفضل شبكة قواعدها وبفعل حلفائها التابعين لها إلى هذا الحد أو ذاك (كوريا الجنوبية واليابان). أما روسيا، فبقيت في الهامش رغم كونها قوة سيبيرية.

لا يمكن أن يكون مثل هذا التوازن إلا مؤقتا. في الجنوب، كانت واشنطن ترسل الأسطول السابع للتوجه نحو مشارف الجزر الصناعية التي شيدتها الصين، بينما في الشمال، كانت الصين تبعث طائرات وسفنا ضدا على مطالب اليابان حول الأرخبيل الصغير سينكاكو/دياويو، وبالتالي اختبارا لمدى عزم واشنطن. تحطم هذا التوازن غير المستقر بفعل حجم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في المسألة الكورية، ولكن أيضا عبر نداء تحذيري وجهه البنتاغون إلى الفلبين.

انتشار هجوم الولايات المتحدة الأمريكية

العقوبات الاقتصادية. حتى الآن، لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من ثني قيادة كوريا الشمالية ومن فتح أزمة نظام. قللت واشنطن دوما من شأن قدرة بيونغيانغ على الصمود. وخلال النزاع الكوري في سنوات 1950-1954، سحقت الولايات المتحدة الأمريكية الشمال وارتكبت جرائم حرب عديدة. لم ينس السكان، ورغم أنهم يعيشون في فقر مدفع، فهم يخافون في المقام الأول كل عدوان جديد مدمر. برزت نخبة جديدة ذات امتيازات وتعصرنت، ووفرت قاعدة اجتماعية للسلطة الاستبدادية –التي توسع حجمها أيضا عبر السماح لعلاقات السوق بالتطور في مسام الاقتصاد المُوَجَّه. تشكل النزعة القومية الاثنية الهوياتية اسمنتا ايديولوجيا فعالا. ويحول قمع وقائي لا هوادة فيه دون ظهور بديل وسط النظام نفسه.

أكيد، ليس عدم كفاية العقوبات السابقة، هو من سيؤدي إلى عدم وصول لحظة القطيعة مستقبلا. إنها مسألة من بين المسائل «المفتوحة» التي يطرحها تطور الوضع.

تهدف الحزمة السابعة من العقوبات التي اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة يوم 5 آب/أغسطس إلى حرمان النظام من مليار دولار (850 مليون يورو) كقيمة عائدات الصادرات في سنة. وتنص على حظر إنشاء أي اتحاد مشترك جديد بين المقاولات الأجنبية والكورية الشمالية، ووقف كل استثمار في تلك الموجودة سابقا؛ والحد من زيادة حصص عمال كوريا الشمالية الذين يشتغلون بالخارج؛ ومنع موانئ جميع البلدان من استقبال سفن كوريا الشمالية التي تنتهك قرارات منظمة الأمم المتحدة؛ وتجميد أصول بنك التجارة الخارجية لبيونغيانغ…

في يوم 11 أيلول/سبتمبر، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حزمة جديدة من العقوبات تضم بوجه خاص حظر جزئي وتدريجي على النفط ومشتقاته (شامل على الغاز الطبيعي). وفي هذه المرة، مع استثناءات نادرة، باتت جميع المشاريع المشتركة مع شركات كوريا الشمالية ممنوعة، وأصبح من الضروري إغلاق تلك القائمة سابقا في عضون مائة وعشرون يوما. وتتخذ واشنطن اجراءات ضد البنوك.

الهجمات الالكترونية. في ظل حكم أوباما، جرى اعداد برنامج حرب الكترونية، خاصة من أجل تدمير برنامج كوريا الشمالية النووي. من الممكن تفسير هده المسألة بعدد معين من «الاخفاقات» (إطلاق الصواريخ على نحو غير موفق…)، لكن ذلك لم يحل دون تحقيق تقدم كبير في تطوير قدرات كوريا الشمالية في هذا المجال.

الضغط العسكري.  حافظت واشنطن دوما على ضغط عسكري ضد كوريا الشمالية، خاصة عبر المناورات الجوية والبحرية التي تشنها باشتراك مع جيش كوريا الجنوبية كل عام. وقبل سنوات عديدة، تشكلت وحدة من نخبة كورية جنوبية مكلفة باغتيال كيم جونغ أون. استمر شدة هذا الضغط مع انشاء قاعدة تحت البحر في جزيرة جيجو، وإرسال حاملة طائرات نحو المنطقة، ونشر بطاريات صواريخ مضادة للصواريخ (نظام ثاد-منظومة دفاع جوي صاروخي من نوع أرض-جو)، وفي آخر المطاف، تحليق قاذفات قنابل تدريبية في المناطق الساحلية الكورية الشمالية، وهذا لم يكن حدث منذ سنوات الخمسينات.

لم يقم هجوم الولايات المتحدة الأمريكية متعدد الأشكال، في نظر نظام كوريا الشمالية، سوى بتأكيد أن بقاءه على قيد الحياة كان يتوقف على قدرته على الازعاج بالأسلحة النووية. فلم يخضع.

لكن، سياسة واشنطن أثمرت في كوريا الجنوبية واليابان والصين والفلبين، وبوجه أعم، في المجال الجيوسياسي الآسيوي.

رهان كوريا الجنوبية. تشكل كوريا الجنوبية محورا أساسيا في نظام الولايات المتحدة الأمريكية الاقليمي. غير أن انتخابات يوم 9 أيار/مايو الأخير شكلت انتكاسة فادحة لدونالد ترامب. في أعقاب تعبئة مواطنة حاشدة، احتلت الفضاء العام، ولفتت الأنظار بحجمها ومدتها، تلقى النظام السابق (يميني متطرف، وريث الدكتاتوريات الماضية) هزيمة في الانتخابات. أضفى السكان أهمية متزايدة على المسائل الداخلية (فضائح الفساد والقمع…) أكثر من على التوترات العسكرية الاقليمية. كانت سياسة الحرب التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية في نظرهم قضية ترامب وليست قضيتهم.

ينتمي الرئيس الجديد، مون جاي إن، إلى حركة سياسية هامة إلى حد ما في كوريا الجنوبية لا تقطع مع شرائع النيوليبرالية، لكنها تعلق أهمية كبيرة على المسألة القومية، يعني إعادة توحيد البلد خاصة عبر المفاوضات (يصنف حزبه في خانة «يسار الوسط»). كان مون جاي إن عارض الانتشار السريع لبطاريات صواريخ ثاد على أرض كوريا الجنوبية، ومنذ انتخابه، دعا بإطراء إلى فتح حوار مع بيونغيانغ. لكنه اصطدم برفض قاطع وفظ من كم جون أون، ما أفقد مبادرته الديبلوماسية كل تأثير. في ظل هذه الظروف وبوجه دوامة الاستفزازات والاستفزازات المضادة النووية والعسكرية بين كيم وترامب، تخلى عن طموحاته جزئيا.

من المرجح أن يبقى العداء بوجه السياسة العدوانية للولايات المتحدة الأمريكية عميقا في صفوف سكان كوريا الجنوبية. وقد قرر مون جاي إن للتو تقديم مساعدة إنسانية لسكان كوريا الشمالية بقيمة 8 ملايير دولار؛ وهي بادرة ذات بعد سياسي. لكن ظروف نضال الحركة المناهضة للحرب أصبحت اليوم أقل ملاءمة بكثير مما كانت عليه في شهر أيار/مايو الماضي.

فرصة مناسبة لليمين في اليابان. تُطرح اليوم نفس المشكلة في اليابان. إذ يسعى اليمين الحاكم مناصر النزعة العسكرية أن يلغي نهائيا البند الذي ينص على السلم في الدستور، لكن معظم السكان يرفضون هذه المراجعة. باتت صواريخ كوريا الشمالية تحترق دوريا أجواء الأرخبيل (دون أن تثير مع ذلك رعبا).

قرر رئيس الوزراء شينزو آبي حل مجلس النواب والدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. لا حاجة له إلى ذلك، ما دام يتمتع حاليا بأغلبية الثلثين في مجلسي النواب والمستشارين. حسابه القائم هو: استغلال الوضع الحالي لكي يحصل في عام 2018 على أغلبيته وبالتالي ضمان استمراره في السلطة حتى عام 2021 (وبالمناسبة اخفاء اتهام زوجته بفضائح المحسوبية).

يخاطر شينزو آبي إلى حد ما بعزمه على إجراء انتخابات سابقة لأوانها. المعارضة منقسمة. وقد يأتي الخطر الوحيد من تشكيلة سياسية جديدة، حزب الأمل (التي أسسته يوريكو كويكي، عمدة بلدية طوكيو، التي تستوحي نموذج… إيمانويل ماكرون). لكن إذا تدخل شينزو آبي بسرعة، فلن يسمح لها بالانغراس.

إن العلاقات القائمة بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية معقدة، بحيث تعتبر طوكيو في الآن ذاته حليف واشنطن الرئيسي في المنطقة (تأوي أهم قواعدها العسكرية) وقوة منافسة محتملة. غير أن شينزو آبي يدعم حاليا دونالد ترامب، ومؤكدا أن كل محاولة حوار مع بيونغيانغ ستكون دون جدوى.

نداء إنذاري للفلبين. رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي، الذي انتخب في أيار/مايو عام 2016، استنكر علنا بشدة نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في الأرخبيل، ووجه وابلا من الشتائم إلى باراك أوباما. اقترب من الصين (طامعا في قدرتها على الاستثمارات)، ثم انفتح على روسيا. كانت الأزمة التي هزت جزيرة مينداناو في جنوب البلد فرصة واشنطن لتذكير رودريغو دوتيرتي ببساطة أن التحالفات لا يجري تغييرها كقمصان.

وفي أيار/مايو الأخير، اندلعت معارك عنيفة في مدينة مراوي الإسلامية بين القوات الحكومية والحركات الاسلامية الجهادية، ما أثار أزمة إنسانية واسعة النطاق ومنح دوتيرتي فرصة فرض الأحكام العرفية في جميع أنحاء جزيرة مينداناو (1). ولا لاتزال حالة حرب زاحفة متواصلة حتى الآن.

وبموجب تحالفات الدفاع التي لا تزال سارية المفعول، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة متعددة الأشكال لجيش الفلبين –الذي أرسل ضباطه إلى الأكاديميات العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية: أسلحة واشراف على طائرات بدون طيار للمراقبة، ومعلومات التكتيكية، و«مستشارون» عسكريون في عين المكان… كل ما لا تستطيع الصين وروسيا القيام به اليوم.

يكتسي نظام دوتيرتي سمات دكتاتورية (ما يناهز 1300 قتيل في عام واحد باسم «الحرب على المخدرات»). ويظل مستقبله عير مؤكد. على كل حال، أثبت الولايات المتحدة الأمريكية من جديد للتو حضورها في مستعمرتها السابقة، بينما يحتل الأرخبيل الفلبيني مكانة استراتيجية في بحر الصين الجنوبي –مجال تسعى بيكين إلى تعزيز سيادتها فيه. ولن تكون البلدان الأخرى بالمنطقة قد فاتها ملاحظة ذلك.

افتقار الصين إلى المبادرات. في الوقت الراهن، تبدو بيكين عاجزة عن استعادة المبادرة بشأن المسألة الكورية. وبالتالي تعاني الصين بسبب الوضع القائم. وفي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أصبحت مضطرة للتصويت، مثل روسيا، لصالح تصعيد حدة العقوبات ضد بيونغيانغ. هكذا سيجري حل جميع الكيانات الاقتصادية الكورية الشمالية القائمة على أراضي الصين، أو التي تساهم فيها الشركات الكورية الشمالية. على الصين أن تسلم بالأمر الواقع: تأثيرها على نظام بيونغيانغ طفيف جدا، إن لم يكن معدوما. وإذا ما انهار هذا الأخير، فقد ترى يوم ما جيوش الولايات المتحدة الأمريكية معسكرة على حدودها: هذا كابوس.

تطلق شخصيات صينية صرخات إنذار عبر وسائل الإعلام الدولية. حجتهم بسيطة: تكتسي كوريا الجنوبية أهمية بالنسبة للصين أكثر بكثير من كوريا الشمالية. وسينهزم نظام بيونغيانغ في امتحان القوة بوجه واشنطن. ودون تأخير ينبغي على بيكين التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية حول خطة تدخل في حالة نشوب أزمة مفتوحة في نظام كوريا الشمالية؛ وإلا فتسجد نفسها خارج اللعبة وسيكون الرد على الأزمة في صالح الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.

لكن المشكلة أن هذ النوع من المفاوضات (سرية أو علنية) يفرض أدنى قدر من جو ثقة، وهي غير موجودة والمحتمل أنها غائبة بين قوة صاعدة (الصين) تطالب بموقع تحت الشمس وقوة راسخة (الولايات المتحدة الأمريكية) لا تريد التخلي عن أي شيء من سيادتها. وعلاوة على ذلك، بإمكان واشنطن الاعتماد على شبكة صلبة من تحالفات بين دول، بينما ليس بوسع بيكين مواجهتها سوى بعقد تحالفات هشة وظرفية مع روسيا أو مع بلدان دون وزن استراتيجي.

وتحافظ الصين على قدرة قوية على المبادرة الدولية في مجالات أخرى ومواقع أخرى. لكن بشأن الملف الكوري، تواجه خيارين سيئين: المراهنة كليا على مرونة نظام بيونغيانغ، مهما كان موقفها حول سياسته، أو عقد أمل على تقديم الولايات المتحدة الأمريكية تنازلات بوجهه، بينما هي –الصين- في موقع ضعف. لكن لا يبدو أن بيكين وجدت، حتى الآن، كيفية فتح طريق ثالث…

عقلية كيم جونغ أون القتالة

إن المسؤولية التاريخية التي تتحملها الإمبريالية الأمريكية في الأزمة الكورية واضحة (2). فحرب سنوات 1950-1953 لا تربطها أي علاقة مع الدفاع عن الديمقراطية (كان النظام الموالي للولايات المتحدة الأمريكية في الجنوب دكتاتوريا) أو حق الشعوب في تقرير مصيرها؛ بل كانت متعلقة بمواجهة النظام الماوي ومنع انتصار ثورة كورية أصيلة. رفضت واشنطن دوما توقيع معاهدة سلام مع بيونغيانغ، حتى عندما كان نظام كوريا الشمالية منطو على نفسه («المملكة المُتوَحِّدة»). هكذا استمرت حالة الحرب مع ما ذكر أعلاه من تداعيات فعلية جدا.

فيما مضى (في ظل حكم كلينتون)، أثبتت اتفاقات ديبلوماسية محدودة (مثل مساعدة في مجال الطاقية مقابل تجميد البرنامج النووي) فعاليتها –لكن سرعان ما توقفت واشنطن إلى هذا الحد أو ذاك عن احترامها. ارتفعت أصوات كثيرة في هذا العام داعية دونالد ترامب إلى فتح مفاوضات مع بيونغيانغ، دون أن تجد آذان صاغية. تمكن الأزمة الكورية الولايات المتحدة الأمريكية من استعاد زمام المبادرة في شرق آسيا، وجيش الولايات المتحدة الأمريكية من المطالبة بزيادة ميزانيته وترامب إلى حد ما من نسيان إخفاقاته في الشؤون الداخلية. لماذا الامتناع عن الاستفادة من هذا الوضع؟

يعيش نظام كوريا الشمالية بالفعل تحت تهديد، وهذا التهديد واقعي. ونظرا لمصير صدام حسين في العراق أو مصير القذافي في ليبيا، من المنطقي أن يستخلص كيم جونع أون أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تحترم سوى الدول التي تمتلك الأسلحة النووية. وكما أشار خبراء عديدون، فإن خيارات بيونغيانغ عقلانية؛ لكن عن أي عقلانية يجري التحدث؟

أعاد كيم جونع أون تفسير مفهوم ردع الضعيف للقوي بالسلاح النووي. كان من الممكن أن يكتفي بقدرة «رادعة» تستهدف كوريا الجنوبية واليابان. لكنه يروم إلى تهديد الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر. ورغم التقدم المحرز فيما يخص الصواريخ عابرة القارات، أو تقنية القنبلة أو حجم الرؤوس النووية، فإنه لا يزال بعيدا كليا عن بلوغ الأهداف المنشودة. ومن ناحية أخرى، يساهم في إحياء سباق عام حول التسلح (الذي يتضمن دروع الدفاع الصاروخي) يعزز دوما تفوق الولايات المتحدة الأمريكية وتترتب عنه عواقب وخيمة في العالم برمته.

وباختياره التصعيد النووي، رفض كيم جونع أون طريقا آخر: الدعوة إلى احياء توق الشعوب في المنطقة إلى السلم ضدا على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الحربية. لكن هذا الخيار البديل كان ممكنا ولم يكن مجرد «فكرة صائبة مبدئيا». والدليل على ذلك، إطاحة اليمين المهووس بالمطالبة بالتأثر في كوريا الجنوبية وانتخاب مون جاي إن –أو أيضا القوة العميقة لنزعة السلم في اليابان؛ ناهيك عن هشاشة ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية. من الباكستان ومن الهند إلى الفلبين، توجد حركات مناهضة للأسلحة النووية ومعادية للحرب. كان بوسعها ايجاد نقاط تقارب عابرة لآسيا، مع بروز الأزمة الكورية. إنها فرصة ثمينة، لأن تعبئة جميع الحركات القائمة في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وشرق آسيا ليست مسألة سهلة، بحيث أن كل منطقة ذات تاريخ خاص بها.

في الأمم المتحدة، صوتت 120 دولة هذا العام بالموافقة على معاهدة حظر الأسلحة النووية. كل هذه المعارك مازالت مستمرة اليوم، لكنها باتت ضعيفة بسبب سياسة بيونغيانغ.

تعود عقلية سياسة كيم جونع أون إلى طبيعة النظام الاستبدادي والسلالي والاثني القومي. إن فكرة حتى الدعوة إلى التضامن العالمي وتعزيز تطوير الحركات الشعبية المعادية للإمبريالية، وبناء تحالفات ديبلوماسية واسعة، واللعب على الانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية…  من الواضح أنه غريب «جسديا».

ينبغي علينا إدانة نزعة الولايات المتحدة الأمريكية التدخلية، والمطالبة بوقف سياستها الحربية، والسعي إلى فرض تهدئة فورية، والنضال من أجل تفكيك قواعدها وانسحاب قواتها العسكرية.  ومن أجل ذلك من غير الضروري تقديم كيم جونع أون بما هو بطل مقاومة الامبريالية!

اللعبة الآسيوية الكبيرة

آسيا الوسطى، وجنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، والشرق الأقصى… العوالم الاسلامي والهندي والصيني… لا توجد آسيا ككيان تاريخي- إلا منذ القرن العشرين خاصة، على مستوى الجيوستراتيجية. وثمة كل شيء يتداخل، بالأقل بسبب الصين التي تمتد حدودها من كوريا إلى كازاخستان.

تدور المنافسة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في جميع القارات وفي كل المجالات، لكنها حدتها في آسيا تتخذ قوة خاصة.

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، حدثت تغيرات مذهلة إلى حد ما في مجال التحالفات. في السابق، كان واشنطن وبيكين تدعمان معا إسلام آباد ضد نيودلهي، التي تحظى بمساندة موسكو. واليوم، تفضل الولايات المتحدة الأمريكية الهند. والصين من جانبها تضمن بسط نفوذها في باكستان بتوظيف استثمارات كبيرة مرتبطة بتشييد «ممر» يمنحها منفذ مميز نحو البحر.

وفي جنوب آسيا، بالإضافة إلى تأثير الولايات المتحدة الأمريكية/الصين، تكتسي المنافسة بين الصين والهند حدة حاسمة، من سريلانكا إلى نيبال أو إلى أفغانستان.

الهند والصين والولايات المتحدة الأمريكية في منافسة مباشرة في بورما التي فتحت مؤخرا أبوابها بوجه الاستثمارات الأجنبية (3).

جنوب شرق آسيا مشلولة ديبلوماسيا بسبب الانقسامات القائمة بين الدول التابعة للصين (لاوس وكمبوديا وبروناي) أو تايلاند الواقعة تحت تأثيرها؛ وفيتنام المعارضة بشدة لبيكين؛ وماليزيا وسنغافورة التي تحتل منافذ واعدة في السوق العالمية، لكنهما يتعرضان لضغط اقتصادي صيني؛ والعملاق الإندونيسي الذي مازال يعيش في عصر الحرب الباردة الايديولوجي…

تتميز التوازنات الجيواستراتيجية في آسيا بانعدام استقرار مطرد. إذا كانت الصين حاليا فقدت المبادرة شرق القارة، فقد أطلقت بالمقابل مشروعا ضخما للتوسع في الجنوب والغرب: تطوير «طريقي حرير» جديدين (في إحالة إلى الطرق التجارية القديمة التي كانت تربط آسيا بأوروبا)، والطريق البحري الذي يقود إلى أفريقيا وإلى الشرق الأوسط، والطريق الأرضي نحو كازاخستان ونحو أوروبا الشرقية.

لا يزال هذا المشروع في مرحلته الأولى، ومن السابق لأوانه معرفة مصيره بالفعل؛ لكنه يرمز إلى مستوى طموح الصين بقيادة شي جين بينغ.

من أجل حظر الأسلحة النووية!

نشهد حركتين متناقضتين.

من جهة، استأنف سباق الأسلحة النووية أكثر من ذي قبل.  ويظهر ذلك عبر الأزمة الكورية في الصين. حتى ذلك الحين، كانت بيكين تعتبر أن حيازة عدد محدود نسبيا من الصواريخ والرؤوس الحربية قد يمكنها من أن تصبح عضو نادي القوى النووية المعروفة المغلق وأن تطبق نظريتها (الشريرة) المبنية على ردع الضعيف للقوي.

غَيَّرَ انتشار بطاريات الصواريخ المضاد للصواريخ (صواريخ ثاد) في كوريا الجنوبية قواعد اللعبة. يغطي مجال فعلها في الواقع جزءا كبيرا من أراضي الصين، وليس شمال شبه الجزيرة وحسب، وبالتالي تشل إلى حد كبير فعل ترسانة الأسلحة الموجودة. وبناء على ذلك يجب على بيكين امتلاك أسطول من الغواصات الاستراتيجية (على غرار روسيا) لنشرها في البحار. ولبلوغ ذلك، يلزمها تحديث غواصاتها وجعلها أقل «صخبا»، وتغيير نظام قيادتها، وتصغير حجم رؤوسها الحربية، الخ. وكلها أمور غير سهلة؛ لكن يبدو أن القرار المبدئي قد اتخذ.

تبين حالة كوريا الشمالية أيضا أن الانتشار مستمر خارج أصحابه الرسميين (ثمة بالفعل إسرائيل وباكستان والهند، وهل ستكون اليابان غدا؟).

ومن الأكيد أن السلاح سيستعمل يوما ما إذا كان موجودا. إن دولا مثلا مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا تتوقع ذلك.  لن ينجم التهديد النووي الرئيسي على العالم طبعا من بيونغيانغ ومن وترسانته الحربية الصغيرة الحجم جدا، ولكن من واشنطن، القوة العظمى في هذا المجال. استمعوا إلى ترامب…

ويتجلى الاتجاه المعاكس في اعتماد الأمم المتحدة معاهدة حظر الأسلحة النووية، المفتوح باب التوقيع عليها اليوم أمام الولايات المتحدة الأمريكية – لكن القوى تقاطعها.

هل من أحد سمع اليوم في فرنسا عن هذا المعاهدة-الحدث؟ إن الاجماع الفرنسي حول المسألة النووية يمنع حتى التوصل بالمعلومات. باستثناء بعض البلدان (اليابان…)، لم ينخرط اليسار الجذري في الحركات التي تدعو إلى نزع السلاح، مكتفيا على أحسن وجه بعرائض مبدئية.

قد تشكل الأزمة الكورية بالنسبة لنا فرصة لمحاسبة الضمير، وبداية توظيف سياسي جاد لمسألة حيوية بالضبط.

بيير روسيه*، تشرين الأول/أكتوبر 2017

انبركور عدد 644-646 تشرين الأول/أكتوبر-كانون الأول/ديسمبر عام 2017 تعريب جريدة المناضل-ة

بيير روسيه، عضو المكتب التنفيذي للأمم الرابعة، ومناضل الحزب الجديد المناهض للرأسمالية (في فرنسا)، ومن منشطي جمعية أوروبا متضامنة بلا حدود. نشرت هذه المساهمة بادئ ذي بدء في موقع أوروبا متضامنة بلا حدود: http://www.europe-solidaire.org/spip.php?article42145

إحالات

1.بيار روسيه، «الفلبين: معركة مراوي، وأزمة مينداناو ودور التضامن»: http://www.europe-solidaire.org/spip.php?article41406

2.راجع بيار روسيه، «الأزمة الكورية والجيوسياسية في شمال شرق آسيا : ماضيا وحاضرا»: http://www.europe-solidaire.org/spip.php?article41214

3.بيار روسيه، «بورما: سياسة التطهير العرقي ضد الروهينجا، نظام بورما والرهانات الجيوسياسية»:

http://www.europe-solidaire.org/spip.php?article42024

شارك المقالة

اقرأ أيضا